ولهذا فالإمام الحسين (عليه السلام) عندما خرج معلناً الثورة على يزيد أعلنعن هدفه ومبرّرات خروجه والغاية التي ينشدها، واتّضح من مجموع خطاباته وأقواله وبياناته أنّه كان يريد تصحيح الأوضاع المنحرفة، وتشييد نظام صالح تقام فيه الشريعة وتصان فيه الحقوق ويحكمه الأخيار المنتجبون.
وحقّاً أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد خرج من أجل هذه الأهداف، ولكنّه كان يعلم سابقاً بأنّه لا يستطيع تحقيقها، وأنّه سيُقتل وتُسبى نساؤه ومع ذلك خرج ليؤكّد مبدأ الشهادة من أجل الأهداف الصالحة، وليهزّ بذلك ضمير الاُمّة ويحرّك وجدانها وإرادتها، وهذا ما حصل؛ إذ تحرّكت الاُمّة على خطى الإمام الشهيد (عليه السلام)، وحصلت الثورات المعروفة في التاريخ.
تقييم الرأيين:
اختلف الرأيان في أغلب النقاط المثارة حول الثورة الحسينيّة إلى الدرجة التي جعلت لكلٍّ من اُستاذنا السيّد الشهيد (قدس سره) والكاتب (صالحي نجف آبادي) أرضيّته التي يقف عليها وينطلق منها، ولم يكن بينهما من قدر مشترك في ما أورداه من آراء سوى مسألة واحدة، وهي اتفاقهما على القول بأنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد عنون معارضته
لحكم يزيد وخروجه بالثورة عليه بعنوان طلب الحكم الإسلامي:«إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً.. وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي (صلى الله عليه وآله)»، بيد أنّ الاختلاف متضمّن أيضاً في توجيه هذا الادّعاء لكلٍّ من الطرفين، فاُستاذنا السيّد الشهيد (قدس سره) يؤكّد أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) إنّما خرج لطلب الشهادة وهو يعلم بأنّه يستشهد، وأنّ إطلاقه عنوان طلب الحكم الإسلامي كان مجرّد شعار تعبوي وتغييري، بينما الكاتب (صالحي نجف آبادي) يؤكّد أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن يقصد في خروجه طلب الشهادة ولكنّه كان يقصد طلب الحكم الإسلامي، بل ولم يكن يعلم ظاهريّاً بأنّه سوف يُستشهد، وإلّا فلماذا أرسل ابن عمّه مسلم بن عقيل (عليه السلام) إلى الكوفة لكي يطلعه على أوضاع الناس ومقدار ولائهم واستعدادهم لمناصرته؟ ولماذا طلب من الحرّ بن يزيد الرياحي حينما كان آمراً على جيش عبيدالله بن زياد أن يفكّ الحصار عنه ويسمح له بالرجوع من حيث أتى؟ ولماذا كرّر الإمام الحسين (عليه السلام) الطلب يوم عاشوراء؟
ألا يعني ذلك أنّ الإمام (عليه السلام) لم يكن قاصداً الشهادة وإنّما كان قاصداً الثورة على يزيد وقلب نظام الحكم وتأسيس حكومة إسلاميّة صحيحة برئاسته؟
وفي الحقيقة إنّ هذا الاستدلال الذي أورده هذا الكاتب سرعان ما يبطل وينهار؛ للسبب الذي ذكره اُستاذنا السيّد الشهيد (قدس سره)، وهو: أنّ طرح عنوان الشهادة بمفرده لا يهزّ الضمائر، ولا يؤثّر في النفوس، ولا يؤدّي الأغراض التي استهدف الإمام (عليه السلام) تحقيقها، وعندئذ يكون من الطبيعي أن يرسل رسوله إلى الكوفة مسلم بن عقيل (عليه السلام) لكي يستطلع الاُمور له، ومن الطبيعيّ أيضاً أن يطالب الحرّ بن يزيد الرياحي حينما كان آمراً لجيش ابن سعد بفكّ الحصار عنه، أو يطالب أهل الكوفة المعسكرين حوله بالسماح له بالعودة؛ لأنّ غرض الإمام (عليه السلام) المعلن إنّما هو إقامة الحكومة العادلة وكان هذا شعار ثورته.
