200

الفقيه غير المنتخب:

 

الأمر الثاني: الفقيه الذي لم ينتخب هل تكون له الولاية في غير دائرة أوامر الوليّ المنتخب، وفي غير فرض تحقّق التعارض مع غيره والتساقط أو لا؟ هذا مبتن على الإيمان بالأساس الثالث من الأُسس الثلاثة التي شرحناها لمبدأ ولاية الفقيه وعدمه، وهو أساس الدليل اللفظي على ولاية الفقيه، فإن لم نؤمن به لم تثبت للفقيه الولاية إلاّ عند عدم وجود فقيه منتخب كما هو الحال في ما قبل بلوغ الأُمّة مستوى انتخاب الحاكم لها، فعندئذ تثبت الولاية للفقيه بقدر الأُمور الحسبية لا أكثر من ذلك وإن آمناً به كما اخترناه في ما مضى. إذن تثبت للفقيه غير المنتخب الولاية شرط عدم التدخّل في دائرة أوامر الوليّ المنتخب، أي أن ولاية الأمر العامّة تختص بالفقيه المنتخب، ولكن لا ينافي ذلك تدخلّ فقيه آخر في دائرة جزئية لم يتصدّ لها الوليّ العامّ.

وعليه فبقدر ما يختار في ما مضى من تماميّة الدليل الخاصّ على ولاية الفقيه تثبت الولاية للفقيه غير المنتخب فيما لا يزاحم أوامر الفقيه المنتخب.

وأمّا ما ستأتي إن شاء اللّه في البحث القادم من روايات عدم تعدّد الإمامفي عصر واحد فلو تعدّينا من مورد تلك الروايات وهو الإمام المعصوم إلى الفقيه فهي إنّما تدلّ على عدم جواز تعدّد الوليّ العامّ على مجتمع واحد، وهذا لا ينافي جواز إعمال أحدهم الولاية في غير دائرة أوامر الفقيه المنتخب، ولا يعارض إمامة ذاك الفقيه.

201

 

 

 

المسألة الثالثة:

 

 

شورى القيادة

 

 

· إبطال فكرة الشورى بالنصوص.

· إبطال فكرة الشورى بقصور الدليل.

 

 

 

 

 

203

 

 

 

 

 

المسألة الثالثة: في شورى القيادة.

هل القيادة يجب أن تكون دائماً فرديّة، فالقرار النهائي يكون بيد الفرد القائد وإن كان عليه أن يستشير ـ قبل البت بالأمر ـ ذوي الخبرات، أو بالإمكان افتراض شورى القيادة مؤتلفةً من عدد من المؤهّلين للقيادة الواجدين لشروطها؟

هناك طريقان لإبطال فكرة شورى القيادة في مقابل القيادة الفرديّة:

 

إبطال فكرة الشورى بالنصوص:

 

الطريق الأوّل: الاستفادة من النصوص المانعة عن فرض وجود إمامين في عرض واحد، فحتى لو فرضنا أنّ مقتضى القواعد الأوّلية هو جواز شورى القيادة فالنصّ الخاصّ قد منعنا عن ذلك، وذلك من قبيل:

1 ـ ما في الكافي عن الحسين بن أبي العلا ـ بسند تام ـ قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): تكون الأرض ليس فيها إمام؟ قال: لا. قلت: يكون إمامان؟ قال: لا، إلاّ وأحدهما صامت»(1)، ورواه في كمال الدين ـ بسند فيه إبراهيم بن مهزيار ـ هكذا:


(1) الكافي 1: 178، كتاب الحجة، باب أنّ الأرض لا تخلو من حجة، الحديث الأول.

204

قال ـ يعني الحسين بن أبي العلا ـ: «قلت له ـ يعني أبا عبداللّه (عليه السلام) ـ: تكون الأرضُ بغير إمام؟ قال: لا. قلت: أفيكون إمامان في وقت واحد؟ قال: لا، إلاّ وأحدهما صامت. قلت: فالإمام يعرف الإمام الذي بعده؟ قال: نعم. قلت: القائم إمام؟ قال: نعم، إمام ابن إمام قد اؤتّم به قبل ذلك»(1)، ورواه في بصائر الدرجات بناءً على نقل البحار ـ بسند فيه علي بن إسماعيل ـ قال ـ يعني الحسين بن أبي العلا ـ: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): تكون الأرض وفيها إمامان؟ قال: لا، إلاّ إمامٌ صامت لا يتكلّم، ويتكلّم الذي قبله»(2).

2 ـ ما في كمال الدين ـ بسند تام ـ عن ابن أبي يعفور: «أنه سأل أبا عبداللّه (عليه السلام)هل تُترك الأرض بغير إمام؟ قال: لا. قلت: فيكون إمامان؟ قال: لا، إلاّ وأحدهما صامت»(3) ورواه في بصائر الدرجات ـ حسب نقل البحار ـ بما يقرب من ذاك النصّ(4).

