تفصيل المحقّق النائينيّ في المسألة:
ثمّ إنّ المحقّق النائينيّ(قدس سره) اختار تفصيلاً في المقام، وهو: أنّه إن كان المفهوم مفهوم الموافقة فلابدّ في مقام الجمع من ملاحظة النسبة بين العامّ والمنطوق الذي هو أيضاً طرف للمعارضة؛ لأنّ المعارض لأحد المتلازمين معارض للآخر، فإن كان المنطوق أخصّ من العامّ قدّم عليه وارتفعت المعارضة بين المفهوم والعامّ، وبالنتيجة يتقدّم المفهوم على العامّ ولو فرض كون النسبة بينه وبين العامّ عموماً من وجه.
وإن كان المنطوق أعمّ من العامّ من وجه وجب أيضاً أوّلاً علاج المعارضة بين المنطوق والعامّ، فإن قدّم المنطوق ارتفعت المعارضة بين العامّ والمفهوم أيضاً بالتبع. وإن قدّم العامّ وسقط المنطوق سقط المفهوم أيضاً بسقوط منشئه.
والخلاصة: أنّ مقتضى الفنّ في مفهوم الموافقة هو ملاحظة النسبة دائماً بين العامّ والمنطوق دون العامّ والمفهوم.
وأمّا إن كان المفهوم مفهوم المخالفة فعندئذ تلاحظ النسبة بين العامّ ونفس المفهوم إن لم تكن للمفهوم حكومة على العامّ، وإلّا فلابدّ فيه من استيناف بحث جديد. هذا حاصل ما اختاره المحقّق النائينيّ(قدس سره)من الآراء في المقام(1).
(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 500 ـ 504 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 556 ـ 561 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.
ومقصوده من استثناء فرض الحكومة: استثناء مثل مفهوم آية النبأ بناءً على دلالته على حجّيّة خبر العدل والذي يبدو معارضاً لعمومات عدم جواز العمل بغير العلم، ولكنّه(رحمه الله)يعتقد حكومة المفهوم على العموم لأنّه يجعل خبر العدل علماً.
وتحقيق الكلام يقع في مقامين:
الكلام في تخصيص العامّ بمفهوم الموافقة:
المقام الأوّل: في أنّه هل يخصّص العامّ بمفهوم الموافقة سواء كان ثابتاً بالأولويّة أو بالمساواة أو لا؟
من الواضح: أنّ المفهوم الذي يقصد تخصيص العامّ به إمّا يكون أخصّ من العامّ أو يكون بينهما عموم من وجه، وعلى كلّ حال لا إشكال في ثبوت المعارضة بين العامّ والمنطوق أيضاً، فإنّ المعارض لأحد المتلازمين معارض للآخر أيضاً، فالعامّ له معارضان: المنطوق والمفهوم، ولكن كيفيّة المعارضة بين العامّ والمنطوق تختلف:
فتارة: تكون المعارضة ثابتة بين العامّ والمنطوق ابتداءً مع قطع النظر عن المفهوم، كما لو ورد: (لا تكرم الفسّاق) وورد: (أكرم خدّام العلماء)، فإنّ المعارضة بين هذين الكلامين ثابتة حتّى مع قطع النظر عن وجوب إكرام العلماء الذي هو مفهوم لقوله: (أكرم خدّام العلماء).
واُخرى: لا تكون معارضة بين العامّ والمنطوق ابتداءً وإنّما تسري المعارضة إليهما من المعارضة بين العامّ والمفهوم، من باب أنّ المعارض لأحد المتلازمين معارض للآخر، وذلك كالمثال السابق بعد تبديل العامّ الذي هو: (لا تكرم الفسّاق) بعامّ آخر وهو: (لا تكرم فسّاق المخدومين)، فإنّك ترى أنّه لا معارضة ابتداءً بين ذلك ومنطوق (أكرم خدّام العلماء)؛ لأنّ النسبة بين خدّام العلماء وفسّاق المخدومين هو التباين.
وكأنّ المحقّق النائينيّ(قدس سره) غفل عن هذا القسم فذهب إلى أنّه مهما تعارض العامّ
ومفهوم الموافقة وجب ملاحظة النسبة بين العامّ والمنطوق، فإنّك ترى أنّه في هذا القسم لا نسبة بين العامّ والمنطوق حتّى تلاحظ، فالتحقيق جعل الكلام في موردين:
المورد الأوّل: ما إذا ثبتت المعارضة بين العامّ والمنطوق ابتداءً مع كون المفهوم أخصّ من العامّ أو أعمّ منه من وجه، وهذا على ثلاثة أقسام:
القسم الأوّل: أن يكون العامّ أخصّ من المنطوق.
وعندئذ لا إشكال في تقديمه على المنطوق ويتقدّم ـ لا محالة ـ على المفهوم بالتبع سواءً كان أخصّ من المفهوم أيضاً أوكان أعمّ منه من وجه(1)، فإنّ كونه أعمّ منه من وجه ليس مقتضياً لعدم تقدّمه عليه، غاية الأمر أنّه غير مقتض لتقدّمه عليه، ومعلوم أنّ أخصّيّته من المنطوق تقتضي تقدّمه على المنطوق وسقوط المنطوق بذلك المقدار، ومن الواضح أنّ سقوط المنطوق بأيّ مقدار يوجب سقوط المفهوم بذلك المقدار.
نعم، لو كان المفهوم لازماً لأصل المنطوق لا لإطلاقه فتخصيص المنطوق لا يوجب تخصيص المفهوم، بل تبقى المعارضة بين العامّ والمفهوم باقية على حالها، فلابدّ من ملاحظة النسبة بين العامّ والمفهوم، فإن كان العامّ أخصّ من المفهوم أيضاً رجعت المعارضة إلى التعارض التباينيّ؛ لأنّ تقديم العامّ على المفهوم يعني سقوط أصل المنطوق.
إلّا أنّ هذا خلف الفرض؛ لأنّ البحث إنّما هو في تخصيص العامّ بالمفهوم الذي هو أخصّ منه ولو من وجه.
(1) أو قل: سواءً كان العامّ لدى انضمام مفهوم الموافقة إلى المنطوق يبقى أخصّ أيضاً، أو يتحوّل إلى العموم من وجه.
وإن كان العامّ في نفسه أعمّ من وجه من المفهوم كان المفهوم بحكم الأخصّ وقدّم على العامّ؛ لأنّ تقديم العامّ فيه محذور وهو ما عرفت من أنّه يوجب سقوط أصل المنطوق، ولكن تقديم المفهوم لا يوجب شيئاً عدا تخصيص العامّ.
