717

هذا. ولا نذكر في المقام روايات طرح ما خالف كتاب الله بألسنتها المتعدّدة؛ وذلك لأنّها ليست في مقام علاج التعارض، بل في مقام إضافة شرط جديد لحجّيّة خبر الواحد زائداً على الوثاقة، وهذا بحث أجنبي عن محلّ الكلام تقدّم في بحث خبر الواحد، وتقدّم هنا ـ أيضاً ـ عندما بحثناعن التعارض بين قطعي السند وظنّي السند.

 

بقي علينا ذكر المقبولة والمرفوعة وقياسهما إلى رواية الراوندي:

أمّا المقبولة فهي التي رواها عمر بن حنظلة، قال: «سألت أبا عبدالله (عليه السلام)عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحلّ ذلك؟ فقال(عليه السلام): من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى طاغوت، وما يحكم له فإنّما يأخذه سحتاً، وإن كان حقّه ثابتاً؛ لأنّه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: «يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد اُمروا أن يكفروا به». قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يُقبل منه فانّما بحكم الله استخفّ، وعلينا قد ردّ، والرادّ علينا الرادّ على الله، وهو على حدّ الشرك بالله. قلت: فان كان كلّ واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما واختلف فيما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ فقال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث، وأورعهما، ولا يلتفت الى ما يحكم به الآخر. قال: فقلت: فإنّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه. قال: فقال: ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه، وإنّما الاُمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيتّبع، وامر بيّن غيّه فيجتنب، وأمر مشكل يردّ حكمه الى الله، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): حلال بيّن، وحرام بيّن، و شبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجى من المحرّمات، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات، وهلك من حيث لا يعلم. قال: قلت: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقاة عنكم؟ قال: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة، وخالف العامّة، فيؤخذ به، ويترك ما خالف الكتاب والسنّة، ووافق العامّة، قلت: جعلت فداك، أرايت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة و وجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة والآخر مخالفاً لهم بأيّ الخبرين يؤخذ؟ قال: ما خالف العامّة ففيه

718

الرشاد، فقلت: جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعاً؟ قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم، فيترك، ويؤخذ بالآخر. قلت: فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعاً؟ قال: إذا كان ذلك فارجئه حتّى تلقى إمامك، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات»(1).

وأمّا المرفوعة فهي ما رواها ابن أبي جمهور الأحسائي في غوالي اللئالي عن العلاّمة مرفوعاً إلى زرارة، قال: «سألت أبا جعفر(عليه السلام)، فقلت له: جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان، فبأيّهما آخذ؟ فقال: يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك، ودع الشاذّ النادر، فقلت: يا سيّدي إنّهما معاً مشهوران مأثوران عنكم. فقال: خذ بما يقول أعدلهما عندك، وأوثقهما في نفسك، فقلت: إنّهما معاً عدلان مرضيان موثقان. فقال: انظر ما وافق منهما العامّة فاتركه، وخذ بما خالف، فإنّ الحقّ فيما خالفهم. قلت: ربما كانا موافقين لهم أو مخالفين، فكيف أصنع؟ قال: إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك، واترك الآخر. قلت: إنّهما معاً موافقان للاحتياط أو مخالفان له، فكيف أصنع؟ فقال: إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به ودع الآخر»(2).

والكلام يقع:

أوّلا: في دلالتهما في أنفسهما.

وثانياً: في علاقة أحداهما بالاُخرى.

وثالثاً: في علاقتهما مع رواية الراوندي.

فهنا ثلاث جهات من البحث:

 

الجهة الاُولى: في دلالتهما: وهما تمتازان عن رواية الراوندي بما فيهما من مرجّحين جديدين: أحدهما الشهرة، والآخر صفات الراوي. وقدّمت الشهرة على الصفات في


(1) راجع الوسائل: ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 1، ص 75 ـ 76 وبحسب طبعة آل البيت ج 27، ص 106. وقد حذف في الوسائل هنا صدر الحديث لعدم علاقته بمورد البحث، ولكن ذكر جزءً من الصدر في ب 1 من صفات القاضي، ح 4. وتجد كل الحديث في اُصول الكافي: ج 1، ب 1 اختلاف الحديث من كتاب فضل العلم، ح 10، ص 67 ـ 68 حسب طبعة الآخوندي، والتهذيب: ج 6، ح 845، ص 301 ـ 303 حسب طبعة الآخوندي.

(2) مستدرك الوسائل: ج 17، ب 9 من صفات القاضي، ح 2، ص 303 ـ 304.

719

المرفوعة، بينما قدّمت الصفات على الشهرة في المقبولة:

أمّا الكلام في الشهرة فقد أفاد بعضهم كالسيد الاُستاذ(1) ـ على ما أتذكر ـ وغيره أنّ الترجيح بالشهرة في هاتين الروايتين ليس ترجيحاً بالمعنى المقصود، وإنّما هو تمييز للحّجّة عن اللاحجّة؛ وذلك لأنّ الشهرة معناها هو الوضوح، والتواتر، والاستفاضة، ونحو ذلك، فيسقط الآخر عن الحجّيّة؛ لأنّ من شرط حجّيّة خبر الواحد عدم المعارضة لدليل قطعي.

وتوضيح الحال في ذلك: أنّ الخبر يستبطن أمرين: حكاية الراوي والكلام المحكي، والاشتهار تارةً يضاف إلى جنبة حكاية الراوي، واُخرى إلى جنبة الكلام المحكي، فإذا اُضيف إلى المحكي كان الاستفاضة والتواتر في النقل، وكان ذلك تمييزاً للحجّة عن اللاحجّة، وإذا اُضيف إلى الحكاية ورواية الراوي بماهي خبر، فالمقصود ليس هو اشتهار نقل الرواة هذا الخبر عن الراوي؛ لأنّ المفروض أنّه هو سمعها من الراوي، فالمقصود بالاشتهار عندئذ هو أخذ هذا الخبر عند الأصحاب بعين الاعتبار والاهتمام به في مقابل أن يُرمى عندهم بالشذوذ، ويطرح، ولا يعتنى به، من قبيل ما يقوله الطوسي أحياناً من أنّ الرواية الفلانية شاذة، أي: حصل في الأوساط الفقهية نحو انقباض عنه ونحو ذلك، فعلى هذا تكون الشهرة مرجّحة تعبّدية، ويمكن أن يدعى ان هذا المعنى من الشهرة هو الظاهر من المرفوعة، فقد اُضيفت الشهرة فيها الى نفس الحكاية وذلك بقرينتين:

1 ـ أنّه بعد ذكر الترجيح بالشهرة فرض السائل شهرتهما معاً، فلو حملت الشهرة على المعنى الأوّل كان معنى ذلك قطعية كليهما، ومعه لا يبقى مجال عرفي للترجيح بالأعدلية والأوثقية، فإنّه لا أثر لذلك مع فرض قطعية كلا الخبرين وتواترهما.