3 ـ ما رواه في كمال الدين عن هشام بن سالم ـ بسند فيه محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني ـ قال: «قلت للصادق جعفر بن محمد (عليه السلام): الحسن أفضل أم الحسين؟ فقال: الحسن أفضل من الحسين؟ قلت: فكيف صارت الإمامة من بعد


(1) كمال الدين: 223 ـ 224، باب 22 إنّ الأرض لا تخلو من حجّة، الحديث 17، طبعة دار الكتب الإسلامية للآخوندي بطهران.

(2) بحار الأنوار 25: 108، كتاب الإمامة، أبواب علامات الإمام، الباب 2 إنه لا يكون إمامان في زمان واحد إلاّ وأحدهما صامت، الحديث 8.

(3) كمال الدين: 233، الباب 22، إنّ الأرض لا تخلو من حجة، الحديث 41.

(4) راجع بحار الأنوار 25: 107، كتاب الإمامة، أبواب علامات الإمام الباب 2، أنه لا يكون إمامان في زمان واحد، الحديث 5.

205

الحسين في عقبه دون ولد الحسن؟ فقال: إنّ اللّه تبارك وتعالى أحبّ أن يجعل سنّة موسى وهارون جارية في الحسن والحسين (عليهما السلام)، ألا ترى أنهما كانا شريكين في النبوّة كما كان الحسن والحسين شريكين في الإمامة، وأنّ اللّه عزّ وجل جعل النبوة في ولد هارون، ولم يجعلها في ولد موسى وإن كان موسى أفضل من هارون (عليه السلام)؟ قلت: فهل يكون إمامان في وقت واحد؟ قال: لا، إلاّ أن يكون أحدهما صامتاً مأموماً لصاحبه، والآخر ناطقاً إماماً لصاحبه، فأمّا أن يكونا إمامين ناطقين في وقت واحد فلا. قلت: فهل تكون الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين (عليهما السلام)؟ قال: لا، إنما هي جارية في عقب الحسين (عليه السلام) كما قال اللّه عزّ وجل: ﴿ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ﴾(1) ثمّ هي جارية في الأعقاب وأعقاب الأعقاب إلى يوم القيامة»(2).

4 ـ ما رواه في بصائر الدرجات حسب نقل البحار ـ بسند تام ـ عن عبيد بن زرارة قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام) ترك ( يترك ظ ) الأرض بغير إمام؟ قال: لا. قلنا: تكون الأرض وفيها إمامان؟ قال: لا، إلاّ إمامان أحدهما صامت لا يتكلّم، ويتكلّم الذي قبله، والإمام يعرف الإمام الذي بعده»(3).

نعم، الكلام في إثبات سند تام للمجلسي (قدس سره) إلى بصائر الدرجات.


(1) سورة الزخرف: الآية 28.

(2) كمال الدين: 416 ـ 417، باب 40 إنّ الإمامة لا تجتمع في أخوين إلاّ الحسن والحسين (عليهما السلام) الحديث 9.

(3) بحار الأنوار 25: 107، كتاب الإمامة، أبواب علامات الإمام، الباب 2 إنّه لا يكون إمامان في زمان واحد، الحديث 6.

206

5 ـ ما في عيون أخبار الرضا وفي علل الشرائع عن فضل بن شاذان: «... فإن قال: فلم لا يجوز أن يكون في الأرض إمامان في وقت واحد أو أكثر من ذلك؟ قيل: لعلل: منها أنّ الواحد لا يختلف فعله وتدبيره، والاثنين لا يتّفق فعلهما وتدبيرهما، وذلك أ نّا لم نجد اثنين إلاّ مختلفي الهمم والإرادة، فإذا كانا اثنين، ثمّ اختلف همّهما وإرادتهما وتدبيرهما، وكانا كلاهما مفترضي الطاعة لم يكن أحدهما أولى بالطاعة من صاحبه، فكان يكون اختلاف الخلق والتشاجر والفساد، ثمّ لا يكون أحد مطيعاً لأحدهما إلاّ وهو عاص للآخر، فتعمّ المعصية أهل الأرض، ثمّ لا يكون لهم مع ذلك السبيل إلى الطاعة والإيمان، ويكونون إنّما أُتوا في ذلك من قبل الصانع الذي وضع لهم باب الاختلاف والتشاجر؛ إذ أمرهم باتّباع المختلفين. ومنها...»(1).

وسند الحديث غير تامّ، على أنّ السند لا ينتهي ابتداءً إلى الإمام (عليه السلام) بل ينتهي إلى فضل بن شاذان، ولكن في آخر الحديث ـ وهو حديث مفصّل مشتمل على العلل ـ قال علي بن محمد بن قتيبة لفضل بن شاذان: «أخبرني عن هذه العلل ذكرتها عن الاستنباط والاستخراج، وهي من نتائج العقل، أو هي مما سمعته ورويته؟ فقال لي: ما كنت لأعلم مراد اللّه عزّ وجل بما فرض، ولا مراد رسوله (صلى الله عليه وآله) بما شرّع ولا أُعلّل ذلك من ذات نفسي، بل سمعتها من مولايأبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) المرّة بعد المرّة والشيء بعد الشيء، فجمعتها، فقلت: فأُحدّث بها عنك عن الرضا (عليه السلام)؟ قال: نعم»، وذكر الفضل أيضاً


(1) بحار الأنوار 25: 105، كتاب الإمامة، أبواب علامات الإمام، الباب 2 إنّه لا يكون إمامان في زمان واحد، الحديث الأول.