وإن شئت المثال لذلك أمكنك التمثيل له بما لو ورد: (لا تكرم فسّاق خدّام العلماء) وهذا هو العامّ، وورد دليل على وجوب إكرام خدّام العلماء لأجل إجلال العلماء، وهذا يدلّ بالمفهوم على وجوب إكرام العلماء لأجل أنفسهم، فإذا فرضنا أنّ بعض خدّام العلماء بنفسهم علماء فهذا البعض يجب إكرامه لإجلال مخدومه بحكم المنطوق، ويجب إكرامه لنفسه بحكم المفهوم، والعامّ أخصّ من المنطوق ـ كما هو واضح ـ وهو أعمّ من وجه من المفهوم؛ لأنّ فسّاق خدّام العلماء بعضهم عالم وبعضهم غير عالم، كما أنّ العلماء بعضهم فاسق خادم لعالم آخر وبعضهم ليس كذلك.
ولو فرضنا أنّ كلّ مَن يكون خادماً لعالم هو عالم فالعامّ يصبح أخصّ من المفهوم.
وعلى أيّ حال تارةً يفرض أنّ وجوب إكرام جميع العلماء لازم لوجوب إكرام خادم مّا لعالم وإن كان ذلك الخادم عادلاً، واُخرى يفرض أنّ إطلاق المفهوم لازم لإطلاق المنطوق.
وقد ظهر حكم جميع الفروض.
القسم الثاني: أن يكون المنطوق أخصّ من العامّ، كما لو قال: (لا تكرم الفسّاق)، وقال: (أكرم فسّاق خدّام العلماء).
وقد أفاد المحقّق النائينيّ(قدس سره) في هذا القسم: أنّ اللازم ملاحظة النسبة بين المنطوق والعامّ ويتقدّم المنطوق على العامّ بالأخصّيّة، ويتقدّم المفهوم عليه بالتبع؛
لكونه لازماً للمنطوق ولو فرض المفهوم أعمّ من وجه من العامّ كما في هذا المثال.
واستدلّ(رحمه الله) على ذلك بأنّه لو قدّم العامّ على المفهوم فإن كان ذلك من دون تقديم له على المنطوق لزم التفكيك بين المتلازمين(1)، وإن كان ذلك مع تقديمه على المنطوق كان ذلك تقديماً للعامّ على الخاصّ وذلك لا يجوز، فالواجب هو التصرّف في العامّ. هذا ما أفاده(قدس سره) وهو في غاية المتانة.
وإن شئت قلت: إنّ أعمّيّة المفهوم من وجه من العامّ لا تقتضي عدم تقدّمه على العامّ غاية الأمر أنّها لا تقتضي تقدّمه عليه أيضاً، وأخصّيّة المنطوق تقتضي تقدّمه على العامّ المستلزم لتقدّم المفهوم على العامّ.
القسم الثالث: أن تكون النسبة بين العامّ والمنطوق عموماً من وجه(2).
وقد أفاد المحقّق النائينيّ(قدس سره): أنّ اللازم في ذلك أيضاً ملاحظة الجمع بين العامّ والمنطوق دون العامّ والمفهوم؛ وذلك لأنّه إن اقتضى الجمع بين العامّ والمنطوق تقديم العموم ـ لوجه من الوجوه ـ وإسقاط المنطوق لم تصل النوبة إلى الجمع بين العامّ والمفهوم؛ لسقوطه بسقوط المنطوق، وإن اقتضى الجمع بينهما تقديم المنطوق لم تصل النوبة أيضاً إلى الجمع بين العامّ والمفهوم؛ لارتفاع المعارضة بينهما بالتبع؛ لأنّ تقديم المنطوق يستلزم تقديم المفهوم لكونه لازماً له.
أقول: ما ذكره(قدس سره) غير تامّ على إطلاقه، فإنّ مفاده إنّ ذلك المنطوق لو فرض عدم ثبوت مفهوم له ونسبناه إلى العامّ فأيّ شيء اقتضته فيهما قوانين باب التعارض من تقديم العامّ أو المنطوق أو تساقطهما لا يتغيّر ذلك بفرض ثبوت
(1) بمعنى إسقاط اللازم وإثبات الملزوم، وهذا لا يمكن.
(2) كما لو كان العامّ: (لا تكرم الفسّاق) وكان المنطوق: (أكرم خدّام العلماء).
المفهوم له، فما تقتضيه قوانين باب التعارض في مقام الجمع بينهما على فرض عدم المفهوم هو عين ما تقتضيه على فرض ثبوت المفهوم، وبعد أن عيّنّا الوظيفة بالنسبة لهما اتّضحت الوظيفة بالنسبة للمفهوم، فإنّه تابع للمنطوق فحاله حال المنطوق. وهذا الكلام صحيح إلّا في فرضين:
الأوّل: أن يكون المقدار المعارض من المفهوم لازماً لأصل المنطوق لا لإطلاقه لمادّة الاجتماع منه، أي: أن يكون ثبوت مقدار مّا من المنطوق كافياً في ثبوت المفهوم بما له من الإطلاق لمادّة الاجتماع.
وتوضيح الأمر: أنّ كون المفهوم تابعاً لمنطوقه فيسقط بسقوطه وإن كان صحيحاً ولكن من الواضح أنّه لو سقط المنطوق في قبال العامّ فإنّما تسقط مادّة الاجتماع مع العامّ منه دون مادّة الافتراق كما هو واضح، وعندئذ نقول:
إنّ المقدار المعارض من المفهوم إن كان لازماً لخصوص مادّة الاجتماع من المنطوق صحّ ما أفاده المحقّق النائينيّ(قدس سره) من سقوط المفهوم تبعاً لسقوط المنطوق، فإنّ المفروض أنّ الملزوم ـ وهو مادّة الاجتماع من المنطوق ـ قد سقط، فلا محالة يسقط اللازم بالتبع.
وأمّا إذا كان ثبوت أصل المنطوق كافياً في ثبوت المقدار المعارض من المفهوم فمن الواضح أنّ سقوط المنطوق في قبال العامّ لا يكفي في حلّ المعارضة بين المفهوم والعامّ؛ لأنّ العامّ إنّما أسقط من المنطوق مادّة اجتماعه وبقيت مادّة افتراقه، وهي كافية على الفرض لثبوت المفهوم، فالمعارضة بين العامّ والمفهوم باقية على حالها، والمتعيّن هو تقديم المفهوم على العامّ؛ لأنّه لو قدّم العامّ على المفهوم واُسقط المفهوم الذي هو لازم لأصل المنطوق لزم من ذلك إسقاط أصل المنطوق وتمام المفهوم كما هو واضح.
ومثال هذا القسم ما لو قال: (أكرم شيوخ أقاربك)، وقال: (لا تكرم فسّاق الآباء)، ومفهومه حرمة إكرام فسّاق الأقارب، والمقدار المعارض من المفهوم حرمة إكرام فسّاق شيوخ الأقارب الذي يكفي في ثبوته ثبوت أصل المنطوق ولو بالنسبة لخصوص إكرام الأب الشابّ الفاسق؛ لأ نّا لا نحتمل على الفرض وواقعاً كون الشيوخ من الأقارب أحقّ بالاحترام من الأب الشابّ حتّى يحتمل كون الفسق بالنسبة للأب الشابّ مانعاً عن وجوب الإكرام، وبالنسبة لشيوخ الأقارب غير مانع عنه.