وهذه القرينة تامّة ولا يوجد فيها إلاّ دغدغة واحدة قابلة للدفع، وحاصلها: أنّ الشهرة حينما توجد في إحدى الروايتين فقط توجب القطع بالصدور، ولكن حينما تصبح الشهرة فيهما معاً حصل التزاحم بينهما، فلا توجب القطع.

وهذه الدغدغة جوابها: أنّ هذا صحيح لو كان من البعيد في نفسه بحسب وضع الإمام أن تصدر منه الكلمات المتعارضة، كما هو الحال في فقيه غير مبتلىً بالتقيّة في فتاواه، ولكن بعد أن كان هذا الشيء اعتيادياً للإمام فلا تضعف درجة الاطمئنان ضعفاً معتدّاً به.

2 ـ إنّه بعد فرض شهرة كليهما قال: (خذ بما يقول أعدلهما عندك، وأوثقهما في نفسك)،


(1) راجع مصباح الاُصول: ج 3، ص 411 ـ 413.

720

فلو كان معنى الشهرة حكاية جمع كثير لهذه الرواية عن الإمام لكان ينبغي أن يقول: خذ بأوثق الطائفتين، وظاهر قول الإمام وزرارة فرض راويين شخصيّين، وتقديم رواية أوثقهما، لا طائفتين من الرواة، ولذا عبّر الإمام (عليه السلام) بقوله: (خذ بما يقول أعدلهما وأوثقهما) وعبّر زرارة بقوله: إنّهما معاً عدلان مرضيان.

وأمّا المقبولة فاحتمال كون المقصود بالشهرة فيها الشهرة المضافة إلى المحكي احتمال مقبول، حيث قال: (فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقاة عنكم) فهذا ظاهر في الشهرة المضافة إلى المحكي، وليست فيه إلاّ دغدغة واحدة، وهي: أنّه لو كانت الشهرة بهذا المعنى لكان ينبغي جعلها المرجّح الأوّل، وتذكر قبل الصفات، بينما جائت في المقبولة بعد الصفات، فينبغي حمل الشهرة على ما لا يساوق القطع واليقين.

وهذا الإشكال لا يتمّ بناءً على ما سوف يأتي ـ إن شاء الله ـ من أنّ الترجيح بالصفات في المقبولة ترجيح لأحد الحكمين على الآخر، لا لإحدى الروايتين على الاُخرى. وأمّا بناءً على كونه ترجيحاً للرواية فلا جواب على هذا الإشكال، إذ لا معنى لترجيح رواية الأوثق على الرواية المشهورة بمعنى الشهرة المضافة إلى المحكي، إلاّ أن يقال: إنّ معنى الترجيح بالأوثقية لأحد الخبرين على معارضه المشهور هو كون وثاقته فوق مجموع وثاقات الرواة المتعدّدين للرواية المشهورة، أي: إنّ احتمال كذب راوي هذا الخبر أبعد عن احتمال كذب تمام رواة ذاك الخبر، وفي مثل هذا الفرض يكون تقديم الترجيح بالصفات على الشهرة شيئاً مقبولا.

وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه: أنّ الترجيح بالشهرة يستفاد من المرفوعة، ولا يستفاد من المقبولة.

وأمّا الكلام في الصفات: فالاستدلال على الترجيح بها بالمقبولة يعترض عليه باعتراضين:

الاعتراض الأوّل: أنّها واردة في مورد الّتمكن من لقاء الإمام، فكّل الأحكام المذكورة فيها مختصّة بهذه الصورة، ولا تشمل زمان الغيبة او البعيد عن الإمام غير المتمكن من رؤيته، ففي ذلك نرجع الى المطلقات، والقرينة على اختصاصها بمورد التمكّن من لقاء الإمام ما جاء في آخر الرواية من قوله: (أرجئه حتّى تلقى إمامك).

ويرد عليه أوّلا: أن الحكم في قوله: (أرجئه حتّى تلقى إمامك) وإن كان بقرينة جعل لقاء الإمام غايةً مختصاً بصورة التمكّن من لقائه، لكن لا يلزم من ورود قيد على الخطاب الأخير

721

اسراؤه الى الخطابات السابقة ـ أيضاً ـ بعد فرض اختصاص القرينة بالأخير، ووحدة السياق إنّما تفيد فيما إذا كان ظاهر الفقرات واحداً ثمّ عرفنا من الخارج خصوصية في احداها، لا فيما اذا صرّح في إحداها بالتقييد، والقضية لو كانت خارجية والمخاطب نفس هذا الشخص لصحّ أن يقال: إنه بعد أن عرف في الحكم الأخير أنّ المورد صورة التمكّن من اللقاء يكون ـ لا محالة ـ مورداً لكلّ ذلك، لكنّها قضية حقيقية.

وثانياً: لو سلّمنا أنّ ذيل الحديث أوجب عدم انعقاد الإطلاق في الخطابات السابقة، قلنا: إنّ احتمال دخل التمكّن من اللقاء في الحكم الذي هو محلّ البحث ليس عرفياً. وتوضيحه: أنّ الحكم بالتوقّف والإرجاء والاحتياط يعقل عرفاً اختصاصه بصورة التمكّن من اللقاء، فمع التمكّن يؤمر بالاحتياط، وإن ضاق به الاحتياط راجع الإمام (عليه السلام)وسأله عن الحكم الواقعي. وأمّا مع عدم التمكن فيلزم من الاحتياط ابتلاؤه به طيلة عمره. وأمّا الحكم بالترجيح بالأصدقية والأعدلية والأفقهية فبمناسبات الحكم والموضوع لا دخل للتمكّن من اللقاء وعدمه في ذلك.

الاعتراض الثاني: أنّ الترجيح بالصفات هنا ليس لإحدى الروايتين على الاُخرى وإنّما لأحد الحكمين على الآخر.

وهذا الإشكال قد يسري إلى سائر المرجّحات الاُخرى المذكورة في المقبولة كالشهرة، لكنّ الصحيح أنّ هذا الاعتراض تامّ بلحاظ الصفات دون باقي المرجحات، فلنا دعويان:

الاولى: إنّ الترجيح بالصفات يكون لأحد الحكمين دون إحدى الروايتين.

وهذا واضح من سياق الكلام، حيث صبّ الترجيح على الحكم، فقال: ( الحكم ما حكم به أعدلهما...).

