164

أقرب إلى محلّ الابتلاء، وهم المتواجدون في بلاد الإسلام، وتخصيصه بغيرهم بعيد.

وإذا استحكم التعارض وصلت النوبة إلى المرجّحات، والمرجّحات الأساسية اثنان:

المرجّح الأوّل _ موافقة الكتاب، فقد يقال: إنّ روايات انفساخ العقد هي المطابقة لإطلاق الكتاب، وهو قوله تعالى: ﴿يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا جٰاءَكُمُ الْمُؤْمِنٰاتُ مُهٰاجِرٰاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللّٰهُ أَعْلَمُ بِإِيمٰانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنٰاتٍ فَلٰا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفّٰارِ لٰا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلٰا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾(1).

إلّا أنّ إثبات إطلاق هذه الآية للنساء الذمّيات اللاتي أسلمن مشكل:

أوّلاً: لأنّ الآية ناظرة إلى نساء أهل الحرب في قصّة صلح الحديبية، وليس نساء أهل الذمّة.

إلّا أن يفسّر أهل الذمّة في المقام بمعنى مطلق أهل الكتاب، أي الذين فيهم قابلية الدخول في الذمّة، لا بمعنى الملتزمين بشرائط الذمّة أو الداخلين تحت الذمّة بالفعل.

وثانياً: لأنّ شمول إطلاق الآية للكتابيين مشكل؛ لأنّها ناظرة إلى المشركين الذين هم طرف القضيّة في قصّة صلح الحديبية، واستقرار المصطلح المتشرّعي الموجود لدينا اليوم على أنّ الكافر يعني مطلق غير المسلم كتابياً كان أو غير كتابي غير واضح بالنسبة لزمان نزول الآية كي يتمسّك بالإطلاق؛ فإنّ الكافر بمعناه الأوّلي وقبل استقرار الاصطلاح على المطلق يناسب إرادة الكافر بالتوحيد، وهم المشركون أو الملحدون، كما يناسب إرادة مطلق الكافر بالإسلام، فتصبح الآية مجملة بهذا الصدد.

والمرجّح الثاني: مخالفة العامّة، وهي توجب رجحان الطائفة الثانية الدالّة على عدم الانفساخ؛ لأنّ المشتهر شهرة عامة بينهم كالمشتهر لدى الشيعة أيضاً هو الانفساخ ولو بعد العدّة.

 


(1) الممتحنة: 10.

165

والاشتهار لدى الشيعة لا يضعّف روايات عدم الانفساخ؛ لعدم معلومية الإعراض، إذ لعلّهم قدّموا روايات الانفساخ باعتقاد موافقة الكتاب مثلاً أو بتخيّل الجمع العرفي ونحو ذلك، ولكن الاشتهار لدى السنّة يوجب حملها على التقية.

أمّا المصدر لما قلناه من أنّ روايات الانفساخ تطابق العامة فهو ما ورد في الموسوعة الفقهية الكويتية، والنصّ ما يلي:

«وأمّا إن أسلمت الكتابية قبله وقبل الدخول تعجّلت الفرقة سواء أكان زوجها كتابياً أو غير كتابي؛ إذ لا يجوز لكافر نكاح مسلمة. قال ابن المنذر:

أجمع على هذا كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم، والصحيح أنّ في المسألة خلاف أبي حنيفة إذا كان في دار الإسلام، فإنّه لا فرقة إلّا بعد أن يعرض عليه الإسلام فيأبی....

أمّا إن كان إسلام أحد الزوجين الوثنيين أو المجوسيين أو زوجة الكتابي بعد الدخول ففي المسألة ثلاثة اتّجاهات:

الأوّل: يقف الأمر على انقضاء العدّة، فإن أسلم الآخر قبل انقضائها فهما على النكاح، وإن لم يسلم حتى انقضت العدّة وقعت الفرقة منذ اختلف الدينان، فلا يحتاج إلى استئناف العدّة. وهذا قول الشافعي، ورواية عن أحمد.

الثاني: تتعجّل الفرقة. وهذا رواية عن أحمد، وقول الحسن وطاووس.

الثالث: يعرض الإسلام على الآخر إن كان في دار الإسلام. وهو قول أبي حنيفة كقوله في إسلام أحدهما قبل الدخول، إلّا أنّ المرأة إذا كانت في دار‌ الحرب فانقضت مدّة التربص وهي ثلاثة أشهر أو ثلاثة حيض وقعت الفرقة، ولا عدّة عليها بعد ذلك؛ لأنّه لا عدّة على الحربية.

وإن كانت هي المسلمة فخرجت إلينا مهاجرة فتمّت الحيض هنا، فكذلك عند

166

أبي حنيفة. وقال الصاحبان: عليها العدّة»(1). انتهى ما أردنا نقله عن الموسوعة الفقهية الكويتية.

ثم إن المسألة التي أصبحت محلّ الابتلاء في زماننا هذا في البلاد الأوروبية والغربية هي اتّجاه كثير من نسائهم إلى الإسلام هرباً من التفسّخ الخُلقي المنتشر في تلك البلاد، والتي تكون النساء فيه هي الضحية الأولى أو لأيّ عامل آخر، فلو حكم عليهنّ بالانفصال عن أزواجهنّ أدّى ذلك إلى ارتداد أكثرهنّ إلى الكفر مرّة أخرى هرباً من الانفصال عن الأزواج في حين أنّه لو أفتينا بعدم انفساخ العقد كسبناهنّ للإسلام، وقد يؤثّرن بالتدريج على أزواجهنّ.

ومن هنا قد يقال: إنّ البحث السابق لا ينفعنا شيئاً بصدد حلّ هذه المشكلة؛ لأنّنا لو سلّمنا تقديم الطائفة الثانية من الروايات الدالّة على عدم الانفساخ بمخالفة العامّة أو فرضنا تساقط الروايات بالتعارض أو أخذنا بالطائفة الثانية بناءً على التخيير لدى التعارض فهذا إنّما يحلّ المشكلة بالنسبة لنساء الذمّيين، في حين أنّ هؤلاء ليسوا ذمّيين. اللهم إلّا إذا فسّر أهل الذّمة بمعنى من له قابلية الذمّة، وهم الكتابيون حتى القاطنون في دار الكفر.

وقد يقال: إنّنا بأيّ تفسير فسّرنا الذمّي يقع التعارض بين الطائفتين، فإذا أسقطنا روايات الانفساخ بوجه من الوجوه لم يبقَ دليل على الانفساخ بالنسبة للكتابيين القاطنين في دار الكفر؛ لأنّ الدليل عبارة عن تلك الروايات، فلنفترض أنّ روايات عدم الانفساخ لم تشملهم، لكنّه يكفينا عدم بقاء دليل يدلّ على الانفساخ، فنجري استصحاب بقاء علقة الزوجية.