الثاني: أن يكون المنطوق والمفهوم معاً شاملاً لتمام موارد العامّ أو ما يقرب من التمام، بحيث لو قدّم المنطوق والمفهوم معاً على العامّ وخصّص بهما العامّ كان من التخصيص المستهجن؛ لقلّة الباقي، فحتّى لو فرض كون مقتضى القاعدة ـ مع قطع النظر عن المفهوم ـ سقوط العامّ عند معارضته مع المنطوق في مادّة الاجتماع بينهما نقول الآن: إنّ تقدّم المنطوق مع مفهومه على العامّ غير ممكن؛ لأنّه يعني انمحاء العامّ بتمامه أو ما يقرب من ذلك.
وعندئذ لو فرض أنّ مادّة الاجتماع للمفهوم مع العامّ بتمامها لازم لمادّة الاجتماع للمنطوق مع العامّ كان من اللازم تقديم العامّ على المنطوق؛ إذ لا يلزم من ذلك إلّا تخصيص المنطوق والمفهوم، بينما يلزم من تقديم المنطوق المستلزم لتقديم المفهوم عليه أن لا يبقى مورد للعامّ أصلاً أو يبقى مورد قليل ممّا يوجب استهجان التخصيص.
مثال ذلك: ما لو قال المولى: (أكرم العدول)، وهذا هو العامّ، وقال: (لا يجب إكرام العلماء)، وهذا هو المنطوق، ومفهومه الموافق: (لا يجب إكرام الجهّال)، ومن الواضح أنّ عدم وجوب إكرام الجاهل العادل لازم لمادّة الاجتماع من المنطوق
مع العامّ وهو عدم وجوب إكرام العالم العادل، فاللازم هنا تقديم العامّ وهو (أكرم العدول)؛ لأنّه لو عكس لم يبق مورد للعامّ؛ لأنّ العادل إمّا عالم أو جاهل، فإن بني على عدم وجوب إكرام العالم من العدول بحكم المنطوق وعدم وجوب إكرام الجاهل منهم بحكم المفهوم فمَن هو العادل الذي يجب إكرامه بحكم العامّ؟
نعم، لو فرض أنّ مادّة الاجتماع للمفهوم مع العامّ ليس تمامها لازماً لمادّة الاجتماع للمنطوق مع العامّ، بل كان مقدار منها لازماً لمادّة الافتراق، ويكون تقديم العامّ على ذلك المقدار كافياً لرفع الاستهجان سقط ذلك المقدار من المفهوم المرتبط بمادّة الافتراق، وسقط من المنطوق أيضاً ما يكون ملزوماً لما سقط من المفهوم؛ إذ لا يمكن بقاء الملزوم مع سقوط اللازم.
مثاله: ما لو قيل: (لا تكرم الفسّاق المرتبطين بالعلم)، وهذا هو العامّ، وكان معنى الارتباط بالعلم كون الإنسان عالماً أو خادماً لعالم، وقيل: (أكرم خدّام العلماء)، وهذا هو المنطوق، ولم يكن وجوب إكرام تمام العلماء الفسّاق لازماً لمادّة الاجتماع من المنطوق مع العامّ، بل دلّ وجوب إكرام كلّ خادم على وجوب إكرام مخدومه، فالعامّ في هذا الفرض يقدّم على المفهوم بالنسبة للعالم الفاسق الذي يكون خادمه عادلاً وعلى منطوقه(1).
ولو اجتمعت في مورد مّا نكتة تقدّم العامّ كاملاً على المنطوق ـ وهي كون المفهوم لازماً لأصل المنطوق ـ ونكتة تقدّم المنطوق على العامّ كانت المعارضة
(1) فلا نكرم هذا الخادم وعالمه كما لا نكرم العالم الفاسق، فيبقى للعالم مقدار معتدّ به لا يلزم معه اضمحلال العامّ ولا استهجان التخصيص، ولكنّنا نبقى نكرم العالم العادل ونكرم خادمه حتّى ولو كان فاسقاً؛ لأنّنا فرضنا نكتة في تطبيق المنطوق.
من قبيل المعارضة بين المتباينين، نظير: (صلّ) و(لا تصلّ).
المورد الثاني: ما إذا لم تكن معارضة بين العامّ والمنطوق ابتداءً ونشأت المعارضة بينهما من المعارضة بين العامّ والمفهوم.
وهنا لا معنى لملاحظة النسبة بين العامّ والمنطوق؛ لأنّهما متباينان، بل لابدّ أن يرى المقدار المعارض من المفهوم هل هو لازم لأصل المنطوق أو لإطلاقه؟
فعلى الأوّل يجب تقديم المفهوم ولا يمكن العكس؛ للزوم سقوط المنطوق والمفهوم رأساً.
وعلى الثاني يكون حال معارضة هذا المفهوم مع العامّ حال معارضة كلّ منطوقين بينهما عموم من وجه.
مثال ذلك: ما لو قال: (لا تكرم فسّاق المخدومين)، وهذا هو العامّ، وقال: (أكرم فسّاق خدّام العلماء)، وهذا هو المنطوق، ولا معارضة مباشرة بينهما؛ لأنّ فسّاق الخدّام مباين لفسّاق المخدومين، ولكن مفهوم الموافقة لهذا المنطوق هو: (أكرم العلماء) وهذا معارض للعامّ بالعموم من وجه.
فتارة يفترض أنّ وجوب إكرام خادم فاسق واحد من خدّام العلماء يدلّ على وجوب إكرام تمام العلماء، واُخرى يفترض أنّ وجوب إكرام كلّ خادم إنّما يدلّ على وجوب إكرام مخدومه. وقد عرفت حكم كلا الفرضين.
الكلام في تخصيص العامّ بمفهوم المخالفة:
المقام الثاني: في أنّه هل يخصّص العامّ بمفهوم المخالفة أو لا؟
لا يخفى أنّ الأساطين ـ قدّس الله أسرارهم ـ اختلفوا في أنّ تقديم الخاصّ على العامّ هل هو بالأقوائيّة أو بالقرينيّة، فذهب بعضهم كالشيخ الخراسانيّ(رحمه الله) إلى
الأوّل(1). وذهب البعض كالشيخ النائينيّ(رحمه الله) إلى الثاني(2)، وهذا هو المسلك الذي اخترناه نحن.
وهنا تارة: نبحث الأمر على مسلك التقديم بالأقوائيّة، واُخرى: نبحثه على مسلك التقديم بالقرينيّة:
أمّا على المسلك الأوّل ـ وهو مسلك الأقوائيّة ـ: فيختلف الأمر في تقديم كلّ من العامّ والمفهوم على الآخر باختلاف الموارد، وفي كلّ مورد من الموارد يقدّم ما هو الأقوى والأظهر منهما، هذا فيما لو تساويا في كونهما مستفادين من الوضع أو الإطلاق.