وهناك نكتة في الرواية تشهد لذلك، وهي أنّ الترجيح بالصفات طبّق في المقبولة على أوّل السلسلة، أي: على نفس الحاكمين من دون ان يفرض في المقبولة أنّ الحاكمين هما الراويان المباشران للإمام، بينما لو كان هذا ترجيحاً لإحدى الروايتين لكان ينبغي تطبيقه: إمّا على مجموع السلسلة، وإمّا على اخر السلسلة المباشر للإمام، كما يصنعه القائلون بالترجيح بالصفات في الرواية، وكما هو مقتضى الصناعة؛ لأنّ التعارض في الحجّيّة والتنجيز إنّما هو بين نقلي الراويين المباشرين للإمام. وأمّا من قبلهما من الرواة فلا تعارض في نقلهم، اذ أحدهما ينقل موضوعاً آخر غير ما ينقله الآخر، فأحدهما يقول مثلاً: سمعت زرارة قال: كذا، والآخر يقول مثلا: سمعت أبا بصير قال: كذا، ولا منافاة بين الكلامين في التنجيز، فإنّ

722

التنجيز إنّما يحصل بثبوت قول الإمام، فالتعارض الحقيقي في عالم الحجّيّة يكون بين النقلين المباشرين عن الإمام. وهذا بخلاف باب الحكم الذي يكون التعارض فيه بين الحاكمين، إذن فالترجيح في باب الرواية يكون بصفات الراوي المباشر أو يدّعى أنّه بحسب الارتكاز العرفي يكون بصفات المجموع، بدعوى أنّ الترجيح بالصفات ليس ترجيحاً تعبّدياً صرفاً بين المتعارضين، حتّى يقال: إنّ التعارض في عالم الحجّيّة يكون بين النقلين المباشرين عن الإمام، وإنّما يكون ترجيحاً بلحاظ تقوية احتمال الصدق والمطابقة للواقع. وهذا كما يكون في الراوي المباشر كذلك يكون في غيره.

وعلى أيّ حال، فذكر الترجيح بلحاظ الراوي المباشر لنا فقط لا بلحاظ المجموع، ولا بلحاظ الراوي المباشر للإمام قرينة على أنّه ترجيح للحكم، لا للرواية.

الثانية: إنّ باقي المرجّحات ترجيح للرواية لا للحكم، حيث إن الإمام (عليه السلام)بعد فرض تساوي الحاكمين في الصفات انتقل إلى مدرك الحكم، وقال: يؤخذ بالمجمع عليه ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور، فالأمر بالأخذ بعد الترجيح بالصفات اُضيف إلى الرواية، وفي ذلك ثلاثة احتمالات:

الأوّل: أن تكون اضافته إلى الرواية إضافة بالعرض، ويكون المقصود الأخذ بالحكم الذي على طبقة الرواية المشهورة مثلا.

وهذا خلاف الظاهر فإنّ ظاهر إضافة الأمر بالأخذ إلى الرواية كونها إضافة حقيقية لا بالعرض.

الثاني: أن تكون إضافته إلى الرواية حقيقية، لكن لا بما هي رواية، بل بما هي فاصلة للخصومة، فكأنّما بيّن الإمام (عليه السلام) أنّه بعد سقوط الحاكمين تجعل الرواية المشهورة مثلا حاكمة وفاصلة للخصومة من دون أن يفتى بمضمونها.

وهذا ـ أيضاً ـ خلاف الظاهر، فإنّ اضافة الأخذ إلى الرواية ظاهرها الأخذ بها بما هي رواية، لا بعنوان آخر.

الثالث: ما اتّضح من خلال ما سبق، وهو إضافته إلى الرواية بما هي رواية، وقد اتّضح تعيّن هذا الاحتمال، ويثبت بذلك كون الترجيح للرواية، وهو المطلوب.

ثمّ إنّ المرفوعة مشتملة على ثلاث مرجحات: الشهرة، والصفات، ومخالفة العامّة. والمقبولة مشتملة على أربع مرجحات: الصفات، والشهرة، وموافقة الكتاب، ومخالفة العامة، لكن عرفت أنّ الشهرة في المقبولة ترجع إلى تمييز الحجّة عن اللاحجّة، والصفات

723

ترجع إلى باب الحكم، فالمرجّح فيها ينحصر في موافقة الكتاب ومخالفة العامّة. وسوف يأتي أنّهما في المقبولة مرجّحان مستقلاّن، لا أنّ الكتاب جزء المرجّح، وحيث إنّ المرفوعة لا نقول بحجّيتها لضعف السند، ونقول بحجّية المقبولة، فنعمل بالمقبولة، ولا نُعمِل قواعد التعارض بينهما، ولا يتحصّل من المقبولة شيء زائد على ما في رواية الراوندي.

 

الجهة الثانية: في النسبة بين المقبولة والمرفوعة بعد فرض قبولهما معاً:

فنقول: إنّ هناك عدة موادّ للتعارض بين المقبولة والمرفوعة.

المادّة الاُولى: أنّ المقبولة بدأت بالترجيح بالصفات وثنّت بالشهرة ـ بعد غضّ النظر عمّا مضى من ان الترجيح بالصفات يكون لباب الحكم، وأنّ الشهرة أخذت كتمييز بين الحجّة واللاحجّة ـ والمرفوعة بالعكس، أي: بدأت بالشهرة وثنّت بالصفات.

وذكر الشيخ الأعظم(قدس سره) أنّه يمكن أن تقدّم المقبولة عملا بالمرفوعة التي تحكم بتقديم المشهور على الشاذّ النادر، فإن المرفوعة لم تنقل إلاّ عن غوالي اللئالي مرفوعاً عن العلاّمة، والعلاّمة مرفوعاً عن زرارة، لكن المقبولة مشهورة فترجّح بالشهرة(1).

وأورد عليه المحقّق الإصفهاني (رحمه الله): أنّه لا يمكن العمل بالمرفوعة في مقام تقديم المقبولة عليها، إذ معنى ذلك أنّ المرفوعة تلغي نفسها بنفسها، ويلزم من وجود الشيء عدمه(2).

وتحقيق الكلام في هذا المقام: أنّ التعارض بين المقبولة والمرفوعة ـ بعد فرض تماميّة دلالتهما على الترجيح بالصفات وبالشهرة بنحو متعاكس يكون بنحو العموم من وجه؛ إذ مقتضى إطلاق ترجيح المقبولة بالصفات هو الترجيح بها، سواء كان الآخر أشهر أو لا، ومقتضى إطلاق ترجيح المرفوعة بالشهرة هو الترجيح بها سواء كان الآخر أعدل وأصدق، أو لا.

والتعارض بالعموم من وجه تعارض دلالي، ولا يسرى إلى السند. فإن بنينا على أنّ المرجّحات مخصوصة بالتعارض السندي، ولا تشمل العامين من وجه، فلا معنى لترجيح المقبولة هنا بكونها هي المشهورة. وإن بنينا على شمول المرجحات للعامين من وجه قلنا بعد تسليم أنّ المقبولة هي المشهورة وأنّ المرفوعة ليست مشهورة: انّه إن فرض أنّ الراوي في


(1) راجع الرسائل ص 447 ـ 448 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات رحمة الله.

(2) راجع نهاية الدراية ج 5 ـ 6 ص 317 بحسب طبعة آل البيت.