إنّ رأي (صالحي نجف آبادي) السالف الذكر وإن كان خيراً من الفكرة اللاواعية المتعارفة لدى بعض الناس والتي مفادها أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) ما خرج إلّا لكي يقتل، ولكي يكون مقتله مصاباً يستثير شيعته ويُبكيهم، وبالتالي يكون بكاؤهم عليه شفيعهم يوم القيامة وماحياً ذنوبهم ومُدخلهم الجنّة، ولكنّه لا يصلح رأيه أبداً للمقاومة في مقابل رأي اُستاذنا السيّد الشهيد (قدس سره) على ما يتّضح من تقييم المفردات التي اختلفا عليها، فما ذكرناه الآن إنّما كان في دائرة الرأي الذي اتّفقا عليه جزئيّاً.
أمّا الآراء التي اختلفا فيها بشكل كامل، فهي:
أوّلاً: أنّ الكاتب (صالحي نجف آبادي) يرى أنّ شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) ألحقت خسارة كبيرة بالإسلام ولم تكن في صالحه أبداً؛ إذ إنّ مصلحة الإسلام تقتضي أن يبقى الإمام الحسين (عليه السلام) حيّاً وأن يمارس عمله في قيادة الاُمّة وهدايتها لا أن يموت ويُقتل.
وفي المقابل يرى اُستاذنا السيّد الشهيد (قدس سره) أنّ شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) قد أحيت الإسلام، وكانت شجرة الإسلام بحاجة إلى أن تروى بدم كدم الحسين (عليه السلام) وقد اُرويت بهذا الدم المبارك.
ثانياً: أنّ الكاتب (صالحي نجف آبادي) يؤكّد أنّ الإمام (عليه السلام) لم يكن يعلم بأنّه سوف يستشهد، بل كان يتراءى له أنّه سوف ينتصر ويُقيم الدولة الإسلاميّة.
وفي مقابل ذلك يؤكّد اُستاذنا الشهيد (قدس سره) أنّ الإمام (عليه السلام) كان يعلم بأنّه سوف يستشهد وقد أقام عمله على أساس ذلك.
ثالثاً: أنّ الكاتب (صالحي نجف آبادي) يعتقد أنّ خسارة الإمام الحسين (عليه السلام) للمعركة ظاهريّاً لم تكن قابلةً للرصد والتخمين للإنسان الاعتيادي منذ البدء، وإنّما حصلت نتيجة توارد اُمور وعقبات صادفت حركة الثورة، فأعاقتها وأخلّت بميزان القوّة لصالح جيش
ابن سعد، الأمر الذي أدّى إلى استشهاد الإمام (عليه السلام) وأهل بيتهوأصحابه.
وفي مقابل ذلك يرى اُستاذنا الشهيد (قدس سره) أنّ الاُمور منذ بدء حركة الإمام (عليه السلام) لم تكن في صالح الانتصار الظاهريّ، ولم تكن تجري بالشكل الذي يكون في صالح إقامة الحكم الإسلامي. وبعبارة اُخرى: إنّ الإمام (عليه السلام) كان يعلم حتّى بالحساب الظاهري لدى كلّ إنسان خبير بأنّه سيكون مغلوباً ومقتولاً، واُستاذنا الشهيد (قدس سره) يؤكّد أنّ هذه النتيجة هي في صالح الإسلام بحدّ ذاتها.
هذه هي النقاط الثلاث الخلافيّة بين وجهتَي السيّد الشهيد (قدس سره) والكاتب (صالحي نجف آبادي). ولدى مناقشتنا لهذه الآراء نكتشف أنّ آراء الكاتب المذكور لا تصمد أمام الدليل ويبطل تأثيرها، في ما تكون آراء السيّد الشهيد (قدس سره) حائزة على أكبر قدر من المصداقيّة؛ لتماسّها مع الواقع وكشفها عنه.