وأمّا إذا كان أحدهما مستفاداً من الوضع والآخر مستفاداً من الإطلاق:
ففي فرض الاتّصال يقدّم ما بالوضع على ما بالإطلاق؛ لأنّ الإطلاق متقوّم بعدم البيان، والدلالة الوضعيّة بيان. وكذلك في فرض الانفصال لو بنينا على أنّ إحدى مقدّمات الحكمة هو عدم البيان حتّى المنفصل.
أمّا لو لم نبن على ذلك فيبقى تقديم ما بالوضع على ما بالإطلاق في المنفصلين دائماً رهيناً للإيمان بأنّ الدلالة الوضعيّة دائماً أقوى من الدلالة الإطلاقيّة.
بل وحتّى لو بنينا على ذلك فلدينا استثناء في فرض كون العموم بالوضع والمفهوم بالإطلاق، فلا نقبل بما ذكر في المقام من تقدّم العموم على المفهوم
(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 363 ـ 364، وكذلك ج 2، ص 381 ـ 382 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.
(2) راجع فوائد الاُصول، ج 4، ص 720 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم. وراجع أجود التقريرات، ج 2، ص 509، طبعة مطبعة العرفان بصيدا.
مطلقاً؛ وذلك لأنّه قد يتّفق أنّ العامّ يكون معارضاً لأصل شرطيّة الشرط وكان الأخذ به موجباً لرفع اليد رأساً عمّا تدلّ عليه أداة الشرط من العلّيّة أو اللزوم بالوضع أو ما يشبهه من الظهور السياقيّ، لا لثبوت عدل لذلك الشرط.
مثاله: ما لو قال: (خلق الله كلّ ماء طهوراً لا ينجّسه شيء)، وهذا هو العامّ، وقال: (إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء)، وهذا هو المنطوق، فإنّه في مثل هذا المثال لو قدّم العامّ على المفهوم كان لازم ذلك رفع اليد عن أصل شرط الكرّيّة لا مجرّد فرض عدل للكرّيّة.
ثمّ إنّ ما ذكرناه ـ من أنّ العامّ والمفهوم لو تساويا في كونهما بالوضع أو بالإطلاق قدّم الأظهر منهما على الظاهر، أو الأقوى على الأضعف ـ قد يورد عليه في فرض ما إذا كانا معاً بالإطلاق بأنّ أقوائيّة إطلاق من إطلاق لا تتصوّر؛ لأنّ الدليل على الإطلاق دائماً شيءٌ واحد وهو مقدّمات الحكمة وكون المتكلّم بصدد البيان، ولا معنى لاختلاف أفراد هذا الدالّ قوّة وضعفاً باختلاف الموارد.
والجواب: أنّ كون المتكلّم بصدد البيان وإن كان شيئاً واحداً، ولكن كونه بصدد البيان لم يكن محرزاً باليقين والقطع كي يقال: إنّ مرتبة الدلالة إذن واحدة؛ لأنّ العلم واليقين بالمعنى الاُصوليّ ليست له مراتب وإن عُقلت له مراتب بمعنى آخر، وإنّما الدليل على كون المتكلّم في مقام البيان إنّما هو ظهور حاله في ذلك، وظهور الحال هذا له مراتب كثيرة ويختلف باختلاف الموارد كما هو واضح.
فمثلاً يختلف الحال فيما لو كان الانقسام الكذائيّ من الانقسامات الواضحة، فيكون ظهور الحال في كون المتكلّم في مقام البيان أقوى منه في الانقسامات غير الواضحة، فلو قال المولى: (أكرم إنساناً) فظهوره الإطلاقيّ من ناحية كونه عالماً أو جاهلاً أقوى منه من ناحية كونه ذا رأس واحد أو رأسين مثلاً.
وأيضاً ربّما توجد بعض الخصوصيّات توجب قوّة الظهور في كونه في مقام البيان، كما لو كان طرز العبارة بشكل كان يستشمّ منه كون المتكلّم في مقام بيان الحصر، كما لو قال: (لا يضرّ الصائم ما صنع ما ترك أربعاً) فهذا الكلام وإن كانت دلالته على نفي مبطليّة غير الأربع بالإطلاق، لكن هذا الإطلاق أقوى بكثير من الإطلاقات المتعارفة ولا يرفع اليد عنه إلّا بدليل قويّ جدّاً، رغم أنّه لم تكن الدلالة وضعيّة ولم تخرج عن حدود الإطلاق وكونه في مقام البيان.
وأمّا على المسلك الثاني ـ وهو مسلك التقديم بالقرينيّة، وهو الذي اختاره المحقّق النائينيّ(رحمه الله)وتابعناه ـ: فنقول:
إن كان المفهوم أخصّ خصّص به العامّ وإن فرض العامّ أظهر، وكذلك العكس؛ لأنّ الأخصّ هو القرينة دائماً، وإلّا قدّم ما يعدّ قرينة عرفاً للآخر إن كان في البين ذلك، وإلّا وقع التعارض؛ فإنّه بناءً على هذا المبنى لا عبرة بالأظهريّة(1) وإنّما العبرة بالقرينيّة، وتقدّم القرينة على ذي القرينة لا بما لها من المزيّة في قوّة الظهور في الحكم الذي يكون ذو القرينة ظاهراً في خلافه، بل بما لها من المزيّة في أنّ لها ظهوراً آخر ليس ذاك الظهور ثابتاً في ذي القرينة، وهو ظهورها في كونها ناظرة إلى ذي القرينة ومبيّنة لها.
وأمّا مصاديق عدّ أحد الدليلين قرينة للآخر فتعرف بفهم العرف بالمناسبات والخصوصيّات، وقد حقّق في محلّه أنّ منها الأخصّيّة، وعلى هذا فلو كان المفهوم
(1) كأنّه(رحمه الله) يقصد حصر نكتة التقديم بالقرينيّة، وافتراض أنّه في الأظهر والظاهر حينما لا توجد نكتة في قرينيّة الظاهر فنفس الأظهريّة توجب قرينيّة الأظهر لتفسير الظاهر.
أخصّ قدّم على العامّ ولو فرض العموم بالوضع والمفهوم بالإطلاق بلا فرق بين فرض الانفصال والاتّصال.
ثمّ إنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ذكر هنا بحثاً آخر، وهو البحث عن فرض كون مفهوم المخالفة حاكماً على العامّ، وكأنّه إنّما ذكر ذلك للبحث في آية النبأ التي يدّعي فيها حكومة المفهوم على عموم العلّة، فإنّه لم يوجد لذلك مثال آخر، ونحن نترك هذا البحث هنا، فإنّه بحث يذكر في آية النبأ في ذكر أحد الإشكالات على التمسّك بمفهومها وهو معارضته بعموم التعليل، والبحث هناك مغن عن البحث هنا.
تعقّب عمومات متعدّدة بالاستثناء
الجهة الثامنة: إذا تعقّبت عمومات متعدّدة باستثناء، فهل يرجع التخصيص إلى خصوص العامّ الأخير أو إلى الجميع؟
والاستثناء تارة: يكون بالحرف، واُخرى: بالاسم، فيقع الكلام في مقامين:
الاستثناء بالحرف:
المقام الأوّل: في الاستثناء بالحرف، وهذا له ثلاث صور:
الاُولى: أن يتعدّد الموضوع والمحمول معاً كما لو قال: (أكرم العلماء وأكرم السلاطين وأكرم التجّار إلّا الفسّاق منهم).