207

لمحمد بن شاذان: «سمعت هذه العلل من مولاي أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) متفرّقة، فجمعتها وأ لّفتها»(1).

6 ـ ما ورد في كتاب «دراسات في ولاية الفقيه» نقلا عن كتاب «الغرر والدّرر»: «الشّركة في الملك تؤدي إلى الاضطراب»(2).

وهذا الحديث مرسل بحت.

وواضح من لحن هذه الأحاديث ما عدا الحديث الأخير أنّها واردة في الإمام المنصوص من قبل اللّه تعالى.

والاستدلال بهذه الأحاديث: تارة يكون بمقدار نفي جواز التعدّد وإثبات ضرورة التوحيد في قبال التعدّد ولو بالانتخاب، كما استشهد بها لذلك في كتاب «دراسات في ولاية الفقيه»(3)، وهذا لا بأس به بعد فرض التعدّي من مورد هذه النصوص، وهو الإمام المنصوص إلى غيره، ويؤيّد هذا التعدّي التعليل الوارد في رواية العلل باختلاف الآراء فإن فرض الاختلاف في الآراء بين المعصومين المنصوصين فبين غيرهم يكون ذلك بطريق أولى.

وأُخرى يكون لنفي شورى القيادة أيضاً، وهذا هو المقصود في المقام، وتقريبه أن يقال:

إنّه يبدو من لحن الأسئلة والأجوبة في هذه الروايات أنّ تركّز الإمامة في الشخص ـ لا في لجنة يكون الرأي رأي أكثرية آرائها ـ كان أمراً مفروغاً عنه،


(1) دراسات في ولاية الفقيه 1: 172 نقلا عن العيون، أو عنه وعن العلل.

(2) دراسات في ولاية الفقيه 1: 410 نقلا عن الغرر والدرر 2: 86، الحديث 1941.

(3) دراسات في ولاية الفقيه 1: 410 ـ 413.

208

وإنّما كان الأمر دائراً بين أن تكون الإمامة في شخص واحد أو في عدّةأشخاص بأن يكون كلّ واحد منهم إماماً مستقلاّ، لا أن يكون الرأي رأي أكثريّتهم، فالإمام عليه الصلاة والسلام نفى الثاني وحصر الأمر في الأوّل،وهذا بالتالي نفي لشورى القيادة.

ونقطة الضعف في هذا الاستدلال هي أننا لئن سلّمنا التعدّي من موردالروايات وهو الإمام المنصوص إلى غيره في الأمر الأوّل وهو نفي التعدّدفي الإمامة بشكل مستقلّ، لعدم احتمال الفرق عرفاً أو للأولوية في غير المعصوم لقوّة احتمال وقوع الخلاف لا نسلّم التعديّ من موردها إلى غيره في الأمر الثاني وهو نفي شورى القيادة؛ لأنّ احتمال الفرق هنا عرفي وعقلائي باعتبار أنّ المعصوم لا يخطأ، فلا توجد حاجة في دائرة المعصومين إلى شورى القيادة،في حين أنه من المحتمل في دائرة غير المعصومين أن تكون شورى القيادةتعطي للقيادة مستوى من العصمة النسبية عن الخطأ، وليس مقصودي بهذا الكلام دعوى أنّ شورى القيادة أرجح في اعتبارنا العقلي من القيادة الفردية غير المعصومة، وإنما المقصود أنه لا توجد بالنسبة لرفض الشورى من المناسباتما يوجب جزم العرف بالتعدّي من المعصوم إلى غير المعصوم، فالتمسّك بهذه الروايات في المقام مشكل.

ونستثني الرواية الأخيرة فحسب التي يوجد فيها إطلاق لغير المعصوم،والتي تنفي مطلق الشركة في الملك، ومن مصاديق الشركة في الملك شورى القيادة، إلاّ أنّ هذه رواية واحدة مرسلة لا نستطيع التمسّك بها لإثباتالمقصود.