فأمّا ما يتعلّق بالنقطة الاُولى، فقد استدلّ الكاتب المذكور على الرأي الذي طرحه في خصوص مسألة شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) من أنّها كانت خسارة كبيرة للإسلام، بدليلين:
الدليل الأوّل: ما هو مدى انتفاع الإسلام من شهادة الإمام الحسين (عليه السلام)؟ وماذا تقتضي المقارنة بين أن يكون الإمام (عليه السلام) حيّاً بين
الناس يهديهم إلى الإسلام ويعلّمهم أحكام الدين ويقودهم، وبين أنيكون ميتاً لا يفعل شيئاً من ذلك؟ واستنتج أنّ مصلحة الاُمّة والرسالة ليست في موت الإمام (عليه السلام) وإنّما هي في بقاء الإمام حيّاً لكي ينتفع الإسلام به.
الدليل الثاني: ما هو مدى تأثير استشهاد الإمام (عليه السلام) على الحكم الاُموي وعلى الفتوحات التي حصلت بعد استشهاده، كفتح بخارى وسمرقند وأندونيسيا؟ لا شكّ في أنّ الحكم الاُموي كان قويّاً قبل شهادة الإمام الحسين (عليه السلام)، وظلّ قويّاً بعده، والدليل على ذلك هو قيامهم بالفتوحات المذكورة مباشرة بعد استشهاد الإمام، كما أنّ شهادة الإمام (عليه السلام) لم تزد في فضيحة بني اُميّة؛ إذ كانوا مفضوحين لدى الاُمّة من قبل، وقد سبق القول من معاوية لأهل العراق: «ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا... ولكنّي قاتلتكم لأتأمَّرَ عليكم»(1).
بل على العكس، فبنو اُميّة تمكّنوا من توطيد حكمهم بقتلهم الإمام الحسين (عليه السلام) لتخلّصهم من قوّة معارضة كبيرة.
(1) بحار الأنوار لدرر أخبار الأئمّة الأطهار 44:49 بحسب الطبعة الرابعة لمؤسّسة الوفاء ببيروت.
إنّ الكاتب (صالحي نجف آبادي) لم يقرّ بنتيجة إيجابيّة أسفرت عن شهادة الإمام (عليه السلام) سوى قوله بحصول فوائد جانبيّة، منها: تحوّل شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) إلى مدرسة سيّارة عمّقت حبّ الحسين (عليه السلام) في قلوب محبّيه، وألهمتهم دروس التضحية والفداء، وعلّمتهم أحكام وأخلاق دينهم نتيجة مظلوميّته وتضحيته العظيمة في سبيل الإسلام.
إنّ الجواب عن هذه الاستدلالات يكمن في الرأي الذي طرحه اُستاذنا الشهيد (قدس سره) والذي سبق ذكره من أنّ ثمّة فائدة عظيمة ترتّبت على شهادة الإمام الحسين (عليه السلام)، ألا وهي علاجه للمرض الذي كانت الاُمّة مبتلاةً به، وهو مرض فقدان الإرادة أو فقدان الضمير؛ إذ كانت الاُمّة بحاجة إلى علاج جذري لإعادة إرادتها وثقتها بنفسها إليها، ولكي لا تستسلم أكثر لمؤامرات حكّام بني اُميّة، فجاءت شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) كعلاج للاُمّة من هذا المرض الوبيل، وفعلاً بعد شهادة الإمام (عليه السلام) استعادت الاُمّة ثقتها بنفسها، ونهضت معلنة صرخة الرفض لكلّ أشكال الحكم المنحرف، وحدثت ثورة التوّابين، وثورة المختار الثقفي، وثورة زيد بن عليّ وغيرها من الثورات، وكانت تعبّر هذه الثورات برغم انتكاستها عن مدى التأثير الذي أحدثته شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) في نفوس أبناء الاُمّة، وكانت تدلّل في الوقت نفسه على دخول الاُمّة في عهد جديد من أبرز ملامحه:
المعارضة والثورة والعصيان، وهذا ما لم يحدث من قبل شهادة الإمام، كما أنّ ثمّة تأثيرات واستجابات حصلت لدى حكّام بني اُميّة نتيجة تصاعد هذه الروح، منها: استجابة الحاكم الاُموي عمر بن عبد العزيز وإصداره الأوامر برفع سبّ أمير المؤمنين (عليه السلام) من على منابر المسلمين، وكذلك الضعف الذي دبّ في أوصال حكم بني اُميّة، والذي أدّى تدريجيّاً إلى تقويضهم نهائيّاً.