إلّا أنّ هذه النتيجة مشكلة؛ وذلك بعد وضوح أنّ ظاهر عنوان أهل الذمّة أو

 


(1) انظر الموسوعة الفقهية الكويتية، ج4، ص261 _ 262؛ المغني، ج7، ص152.

167

الذمّي أو من له ذمّة ونحو ذلك هي الذمّة الفعلية، لا مجرّد من له قابلية الذمّة.

وعندئذٍ نقول: إنّ في روايات إقرار النكاح وإبقائه على حاله رغم إسلام المرأة ما صرّح بشرط الذمّة في ذلك، وهي ما مضى من رواية ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن محمد بن مسلم. وهي وإن كانت معارَضة بما دلّ على انفساخ النكاح بعد العدّة، لكنّنا قد نقّحنا في علم الأُصول أنّ الخبرين المتعارضين ينفيان الثالث. وفي المقام قد دلّ أحد المتعارضين على انفساخ نكاح الكتابي بإسلام امرأته بعد انتهاء العدّة ولو كان ذمّياً، ودلّ الآخر على التفصيل بين الذمّي وغير الذمّي بالانفساخ في الثاني دون الأوّل، فالإفتاء بعدم الانفساخ حتى في غير الذمّي يعني الإفتاء بأمر ثالث مرفوض من قبل كلتا الطائفتين. وعليه فالمتيقّن من الطائفتين انفساخ نكاح نساء الكتابيين الذين يعيشون في هذه الأيّام في بلاد الكفر.

وأمّا حلّ المشكلة الاجتماعية التي أشرنا إليها فينحصر في كتمان حكم الانفساخ عليهنّ لمصلحة إبقائهنّ على الإسلام، أمّا الإفتاء بعدم الانفساخ فلا سبيل إليه.

هذا كلّه بناءً على التعارض بين الطائفتين.

أمّا لو قلنا بأنّ روايات حصول البينونة مطلقة من ناحية فعلية الذمّة وعدمها، فرواية التفصيل بين من له الذمّة وغيره تقدّم عليها بعد حملها على إرادة فعلية الذمّة لا من له أهلية الذمّة فالأمر أوضح.

169

العيوب التي يفسخ بها النكاح

171

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله أجمعين.

وقبل الحديث عن كلّ عيب من تلك العيوب ينبغي البحث عن القاعدة العامّة التي لابدّ من المصير إليها في موارد الشكّ في كون العيب الفلاني موجباً لجواز الفسخ وعدمه:

لا شكّ أنّ مقتضى الأصل العملي لدى الشكّ في الانفساخ بالفسخ هو استصحاب بقاء العلقة الزوجية؛ لأنّنا لم نؤمن في علم الأُصول بما قرّره السيد الخوئي(قدس سره) من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية، وكذلك مقتضى الأصل اللفظي المستفاد من ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1)هو اللزوم وعدم الانفساخ.

ولكن يقع الكلام في أنّه هل يوجد لدينا أصل لفظي يحكم على ذاك الأصل العملي ويتقدّم على إطلاق ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، ويدلّ على حقّ الفسخ من دون حاجة إلى ورود نص خاص في ذلك العيب أو لا؟

ما يمكن أن يفترض كأصل لفظي في المقام يثبت حقّ الفسخ هو أحد أمرين:

 


(1) المائدة: 1.

172

الأمر الأوّل: ما قد يستفاد من بعض الروايات الواردة في فسخ النكاح من كون التدليس موجباً لحقّ الفسخ، فيضمّ ذلك إلى دعوى أنّ كتمان أيّ عيب من العيوب في أحد الزوجين عن الزوج الآخر يعتبر تدليساً، وبذلك يثبت حقّ خيار الفسخ.

أمّا ما دلّت على كون التدليس في باب النكاح موجباً لحقّ الفسخ، فمن قبيل:

۱_ صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله(علیه السلام): «في رجل ولّته امرأة أمرها أو ذات قرابة أو جار لها لا يعلم دخيلة أمرها فوجدها قد دلّست عيباً هو بها، قال: يؤخذ المهر منها ولا يكون على الذي زوّجها شيء»(1)، بناءً على أنّ المفهوم عرفاً من قوله: «يؤخذ المهر منها» هو استرجاع المهر بالفسخ.

۲_ وصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر(علیه السلام): قال: في كتاب علي(علیه السلام)«من زوّج امرأة فيها عيب دلّسه ولم يبيّن ذلك لزوجها فإنّه يكون لها الصداق بما استحلّ من فرجها ويكون الذي ساق الرجل إليها على الذي زوّجها ولم يبيّن»(2). وسند الحديث بالشكل الوارد في الوسائل ما يلي: محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد عن فضالة عن القاسم بن يزيد عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر(علیه السلام)... وورد تحت الخط على كلمة يزيد: (في المصدر بريد) يعني أنّ الموجود في كتاب التهذيب: بريد.

أقول: إنّ الصحيح هو بريد لا يزيد، فإنّ فضالة راوي كتاب قاسم بن بريد، ولا يوجد في كتب الرجال قاسم بن يزيد، فسند الحديث صحيح.

ويمكن الاعتراض على الاستدلال بهذه الصحيحة بأنّه(علیه السلام)كان بصدد أنّ المهر لدى الفسخ يكون على الذي زوّجها، فالفسخ قد أُخذ مفروغاً عنه وليس بصدد بيانه كي يتمّ فيه الإطلاق.

 


(1) وسائل الشيعة، ج۲۱، ص212، الباب۲ من أبواب العيوب والتدليس، ح٤.

(2) المصدر السابق، ص۲۱٤، ح۷.

173

وقد يقال: إنّ هذا الاعتراض يسري على التمسّك بالصحيحة الأُولى أيضاً؛ إذ كان جواب الإمام(علیه السلام): «يؤخذ المهر منها لا من وليّها» وهذا يعني أنّه(علیه السلام)كان بصدد بيان أنّ المهر لدى الفسخ يؤخذ منها لا من وليّها، فالفسخ قد أُخذ مفروغاً عنه، وليس بصدد بيانه كي يتمّ فيه الإطلاق.