209

إبطال فكرة الشورى بقصور الدليل:

 

الطريق الثاني: دعوى القصور في دليل القيادة لإثبات شورى القيادة، وهذه الدعوى تتمّ على بعض الفروض، ولا تتم على بعض الفروض، وإن شئت تفصيلا لذلك فإليك ما يلي:

إننا تارة: نفترض وجود دليل لفظي مطلق على مبدأ ولاية الفقيه مع عدم وجود دليل على الانتخاب، وفي هذا الفرض نقول: إنّ دليل ولاية الفقيه إنّما أعطى الولاية بيد كلّ فرد فرد من الفقهاء لا بيد الشورى، أو قل إنّ ذاك الدليل لم يدلّ على الترجيح بالأكثرية. نعم، بإمكان الفقهاء أن يصلوا إلى نتيجة شورى القيادة لو أرادوا ذلك بأن يتواطؤوا فيما بينهم على أن يكون من يصدر الحكم منهم في كلّ مسألة من المسائل واحداً من أصحاب رأي الأكثرية في تلك المسألة دائماً، فهذا يعطي نتيجة شورى القيادة لكن الولاية ليست لشورى القيادة بل للفقيه، والفارق العملي يظهر في أنّ هذا التواطؤ ليس واجب الاتباع عليهم فمن حقّ أحدهم أن يتراجع عن هذا التواطؤ متى ما أراد، ولو ربطوا أنفسهم بعقد ملزم يمنعهم عن التراجع عن ذلك فمن حقّ فقيه جديد لم يكن داخلا في هذا التواطؤ أن لا يبني عليه.

وأُخرى نفترض وجود دليل لفظي مطلق على مبدأ ولاية الفقيه، ولكنه قيّد بالدليل الأخير للانتخاب الذي أثبتنا به الانتخاب بقدر حلّ مشكلة التشاحّ، وعلى هذا الفرض لا بأس بانتخاب الأُمّة لشورى القيادة، أي أنّه في كلّ مسألة من المسائل يكون من وافق رأيه أكثرية الشورى منتخباً للأُمّة، ومن خالف رأيه الأكثرية غير منتخب لها، فالموافق رأيه للأكثرية تثبت ولايته بدليل ولاية الفقيه المطلق الذي قيّد بالانتخاب، والمفروض ثبوت القيد فيه.

210

وثالثة نفترض عدم وجود دليل لفظي مطلق على مبدأ ولاية الفقيه مع وجود دليل لفظي مطلق على الانتخاب، وقد قيّد بدليل خاصّ بشرط كون المنتخب فقيهاً، وعلى هذا الفرض أيضاً لا بأس بانتخاب الأُمّة لشورى القيادة، وهذاأيضاً مرجعه إلى أنّ المنتخب في كلّ مسألة هو من وافق رأيه أكثرية الشورى فتثبت ولايته بدليل الانتخاب المطلق الذي قيّد بشرط الفقيه، والمفروضثبوت القيد فيه.

ورابعة نفترض عدم وجود دليل لفظي مطلق على مبدأ ولاية الفقيه ووجود الدليل على الانتخاب من دون إطلاق، فالمفروض أن يقتصر في الانتخاب على القدر المتيقّن، ولهذا يجب انتخاب الفقيه لكونه القدر المتيقن، وعلى هذا الفرض لابدّ أن يقع الانتخاب على الفرد دون الشورى اقتصاراً على القدر المتيقّن، فإنّ القدر المتيقّن ـ حسب ما هو المفهوم من تاريخ الإسلام الطويل ـ إنّما هو قيادة الفرد، فإننا نرى أنه في القيادات غير المعصومة المنحرفة كان الأئمّة (عليهم السلام) يوردون عليها كلّ إشكال من مثل عدم العصمة، أو عدم النصّ، أو عدم العدالة، أو غير ذلك، إلاّ إشكال الفرديّة، فهذا الإشكال غير مذكور أبداً، ولم نرَ في تاريخ الإسلام قيادة الأُمّة بالشورى كي نرى هل كان يرد الردع عن شوروية القيادة، أو لا؟

وقد ظهر مما سبق: أنّ المختار من هذه الفروض هو الفرض الثاني.

211

 

 

 

المسألة الرابعة:

 

 

 

المرجعية والولاية

 

 

 

 

 

 

 

 

213

 

 

 

 

 

المسألة الرابعة: هل يصحّ فصل المرجعية في التقليد عن الولاية، أو لا؟

أوّل ما يبدو للنظر هو أنّ انفصال المرجعية في التقليد عن الولاية أمر طبيعي لاختلاف إحداهما عن الأُخرى في الشرائط.

فالمرجعية في التقليد في الأُمور الفردية مدارها الأعلمية بحكم الارتكاز العقلائي في باب الرجوع إلى أهل الخبرة حيث يختار لدى تعارض آراء أهل الخبرة من هو أكثر خبرة، والأدلّة اللفظية للتقليد أيضاً تعطي نفس النتيجة، إمّا لأجل انصرافها إلى ما عليه الارتكاز، أو لأجل أنه لدى تعارض الفتويين يكون إطلاق الدليل لحجّيّة فتوى الأعلم سليماً عن المعارض، ولا يتعامل العرف مع الإطلاقين معاملة التعارض الداخلي والإجمال؛ لأن نكتة التقليد وهي الخبروية والعلم مأخوذة في لسان الدليل، فإذا كانت هذه النكتة موجودة بشكل متكّرر ومتأكّد في الأعلم التفت العرف إلى تيقن سقوط فتوى غير الأعلم وبقاء فتوى الأعلم تحت الإطلاق بلا معارض. نعم إن كان الفاصل بين الأعلم وغيره ضئيلا لا يصل إلى مستوى ملاك التقليد أشكل الأمر.