والثانية: أن يتعدّد الموضوع فقط كما لو قال: (أكرم العلماء والسلاطين والتجّار إلّا الفسّاق منهم).
والثالثة: أن يتعدّد المحمول فقط كما لو قال: (جالس العلماء وسلّم عليهم وأضفهم إلّا الفسّاق منهم).
ولعلّ المشهور في القسم الأوّل يرجع الاستثناء إلى الأخير فقط، وفي القسمين الأخيرين يرجع إلى الجميع أو لا أقلّ من الإجمال، فلا يمكن التمسّك بواحد من العمومات في مورد الاستثناء.
وهذا الكلام متين موافق للفهم العرفيّ وإن كان لا يوجد في كلامهم دليل فنّيّ صحيح على المدّعى.
هذا، ونحن نقيم دليلاً فنّيّاً على ظهور الكلام في الصورة الاُولى في رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فحسب، وعلى عدم ظهوره في ذلك في الصورة
الثانية والثالثة، فيبقى الأمر في الثانية والثالثة مردّداً بين ظهوره في الرجوع إلى الكلّ وبين الإجمال، فإن عيّنّا الأوّل بالفهم العرفيّ ـ كما لا يبعد ذلك ـ فبها ونعمت، وإلّا فعلى كلّ تقدير لا يبقى مجال للتمسّك بالعمومات السابقة؛ إذ لا أقلّ من الإجمال.
وذاك البيان الفنّيّ هو: أنّنا لو أرجعنا الاستثناء في الصورة الاُولى إلى الكلّ لابتلينا بأحد محاذير؛ وذلك لأنّه قد حقّق في محلّه أنّ المعاني الحرفيّة جزئيّة، لا بمعنى الجزئيّة الخارجيّة أو الذهنيّة أو نحوهما بل بمعنى الجزئيّة الطرفيّة، أي: أنّ النسبة الحرفيّة قائمة بطرفيها ومتقوّمة بهما، فتتغيّر بتغيّر طرفيها أو بتغيّر أحد الطرفين، فلو اُريد الاستثناء من العلماء والسلاطين والتجّار في المثال الأوّل فالطرف للاستثناء في كلّ واحد من هذه الموضوعات يختلف عن الآخر والمستثنى أيضاً يختلف، فإنّه تارةً يكون فسّاق العلماء واُخرى فسّاق السلاطين وثالثة فسّاق التجّار، فلدينا إذن نسب استثنائيّة ثلاث كلّ منها تتباين مع الاُخرى في كلا طرفيها، فإرجاع الاستثناء في هذا المثال إلى الكلّ لا يكون إلّا بأحد وجوه ثلاثة:
إمّا استعمال أداة الاستثناء في عدّة معان، وهذا خلف عدم استعمال اللفظ في أكثر من معنى.
وإمّا استعمالها في الجامع بين الاستثناءات، وهذا خلف جزئيّة المعنى الحرفيّ.
وإمّا إلباس المواضيع الثلاثة ثوب الوحدة الاعتباريّة والتركيب الاعتباريّ، وهذه مؤونة زائدة بحاجة إلى قرينة ومنفيّة في فرض عدم القرينة بأصالة نفي المؤونة الزائدة.
وهذا بخلاف الحال في المثال الثاني وهو: (أكرم العلماء والسلاطين والتجّار
إلّا الفسّاق منهم)، ففي هذا المثال لا مانع من رجوع الاستثناء إلى كلّ هذه العناوين الثلاثة، فنبقى نحتمل رجوعه إليها جميعاً لا بمعنى استعمال الأداة في عدد من النسب حتّى يقال: إنّ هذا خلف عدم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، ولا بمعنى استعمال الأداة في جامع النسب حتّى يقال: إنّ هذا خلف جزئيّة المعنى الحرفيّ، بل بمعنى إلباس المواضيع الثلاثة ثوب الوحدة والتركّب الاعتباريّ؛ إذ لا مؤونة زائدة فيه هنا؛ لأنّ هذا الإلباس قد تحقّق سلفاً وقبل الاستثناء؛ لأنّ المفروض أنّه حُمل عليها محمول واحد، والنسبة بين الموضوع والمحمول أيضاً معنى حرفيّ جزئيّ متقوّم بالطرفين، فلا يمكن جعل هذه النسبة بين محمول واحد وعدّة مواضيع إلّا بإلباسها ثوب الوحدة والتركيب الاعتباريّ، فإذا تحقّق هذا الإلباس فلا مانع من رجوع الاستثناء إلى الكلّ وإذن فلا أقلّ من الإجمال(1).
والأمر في المثال الثالث أوضح وهو قوله: (أكرم العلماء وسلّم عليهم وأضفهم
(1) لا يخفى أنّ الوحدة الناتجة من جعل مجموع العناوين طرفاً واحداً للنسبة ليست بمؤونة جديدة، بل تكون بنفس طرفيّة الموضوعات العديدة لنسبة واحدة، فكلّ موضوع تارة يفرض طرفاً تامّاً لنسبة مّا وهذا يتطلّب تعدّد النسب، واُخرى يفترض جزء طرف، وعندئذ ـ لا محالة ـ ينتزع ثوب وحدة بين الموضوعات حيث أصبحت بمجموعها طرفاً واحداً. ومن هنا اتّضح خطأ الفرق بين الصورة الاُولى والثانية بأنّ الوحدة في الصورة الثانية ملحوظة ـ لا محالة ـ لأجل نسبة اُخرى، وهي النسبة بين الموضوع والمحمول فلا مورد لوحدة جديدة، بخلاف الصورة الاُولى، فإنّ هذا يرد عليه: أنّ هذه الوحدة انتزاعيّة لا اعتباريّة، والوحدة الانتزاعيّة بلحاظ كلّ نسبة إنّما هي في اُفق تلك النسبة، فالوحدة بلحاظ نسبة ثانية وحدة اُخرى غير الاُولى وهي نابعة من صميم طرفيّتها للنسبة الثانية.
إلّا الفسّاق منهم)، فإنّ الموضوع المستثنى واحد وليس متعدّداً وتعدّد ذكره بالضمير لا يعدّده من حيث المعنى، فسواء رجع الاستثناء إلى الأخير أو إلى الكلّ لا نلتقي بمحذور فلا أقلّ من الإجمال.
وهنا تقريب آخر في هذه الصورة الثالثة، وهو: أنّه من الممكن في هذه الصورة الاستثناء من الجميع، وذلك بجعل المستثنى منه خصوص اللفظ الأوّل الذي هو مرجع للضمائر، وبالاستثناء منه يثبت قهراً اختصاص المراد من الضمائر بغير المستثنى؛ لأنّ الضمير تابع لمرجعه(1).