وقد يقال في الجواب: إنّ السؤال كان مطلقاً، فيحمل الجواب _ بقرينة أصالة التطابق مع السؤال _ على مطلق عيب مدلّس، فإنّ النكتة التي شرحناها في الصحيحة الثانية _ وهي كون الفسخ أُخذ مفروغاً عنه _ لم تكن تقتضي التقييد، وإنّما كانت رافعة لمقتضی الإطلاق، ولا ينافي ذلك افتراض نكتة أُخرى للإطلاق في الصحيحة الأُولى وهي إطلاق السؤال مع أصالة التطابق بين السؤال والجواب.

إلّا أنّ هذا الجواب إنّما يتمّ لو فرض رجوع الضمير المستتر في قوله في السؤال: «فوجدها» راجعاً إلى الزوج، ولكنّ الظاهر أنّ الضمير راجع إلى الرجل الوسيط، وهذا يعني أنّ السؤال أيضاً منصبّ على أنّ هذا الوسيط هل يضمن المهر أو لا؟ وذلك بعد فرض الفسخ، فلا يتمّ الإطلاق حتّى في السؤال.

۳_ وصحيحة أبي عبيدة عن أبي جعفر(علیه السلام): قال: «في رجل تزوّج امرأة من وليّها فوجد بها عيباً بعد ما دخل بها، قال، فقال: إذا دلّست العفلاء والبرصاء والمجنونة والمفضاة ومن كان بها زمانة ظاهرة فإنّها تردّ على أهلها من غير طلاق، ويأخذ الزوج المهر من وليّها الذي كان دلّسها، فإن لم يكن وليّها علم بشيء من ذلك فلا شيء عليه وتردّ على أهلها... »(1).

وعيب الدلالة في هذا الحديث: هو أنّه رغم كون السؤال عن مطلق العيب جاء الجواب عن عيوب مخصوصة، وحملها على المثالية _ لكي يفي الجواب بإطلاق

 


(1) المصدر السابق، ص۲۱۱، ح۱.

174

السؤال _ ليس واضحاً. على أنّ تقييد الزمانة بالظاهرة ظاهر في أنّه ليس كلّ زمانة توجب الفسخ ولو كانت مخفيّة(1).

٤_ ورواية رفاعة بن موسى _ وفي سندها سهل _ عن أبي عبدالله(علیه السلام)«... وسألته عن البرصاء؟ فقال: قضى أمير المؤمنين(علیه السلام)في امرأة زوّجها وليّها وهي برصاء، أنّ لها المهر بما استحلّ من فرجها وأنّ المهر على الذي زوّجها، وإنّما صار عليه المهر لأنّه دلّسها، ولو أنّ رجلاً تزوّج امرأة، وزوّجه إيّاها رجل لا يعرف دخيلة أمرها، لم يكن عليه شيء، وكان المهر يأخذه منها»(2).

ووجه الاستدلال بهذا الحديث _ رغم وروده في خصوص البرصاء _ أحد أمرين:

إمّا التمسّك بعموم التعليل في قوله: «وإنّما صار عليه المهر لأنّه دلّسها».

ويرد عليه: أنّ هذا تعليل لصيرورة المهر على الوليّ بعد الفراغ عن الفسخ، وليس تعليلاً لأصل الفسخ كي يدل على الفسخ في كلّ موارد التدليس، وبما أنّ الفسخ فرض مفروغاً عنه وليس في مقام بيانه، فلا يثبت له إطلاق.

وإمّا التمسّك بإطلاق الذيل وهو قوله: «ولو أنّ رجلاً تزوّج امرأة وزوّجه إيّاها رجل لا يعرف دخيلة أمرها، لم يكن عليه شيء، وكان المهر يأخذه منها» بدعوى أنّ هذا الذيل راجع إلى مطلق دخيلة الأمر.

إلّا أنّ هذا أيضاً ليس واضحاً؛ لأنّ هذا الذيل أيضاً ليس بصدد بيان الفسخ، بل بصدد بيان أنّ المهر يؤخذ منها بعد الفراغ عن أصل الفسخ، فلا إطلاق له بلحاظ حقّ الفسخ لكلّ العيوب.

٥_ وصحيحة الحلبي عن أبي عبدالله(علیه السلام)، «في رجل يتزوّج المرأة فيقول لها: أنا

 


(1) سيأتي إن شاء الله تفسير آخر لكلمة الظاهرة.

(2) وسائل الشيعة، ج۲۱، ص211، الباب۲ من أبواب العيوب والتدليس، ح۲.

175

من بني فلان، فلا يكون كذلك؟ فقال: تفسخ النكاح، أو قال: تردّ»(1).

ووجه الاستدلال بهذه الرواية أنّ قوله: «أنا من بني فلان» نوع تدليس أخفّ من التدليس في أيّ عيب يفترض، فلو أوجب ذلك الخيار، فالعرف يتعدّى إلى أيّ عيب من العيوب.

٦_ ورواية حمّاد بن عيسى غير التامّة سنداً، عن جعفر، عن أبيه(علیهما السلام)، قال: «خطب رجل إلى قوم فقالوا له: ما تجارتك؟ قال: أبيع الدوابّ، فزوّجوه فإذا هو يبيع السنانير، فمضوا إلى عليّ(علیه السلام)فأجاز نكاحه، وقال: السنانير دوابّ»(2).

فهذا يعني أنّه لو لم تكن السنانير دواباً لما أجاز عليّ(علیه السلام)نكاحه، في حين أنّ هذا التدليس أخفّ من التدليس في أيّ عيب من العيوب، فبالأولويّة العرفيّة يتعدّى إلى جميع العيوب.

ومجرّد قوله: «أنا من بني فلان» كما في رواية الحلبي، أو: «أبيع الدوابّ» كما في هذه الرواية، لا يدل على وقوع ذلك بعنوان الشرط في ضمن العقد حتّى يحمل الفسخ فيهما على الفسخ بخيار تخلّف الشرط، فالظاهر أنّه محمول على خيار التدليس.

وهذه الروايات، ما كان منها في فسخ الرجل للتدليس في طرف المرأة، يمكن التعدّي من ذلك إلى العكس، أي: فسخ المرأة في عقد وقع التدليس فيه لصالح الرجل، وذلك بالأولويّة العرفيّة أو المساواة _ على الأقلّ _؛ فإنّ الرجل الذي بإمكانه الطلاق في ذاته، وبقطع النظر عن حالة استثنائية كالمرض أو التدليس، إن كان له حقّ الفسخ بالنظر للحالة الاستثنائية، فالمرأة التي لا سبيل لها إلى الطلاق في ذاته، يكون لها هذا الحقّ بالطريق الأولى أو المساوي على الأقلّ.

 


(1) المصدر السابق، ص235، الباب۱٦ من أبواب العيوب والتدليس، ح۱.