724

المرفوعة ليس أصدق تمّ كلام الشيخ الأعظم(قدس سره)، ولا يأتي عليه إشكال المحقّق الإصفهاني (رحمه الله)من أنّه لزم من وجوده عدمه؛ وذلك لأنّ المقبولة داخلة في مادّة الافتراق للمرفوعة، فلماذا لا تؤخذ بالمرفوعة في ترجيح المقبولة مع أنّها ليست مبتلاة بالمعارض سنداً لأنّ المفروض عدم التباين، ولا دلالةً لأنّ مادّة الافتراق لا معارض لها. إذن فالمرفوعة تدلّ بمادة افتراقها على العمل بالمقبولة في مادّة اجتماعها، فهدمت مادّة الافتراق مادّة الاجتماع، فلم يلزم من وجود شيء واحد عدمه، ولا يلزم من إسقاط مادّة اجتماعها تخصيصها بالفرد النادر؛ إذ تبقى لها مادّة الافتراق، وهي كلّما كان أحد الخبرين هو المشهور من دون أن يكون الآخر أرجع في الصفات، ولا مبرّر لفرض ذلك هو الفرد النادر في مقابل ما لو كان الآخر أرجع في الصفات. وأمّا إذا فرض ان الراوي في المرفوعة أصدق مثلا كما لو أخذنا بالراوي الأخير، وكان زرارة أصدق من عمر بن حنظلة، فعندئذ لا يصحّ ما ذكره الشيخ الأعظم(قدس سره)من ترجيح المقبولة على المرفوعة بالشهرة عملا بنفس المرفوعة؛ إذ ليس ذلك بأولى من العكس، أي: ترجيح المرفوعة بالصفات على المقبولة عملا بنفس المقبولة.

نعم، لا يرد عليه إشكال المحقّق الإصفهاني(رحمه الله).

وتوضيح ذلك: أنّ المقبولة والمرفوعة يكون تحتهما أفراد طولية للتعارض، فأوّلها مثلا الخبر الدالّ على وجوب السورة مع الخبر الدالّ على عدمه، فالمقبولة تقدّم الأصدق منهما والمرفوعة تقدّم المشهور منهما، وفي هذه المرتبة يتوّلد فرد جديد للتعارض، وهو نفس المقبولة والمرفوعة، وهذا الفرد ـ أيضاً ـ تعالجه المقبولة والمرفوعة، فإحداهما تقول: قدّم الأصدق، والاُخرى تقول: قدّم الأشهر، وفي هذه المرتبة ـ أيضاً ـ يقع التعارض، وهكذا، وعندئذ فالمحذور هو أنّه في أيّ مرتبة أعملنا المرفوعة دون المقبولة فقد أعملنا أحد المتعارضين دون الآخر جزافاً، لا أنّه يلزم من وجود الشيء عدمه، فإنّ التقديم في أيّ مرتبة إنّما يسقط ما في المرتبة السابقة، لا ما في نفس تلك المرتبة.

هذا كلّه بناء على إغفال نكتة في المقام لو أبرزناها يتّضح أنّ التعارض بين المقبولة والمرفوعة ليس بنحو الإطلاقين من وجه، وإنّما يكون بنحو يقتضي الجمع العرفي، ولا تصل النوبة بعد ذلك إلى ترجيح إحداهما على الاُخرى، بل لا بدّ من الجمع بينهما.

وتوضيح تلك النكتة: أنّ دليلي الترجيح إن فرض اقتصار كلّ واحد منهما على مرجّح دون المرجّح الآخر، كما لو اقتصر أحدهما على الترجيح بالصفات، والآخر على الترجيح بالشهرة، جاء ما ذكرناه من التعارض بينهما بنحو الإطلاقين من وجه، وإن فرض اقتصار

725

أحدهما على المرجّح الثاني، وذكر الآخر لكلا المرجّحين طولياً كان التعارض بينهما بنحو المطلق والمقيّد، وقيّد ما اشتمل على مرجّح واحد بما اشتمل على مرجّحين، وكذا لو اقتصر أحدهما على أحد المرجّحين والاخر ذكر مرجّحين عرضيّين.

وأمّا إن فرض أنّ كلا منهما ذكر المرجّحين طولياً، ولكن بنحو التعاكس، كما هو الحال فيما نحن فيه، فلو فرض أنّ الإمام (عليه السلام) هو الذي ذكر المرجّحين ابتداءً، كما لو قال: خذ بالأشهر، فإن لم يكن فبالأصدق. وقال أيضاً: خذ بالأصدق، فإن لم يكن فبالأشهر، فعندئذ يوجد هناك دالّان ومدلولان: الدالّ الأوّل هو الإطلاق الذي يدلّ على أنّ ما ذكر أوّلا يرجّح ويوجب التقديم، سواء كان الخبر الآخر واجداً للمزية الاُخرى أو لا، وهذا معناه الترتيب، والدّال الثاني نفس تقديم إحدى المزيّتين على الاُخرى، فإنّه يدلّ بالنصوصية العرفية على أنّ الأوّل ليس في طول الثاني، وإلاّ فلماذا قدّمه، فهو: إمّا مقدّم عليه أو على الأقلّ في عرضه، وإطلاق كلّ من الخبرين المرجّحين يقيّد بنصّ الآخر، ويثبت أنّ المرجّحين في عرض واحد. ومثل هذا الكلام لا يأتي فيما إذا اقتصر الإمام على مرجّح واحد، فإنّه يحتمل اقتصاره على المرجّح الثاني.

هذا كلّه لو أنّ الإمام (عليه السلام) هو ذكر المرجّحين بهذا الترتيب.

وأمّا لو فرض أنّ هذا الترتيب منتزع من كلام الإمام انتزاعاً، بأن سأل الراوي عن الخبرين المتعارضين فذكر الإمام مرجّحاً، ثمّ فرض الراوي تساويهما من تلك الناحية، فذكر الامام مرجّحاً آخر، كما هو الحال في المقبولة والمرفوعة، فهنا ما ذكرناه لا يأتي بذاك الوضوح، فإنّه لو كان الكلام كلاماً ابتدائياً للإمام فالتقديم والتأخير من قبله لا يكون عرفياً أبداً لو فرض الترتيب العكسي. أمّا اذا فرض أنّ كلام الإمام كان جواباً عن سؤال السائل، فلعلّ الإمام في جوابه عن السؤال الأوّل أجاب بالمرجّح الثاني، ولا بأس بذلك، ولذا لا نضايق من أن يقتصر الإمام على ذكر المرجّح الثاني، ثمّ بعد أن فرض السائل عدم هذا المرجّح وطالب بتعيين ما هو الأرجح أو التساوي ذكر الإمام المرجّح الأوّل، ولكن مع هذا ينبغي أن يقال: إنّ ظاهر كلام الإمام أنّ المرجّح الثاني ـ على الأقلّ ـ ليس مقدّماً على المرجّح الأوّل؛ اذ لو كان مقدّماً عليه ولكنّ الإمام لنكتة ما بدأ بذكر المرجّح الثاني فهذا معناه أنّ كلامه الأوّل الذي بدأ فيه بالمرجّح الثاني مقيّد لبّاً بعدم المرجّح الآخر، وهذا القيد غير مأخوذ في الكلام الثاني، وهذا معناه أنّ الجوابين لم ينصبّا على موضوع واحد مع أنّ ظاهرهما أنّهما منصبّان على موضوع واحد، فهذا يكون من قبيل أن يقول الإمام في الجواب