أمّا ما ورد في ثنايا رأي الكاتب المذكور من أنّ علامة قوّة بني اُميّة بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) قد تمثّلت بالفتوحات الإسلاميّة في بخارى وسمرقند وأندونيسيا، فإنّ هذا الادّعاء غير صالح البتة؛ وذلك لأنّ فتح هذه البلدان وإن كان صحيحاً قد حصل في زمن حكم بني اُميّة، لكنّه لا يدلّ بحال على قوّة بني اُميّة، وإنّما يدلّ على قوّة الإسلام في نفوس المسلمين، وأنّ مسألة فتح البلدان تعدّ من الاُمور التي يتّفق عليها جميع المسلمين حتّى المعارضين لحكم بني اُميّة؛ لأنّه يدخل في إطار محاربة الكفّار ونصرة الإسلام وتوسيع رقعة الحقّ، حتّى أنّ بعض حكّام بني اُميّة كان ينال الدعم من قبل بعض أئمّتنا (عليهم السلام) في مقابل الحكومات الكافرة بالتخطيط لصالح الإسلام وضدّ الحكم الكافر، فهل يعدّ هذا قوّةً لبني اُميّة، أو دليلاً على قوّتهم، أو لا بل يدلّ على قوّة الإسلام في نفوسهم.
وأمّا ما يتعلّق بالنقطة الثانية، فإنّ الجواب عمّا ذكره الكاتب المذكور ـ من أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن يعلم بأنّه سوف يقتل، بل كان يعمل لتحقيق الانتصار وإقامة الحكم الإسلامي، وكانت المؤشّرات دالّة على إمكانيّة تحقّق ذلك ـ يكمن في الجواب عن السؤال التالي: لماذا لم يتجنّب الإمام الحسين (عليه السلام) الشهادة ـ لما يترتّب عليها من مضرّة كما زعم هذا الكاتب ـ بعد أن تغيّرت علامات الانتصار واختلّ ميزان القوّة لصالح عدوّه؟ أ لم يكن مقتضى العمل بعلم الظاهر المكلّف به الأئمّة (عليهم السلام) هو أن يغيّر الإمام قناعاته بإمكانيّة الانتصار ويتجنّب القتل، وكان ظاهر الاُمور أنّ اُناساً طلبوا منه أن يأتي إلى العراق بعد أن بايعوه على النصرة ومجاهدة الظالمين، وبذلك تمّت الحجّة عليه بالمجيء إلى العراق، وقد جاء فعلاً، ولكن تبيّن له في ما بعد أنّ الاُمور قد تغيّرت، وأنّ الناس قد تبدّل موقفهم منه تحت تأثير سياسة ابن زياد القائمة على الترهيب والترغيب، فلماذا لم يتجنّب المواجهة التي فيها قتله وقتل أهل بيته وأصحابه وسبي نسائه بعد أن تغيّر ظاهر الأمر؟
إنّ الحقيقة قاطعة على أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان يعلم بأنّه سوف يقتل وتُسبى نساؤه، وغير مرّة كان قد صارح أصحابه بعاقبة القتل والشهادة، وقد خيّرهم بالانصراف عنه أو البقاء معه واستقبال هذه النتيجة، وعلى هذا الأساس استمرّ بالمسير إلى العراق برغم علمه
بمقتل رسوله إلى الكوفة ابن عمّه مسلم بن عقيل (عليه السلام)، وتغيّر الأوضاع في الكوفة، ألا يدلّ هذا على أنّ الإمام (عليه السلام) كان يعلم بمصيره وكان يطلبه وقد سعى إليه حثيثاً، إلى أن نال مرتبة الشهادة العظيمة، فكان دمه الطاهر ثورةً للأجيال منذ استشهاده وإلى ظهور ولده الحجّة عجّل الله فرجه.