(2) المصدر السابق، ح۲.

176

أمّا ما كان من تلك الروايات في فسخ المرأة لدى تدليس الرجل، فقد يصعب التعدّي منها إلى العكس؛ لأنّ المرأة لم يكن بيدها الطلاق في حدّ ذاته بقطع النظر عن الطوارئ، وإن كان يحتمل التعدّي العرفي هنا أيضاً بدعوى أنّ العرف يفهم من حقّ الفسخ للمرأة كون العقد في ذاته معيباً بسبب التدليس عيباً لم يؤدّ إلى البطلان، ولكن أدّى إلى عدم اللزوم وجواز الفسخ، وهذا غير الطلاق الذي لم يكن؛ يعني كون العقد معيباً، فإن كان العقد معيباً بتدليس الرجل موجباً لفسخ المرأة تعدّى العرف إلى تدليس المرأة، ورآه موجباً لتعيّب العقد أيضاً، ولم يحتمل الفرق بين الطرفين.

وعلى أيّ حال، فقد ظهر بهذا العرض أنّ عمدة الدليل على خيار التدليس في النكاح من الروايات هي صحيحة الحلبي في من قال لها: «أنا من بني فلان ولم يكن منهم»، بناءً على أنّ هذا تدليس وليس شرطاً، فإنّه يتعدّى من التدليس بقوله: «أنا من بني فلان» إلى التدليس في العيب بطريق أولى، وهذه الصحيحة كما ترى مخصوصة بتدليس الرجل، وقد عرفت الاستشكال في التعدّي من ذلك إلى تدليس المرأة.

فلو أردنا إثبات خيار التدليس في فرض تدليس المرأة بغير قاعدة لا ضرر، وبغير ما طرحناه، كاحتمال التعدّي من طرف تدليس الرجل إلى تدليس المرأة _ بدعوى أنّ النكتة صيرورة العقد معيباً بالتدليس، وهذا لا علاقة له بحقّ الطلاق _ أمكن التمسّك بما مضى من صحيحة أبي عبيدة عن أبي جعفر(علیه السلام)قال في رجل تزوّج امرأة من وليّها فوجد بها عيباً بعد ما دخل بها، قال، فقال: «إذا دلّست العفلاء والبرصاء والمجنونة والمفضاة ومن كان بها زمانة ظاهرة فإنّها تردّ على أهلها من غير طلاق...»، بناءً على أنّ المقصود بالزمانة مطلق المرض المزمن، وبناءً على أنّ المقصود بالظاهرة ليس ما بنينا عليه في ما سبق من إرادة معنى البارزة في مقابل الخفيّة، بل المقصود بها القويّة والمهمّة في مقابل المختصرة وغير المهمّة والتي لا يعتبر مجرّد عدم إبرازها تدليساً،

177

والظهور قد يستعمل في مورد الغلبة كما في قوله تعالى: ﴿إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ﴾(1)، ولو بنكتة أنّ الغلبة نوع بروز، فكأنّ الرواية تقول: إنّ الزمانة إن كانت غالبة وقاهرة لها ودلّست، كان للرجل خيار الفسخ، أمّا إن كانت مختصرة أو مرضاً اعتيادياً يقبل العلاج في وقت يسير فلا يعتبر عدم إبرازه أو السكوت عنه تدليساً، ولا خيار له في ذلك.

وعمدة الإشكال الوارد على التمسّك بهذه الروايات لإثبات أصالة حقّ الفسخ في كلّ عيب، أنّ هذه الروايات إنّما وردت في التدليس، ودعوى كون مجرّد الكتمان أو عدم إبراز العيب وعدم الإخبار به تدليساً أوّل الكلام، فإنّ كتمان العيب يمكن تقسيمه إلى عدّة مستويات:

الأوّل: الإخبار الكاذب بعدمه، وهذا تدليس بلا إشكال.

والثاني: كتمان العيب الظاهر، كلبس نظّارة أو عين مستعارة لإخفاء العمى، أو لبس باروكة لإخفاء عيب الرأس، ونحو ذلك، وهذا أيضاً لا إشكال في كونه تدليساً.

والثالث: عدم إبراز العيب الخفي كما لو لم يخبر أو لم تخبر بما لديه أو لديها من مرض البواسير مثلاً. والظاهر صدق التدليس في ذلك في كلّ عيب كان في نظر العقلاء منفيّاً بأصالة السلامة.

والرابع: السكوت عن عيب ظاهر من دون إخفائه، وإنّما خفي على الطرف المقابل لتقصيره في الفحص، ومن الواضح أنّه لا يصدق هنا التدليس.

والخامس: العيب الخفيّ عن كلا الطرفين، كما لو سكت أو سكتت عن العقم أو عن مرض روحيّ مثلاً ولم يكن صاحب العيب الساكت مطّلعاً عليه، ثم ظهر ذلك بعد تمامية العقد، ومن الواضح عدم صدق التدليس هنا.

وعلى أيّ حال فالروايات التي مضت أكثرها لم تكن مشتملة على الإطلاق

 


(1) التوبة: ۸؛ الكهف: ۲٠.

178

بلحاظ كلّ ما صدق عليه التدليس، كما أنّه لم تكن كلّها مطلقة بلحاظ كلّ مراتب التدليس، فإن دلّ بعضها على حقّ الفسخ في مرتبة من التدليس كالإخبار الكاذب، لم يمكن التعدّي منها إلى مراتب أخفّ كمجرّد السكوت.

ولو أردنا التعدّي إلى كلّ مراتب التدليس، وفي كلّ تدليس فله طريقان:

الأوّل: تفسير كلمة «الظاهرة» في صحيحة أبي عبيدة بمعنى القويّة والمهمّة، لا بمعنى البارزة، ويقال: إنّ هذا القيد إنّما ذكر لأنّ مجرّد السكوت عن مرض يغفر ولا يهتمّ به ليس تدليساً، وقد أُخذ في موضوع الحكم في هذه الصحيحة عنوان التدليس، وهو يشمل بالإطلاق كلّ مراتب التدليس الماضية.

والثاني: الجمع بين قسمين من الروايات:

أحدهما: ما يكون مطلقاً بلحاظ كلّ العيوب وإن لم يكن مطلقاً بلحاظ مراتب التدليس، وذلك كصحيحة الحلبي في رجل يتزوّج المرأة فيقول لها: «أنا من بني فلان فلا يكون كذلك...»، فإنّه يتعدّى من قوله: أنا من بني فلان إلى نفي كلّ عيب من العيوب كاذباً؛ لأنّ كل عيب من العيوب يعتبر أشدّ من عدم كونه من بني فلان، ولكن لا يشمل المراتب الخفيفة من التدليس كمجرّد السكوت عن عيب بارز.