وعلى أية حال فالمقياس في التقليد في الأُمور الفردية هو الأعلمية.

أما المقياس في الولاية فيختلف عن مقياس مرجعية التقليد في أمرين:

الأوّل: أنّ الولاية مشروطة بالكفاءة السياسية والاجتماعية، في حين

214

أنّ التقليد لم يكن مشروطاً بهذا الشرط، أو لنفترض أنّ كلاّ من مرجعيّة التقليد والولاية مشروطة بالأعلميّة في موردها، ولكن الأعلميّة في أحد الموردين تختلف عن الأعلميّة في الآخر.

صحيح أنّ الكفاءة الذهنيّة السياسيّة والاجتماعيّة دخيلة في استنباط كثير من الأحكام فتؤثّر ـ لا محالة ـ على الأعلميّة ولكن ليست هي وحدها الدخيلة في ذلك كي لا تنفكّ الأعلميّة عن الكفاءة.

والثاني: أنّ مقياس الترجيح في باب التقليد الفردي كان هو واقع الأعلميّة، وكان اعتقاد الشخص بأعلميّة فقيه طريقاً إلى الواقع، ولكن في باب الولاية حينما تتجاوز دائرة القيادات الموضعيّة والجزئيّة ـ كما إذا قامت الدولة الإسلاميّة بقيادة الفقيه ـ لا يمكن أن يكون المقياس واقع الأعلميّة في فنّ القيادة، أو قل: واقع الأكفئيّة؛ لما مضى في الأبحاث السابقة من أنّ جعل المقياس هو الواقع يفشل عمل الوليّ؛ لأنّ الناس يختلفون في تشخيص الواقع، فمنهم من يرى زيداً هو الأكفأ مثلا، ومنهم من يرى عمراً هو الأكفأ، فنقع عندئذ في فساد تعدّد الأولياء. إذن فالمقياس في الترجيح يجب أن يكون له حظّ من مرحلة عالم الإثبات وهو انتخاب الأكثريّة، ولو على أساس اعتقادهم بأكفئيّة من بين المتهيّئين للتصدّي للولاية.

فإذا اتّضح اختلاف مقاييس الولاية عن مقاييس التقليد في القضايا الشخصيّة فانفصال أحدهما عن الآخر أحياناً يكون ضروريّاً.

 

أدلّة عدم جواز الفصل:

إلاّ أنّ هناك وجوهاً لدعوى عدم إمكانيّة الفصل بينهما:

الوجه الأوّل: أنّه لو انفصلت المرجعيّة عن الولاية فكثيراً ما يتّفق أنّ الوليّ

215

يصدر أحكاماً مبتنية على جذور فقهيّة لا يؤمن بها المرجع في التقليد؛ وذلك لأنّ الأحكام الولائيّة ليست دائماً منفصلة تماماً عن المباني الفقهيّة الأوّليّة، فإنّ الأحكام الولائيّة مشروطة بعدم التصادم مع الأحكام الإلزاميّة الأوّليّة التي لا يجوز مخالفتها إلاّ بنكتة التزاحم، فالفقيهان قد يختلفان في صحّة بعض الأحكام الولائيّة وعدم صحته نتيجة اختلافهما في فهم الأحكام الأوّليّة التي لابدّ من أخذها بعين الاعتبار ضمن الأحكام الولائيّة، وعندئذ لو كان أحدهما مرجعاً للتقليد والآخر زعيماً للأُمّة الإسلاميّة في القضايا السياسيّة والاجتماعيّة دار أمر الفرد بين أن يخالف أمر الوليّ أو يخالف أمر المقلّد، وكلاهما غير جائز، فكيف يمكن حلّ الإشكال لدى انفصال المرجعيّة عن القيادة؟ أفلا ينتهي هذا إلى بطلان أحد الأمرين المرجعيّة أو القيادة؟!

وتحقيق الكلام في ذلك: أنّ هذا البيان بعد التدقيق لا ينتهي إلى بطلان فصل المرجعيّة عن القيادة، بل تبقى لكلّ منهما مساحة خاصّة بها، ويتّضح ذلك بالالتفات إلى مجموع أُمور:

الأوّل: أنّ فتاوى المرجع ـ في غير موارد الاصطدام بأوامر الوليّ ـ تبقى على قوّتها بما فيها فتاواه المخالفة لفتاوى الوليّ التي كانت دخيلة في أوامره الولائيّة، فهي في غير الموارد التي شملها الأمر الولائي باقية أيضاً على قوّتها، وإنّما الإشكال يختصّ بالفتاوى المعارضة لفتاوى الوليّ الدخيلة في أوامره في خصوص مورد الأمر.

والثاني: أنّ فتوى المرجع في موارد الاصطدام بحكم الوليّ لو كانت فتوى ترخيصيّة وكان حكم الوليّ إلزاميّاً وجب على المولّى عليه العمل بحكم الوليّ،

216

ويكفي في إثبات ذلك أن يقال: إنه لو عمل بحكم الوليّ لم يخالف مرجعه أيضاً؛ إذ غاية الأمر أنه ملتزم في رأي مقلّده بأحد طرفي الترخيص ولا بأس بذلك، وهذا بخلاف ما لو عكس الأمر والتزم بالترخيص فعمل على خلاف حكم الولي فعندئذ قد خالف أمراً إلزامياً.