وأمّا ما يتعلّق بنقطة الخلاف الثالثة، فقد استدلّ الكاتب المذكور ـ على اعتقاده بأنّ ثمّة اُموراً استجدّت ولم يكن للإمام (عليه السلام) علم سابق بها، أعاقت حركة الثورة وأخلّت بميزان القوّة لصالح ابن زياد، فسبّبت خسارة المعركة ظاهريّاً للإمام (عليه السلام) ـ بذكر سببين:
الأوّل: ادّعاؤه بأنّ عبيد الله بن زياد أجبر مسلم بن عقيل (عليه السلام) على تزعّم الثورة عندما جابهه بالسيف في الوقت الذي لم يكن مسلم بن عقيل (عليه السلام) مكلّفاً بتزعّم الثورة والتخطيط لها، وإنّما كانت مهمّته ـ حصراً ـ هي استطلاع الأوضاع في الكوفة وإبلاغ الإمام (عليه السلام) بالنتائج التي يصل إليها ويشاهدها، لكن هذا التزعّم المفاجئ للثورة من قبل مسلم بن عقيل أدّى إلى تفجير الثورة قبل أوانها وكان ذلك سبباً لفشلها وتحمّل الإمام الحسين (عليه السلام) عبء هذا الفشل!
الثاني: قيام جيش الحرّ بن يزيد الرياحي بمنع الإمام الحسين (عليه السلام) من الدخول إلى الكوفة والحيلولة دون تزعّمه الثورة، الأمر الذي أدّى إلى حصول انفصال بين القائد والقاعدة الجماهيريّة، فتبدّلت
عندئذ مقاييس القوّة والنصر لصالح عبيد الله بن زياد.
وهذا الأمر أيضاً لم يكن في حسبان الإمام الحسين (عليه السلام).
والجواب عن هذين السببين هو: أنّنا وإن كنّا نعتبر الواقعتين اللتين ذكرهما الكاتب آنفاً صحيحتين، إلّا أنّنا نخالفه بادّعاء أنّهما حدثتا على حين غرّة وقد فوجئ الإمام بهما؛ إذ إنّ من أوّليّات قيادة الثورات توقّع القائد إمكانيّة اندلاع الثورة قبل أوانها أو قبل ساعة الصفر التي تقرّرت لها، وهذا احتمال وارد بنسبة كبيرة؛ لأنّ السلطات غالباً ما تحرص على مواجهة الثورات مبكّراً لجرّها للمواجهة قبل اكتمال شروطها، وهذا ما يدعونا للاعتقاد بأنّ ما حدث لمسلم بن عقيل (عليه السلام) في الكوفة لم يكن صدفة وأمراً غير متوقّع، فالكوفة كانت تحت سلطان بني اُميّة، والإمام (عليه السلام) يعلم بذلك، وكان يتوقّع حدوث المواجهة بين السلطات وبين رسوله، ولهذا ما انفكّ الإمام (عليه السلام) يتابع أخبار ابن عمّه ويستبين اُموره إلى أن بلغه خبر قتله ـ في منطقة الثعلبيّة في طريقه إلى العراق ـ وانفضاض الناس من حوله، فحزن لذلك حزناً كبيراً، وواصل مسيره معتبراً أنّ ما حدث لم يكن صدفة وإنّما هو أمر متوقّع. وقد سأله بعض أصحابه عن موقفه بعد علمه بمقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وفي ما إذا كان ينوي الرجوع إلى مكّة أو الاستمرار بالمسير إلى العراق، فأجابهم الإمام بالاستمرار بالمسير إلى نهاية
المطاف. وحتّى عندما بلغه خبر مقتل رسوله الثاني إلى الكوفة بعد مسلم بن عقيل (قيس بن مسهّر الصيداوي) أو (عبدالله بن يقطر) على اختلاف في التأريخ، لم يثنه هذا الحادث أو يضعف في عزيمته، وواصل مسيره إلى العراق بالبقيّة المخلصة من أصحابه بعد انفضاض نفر قليل عنه وإجازته ذلك لهم.