والثاني: ما يكون مطلقاً بلحاظ كلّ مراتب التدليس وليس مطلقاً بلحاظ كلّ العيوب، كصحيحة أبي عبيدة بناءً على تفسير زمانة ظاهرة بتفسير آخر لا يشمل كلّ الأمراض المزمنة المهمّة.

فلو عرفنا أنّ كلّ عيب من العيوب يكون التدليس فيه موجباً للخيار بحكم القسم الأوّل، وعرفنا أنّ حكم التدليس في بعض العيوب يشمل كلّ مراتب التدليس ولم نحتمل الفرق بين أنواع العيوب التي يكون التدليس فيها موجباً للخيار في الدرجة المشترطة من التدليس لثبوت الخيار، ثبت الحكم في كلّ تدليس بجميع درجاته.

وعلى أيّ حال فلو تمّ كلّ هذا فالنسبة بين فرض التدليس وفرض العيب عموم

179

من وجه، وكلامنا في حقّ الفسخ بلحاظ العيب إنّما هو في كون العيب بما هو عيب موجباً للفسخ حتّى ولو لم يكن تدليس في المقام، فلا يمكن التمسّك في ذلك بروايات خيار التدليس في النكاح، ولو تمّ دليل على أنّه ليس كلّ عيب من العيوب موجباً لحقّ الفسخ، وأنّ العيب الفاسخ محصور في عدد معيّن من العيوب، لا يوجد أيّ تعارض بين ذلك وبين دليل الفسخ بمطلق التدليس، فإنّ معنى الروايات الحاصرة أنّ العيب بما هو عيب لا يوجب الفسخ إلّا في عدد محصور من العيوب، ولا ينافي ذلك ثبوت الفسخ في جميع العيوب وغير العيوب لو تحقّق التدليس بنفي العيب أو بإبراز كونه من بني فلان مثلاً والذي ليس عدمه عيباً أصلاً.

ومن هنا اتّضح الإشكال في ما ورد في بعض الكلمات من الاستدلال على حقّ الفسخ في بعض العيوب المنصوصة _ زائداً على النصّ _ بحصول التدليس.

الأمر الثاني: التمسّك بقاعدة نفي الضرر، إمّا باعتبار أنّ الصبر على العيب في أحد الزوجين ضرر على الزوج الآخر، أو باعتبار أنّ حقّ الفسخ حقّ عقلائي له فيكون نفيه ضرراً عقلائياً بشأنه.

ولعلّ التمسّك بهذا الوجه في طرف الزوجة أقوى منه في طرف الزوج، لما قد يقال في طرف الزوج من أنّ ثبوت الطلاق بيده رافع للضرر، وإن كان قد يقال في مقابل ذلك: إنّ الطلاق يعني الإقرار بأصل النكاح والموجب لثبوت نصف المهر قبل الدخول على الزوج وهذا ضرر.

وعلى أيّ حال فالذي يرد على التمسّك بهذا الوجه هو الروايات الحاصرة لحقّ الفسخ بالعيب بعيوب مخصوصة فإنّها أخصّ من قاعدة نفي الضرر وتتقدّم عليها.

ومن هنا قد تنقلب القاعدة ويصبح الأصل في النكاح في غير العيوب المذكورة في أدلّة الفسخ هو اللزوم، فمتى ما ثبت لدينا بنصّ آخر حقّ الفسخ في عيب ما غير العيوب الواردة في روايات الحصر، جعلنا ذلك مقيّداً لإطلاقات الحصر، ومتى ما شككنا في ذلك

180

ولم يتمّ الدليل عليه تمسّكنا بإطلاق الروايات الحاصرة ونفينا بذلك حقّ الفسخ. هذا.

والإطلاقات الحاصرة ما يلي:

۱_ صحيحة الحلبي، عن أبي عبدالله(علیه السلام)، أنّه قال «في الرجل يتزوّج إلى قوم فإذا امرأته عوراء ولم يبيّنوا له، قال: لا تردّ: إنّما يردّ النكاح من البرص والجذام والجنون والعفل. قلت: أرأيت إن كان قد دخل بها كيف يصنع بمهرها؟ قال: المهر لها بما استحلّ من فرجها ويغرم وليّها الذي أنكحها مثل ما ساق إليها»(1).

روى هذا الحديث في الفقيه بسنده عن حمّاد عن الحلبي بالنصّ الذي ذكرناه.(2) ورواه في الكافي بسند له عن حمّاد عن الحلبي عن أبي عبدالله(علیه السلام)بالشكل التالي: قال: «سألته عن رجل تزوّج إلى قوم فإذا امرأته عوراء ولم يبيّنوا له، قال: يردّ النكاح من البرص والجذام والجنون والعفل»(3). ورواه الشيخ في التهذيب(4) بسنده عن حمّاد عن الحلبي عن أبي عبدالله(علیه السلام)تارة بالشكل الذي مضى عن الفقيه بفرق حذف کلمة «وقال» بین جملة «ولا تردّ» وجملة «إنّما يردّ النکاح...»، وكذلك في الاستبصار(5). وأُخرى بسند له عن حمّاد عن الحلبي مقتصراً فيه على جملة: «إنّما يردّ النكاح من البرص والجذام والجنون والعفل»(6). وكذلك في الاستبصار(7).

 


(1) وسائل الشيعة، ج21، ص209، الباب الأول من أبواب العیوب والتدليس، ح6، وص212، الباب2 من أبواب العیوب والتدلیس، ح5.

(2) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص433، باب ما يرد منه النكاح من كتاب النكاح، ح4498.

(3) الكافي، ج٥، ص406، باب المدالسة في النكاح وما تردّ منه المرأة من كتاب النكاح، ح٦.

(4) تهذيب الأحکام، ج7، ص426، الباب38 من كتاب النكاح، ح12.

(5) الاستبصار، ج۳، ص247، باب العيوب الموجبة للرد في عقد النكاح من أبواب ما يرد منه النكاح، ح7.

(6) تهذیب الأحکام، ج7، ص524، الباب38 من كتاب النكاح، ح4.

(7) الاستبصار، ج3، ص246، باب العيوب الموجبة للرد في عقد النكاح من أبواب ما يرد منه النكاح، ح1.