والخلاصة: أنّ الفنّ قاض بعدم تحتّم اختصاص الاستثناء بالأخير، بل إمّا أن يرجع إلى الجميع أو يحصل الإجمال، ولا يبعد دعوى الظهور عرفاً في الرجوع إلى الجميع.
ثمّ إنّنا حينما أقمنا هذا البيان الفنّيّ لإثبات ظهور الاستثناء في المثال الأوّل في الرجوع إلى الأخير فحسب إنّما كان مقصودنا إثبات ذلك في مقابل دعوى الإجمال، ولم يكن مقصودنا إثبات ذلك في مقابل دعوى الظهور في الرجوع إلى الكلّ، والظاهر أنّه لم يدّع أحد في القسم الأوّل ـ وهو تعدّد العمومات موضوعاً ومحمولاً ـ كونه ظاهراً في الرجوع إلى الجميع، فبقي الاحتياج إلى نفي الإجمال فأوضحناه بالبيان الفنّيّ الذي عرفت.
أمّا لو ادّعى أحد في ذلك وجود قرينة على إلباس ثوب الوحدة الاعتباريّة على كلّ المواضيع، وهو نفس تأخير العامّ الأخير مع الاستثناء في الكلام، فلو كان
(1) هذا التقريب الآخر يختصّ بما إذا كان تكرار الموضوع عن طريق إرجاع الضمير، بينما التقريب الأوّل يأتي حتّى فيما لو كرّر الموضوع بلفظه.
الاستثناء خاصّاً بالأخير لكان الأولى أن يقدّمه في الكلام ويقول: (أكرم التجّار إلّاالفسّاق منهم وأكرم العلماء وأكرم السلاطين) أقول: لو ادّعى أحد قرينيّة ذلك على عدم اختصاص الاستثناء بالأخير وعلى إلباس جميع الموضوعات لباس الوحدة الاعتباريّة والتركيب الاعتباريّ لم يكن لدينا بيان فنّيّ لإبطال ذلك، وينحصر الردّ في دعوى أنّ الذوق العرفيّ لا يقبل هذه القرينيّة.
ثمّ إنّ المحقّق العراقيّ(قدس سره) لم يذكر أقساماً لتعقّب العامّ بأداة الاستثناء بل قال على سبيل الإطلاق: إنّه كما يمكن رجوع الاستثناء إلى خصوص الأخير كذلك يمكن رجوعه إلى الجميع.
وأمّا الإشكال بأنّ المعنى الحرفيّ جزئيّ فأجاب عنه:
أوّلاً: بأنّ الاستثناء من الجميع غير مناف لجزئيّة المعنى الحرفيّ، فإنّ الاستثناء من الجميع فرد من أفراد الاستثناء كالاستثناء من الأخير فقط، فلم يلزم من إرجاع الاستثناء إلى الجميع استثناءات عديدة حتّى يكون ذلك منافياً لجزئيّة المعنى الحرفيّ.
وثانياً: بأنّه لو سلّمنا أنّ ذلك مناف لجزئيّة المعنى الحرفيّ فإنّا قد أنكرنا في محلّه أصل المبنى وقلنا بأنّ الموضوع له في الحروف عامّ(1). هذا ما أفاده المحقّق العراقيّ(قدس سره).
أقول: يرد على جوابه الأوّل: أنّ الاستثناء من موضوعات عديدة لو كان بنحو فرض الجميع كلاًّ واحداً بالوحدة الاعتباريّة صحّ ما ذكره من كون الاستثناء استثناءً واحداً، لكن هذه مؤنة زائدة تحتاج في مقام الإثبات إلى القرينة وهي منتفية في الصورة الاُولى. وأمّا لو لم يكن بنحو فرض الجميع كلاًّ واحداً فلا محالة
(1) المقالات، ج 1، المقالة: 37، ص 476 ـ 477 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم.
يكون الاستثناء من كلّ واحد منها فرداً مستقلاًّ برأسه من أفراد الاستثناء، فلابدّ إمّا من استعمال الأداة في الجامع بين هذه الأفراد وذلك مناف لفرض جزئيّة المعنى الحرفيّ، وإمّا من استعمالها في أكثر من معنى واحد وهو أيضاً باطل.
ويرد على جوابه الثاني: أنّ القائلين بكون الموضوع له الحروف عامّاً اختلفوا فيما بينهم، فذهب المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) إلى أنّ المستعمل فيه أيضاً عامّ، ولكن ذهب المحقّق العراقيّ(قدس سره) إلى أنّ الحرف يستعمل في المعنى الخاصّ إلّا أنّه فرق بين استعماله واستعمال ما يكون الموضوع له فيه خاصّاً، وهو أنّه في الثاني يراد المعنى الخاصّ بنحو وحدة الدالّ والمدلول، وفي الأوّل يراد المعنى الخاصّ بنحو تعدّد الدالّ والمدلول، فطرفا النسبة الحرفيّة كالسير والبصرة مثلاً يدلاّن على الخصوصيّة، ونفس الأداة تدلّ على الحصّة الموجودة في ضمن هذا الفرد من الجامع، فالفرق بينه(قدس سره) وبين مَن يقول بجزئيّة الموضوع له في الحروف أنّ القائل بجزئيّته يقول: لا جامع بين النسب الجزئيّة يكون هو الموضوع له. وهو(قدس سره) يقول: إنّ الجامع بينها موجود وهو الموضوع له الحرف، فكلمة (من) مثلاً وضعت لجامع النسب الابتدائيّة، لكنّه بما أنّه لا يعقل تحقّق المعنى الحرفيّ في موطن الذهن إلّا إذا صار جزئيّاً لا يستعمل الحرف إلّا في حصّة خاصّة من الجامع موجودة في فرد خاصّ ويدلّ شيء آخر على الخصوصيّة، فاستعمل الحرف في معنىً جزئيّ بنحو تعدّد الدالّ والمدلول.
وأنت ترى أنّه بناء على هذا المبنى أيضاً لا يعقل الاستثناء من الجميع بأداة واحدة بدون ملاحظة وحدة اعتباريّة، فإنّه لو فعل كذلك فإمّا أن استعملت الأداة في حصص عديدة من الجامع من قبيل استعمال اللفظ في أكثر من معنى وذلك غير صحيح، وإمّا أن استعملت في ذات الجامع وهذا خلاف مبناه من كون المستعمل فيه جزئيّاً.
الاستثناء بالاسم:
المقام الثاني: في الاستثناء بالاسم، ككلمة (غير)، وهذا أيضاً له ثلاث صور وهي عين الصور التي مضت في المقام الأوّل:
الاُولى: أن يتعدّد الموضوع والمحمول معاً، كما لو قال: (أكرم العلماء وأكرم السلاطين وأكرم التجّار غير الفسّاق منهم).
والثانية: أن يتعدّد الموضوع فقط، كأن يقول: (أكرم العلماء والسلاطين والتجّار غير الفسّاق منهم).