وبكلمة أُخرى: إنّ فتوى المرجع هنا لا تمنع عن العمل بحكم الوليّ في حين أنّ حكم الوليّ يمنع عن الأخذ بنقيضه المطابق لفتوى المرجع. إذن فيجب عليه هنا اتّباع الوليّ، وهو في الحقيقة موافقة للولي والمرجع في وقت واحد فأحدهما يوجب ما فعله والثاني يجوّزه.

والثالث: أنّ فتوى المرجع في موارد الاصطدام بحكم الوليّ لو كان عبارة عن الإيجاب مع كون حكم الوليّ تحريماً أو بالعكس فهنا لو كان الوليّ يقصد بحكمه أنه حتى لو كان الحكم الأوّلي هو الذي يقوله المرجع فالمصالح الثانوية المزاحمة اقتضت الإلزام بنقيض ذلك، فهنا لابدّ من اتباع الوليّ، ويكفي في إثبات ذلك أنّ المرجع أيضاً يعترف بأنّ الحكم الأوّليّ على تقدير التزاحم بمصلحة أهمّ يتقدّم عليه الحكم الثانوي، ولو خالف الوليّ في تشخيص المصلحة فرأي الوليّ هو الحجّة في تشخيصها دون رأي المقلّد، فإنّ المقلّد إنما يكون رأيه حجّة في تخصّصه الفقهي الذي كان فيه أعلم من الوليّ مثلا لا في تشخيص المصلحة.

أما لو كان الوليّ إنّما حكم بالتحريم مثلا خلافاً لرأي المرجع الذي أفتى بالوجوب من باب ما يراه من مصلحة إلزامية ثانوية في التحريم دون مزاحمة بحكم أوّلي؛ لأنه كان يعتقد أنّ حكمه الأولّي هو الإباحة لا الوجوب، ولو كان يوافق المرجع في أنّ الحكم الأوّلي هو الوجوب لما كان يحرّم؛ لأنه لا يرى

217

مصلحة التحريم بمستوىً يغلب على الوجوب الأوّلي، فهنا إن رأى الوليّ أنّه بعد التحريم تكون مصلحة وحدة الكلمة بين مقلّدي هذا المرجع وغيرهم وعدم تضعيف القيادة أهمّ من الوجوب الأوّلي الذي ادّعاه ذاك المرجع لو كان صحيحاً، فهنا أيضاً لابدّ من متابعة الوليّ حيث شخّص بالنهاية أنّ المصلحة الثانوية غلبت الوجوب الأوّلي لو كان، والمرجع ليس له حقّ تشخيص المصلحة للأُمّة في مقابل الوليّ. وإن لم يرَ الوليّ ذلك فهنا يتبع من يقلّد القائل بالوجوب رأي مقلّده، إلاّ إذا كان دليل الولاية نصّاً وارداً بعنوان إثبات السلطة ـ كآية الشورى، أو روايات البيعة لو تم الاستدلال بها ـ فإن كان كذلك تقدّم على دليل التقليد دائماً رغمأنّ النسبة بين الدليلين عموم من وجه؛ لأنّ دليل التقليد قابل للتخصيص بإخراج هذه الفتوى من فتاوى المرجع من إطلاقه، ولكن دليل الولاية والسلطة آبعن التخصيص عرفاً، بنكتة أنّ التفصيل في الولاية يكون غالباً موجباً لتضعيف السلطة والقيادة.

والرابع: أنّ فتوى المرجع لو كانت إلزامية وحكم الوليّ ترخيصياً فمن الواضح أنه لو كان مراد الوليّ مجرّد الرخصة ـ المنسجمة مع العمل بفتوى المرجع؛ لأنه عمل بأحد طرفي الرخصة ـ لما كان له داع إلى الحكم الولائي، فإنّ أي طرف يعمل به الناس وفق رأي من يقلّدونه يكون عملا بأحد طرفي الرخصة. إذن فحكم الوليّ الترخيصي لا يخلو حاله من أحد فرضين:

الأوّل: أن يكون في واقعه راجعاً إلى الإلزام بالمباح لا الترخيص في الحرام، مثاله: ما لو رخّص الوليّ للناس شراء متاع بسعر محدّد وهو أقلّ مما يرضى به البائع، فهذا وإن كان بحسب الظاهر ترخيصاً في الحرام؛ لأنّ المفتي يقول:

218

إنّ الناس مسلّطون على أموالهم، فيحرم شراء شيء بسعر تحميلي على البائع، والقائد قد رخّص في ذلك، ولكن بعد شيء من التدقيق يتّضح أنّ المسألة مسألة الإلزام بالمباح دون تحليل الحرام؛ لأنه كان من المباح على البائع أن يبيع متاعه بالسعر المحدد فقد ألزمه الولي بفعل هذا المباح، فإن فعل راضياً بذلك فبها ونعمت وإلاّ فعل حراماً في مخالفة الوليّ، فيجبر عندئذ على ترك الحرام، ويكون رضا الوليّ في البيع قائماً مقام رضا المالك الممتنع، فإذا رجع الأمر في واقعه إلى الإلزام بالمباح لا الترخيص في الحرام رجع هذا إلى القسم الأوّل الذي عرفت الحال فيه.