181

وهذا النصّ الأخير وقع في طريقه علي بن إسماعيل، فإنّ الشيخ(رحمه الله) رواه بسنده إلى الحسين بن سعيد، عن علي بن إسماعيل، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبي، عن أبي عبدالله(علیه السلام)، فإن وافقنا على ما يقوله السيد الخوئي(رحمه الله)(1) من انصراف علي بن إسماعيل في هذه الطبقة إلى علي بن إسماعيل بن عيسى، وأثبتنا وثاقته بوروده في أسانيد كامل الزيارات بناءً على مبنىً كان للسيد الخوئي(رحمه الله) من توثيق كلّ من ورد في أسانيد كامل الزيارات _ ولكنّه عدل عن ذلك أخيراً _ تمّ سند الحديث. ولكن الأمر الثاني على الأقلّ غير صحيح، فهذا السند غير تام.

نعم، يبقى أنّ علي بن إسماعيل قد ورد في بعض الروايات نقل ابن أبي عمير عنه، ولكن الجزم بكونه هو نفس علي بن إسماعيل في حديثنا الذي رواه عن ابن أبي عمير مشكل، فلعلّهما شخصان في طبقتين.

۲_ رواية رفاعة بن موسى _ وفي السند سهل بن زياد _ عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «تردّ المرأة من العفل والبرص والجذام والجنون وأمّا ما سوى ذلك فلا»(2).

۳_ رواية زيد الشحّام _ وفي السند مفضّل بن صالح _ عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «تردّ البرصاء والمجنونة والمجذومة قلت: العوراء؟ قال: لا»(3).

والعور في هذه الرواية إن كان بمعنى عور العين دلّت الرواية إجمالاً على أنّه ليس في كلّ عيب خيار؛ لأنّ عور العين عيب بلا إشكال ومع ذلك نفت الرواية الخيار بلحاظه، وإن كان بمعنى مطلق العوار أي العيب دلّت الرواية على حصر الخيار في العيوب المنصوصة. والظاهر هو المعنى الأوّل.

 


(1) معجم الرجال، ج۱۱، ص 276، رقم ۷۹۳۲، ترجمة علي بن إسماعيل بن عيسى.

(2) وسائل الشيعة، ج۲۱، ص207، الباب الأول من أبواب العيوب والتدليس، ح۲.

(3) المصدر السابق، ص210، ح۱۱.

182

٤_ رواية عبدالرحمن بن أبي عبدالله، عن أبي عبدالله(علیه السلام)، قال: «وتردّ المرأة من العفل والبرص والجذام والجنون، فأمّا ما سوى ذلك فلا»(1).

وسند الحديث ما يلي: الشيخ بإسناده إلى الحسين بن سعيد، عن القاسم، عن أبان، عن عبدالرحمن بن أبي عبدالله، عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال...(2)، والمقصود بالقاسم القاسم بن محمد الجوهري بقرينة رواية حسين بن سعيد عنه، وقد بنينا على وثاقة القاسم ابن محمد الجوهري على أساس نقل بعض الثلاثة عنه، فسند الحديث تام.

ووردت رواية عبدالرحمن بن أبي عبدالله بسند آخر تام أيضاً مع حذف قوله: «فأمّا ما سوى ذلك فلا» وذلك ما رواه الكليني، عن أبي عليّ الأشعري، عن محمد بن عبدالجبّار، عن صفوان بن يحيى، عن عبدالرحمن بن أبي عبدالله، عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «المرأة تردّ من أربعة أشياء: من البرص، والجذام، والجنون، والقرن وهو العفل، ما لم يقع عليها فإذا وقع عليها فلا»(3). وهذا النقل دلالته على الحصر أضعف من النقل الأوّل؛ لأنّها تكون بمفهوم العدد، في حين أنّ النقل الأوّل صريح في الحصر حيث قال: «فأمّا ما سوى ذلك فلا».

والذي يجلب الانتباه في هذه الروايات أنّها جميعاً واضحة الورود في عيوب المرأة، فدلّت على حصر ما يوجب الفسخ في عدد من العيوب في المرأة ولا تشمل عيوب الرجال ما عدا ما قد يفترض من الإطلاق في الرواية الأُولى التي مضى أنّها منقولة بمتون مختلفة، أخصرها ما رواه الشيخ في أحد نقليه، وهو قول الصادق(علیه السلام): «إنّما يردّ النكاح من البرص والجذام والجنون والعفل» فقد يقال: إنّ هذا بإطلاقه يشمل الرجل والمرأة ويدلّ على حصر حقّ الفسخ في هذه العيوب الأربعة في الطرفين، فكلّ

 


(1) وسائل الشيعة، ج۲۱، ص210، الباب الأول من أبواب العيوب والتدليس، ح۱۳.

(2) تهذیب الأحكام، ج7، ص425، الباب 38 من كتاب النكاح، ح9.

(3) الكافي، ج5، ص409، باب المداسة في النكاح وما ترد من كتاب النكاح، ح16.

183

ما ثبتت فاسخيّته بنصّ خاص من غير هذه العيوب الأربعة نقول بحقّ الفسخ فيه، وفي ما عداه ننفي فاسخيته بهذا الإطلاق.

وقد يدّعى الإطلاق في هذه العبارة حتّى ضمن نقلها في سياق صدر وذيل مخصوصين بالمرأة كما في نقل الصدوق(رحمه الله) عن الصادق(علیه السلام): «أنّه قال في الرجل يتزوّج إلى قوم فإذا امرأته عوراء ولم يبيّنوا له قال: لا ترد وقال: إنّما يردّ النكاح من البرص والجذام والجنون والعفل قلت: أرأيت إن كان قد دخل بها كيف يصنع بمهرها؟ قال: المهر لها بما استحلّ من فرجها ويغرم وليّها الذي أنكحها مثل ما ساق إليها»؛ وذلك بدعوى أنّ قوله: «إنّما يردّ النكاح من البرص والجذام والجنون والعفل» جملة مستقلّة عن الصدر والذيل، ولعلّها صادرة في مجلس آخر مستقلّ فهي مطلقة، خاصّة أنّه صدّرت هذه الجملة في نقل الصدوق(رحمه الله) بكلمة «وقال» وإن كان في النقل الثاني للشيخ(رحمه الله) غير مصدّرة بهذه الكلمة، فكلمة «وقال» كأنّها توحي إلى انفصال هذه الجملة عن صدرها.