726

عن المتعارضين: خذ بأشهر الحديثين المتساويين في الصدق، قال: فإن كانا متساويين في الشهرة، قال: خذ بأصدقهما، فالترتيب العكسي ليس محذوره فقط تقييد الإطلاق، بل فيه محذور إضافي وهو لزوم كون الكلامين واردين في موضوعين، وهذا خلاف الظهور العرفي، لا الإطلاق، فنرفع اليد عن كلّ من الإطلاقين بالظهور العرفي. وإن شئتم قلتم: إنّ الكلام الثاني قرينة على أنّ موضوع كلامه الأوّل قابل لأن يفرض فيه أحدهما أصدق والآخر غير أصدق. وهذا لا يلائم مع الترتيب العكسي. فبهذا تثبت عرضية المرجّحين بعد تقييد إطلاق كلّ منهما بظهور الآخر(1) وهذا بحسب الوجدان العرفي ـ أيضاً ـ لا ينبغي التشكيك فيه، فحينما نرى أنّ الإمام (عليه السلام) مرّة يبدأ بهذا واُخرى يبدأ بذاك نعرف عرفاً أنّه ليس النظر إلى الترتيب.

 

المادة الثانية للتعارض بين المقبولة والمرفوعة: أنّه في الصفات، التي فرضت مرجّحاً فيهما وقع الاختلاف بينهما في نوعية هذه الصفات، ففي المقبولة وجدت أربع صفات: الأعدلية، والأفقهية، والأصدقية في الحديث، والأورعية. وإذا أرجعت الأورعية إلى الأعدلية باعتبار أنّ الأعدلية يراد بها شدّة الاستقامة في جادّة الشرع، ولا يراد بالأورعية أزيد من هذا، فهما متساويان في المراتب، رجعت الأوصاف الى ثلاثة.

وأما في المرفوعة فذكر الأعدلية، والأوثقية، فإذا أرجعنا الصفات التي في المقبولة إلى ثلاث صفات زادت المقبولة على المرفوعة بلحاظ الأفقهية، فإنْ فرضنا أنّ مرجّحات المقبولة الوصفيّة مرجّحات للحاكم فلا تعارض بينهما من هذه الناحية. وأمّا لو قيل بأنّها مرجّحات للرواية فإن استفيد من المقبولة والمرفوعة إلغاء الخصوصيات، وأنّ ما هو مذكور من الصفات يكون من باب المثال، وأنّ المقصود الأخذ بما فيه مزية تقرّب إلى الواقع، فلا تعارض بينهما أيضاً، فإنّ الفقاهة والفهم ضمان صحّة الرواية، لأنّها غالباً تنقل بالمعنى، وإن لم نقل بإلغاء الخصوصية فيهما، وقع التعارض بلحاظ الأفقهية، وأيضاً يحصل التعارض لو


(1) أوردت عليه (رحمه الله) بأنّه بناءً على العرضية ـ أيضاً ـ يكون موضوع الحكم بالترجيح بالمزية الأولى مقيّداً بعدم اتصاف معارضة بالمزية الثانية. فأجاب بانّ الموضوع عرفاً عند عرضية المرجّحين هو ذات الروايتين، وكأنّ الكلامين واردان على موضوع واحد، والفرق هو أنّ المزية الثانية بناءً على الترتيب العكسي ترفع ثانية الترجيح بالمزية الاُولى، وبناءً على العرضية إنّما لا يمكن فعلية الترجيح للتعارض، وإلاّ فمقتضي الترجيح تامّ من كلا الجانبين.

727

ألغينا الخصوصية في المقبولة دون المرفوعة؛ إذ قد تحمل المقبولة دون المرفوعة على المثالية بقرينة قوله في المقبولة: (قلت: فإنّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا، لا يفضّل واحد منهما على الآخر) فقد يقال: إنّ هذه العبارة ظاهرة في أنّ السائل فهم أنّ المقياس مطلق التفاضل، والإمام أمضى فهمه، وهذا بخلاف المرفوعة فبناءً على هذا يكون التعارض ـ أيضاً ـ ثابتاً، بل مستفحلا؛ إذ يكون التعارض لا بلحاظ الأفقهية فحسب، بل بلحاظ مطلق الصفات المقرّبة إلى الواقع.

وعلى أيّ حال، فإذا وقع التعارض بينهما عمل بالأكثر على أساس التقييد، فإنّ ظاهر هذه المرجّحات أنّها مرجّحات عديدة في عرض واحد، ويؤخذ بالأكثر، ولا تصل النوبة إلى المرجّحات الطولية بعدها، إلاّ بعد اجتياز كلّ هذه المرجّحات العرضية.

 

المادة الثالثة: مبنية على أنّ المقبولة رجّحت بالصفات بلحاظ الحاكمين لا الروايتين.

وتوضيح ذلك: أنّنا إن جعلنا ترجيح الصفات في المقبولة للروايتين اتّجهت المادّتان الماضيتان للتعارض كما عرفت، وإن جعلناها ترجيحاً للحاكمين فالمادّتان للتعارض تنتفيان، لكن تتولّد مادّة اُخرى للتعارض وهي: أنّ المشهورة مشتملة على الترجيح بالصفات بخلاف المقبولة، وهنا قد يقال: إنّ سكوت المقبولة عن الصفات يكون لأجل أنّه فرغ أوّلا عن التساوي في الصفات ولو بماهما حاكمان.

ولكنّ هذا الكلام غير صحيح بناءً على النكتة التي مضت من أنّ الترجيح بالصفات في الرواية يجب أن يطبّق على الراوي المباشر للإمام، أو مجموع السلسلة، لا على خصوص أبعد الرواة عن الإمام، فالتعارض مستحكم، وحيث يستحكم التعارض نطبّق عليه قواعد التعارض، أي: إنّ المقبولة ـ بناءً على استفادة الترتيب فيها بين موافقة الكتاب ومخالفة العامة ـ قد ذكرت الشهرة أوّلا، ثمّ موافقة الكتاب، ثمّ مخالفة العامّة. والمرفوعة ذكرت الشهرة، ثمّ الصفات، ثمّ مخالفة العامّة، فإذا فرض الأمر هكذا فهما متعارضان في المرجّح الثاني، فحالهما حال كلّ خبرين يذكر كلّ منهما مرجّحاً مبايناً للآخر، وقد مضت الوظيفة في ذلك.

 

المادة الرابعة: أنّ المقبولة ذكرت موافقة الكتاب ثمّ مخالفة العامّة، والمرفوعة سكتت عن موافقة الكتاب. والكلام في ذلك يقع في امور:

728

الأول: دلالة المقبولة في نفسها على مرجّحية الكتاب.

فقد يستشكل في ذلك بأنّ المقبولة تدلّ على مرجّحية المجموع المركّب من موافقة الكتاب ومخالفة العامّة؛ إذ جمع بينهما بواو العطف.