والثالثة: أن يتعدّد المحمول فقط، كأن يقول: (جالس العلماء وسلّم عليهم وأضفهم غير الفسّاق منهم).
وقد قلنا في الصورة الاُولى من المقام الأوّل: إنّه لابدّ من كون الاستثناء راجعاً إلى خصوص الأخير؛ لجزئيّة المعنى الحرفيّ.
وهذا البرهان ـ كما ترى ـ لا يأتي في المقام الثاني؛ لأنّ المفروض أنّ الاستثناء بالاسم، فنقول في هذا المقام في جميع الصور الثلاث: إنّه لا مانع من الرجوع إلى الجميع.
نعم، هنا فرق بين الصورة الاُولى والصورتين الأخيرتين، وهو: أنّه في الصورتين الأخيرتين بعد أن لم يكن مانع عن الرجوع إلى الجميع يثبت ـ لا محالة ـ عدم تعيّن الرجوع إلى خصوص الأخير، فيدور الأمر بين الإجمال والظهور في الرجوع إلى الجميع، ولا يبعد دعوى موافقة الفهم العرفيّ للثاني.
وأمّا في الصورة الاُولى ـ وهي تكرّر الموضوع والمحمول معاً بحيث تكون كلّ جملة كلاماً مستقلاًّ برأسه ـ فيمكن أن يدّعى أنّ نفس هذا الوصف قرينة عرفاً على
اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة، فعدم المانع من الرجوع إلى الجميع ليس في هذه الصورة برهاناً على عدم تعيّن الرجوع عرفاً إلى خصوص الأخيرة.
والظاهر: أنّ العرف لا يفرّق بين الاستثناء بالاسم والاستثناء بالحرف، ففي كلا المقامين يكون ظاهر الكلام في الصورة الاُولى رجوع الاستثناء إلى خصوص الأخيرة، إلّا أنّ الفرق بينهما أنّه في المقام الأوّل دلّ الفنّ أيضاً على ذلك وفي المقام الثاني لم يدلّ الفنّ عليه(1).
(1) قد يقال: إنّ فرض الفرق بين باب الاسم وباب الحرف في الصورة الاُولى غير معقول؛ لأنّ أداة الاستثناء وإن فرضت هذه المرّة اسماً ولكن إنّما نستثني من الموضوعات السابقة عن طريق جعلها وصفاً لها، فلابدّ في البين من النسبة الوصفيّة، فلو كان هناك برهان في النسبة الاستثنائيّة يدلّ على أنّها ترجع إلى الأخير فحسب فعين ذاك البرهان يأتي في النسبة الوصفيّة فكلاهما معنى حرفيّ وجزئيّ.
أمّا لو قيل بأنّ الموضوعات المتعدّدة يمكن أن يكون كلّ واحد منها جزء طرف للنسبة الوصفيّة بلا حاجة إلى فرض وحدة اعتباريّة سابقة بينها فعين الكلام يأتي في النسبة الاستثنائيّة حرفاً بحرف.
والجواب: أنّ النسبة الوصفيّة مستفادة من الهيئة التركيبيّة وهي هيئة وقوع الوصف بعد الموصوف، ومع تعدّد الموصوف تكون الهيئة أيضاً متعدّدة، فيمكن افتراض استعمال كلّ واحدة منها في نسبة كما يمكن إهمالها جميعاً ما عدا الأخيرة، والمقياس في إهمال ما عدا الأخيرة أو استعمالها في النسبة الوصفيّة هو ما يقصد به من كلمة (غير)، فلو قصدت به أفراد من الموضوع الأخير كان وصفاً للأخير، ولو قصد الجامع بين المواضيع كان وصفاً للجميع، وبما أنّه اسم وليس حرفاً ومستعمل في معنى اسميّ لا النسبة فقصد الجامع به معقول.
ثمّ إنّ المحقّق العراقيّ(قدس سره) بعد أن ذهب إلى إمكان الاستثناء من الجميع بلامؤونة ولو كان الاستثناء بالحرف، وقال بعدم الفرق بين كون الاستثناء بالحرف وكونه بالاسم ساق كلا القسمين من الاستثناء مساقاً واحداً وذكر تفصيلاً في المسألة، وبما أنّ كلامنا فعلاً في الاستثناء بالاسم فلنمثّل بذلك فنقول:
لو قال المولى مثلاً: (أكرم العلماء وجالس الأسخياء وسلّم على العبّاد غير الفسّاق) فهل يرجع الاستثناء إلى الأخيرة أو إلى الجميع؟
ذكر المحقّق العراقيّ(قدس سره) أنّ مقتضى إطلاق الاستثناء والمستثنى هو الرجوع إلى الجميع، وهذا الإطلاق معارض بظهور ما عدا الجملة الأخيرة في الإطلاق أو العموم، فإن كان ظهور ما عدا الجملة الأخيرة بالعموم، ككلمة (كلّ) قدّم على إطلاق الاستثناء والمستثنى؛ لأنّ إحدى مقدّمات الحكمة عدم البيان، وعموم ما عدا الجملة الأخيرة بيانٌ، فهو مانع عن انعقاد مقدّمات الحكمة.
وإن كان ظهور ما عدا الجملة الأخيرة بالإطلاق ففي الحقيقة لا يتمّ شيء من الإطلاقين المتعارضين ويحصل الإجمال، وليس ذلك لأجل صلاحيّة كلّ منهما للقرينيّة للآخر، فإنّ قرينيّة كلّ منهما فرع ظهوره بتماميّة مقدّمات الحكمة بالنسبة إليه، ولا تتمّ؛ لما فيها من الدور ـ كما ستعرف ـ بل الإطلاق بنفسه غير جار في شيء من الطرفين؛ لأنّه مستلزم للدور، فإنّ الإطلاق في كلّ طرف متوقّف على عدم تحقّق البيان بالإطلاق في الطرف الآخر، وهو متوقّف على إطلاق الطرف الأوّل؛ لأنّه لولاه لكان إطلاق الطرف الآخر تامّاً، فلا يجري شيء من الإطلاقين للدور. هذا ما أفاده المحقّق العراقيّ(قدس سره)(1).
(1) المقالات، ج 1، المقالة: 37، ص 475 ـ 476 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم.
أقول: أمّا ما ذكره من أنّ إطلاق الاستثناء والمستثنى يقتضي الرجوع إلى الجميع فيرد عليه: أنّ (غير) مبهم في غاية الإبهام، وبإبهامه ليس قابلاً لصيرورته موضوعاً للحكم الشرعيّ، فإن أراد(قدس سره)إجراء الإطلاق في (غير) مع قطع النظر عن تحصّل مفهوم معيّن له بوقوعه صفة للمستثنى منه ومضافاً إلى الاستثناء لم يكن ذلك معقولاً؛ لما عرفت من أنّه بإبهامه لا تعقل صيرورته موضوعاً للحكم الشرعيّ. وإن أراد إجراء الإطلاق فيه بعد تحصّل مفهوم معيّن له بوقوعه صفة للمستثنى منه ومضافاً إلى المستثنى فالشكّ إنّما هو في نفس ذلك المفهوم المتعيّن، هل هو موضوع الجملة الأخيرة فقط المتّصف بكونه غير فاسق أو موضوع جميع الجمل المتّصف بكونه غير فاسق، وعلى أحد الفرضين لا يعقل رجوع الاستثناء إلى الجميع، فكيف يمكن إثبات رجوعه إلى الجميع بالإطلاق؟ هذا بلحاظ أداة الاستثناء.