إنّ هاتين الحادثتين، بالإضافة إلى حادثة منعه من دخول الكوفة بعد أن أحال جيش الحرّ بن يزيد الرياحي بينه وبينها ـ وقد شبّه الكاتب المذكور هذه الأخيرة بحادث رفع المصاحف في معركة صفّين الذي وقع صدفة ـ إنّما تدلّ على عزيمة الإمام (عليه السلام) وإصراره على بلوغ هدفه النهائي وهو الشهادة، وكذلك تدلّ على وضوح رؤية الإمام (عليه السلام) للمواجهة والتحدّيات والمصاعب. وقد أمكنه من تجاوزها جميعاً وعدم الاكتراث بها إلّا بمقدار ما أبداه من عواطف تجاه المحن التي لاقته.
وتجدر الإشارة إلى أنّ ثمّة خطأ آخر وقع فيه هذا الكاتب عندما صوّر حادثة منع الإمام (عليه السلام) من الدخول إلى الكوفة بأنّها مصادفة بحت وتشبه إلى حدٍّ بعيد حادثة رفع المصاحف التي صادفت الإمام عليّ (عليه السلام) في معركة صفّين؛ إذ إنّ حادثة منع الإمام الحسين (عليه السلام) من الورود إلى الكوفة لا تشبه بأيّ حال من الأحوال حادثة رفع المصاحف؛ لأنّ الحادثة الاُولى هي من سنخ الحوادث المتوقّعة الواردة في احتمالات المواجهة
بين قوّة معارضة وبين سلطة تخشى من امتدادات التأثير في أوساط المجتمع والقواعد الشعبيّة، في ما تعتبر حادثة رفع المصاحف من الحوادث غير المتوقّعة في تاريخ الثورات والأحداث السياسيّة، وبالخصوص في التاريخ الإسلامي؛ لعدم وجود سابق لها في الإسلام، ولهذا فلا تشابه بين الحادثتين وبين حكميهما.
وفي النتيجة النهائيّة يتبيّن أنّ الكاتب المذكور كان مخطئاً في جميع آرائه التي سبقت الإشارة إليها والمتعلّقة بالثورة الحسينيّة، في ما تعتبر آراء اُستاذنا السيّد الشهيد (قدس سره) هي الصحيحة في تحليل الثورة الحسينيّة، والهدف الذي كانت تتوخّاه، والغاية التي ضحّى الإمام السبط (عليه السلام) من أجلها. وكانت هذه الغاية هي الدالّة الكبيرة على حكمة القائد وهدفيّته في سبيل إعادة الاُمّة إلى سابق عهدها وشجاعتها وأصالتها بعد أن غزا عقلها وروحها المرض نتيجة المؤامرات الكبيرة التي تعرّضت لها من قبل السلطات المنحرفة التي تسلّمت زمام التجربة الإسلاميّة بعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فكانت شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) علاجاً ناجعاً في تخليص الاُمّة من مرض فقدان الإرادة وموت الضمير؛ إذ هبّت الاُمّة بعد حين تقارع الظالمين، وتنادي بتحكيم الإسلام المحمّدي، وظلّت هذه الروح سارية إلى يومنا هذا، وستبقى إلى أن يظهر المصلح من آل البيت (عليهم السلام) الإمام الحجّة عجّل الله فرجه.