والجواب: أنّ مقتضى العطف بالواو وإن كان ذلك، لكن ذكره بعد ذلك: لمخالفة العامّة مستقلا في خبرين نسبتهما إلى الكتاب واحدة، دليل على أنّ موافقة الكتاب مرجّح مستقلّ، ولو كان المقصود مرجّحية المجموع لكان ضمّ الكتاب إلى ما هو في نفسه مرجّح مستقلاّ لغواً، ومن قبيل ضمّ الحجر إلى جنب الإنسان.

الثاني: هل يستفاد من المقبولة في نفسها تقديم موافقة الكتاب على مخالفة العامة، أو لا؟

والثمرة بين الطولية والعرضية تظهر فيما إذا كان أحد الخبرين موافقاً للكتاب والآخر مخالفاً للعامّة.

يمكن أن يقال: إنّ المقبولة لا تدّل على الترتيب بين موافقة الكتاب ومخالفة العامّة، فإنّها لولا عطفها لمخالفة العامّة على موافقة الكتاب بالواو لأفادت الترتيب، ولكن بعد عطفها ذلك بالواو نقول: إنّ الواو فيها أحد احتمالين: إمّا أن تحمل على مرجّحية المجموع المركّب، وإمّا أن تكون في قوّة أو، وقد نفينا الأوّل، فتعيّن الثاني، فيكونان مرجّحين مستقلّين من دون أن يستفاد من المقبولة الطولية بينهما، فهي لا تدلّ على الطولية إلاّ ببيان واحد، وذلك بأن يستظهر من الجملة المعطوفة احتمال ثالث، وهو أنّها حشو من الكلام، وأن النظر الاستقلالي إلى موافقة الكتاب، وإنّما ذكر الجملة الثانية حشواً ولو بلحاظ بيان أنّ موافق الكتاب مخالفٌ للعامّة غالباً، ومخالف الكتاب موافق لهم غالباً، فكأنّه تمهيد لمرجّحية مخالفة العامّة وتهيئه السائل نفسياً لذلك، وبناءً على ذلك يفهم الترتيب.

وممّا يؤيّد ذلك: أنّ الصور المتصّورة بلحاظ موافقة الكتاب ومخالفة العامّة عَشْر؛ لأنّ كلّ واحد من الخبرين: إمّا يكون واجداً لكلتا المزيّتين، أو فاقداً لهما، أو واجداً لموافقة الكتاب فقط، أو لمخالفة العامّة فقط. وأربعة مضروبة بأربعة تساوي ست عشرة، ست صور منها مكرّرة، فالصور عَشْر، والسائل قد فهم حكم تسعة، وبناءً على الطولية يفهم حكم العاشرة وهو ما لو كان أحدهما موافق للكتاب والآخر مخالفاً للعامّة، وبناءً على العرضية لم يفهم حكم هذه الصورة، فمقتضى القاعدة أن يسأل السائل عنها، بينما نرى أنّه لم يسأل عن ذلك. وإليك تفصيل الصور العشر:

ثلاث منها يستفاد حكمها من المقبولة بالتصريح وهي كما يلي:

729

1 ـ أن يكون أحد الخبرين واجداً للمزيتين، والآخر يخالف الكتاب ويوافق العامّة. وهذا يستفاد حكمه بالتصريح من قوله: (ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة، وخالف العامّة، فيؤخذ به، ويترك ما خالف الكتاب والسنّة، ووافق العامّة).

2 ـ أن يكون أحد الخبرين واجداً للمزيّتين، والآخر موافقاً للكتاب والعامّة. وحكمه مفهوم صريحاً بقوله: (أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسّنة، ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة والآخر مخالفاً بأيّ الخبرين يؤخذ؟ قال: ما خالف العامّة ففيه الرشاد).

3 ـ أن يكون كلاهما موافقاً للكتاب وغير مخالف للعامة. وحكمه تبيّن صريحاً بقوله: (قلت: جعلت فداك، فإن وافقها ـ يعني العامة ـ الخبران جميعاً... إلخ) وقد فرض مسبقاً موافقتهما للكتاب.

إلاّ أنّ هذه الصورة إنّما يستفاد حكمها بالتصريح لو فرض الخبران موافقين للعامّة. وأمّا لو فرضا غير موافقين ولا مخالفين للعامّة، فيستفاد حكمها بالتلويح باعتبار أن افتراض موافقتهما معاً للعامّة كان من باب المثال، وكان المقصود تساويهما من حيث مزيّة موافقة الكتاب ومخالفة العامّة.

فهذه ثلاث كلمات من الإمام (عليه السلام) تصرّح بحكم ثلاث صور من هذه الصور، وستّ منها يستفاد حكمها من هذه الكلمات الثلاث بالتلويح، لا التصريح، وهي كما يلي:

4 ـ أن يكون أحدهما واجداً لكلتا المزيّتين والآخر مخالفاً للعامّة، وغير موافق للكتاب. وحكمه يستفاد من الكلام الأوّل من الكلمات الثلاث بعد الالتفات إلى أنّنا فهمنا من المقبولة كون الكتاب مرجّحاً مستقلاًّ.

5 ـ ان يكون كلاهما واجدين لكلتا المزيّتين، ويفهم حكمه من الكلام الثالث، فانّه وإن فرض في نصّ العبارة موافقتهما للعامّة، لكن العرف يفهم من ذلك أنّ المقصود مجرّد المثال لما إذا تساوى الخبران في ذلك، سواء كان من ناحية فقدانهما للمزيّة معاً، أو من ناحية وجدانهما لها معاً.

6 ـ أن يفقد كلاهما كلتا المزيّتين. وأيضاً يظهر حكمه من الكلام الثالث.

7 ـ أن يكون أحدهما موافقاً للكتاب لكنّه غير مخالف للعامّة، والآخر يفقد كلتا المزيّتين. ويفهم حكمه من الكلام الأوّل؛ لأنّنا استظهرنا من الحديث كون الكتاب مرجّحاً مستقلاّ.

730

8 ـ أن يكون كلاهما مخالفاً للعامّة، وليس شيء منهما موافقاً للكتاب. ويفهم حكمه من الكلام الثالث.

9 ـ أن يكون أحدهما مخالفاً للعامة غير موافق للكتاب، والآخر فاقداً لكلتا المزيّتين، فيقدم الأوّل على الثاني. وهذا يفهم من الكلام الثاني، فإنّه وإن فرضت فيه موافقتهما للكتاب، لكنّ المفهوم منه عرفاً كون مخالفة العامّة مرجّحاً مستقلاّ يقدّم بها أحدهما على الآخر حينما توافقا في المزية الاُخرى، وهي موافقة الكتاب، سواء كان بموافقتهما معاً للكتاب، أو بعدم موافقة شيء منهما له.

بقيت صورة واحدة لا يفهم حكمها من الحديث إلاّ إذا بني على إرادة الطولية وهي:

10 ـ أن يكون أحدهما موافقاً للكتاب غير مخالف للعامّة، والثاني بالعكس. فان استفيدت الطولية قدّم الأول، وإلاّ لزم عدم معرفة حكمه من الرواية، فسكوت السائل يؤيّد فهم الطولية.