وكذلك الأمر بلحاظ المستثنى، فإنّه بعد أن شككنا في المفهوم المتحصّل المتعيّن من أداة الاستثناء ولم ندر أنّه هل هو موضوع الجملة الأخيرة المتّصف بكونه غير الفسّاق أو هو موضوع تمام الجمل المتّصف بذلك لم يعقل إجراء الإطلاق في المستثنى، فإنّه على أحد الفرضين يستحيل كون المستثنى الفاسق من جميع تلك الموضوعات.
وأمّا ما ذكره من أنّ إطلاق الاستثناء والمستثنى معارض بظهور ما عدا الجملة الأخيرة، فإن كان ظهوره بالعموم قدّم على الإطلاق وإلّا فهما متساويان، فيرد عليه ـ بعد تسليم إطلاق المستثنى والمستثنى منه ـ: أنّه إن بنينا على مبنى كون العبرة في التقدّم بالقرينيّة ـ كما هو الحقّ ـ فإطلاق الاستثناء والمستثنى مقدّم على ظهور ما عدا الجملة الأخيرة ولو فرض ذلك بالوضع؛ وذلك لأنّ العرف يرى ملابسات الكلام ومتعلّقاته قرينة لأصل الكلام دون العكس، فلو قال: (رأيت أسداً يرمي) يكون قوله: (يرمي) قرينة على أنّ المراد بالأسد الرجل الشجاع، لا أنّ قوله:
(أسداً) قرينة على أنّ المراد بــ (يرمي) رمي قطع اللحم من الفم مثلاً، وكذلك الأمر فيما نحن فيه، فإنّ الاستثناء والمستثنى قرينة بالنسبة للمستثنى منه دون العكس، فظهر: أنّ إطلاق الاستثناء والمستثنى مقدّم على إطلاق المستثنى منه وعمومه.
وإن بنينا على مبنى كون العبرة في التقدّم بالأظهريّة ـ كما ذهب إليه المحقّق العراقيّ(قدس سره) ـ فالمتعيّن كون إطلاق الاستثناء والمستثنى في عرض ظهور ما عدا الجملة الأخيرة ولو فرض بالعموم، لا تقدّم العموم عليه؛ وذلك لأنّه كما يكون الإطلاق متوقّفاً على عدم البيان المتّصل أو مطلقاً، كذلك العموم متوقّف على عدم البيان المتّصل؛ لما مضى في السابق من أنّ أداة العموم إنّما تشمل وضعاً أفراد المفهوم المتحصّل من تمام ما يكون متّصلاً بمدخوله، فظهر: أنّه لا رجحان فيما نحن فيه للعموم على الإطلاق.
وأمّا ما ذكره من عدم جريان الإطلاقين رأساً ـ لمكان الدور لا لصلاحيّة كلّ منهما للقرينيّة للآخر ـ فيرد عليه: أنّه بعد تسليم كون كلّ منهما في مرتبة واحدة لا يجري شيء منهما، لكن لا لما ذكره من عدم تماميّة مقدّمات الحكمة رأساً لمكان الدور. توضيح ذلك: أنّ بطلان الدور معناه استحالة توقّف الشيء على نفسه لا أنّه بعد أن فرض توقّفه على نفسه يستحيل وجوده في الخارج؛ لأنّه علّة نفسه وهو ليس موجوداً حتّى يوجد نفسه مثلاً، والمحقّق العراقيّ(قدس سره) سلّم توقّف الشيء على نفسه فيما نحن فيه حيث قال: إنّ الإطلاق في كلّ طرف موقوف على عدمه في الطرف الآخر، وعدمه في الطرف الآخر موقوف على الإطلاق في الطرف الأوّل، فكأنّه توهّم أنّ معنى استحالة الدور استحالة وجود ما توقّف على نفسه، مع أنّ الأمر ليس كذلك.
وبكلمة اُخرى: لو لم يعترف بالتوقّفين فلا دور، ولو اعترف بهما فقد اعترف بالدور المحال، فإنّ المحال هو نفس توقّف الشيء على نفسه، هذا.
وممّا ذكرنا يظهر: أنّ استحالة الدور لا تختصّ بجانب الوجود بل تجري في جانب العدم أيضاً؛ لما عرفت من أنّه ليست الاستحالة في وجود ما توقّف على نفسه، بل الاستحالة في نفس علّيّة كلّ منهما للآخر بحسب نظام العلل وترتيبها بلا فرق بين جانب الوجود والعدم، فما ذكره من الدور في جانب وجود الإطلاق ـ بدعوى أنّ الإطلاق في كلّ طرف متوقّف على عدمه في الطرف الآخر وبالعكس ـ يأتي في جانب عدمه أيضاً؛ إذ عدمه في كلّ طرف متوقّف على وجوده في الطرف الآخر وبالعكس.
والتحقيق في حلّ المغالطة: أنّ الإطلاق في كلّ طرف وإن كان معلولاً لعدمه في الطرف الآخر أو معلولاً لما يلازمه(1) ـ وهو الصحيح كما سيظهر ـ لكن هذا العدم عبارة عن عدم الإطلاق الشأنيّ، فإنّ الإطلاق في كلّ طرف بوجوده الشأنيّ ـ أي: بصدق أنّه لولا الإطلاق في الطرف الآخر لتمّ هذا الإطلاق ـ يكون مانعاً عن الإطلاق في الطرف الآخر، فنقول مثلاً: إنّ الإطلاق الشأنيّ في كلّ طرف علّة لعدم الإطلاق الفعليّ في الطرف الآخر، وعدم الإطلاق الشأنيّ في كلّ طرف علّة للإطلاق الفعليّ في الطرف الآخر، وهاتان العلّيّتان ليستا دوراً؛ لاختلاف طرفيهما.
وبكلمة اُخرى: إنّه(قدس سره) لو أراد تصوير الدور في الإطلاق الشأنيّ في كلّ طرف قلنا: إنّ ما يتوقّف على هذا الإطلاق غير ما يتوقّف عليه هذا الإطلاق، فإنّ الأوّل هو عدم الإطلاق الفعليّ في الطرف الآخر، والثاني هو عدم تماميّة مقدّمات الحكمة في ذاك الطرف في نفسه مع قطع النظر عن الطرف الآخر.
وإن أراد تصوير الدور في الإطلاق الفعليّ في كلّ طرف، فإنّه وإن كان متوقّفاً على عدم الإطلاق الشأنيّ في الطرف الآخر لكن لا عكس فلا دور؛ لأنّ عدم
(1) وهو عدم العلم الإجماليّ بكذب أحدهما.