الثاني: أن يكون في واقعه إلزاماً في الرخصة بمعنى أنّ الوليّ لايقبل أن يحسّ الفرد بتحتم ما يقوله المفتي عليه من الفعل أو الترك، فالوليّ يرى أنّ نفس التقيّد بما يقوله هذا المفتي هو المضرّ بالمصلحة الثانوية، ولابدّ من رفعه، وهذا القسم يكون ملحقاً بالقسم الثالث، أعني ما إذا أفتى المفتي بالحرمة وحكم الولي بالوجوب أو بالعكس، فإنّهما معاً يشتركان في التضارب بين مصلحتين ملزمتين، أعني المصلحة الأوّلية التي يراها المفتي ملزمة والمصلحة الثانوية التي يرى الحاكم ضرورة تحصيلها، إما بمعنى إلزام الفرد بنقيض ما أفتى به المفتي كما هو الحال في القسم الثالث أو بمعنى ضرورة ثبوت الرخصة والحرّية للفرد، بمعنى عدم الإحساس بضغط فتوى المفتي عليه كما في المقام، ويأتي هنا عندئذ نفس التفصيل الذي شرحناه في القسم الثالث.

الوجه الثاني: أنّ إسناد المرجعية إلى غير الوليّ تضعيف عمليّ لولايته، فإنّ الشيعة المؤمنين بمبدأ التقليد مجبولون على تقديس المرجع الذي يقلّدونه وعدم

219

تقديس غير المرجع بمقدار تقديس المرجع الذي يأخذون منه حلالهم وحرامهم، فالوليّ إن لم يكن مرجعاً في الحلال والحرام لم يكتسب تلك القدسية في النفوس، وبالتالي ضعف نفوذ كلمته في الأُمّة. إذن فلابدّ من جمع المرجعية والولاية في شخص واحد وإيقاع الكسر والانكسار بين المرجّحات حينما يكون مرجّح المرجعية ـ وهو الأعلمية ـ في بعض، ومرجّح الولاية ـ وهو الأكفئيّة ـ في بعض آخر، ويكون الفاصل هو انتخاب أكثرية النّاس ولو نظراً منهم إلى مجموع المرجّحين؛ لما عرفت فيما مضى من عدم إمكان كون المقياس في فرض التصدّي الحقيقي للحكم الإسلامي من قبل المسلمين هي الأكفئية الواقعية.

ولو فرض أنّ الأعلم لم يكن كفوءاً للقيادة اختصّ التقليد بالوليّ الكفوء، وإن كان مفضولا في الفقه، كل هذا لأجل التزاحم بين مصلحة تقليد الأعلم ومصلحة الولاية، وأهميّة الثانية من الأُولى.

فإن قلت: إنّ التقليد وحجيّة الفتوى حكم ظاهري، وظاهر أدلّة الأحكام الظاهرية هي الطريقية البحتة لحفظ مصالح الأحكام الواقعية المتزاحمة في ما بينها في الحفظ لدى الجهل، في حين أنّ التقليد في المقام أصبح بالبيان الذي ذكرتموه تابعاً لمصلحة سلوكية، أي أنّ هناك مصلحة في تقليد الوليّ وهي تقويته في وسط الأُمّة وتهيئة المناخ المناسب لقيادته لها، وهذا خلاف ظاهر دليل الحكم الظاهري.

قلت: إنّ وجوب تقليد الأعلم الذي هو حكم ظاهري قد سقط بمزاحم أهمّ، وهو وجوب تهيئة المناخ لقيادة الكفوء للمجتمع الذي هو حكم واقعي، وبعد ذلك أصبحت فتوى الولي حجة لطريقيّتها إلى الواقع، فحجّية فتوى الولي حكم ظاهري