الثالث: في النسبة بين المقبولة والمرفوعة بلحاظ أن المقبولة ذكرت موافقة الكتاب ومخالفة العامّة، والمرفوعة سكتت عن موافقة الكتاب.

فإن فرضنا أنّ المقبولة قد دلّت على الترجيح بالصفات أوّلا ثمّ بالشهرة، فموافقة الكتاب هي المرجّح الثالث في المقبولة، ومخالفة العامّة هي المرجح الرابع فيها بناءً على استفادة الطولية. وأمّا في المرفوعة فمخالفة العامة هي الثالث؛ إذ ليس قبلها سوى الشهرة والصفات، فالرجوع إلى مخالفة العامّة يكون في المرفوعة مقيّداً بقيدين، ولكنّه في المقبولة مقيّد بهذين القيدين بإضافة قيد ثالث وهو عدم الترجيح بموافقة الكتاب.

إذن فتقيّد المرفوعة بالمقبولة.

وإن فرضنا أنّ المقبولة إنّما رجّحت بالشهرة ثمّ بموافقة الكتاب ثم بمخالفة العامّة، وأمّا الصفات فهي راجعة إلى الحاكمين، إذن فهي مع المرفوعة متماثلتان في عدد المرجّحات، وهي ثلاثة متفقتان في الأوّل والثالث: مختلفتان في الثاني، ففي المقبولة هو موافقة الكتاب، وفي المرفوعة هو الصفات، فيقع التعارض بينهما بالعموم من وجه، ويبنى على العرضيّة ولو بلحاظ التساقط في مادة الاجتماع، فالمرجّح الثالث وهو مخالفة العامة يكون في طول كلا الترجيحين، أعني الصفات وموافقة الكتاب.

 

المادة الخامسة: أنّ المقبولة جاء فيها فرض موافقتهما للعامّة فقال (عليه السلام)ينظر إلى ما هم

731

أميل إليه حكّامهم وقضاتهم، فيترك ويؤخذ بالآخر، بينما هذا الكلام لم يوجد في المرفوعة، والذي يفهم العرف من هذا الكلام هو أنّه تكملة لنفس الترجيح بمخالفة العامّة،

فهذه مرتبة من المخالفة سكت عنها في المرفوعة، فكأنّ نفس هذا المرجّح له مراتب، فمقتضى القاعدة تقييد سكوت المرفوعة بنطق المقبولة.

 

الجهة الثالثة: في نسبة المقبولة والمرفوعة إلى رواية الراوندي:

والكلام تارةً يقع في نسبة المقبولة إليها، واُخرى في نسبة المرفوعة إليها:

أمّا النسبة بين رواية الرواندي والمقبولة فنقول: إنّ المرجّحين الموجودين في رواية الراوندي وهما موافقة الكتاب ومخالفة العامّة موجودان في المقبولة، فإن قلنا: إن الترجيح بالصفات في المقبولة للحاكم، وإنّ الشهرة لتمييز الحجّة عن اللاحجّة، إذن فمرجّحات المقبولة هي نفس مرجّحات رواية الرواندي، فإن استفيدت الطولية من المقبولة بين موافقة الكتاب ومخالفة العامّة فهو، وإلاّ أخذنا الطولية من رواية الراوندي، لأنّ غاية ما يفترض في المقبولة هي عدم دلالتها على الطولية لا دلالتها على عدم الطولية، ونقدّم ذكر المقبولة لاختلاف مراتب الترجيح بمخالفة العامّة على سكوت رواية الراوندي عن ذلك.

وإن قلنا: إنّ المقبولة قد دلّت على الترجيح بالشهرة ولم نصرف الشهرة إلى تمييز الحجّة عن اللاحجّة كان مقتضى القاعدة تقييد رواية الراوندي بالمقبولة، فتصل النوبة إلى مرجّحات رواية الراوندي بعد الشهرة.

وإن قلنا: إنّ المقبولة دلّت على الترجيح بالصفات أيضاً، ولم نصرفها إلى ترجيح أحد الحكمين قيّدت رواية الراوندي بلحاظ الصفات أيضاً.

إلاّ أنّه يقع الكلام في أنّ هذا التقييد هل هو ممكن أو ليس بممكن، لأنّه غالباً يختلف الراويان شيئاً ما في الصفات، فيلزم التقييد بالفرد النادر؟

قد يقال بالتفصيل بين ما لو بنينا على المبنى الصحيح من أنّ الأحكام الظاهرية التي هي في مرتبة واحدة تتعارض بنفس وجوداتها الواقعية، وما لو بنينا على المبنى المشهور من أنّ تعارضها يكون بالوصول، فعلى الأوّل يلزم من تقييد رواية الراوندي التخصيص بالفرد النادر؛ لندرة عدم التفاضل في الصفات، خصوصاً إذا حملنا الصفات المذكورة في الرواية على المثالية. وعلى الثاني لا يلزم التخصيص بالفرد النادر؛ لأنّنا نقيّد المقبولة عندئذ بصورة عدم معرفة التفاضل، لا عدم التفاضل واقعاً، وغالباً نحن غير مطّلعين على التفاضل.

732

إلاّ أنّ هذا إنّما يتمّ إذا لم يتكوّن عندنا علم إجماليّ في دائرة الأخبار المبتلاة بالمعارض المخالف للكتاب، بأنّ الراوي في بعضها أرجح من حيث الصفات من راوي معارضه، وإلاّ فقد حصل الوصول الاجمالي، فيرجع الاشكال.

ويمكن أن يقال: إنّه تارةً يفهم من المقبولة بيان الترجيح الواقعي، واُخرى يفهم منها بيان الترجيح الفعلي، أعني بحسب الوظيفة الفعلية.

فعلى الأوّل يتمّ الإشكال. وأمّا على الثاني فلا يرد إشكال التخصيص بالفرد النادر؛ إذ عند الشكّ في التفاضل يجري استصحاب عدم التفاضل، فتكون الوظيفة الفعلية هي الترجيح بموافقة الكتاب.

وأمّا النسبة بين رواية الراوندي والمرفوعة فتارةً نبني على أنّ الشهرة في المرفوعة ليست مرجّحة، وإنّما هي لتمييز الحجّة من اللاحجّة، واُخرى نبني على أنّها ذكرت كمرجح:

فعلى الأوّل تكون المرجّحات في المرفوعة اثنين بعدد مرجّحات رواية الراوندي، والروايتان متّفقتان في المرجّح الثاني، وهو مخالفة العامّة، ومختلفتان في المرجّح الاوّل الذي هو في المرفوعة عبارة عن الصفات، وفي المقبولة عبارة عن موافقة الكتاب، فالتعارض بالعموم من وجه. فإمّا أن نبني على استحكام التعارض فيتساقطان في مادّة الاجتماع، فتحصل نتيجة العرضية. وإمّا أن نبني على الجمع العرفي بينهما بالحمل على العرضية، بتقريب: أنّهما لو جمعا في كلام واحد بأن قال الإمام: إذا تعارض خبران فرجّح بموافقة الكتاب، ورجّح بالصفات، لفهمت العرضية، والمنفصلات كالمتّصلات بحكم القاعدة الميرزائية التي مضت. هذا بلحاظ المرجّح الأوّل.