ولكن الإنصاف إنّ هذا الصدر والذيل صالحان للقرينية على اختصاص تلك الجملة أيضاً بعيوب المرأة، فلا أقلّ من الإجمال، وكذلك اختصاص السؤال بعيوب المرأة في نقل الكافي، بل قد يحتمل قراءة كلمة «يردّ» في نقل الكافي وكذلك في النقل المشتمل على ذلك الصدر كنقل الصدوق بالصيغة المبنيّة للمعلوم، أي: يردّ الرجل النكاح، فإن وثقنا بأنّ كلّ هذه النقول رواية واحدة بقرينة وحدة المضمون في تلك الجملة، ووحدة الإمام، ووحدة الراوي وهو الحلبي، ووحدة الراوي عن الراوي وهو حمّاد، سرى الإجمال إلى النقل الأوّل للشيخ، العاري عن ذاك الصدر والذيل؛ لأنّنا نستكشف أنّ انفصاله عن الصدر والذيل إنّما هو على أثر تقطيع النصّ، وأنّ النصّ الكامل مشتمل على ذاك الصدر والذيل.

وإن لم نجزم بذلك قلنا: إنّ هنا شيئاً آخر في كلّ هذه النقول يصلح أيضاً للقرينية على

184

اختصاص تلك الجملة بعيوب المرأة؛ وذلك عبارة عن أنّ تلك الجملة مشتملة على عيب لا يكون إلّا في المرأة وهو العفل، وفي نفس الوقت عارية عن العيوب المختصّة بالرجال كالعنن والخصاء والجبّ. وعليه فهذه الرواية أيضاً إمّا مخصوصة بعيوب المرأة، أو أنّ القدر المتيقّن منها عيوب المرأة ولا إطلاق لها لعيوب الرجل. على أنّ نقل الشيخ العاري عن ذاك الصدر والذيل قد عرفت احتمال ضعفه بعليّ بن إسماعيل.

ومن هنا يأتي احتمال أنّ الحصر إنّما هو في عيوب المرأة، ولا يمكن التعدّي إلى عيوب الرجل؛ لاحتمال أنّ الرجل باعتباره قادراً على الطلاق حتّى بلا عيب لم يعط في الشريعة بيده حقّ الفسخ إلّا في عيوب مخصوصة، أمّا المرأة فبما أنّها لا تملك الطلاق، لعلّها أُعطيت حقّ الفسخ في كلّ عيب، فإذا جاء احتمال ذلك نتيجة عدم شمول روايات الحصر لعيوب الرجل يصبح الدليل على ذلك عبارة عن قاعدة لا ضرر.

إلّا أنّه قد يقال: إنّ روايات الحصر هذه وإن اختصّت بعيوب النساء ولكن توجد رواية حصر في عيوب الرجال، وهي رواية عبّاد الضبّي على ما في الكافي(1)، أو غياث الضبّي على ما في الفقيه(2)، والتهذيب(3)، والاستبصار(4)، عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «في العنّين إذا عُلم أنّه عنّين لا يأتي النساء فرّق بينهما، وإذا وقع عليها وقعة واحدة لم يفرّق بينهما، والرجل لا يردّ من عيب»(5). بناءً على قراءة كلمة «لا يردّ» مبنيّة للمفعول.

إلّا أنّ المظنون أو الموثوق به أنّ كلمة «لا يردّ» هنا مبنيّة للمعلوم، ففي صدر

 


(1) الكافي، ج5، ص410، باب الرجل یدلس نفسه والعنین من كتاب النكاح، ح4.

(2) من لا یحضره الفقيه، ج3، ص550، باب حكم العنین من كتاب الطلاق، ح4894.

(3) تهذیب الأحكام، ج7، ص430، الباب38 من كتاب النكاح، ح25.

(4) الاستبصار، ج3، ص350، باب العنین وأحكامه من أبواب ما یرد منه النكاح، ح6.

(5) وسائل الشيعة، ج21، ص230، الباب14 من أبواب العيوب والتدليس، ح2.

185

الحديث حكم بردّ النكاح من طرف المرأة بلحاظ عنن الرجل، وفي ذيل الحديث ينفي ردّ النكاح من طرف الرجل، وهذا إمّا يقيّد بغير العيوب الخاصّة، أو يحمل على الاستحباب باعتبار أنّ الرجل بيده الطلاق، فالأولى أن لا يفسخ ويلتجئ في التخلّص من زوجته المعيبة إلى الطلاق، والحمل الثاني أولى؛ لأنّ الحكم بنفي ردّ الرجل امرأته من عيب عقيب الحكم مباشرة بردّ المرأة زوجها من العنن له ظهور قويّ في نفي ردّ الرجل امرأته حتّى من العيب الذي هو في النساء يناظر عيب العنن في الرجال وهو القرن، في حين أنّه لا شكّ في جواز الردّ في القرن، فأفضل محمل لذلك هو الحمل على الاستحباب. وعلى أيّ حال فسند الحديث ساقط بعبّاد الضبّي أو بغياث الضبّي.

وفي الأخير بقي الكلام في رواية قد يستفاد منها جواز الفسخ للرجل في كلّ عيب من عيوب المرأة ممّا يخفى على الرجال، وهي صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله(علیه السلام)_ في حديث _ أنّه قال في رجل تزوّج امرأة برصاء أو عمياء أو عرجاء، قال: «تردّ على وليّها ويردّ على زوجها مهرها الذي زوّجها عليه، وإن كان بها ما لا يراه الرجال جازت شهادة النساء عليها»(1). فيمكن التمسّك بإطلاق ذيل الحديث بدعوى أنّ قوله: «ما لا يراه الرجال» مطلق يشمل أيّ عيب خفيّ على الرجال، فإذاً ليس خيار الفسخ مخصوصاً بعيوب معيّنة. ولو تعدّينا من عيوب المرأة إلى عيوب الرجل بافتراض إلغاء العرف للخصوصية _ خاصّة أنّ المرأة ليس بيدها الطلاق بخلاف الرجل _ كانت الرواية دليلاً على أنّ الأصل في كلا الطرفين في كلّ عيب خفيّ عن الجنس المخالف هو ثبوت حقّ الفسخ.

إلّا أنّه يمكن النقاش في إطلاق هذا الذيل بأنّه إنّما يكون بالمطابقة بصدد بيان أنّ العيب الذي لا يراه الرجال تكون شهادة النساء بشأنه حجّة، وأمّا حقّ الفسخ

 


(1) المصدر السابق، ص216، الباب4 من أبواب العيوب والتدليس، ح2.

186

فكأنّه فرض مفروغاً عنه، ولذا وقع الاحتياج إلى شهادة النساء، فلا إطلاق للحديث في أصل حقّ الفسخ فلعلّه مخصوص بفرض التدليس.

وتشبه هذه الصحيحة صحيحة داود بن سرحان عن أبي عبدالله(علیه السلام)في حديث قال: «وإن كان بها _ يعني المرأة _ زمانة لا تراها الرجال أُجيزت شهادة النساء عليها»(1).