220

لا يشذّ عن باقي الأحكام الظاهرية في كونها لأجل حفظ الأحكام الواقعية لدى التزاحم الحفظي، وإنّما كان سقوط رأي الأعلم عن الحجّية نتيجة للتزاحم بين حجّيته ـ التي هي حكم ظاهري ـ وحكم واقعي أهمّ، وهذا له نظيره في سائر الأبواب، فإنّ التزاحم كما قد يتفق بين حكمين واقعيين كما في الصلاة والإزالة كذلك قد يتّفق بين حكمين ظاهريين أو حكم واقعي وحكم ظاهري من دون سراية التزاحم إلى الحكمين الواقعيين، كما لو فرضنا أنّ واجبي النفقة لم يكن تزاحم بين وجوبي الإنفاق عليهما؛ لكون المنفق مالكاً لما يكفي لنفقتهما، ولكن كلّ منهما وقع الاشتباه فيه بين شخصين فكان مقتضى الحكم الظاهري في كل منهما هو العمل بالعلم الإجمالي بالإنفاق على شخصين بناء على أنّ الاحتياط في مورد العلم الإجمالي حكم ظاهري، والمنفق لم يكن قادراً على الإنفاق على أربعة أشخاص، فهنا قد وقع التزاحم بين حكمين ظاهريين من دون سريان التزاحم إلى الحكمين الواقعيين، وكما لو فرضنا أنّ واجب النفقة تردّد بين شخصين وقلنا بأنّ وجوب الاحتياط بالإنفاق عليهما احتياط شرعي فهو حكم ظاهري، ولكن كان ذلك مزاحماً لمصرف أهمّ يؤدّي إلى حفظ النفس مثلا حيث لم يكن المنفق قادراً على الجمع بين ذاك المصرف والإنفاق على طرفي العلم الإجمالي بوجوب النفقة في حين أنه كان قادراً على الجمع بين ذاك المصرف والإنفاق على أحدهما، فالتزاحم وقع بين حكم ظاهري وحكم واقعي من دون سراية ذلك إلى التزاحم بين حكمين واقعيين.

وتحقيق الحال في المقام: أنه متى ما وقع التزاحم حقّاً بين تقليد الأعلم ومصلحة قيادة الأُمّة تقدّم الثاني على الأوّل بلا إشكال للقطع بأهميته، ولكن قد

221

تتفق إمكانية حلّ التزاحم كأن نعمل مثلا على توعية الأُمّة على مقاييس التقليد ومقاييس القيادة وتوضيح الفرق بينهما وإمكانية انفكاك أحدهما عن الآخر بحيث تصبح الأُمّة متقبّلة للتفكيك، ولا يوجب التفكيك شلّ القيادة عن النجاح، أو كما إذا كانت السلطة الفعليه المستقرّة بيد الوليّ الفقيه غير الأعلم بحيث لم يكن يخشى على قيادته الفشل لمجرّد كون التقليد لغيره باعتبار أنّ ما يمتلكه من السلطة كاف لدعم قيادته.

وعلى أيّة حال فلا إشكال في أنه متى ما اجتمعت مقاييس التقليد ومقاييس القيادة في شخص واحد كان في ذلك دعم كبير للقيادة الرشيدة وترتّب على ذلك خيرات وبركات كثيرة.

الوجه الثالث: هو التمسّك بالتوقيع الذي ورد فيه: «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه»، وذلك ببيان أنّ هذا الحديث يرجع الأُمّة إلى الراوي في قضايا التقليد وقضايا الولاية معاً، وهذا يعني أنّ من ترجع إليه الأُمّة ترجع إليه في كلا الأمرين، ويجب أن يكون كفوءاً في كلا الأمرين، فمن لا يمتلك الكفاءة في أحدهما ليس هو الذي يُرجع إليه هذا الحديث المقيّد إطلاقه بقيد ارتكازي كالمتصل وهو قيد الكفاءة، وفي مقام الترجيح لدى تعدّد الكفوئين لابدّ من ملاحظة الكسر والانكسار بين مرجّح التقليد ومرجح الولاية، واختيار من يتراءى أنه أفضل بلحاظ مجموع الأمرين، وهذا يعني ضرورة التوحيد بين القيادة والمرجعية.

ويرد عليه: أنّ هذا الحديث ليس ظاهره دعوة الناس للالتفاف حول راية موحّدة حتى يستظهر منه التوحيد بين المرجعية والقيادة وضرورة انتخاب من

222

يتراءى أنه الأفضل من ناحية مجموع المنصبين، على الخصوص أنه لم يكن عصر صدور الحديث عصراً يحتمل فيه إرادة إبراز راية واحدة غير راية النّواب الخاصّين الذين كان يبرزهم الإمام صاحب الزمان عجل اللّه فرجه بالتصريح بالاسم، وإنما الحديث ظاهر في الرجوع إلى كلّ الرواة، وهذا يفيد الانحلال، ويعني أنّ كلّ شخص يرجع إلى راو من الرواة في أخذ مواقفه التي يحتاج إلى أخذها منه، والشخص الآخر قد يرجع إلى راو آخر، بل الشخص الواحد بإمكانه أن يرجع في بعض الأُمور إلى راو، وفي بعضها الآخر إلى راو آخر.

ولو سلّمنا ظهور هذا الحديث في توحيد الراية وضرورة الرجوع في مجموع أمري التقليد والولاية إلى من له الكفاءة في الأمرين فهو معارض بسائر أدلّة التقليد المنصرفة بالارتكاز إلى الأعلم في الفقه، والذي قد لا يكون كفوءاً في القيادة، أو لا يكون هو الأكفأ الذي ينبغي أن ينتخب للقيادة.

223

 

المسألة الخامسة:

 

 

 

 

 

نفوذ حكم الوليّ

 

 

 

على سائر الفقهاء