وفرق هذه الصحيحة عن الصحيحة الأُولى أنّه لو تمّ إطلاقها فهو في دائرة أضيق من إطلاق الصحيحة الأُولى، فإنّ الزمانة أخصّ من مطلق العيب، وقد فسّرت الزمانة تارة بمعنى المرض المزمن، وأُخرى بمعنى العاهة، وثالثة بمعنى نقص العضو. وعلى أيّ حال فالنقاش في إطلاق هذا الحديث كالنقاش في إطلاق الحديث السابق.

وقد تبيّن بكلّ هذا العرض أنّ أقوى ما يمكن أن يذكر كدليل على ثبوت حقّ الفسخ في كلّ عيب وعلى الإطلاق هو التمسّك بقاعدة لا ضرر في خصوص طرف المرأة، أي: أنّ من حقّ المرأة فسخ عقد النكاح بكلّ عيب في الرجل، لأنّه اتّضح أنّ روايات الحصر التي تقيّد إطلاق قاعدة لا ضرر إنّما وردت في عيوب المرأة دون الرجل، والتعدّي إلى فسخ الرجل في عيوب المرأة غير ممكن، لأنّ احتمال الفرق وارد ولو بلحاظ أنّ الرجل له حقّ الطلاق على أيّ حال.

فإن أفتينا بذلك _ أعني: أنّ للمرأة فسخ النكاح بأيّ عيب من العيوب في الزوج _ لم يبق موضوع في مسألة الفسخ بالعيوب للإشكال _ الذي يورد كثيراً في عدد من المسائل _ من قِبل أعداء الإسلام على الإسلام من هضمه لحقّ المرأة.

وإن لم نفت بذلك وقلنا: إنّ الحصر ثابت في طرف الرجل والمرأة لإطلاق قوله: «إنّما يردّ النكاح...» مثلاً، فعندئذٍ نقول: إنّ العيوب التي يمكن تواجدها في الرجال

 


(1) المصدر السابق، ح1.

187

وفي النساء معاً، كلّما ثبت حقّ الفسخ فيه للرجل بنصّ خاص تعدّينا منه إلى المرأة بعدم احتمال الفرق عرفاً أو بالأولويّة، أمّا العيب الخاص بالمرأة الموجب للفسخ كالقرن فيقابله العيب الخاص بالرجل الموجب للفسخ كالعنن.

فالخلاصة: أنّه لا مجال في بحث الفسخ لما يُطعن به الإسلام من قِبل أعدائه في جملة من المسائل، كالحجاب أو الطلاق أو تعدّد الزوجات أو الإرث من هضمه لحقّ المرأة، على أنّ لنا في كلّ مسألة من تلك المسائل جواباً على ذلك الإشكال يخصّها، ولنا بحث مختصر حول مجموعة هذه الإشكالات تعرّضنا له بمناسبة مّا في بحث القضاء.

هذا تمام ما أردنا إيراده بمقتضى قاعدة عامّة عن العيوب الفاسخة بلحاظ ما كانت سابقة على العقد أو مقارنة له.

أمّا لو طرأت بعد العقد فلا مجال للتمسّك لإثبات حقّ الفسخ لا بروايات التدليس ولا بقاعدة لا ضرر:

أمّا الأوّل فلأنّ روايات التدليس واردة في العيوب الموجودة قبل العقد ولأنّه لا تدليس في العيوب الطارئة.

نعم، لو كانت العيوب في الباطن اكتشفها الطبيب مثلاً، ومع ذلك أُخفيت على الطرف المقابل ثم برزت بعد العقد، فهذا في الحقيقة داخل في البحث السابق أي: بحث عيوب ما قبل العقد.

وأمّا الثاني فلأنّ قاعدة لا ضرر لو أُريد تطبيقها بلحاظ ثبوت حقّ الفسخ عقلائياً فيكون سلبه ضرراً، فمن الواضح أنّ حقّ الفسخ غير ثابت عقلائياً في العيوب الطارئة بعد العقد، ولو أُريد تطبيقها بلحاظ الضرر الخارجي باعتبار استناده إلى العقد أو لزومه فمن الواضح أنّ الضرر الخارجي بلحاظ عيب ما بعد العقد لا يسند عرفاً إلى العقد أو لزومه، ولو أُريد تطبيقها بلحاظ الضرر الغرضي المعاملي بدعوى أنّ من الأغراض العامّة للمتعاقدين بعقد النكاح الحصول على

188

زوج سليم، فمن الواضح أنّ المتعاقدين يلحظون في أغراضهم الملحوظة في العقد السلامة في وقت العقد، ولا أحد يعلم الغيب حتّى يلحظ في أغراضه العقدية سلامة زوجه المستقبلي.

هذا تمام كلامنا في العيوب الفاسخة بقطع النظر عن النصوص الخاصّة.

العيوب الفاسخة المنصوصة في الرجال

والآن نبدأ إن شاء الله ببحث العيوب الفاسخة المنصوصة واحداً تلو الآخر:

وقد ذكروا في عيوب الرجال عيوباً أربعة ثم بحثوا بعض عيوب أُخرى:

الجنون

العيب الأوّل: الجنون. والروايات الخاصّة بجنون الرجل كلّها واردة في الجنون الطارئ بعد العقد وهي:

1_ رواية عليّ بن أبي حمزة _ ولم تثبت وثاقته عندنا _ قال: «سئل أبو إبراهيم(علیه السلام)عن امرأة يكون لها زوج قد أُصيب في عقله بعد ما تزوّجها أو عرض له جنون، قال: لها أن تنزع نفسها منه إن شاءت»(1).

2_ والشيخ الصدوق(رحمه الله) بعد أن ذكر هذا الحديث(2) قال: وفي خبر آخر: «أنّه إذا بلغ به الجنون مبلغاً لا يعرف أوقات الصلاة فرق بينهما، فإن عرف أوقات الصلاة فلتصبر المرأة فقد بُليت»(3).

3_ الفقه الرضوي: «إذا تزوّج رجل فأصابه بعد ذلك جنون، فيبلغ به مبلغاً حتّى لا يعرف أوقات الصلاة فرق بينهما، وإن عرف أوقات الصلاة فلتصبر المرأة

 


(1) وسائل الشيعة، ج21، ص225، الباب12 من أبواب العيوب والتدليس، ح1.

(2) من لا یحضره الفقيه، ج3، ص522، باب الشقاق من أبواب القضايا والأحكام، ح4818.

(3) المصدر السابق، ح4819.