وأمّا بلحاظ المرجّح الثاني وهو مخالفة العامّة، فإنْ فقدت موافقة الكتاب مع الأرجحية في الصفات، فلا إشكال في انتهاء النوبة إلى الترجيح بمخالفة العامّة. وإن وجدت إحدى المزيّتين فلا إشكال في تقدّمها على مخالفة العامّة؛ لأنّها مقيّدة بقيدين حسب الجمع بين كلا التقييدين الموجود في الروايتين. وإن كانت إحداهما موافقة للكتاب والاُخرى أرجح في الصفات فقد يقال ـ بناءً على الجمود على حاقّ اللفظ ـ بأنّه لا تصل النوبة إلى الترجيح بمخالفة العامّة؛ لأنّ هذا الترجيح مشروط في إحدى الروايتين بالتساوي في الصفات، وهذا الشرط غير حاصل، وفي الاُخرى بالتساوي في موافقة الكتاب ومخالفته، وهذا الشرط ـ أيضاً ـ غير حاصل.

وقد يقال، بأنّ المستظهر عرفاً من الروايتين أنّ مخالفة العامّة هي المرجّح بعد عدم مرجّح

733

مسبق ولو لتعارض المرجّحين المسبقين فيما بينهما، بناءً على أنّهما مرجّحان عرضيان. وأمّا بناءً على استحكام التعارض والتساقط في مادّة الاجتماع، فهذا الكلام لا يتمّ؛ اذ يحتمل في علم الله أن يكون المرجّحان السابقان طوليين، فلا يتساقطان، فلا تصل النوبة إلى هذا المرجّح، لكنّ الصحيح هو العرضية للجمع العرفي الذي تقدّم.

وعلى الثاني تكون المرجّحات في المرفوعة ثلاثة:

أوّلا: الشهرة.

ثانياً: الصفات.

ثالثاً: مخالفة العامّة.

وفي رواية الراوندي اثنين:

أوّلا: موافقة الكتاب.

وثانياً: مخالفة العامّة.

فمخالفة العامّة تقيّد بكلّ المرجّحات الثلاثة الاُخرى جمعاً بين تقييدات كلتا الروايتين.

وفيما قبلها يقع التعارض بين الروايتين، ويعالج بنحو ما سبق، فإن قبلنا الجمع العرفي المشار إليه آنفاً ـ كما هو الصحيح ـ كانت نتيجة ذلك: أنّ الشهرة وموافقة الكتاب في عرض واحد، و بعد هما تصل النوبة إلى الصفات، ثم إلى مخالفة العامّة. وإن لم نقبل الجمع العرفي أصبحت موافقة الكتاب في رواية الراوندي طرفاً للمعارضة بالعموم من وجه مع كلّ من الشهرة والصفات في المرفوعة. هذا تمام الكلام في أصل الأخبار العلاجية.

 

 

 

734

 

 

 

تنبيهات:

 

بقي التنبيه على اُمور(1):

 


(1) من جملة ما ينبغي التنبيه عليه في المقام ما يرجع إلى مسأله الترجيح بمخالفة العامّة، وهو أنّه هل العبرة في ذلك بخصوص رأي العامّة السائد في زمن المعصوم الذي روي عنه النص، والذي كان (عليه السلام) مبتلىً بالتقية عنهم، أو أنّه لا خصوصيّة لذلك، بل تكون موافقة العامّة ومخالفتها إحدى القرائن الحجّة في مقام تشخصيص ما ينبغي أن يؤخذ به من الخبرين المتعارضين حتّى بغض النظر عن مسألة التقية، فحتّى لو ثبت في مورد مّا أنّ الإمام (عليه السلام) لم يكن يتّقي فيه، أو لم يكن بحاجة إلى التقيّة، تكون الموافقة والمخالفة للعامّة من المرجّحات؟

الصحيح هو الثاني. وتوضيح ذلك: أنّه وإن كان لا ينبغي الإشكال في أنّ أحد أسباب نقل الروايات المطابقة للعامّة هو التقيّة، كما يظهر ذلك من كثير من الأخبار من قبيل:

الف ـ ما مضى عن نصر الخثعمي بسند غير تامّ قال: «سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: من عرف أنّا لا نقول إلاّ حقّاً فليكتفِ بما يعلم منّا، فإن سمع منّا خلاف ما يعلم فليعلم أنّ ذلك دفاع منّا عنه».

الوسائل: ب 9 من صفات القاضي، ح 3.

ب ـ ما عن أبي جعفر الأحول بسند تامّ عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «لا يسع الناس حتّى يسألوا ويتفقّهوا، ويعرفوا إمامهم، ويسعهم أن يأخذوا بما يقول، وإن كان تقيّة».

نفس المصدر: ح 13.

ج ـ ما مضى من حديث أبي عمرو الكناني غير التامّ سنداً قال: «قال لي أبو عبدالله(عليه السلام): يا با عمرو أرأيت لو حدّثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثمّ جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلاف ماكنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك بأيّهما كنت تأخذ؟ قلت: بأحدثهما، وأدع الآخر، فقال: قد أصبت يا با عمرو أبى الله إلاّ أنْ يعبد سرّاً. أما والله لئن فعلتم ذلك إنّه لخير لي ولكم، أبى الله عزّوجلّ لنا في دينه إلاّ التقيّة».

نفس المصدر: ح 17.

د ـ ما مضى من حديث المعلّى بن خنيس غير التامّ سنداً وفي آخره: «إنّا والله لا ندخلكم إلاّ فيما يسعكم».

نفس المصدر: ح 8.

هـ ـ ما عن عبيد بن زرارة بسند غير تامّ عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «ما سمعته منّي يشبه قول الناس فيه التقيّة، وما سمعت منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه».

نفس المصدر: ح 46.

و ـ ما مضى من حديث أبي عبيدة بسند غير تامّ عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال لي: يا زياد ما تقول لو أفتينا رجلا ممّن يتولاّنا بشيء من التقيّة؟

735


قال: قلت له: أنت أعلم جعلت فداك، قال: إن أخذ به فهو خير له وأعظم أجراً» قال: وفي رواية اُخرى: «إن أخذ به اُجر، وإن تركه والله أثم».

نفس المصدر: ح 2.فهذه جملة من الأخبار التي دلّت على أنّهم(عليهم السلام) كانوا كثيراً ما يعيشون في نصوصهم ظروف التقيّة.

ولكن أمارية الموافقة والمخالفة للعامّة على الترجيح لا تنحصر بمسألة التقيّة، بل هناك أمارية اُخرى لذلك، وهي أصل كونهم منحرفين ويحاولون التحريف، ومخالفة الحقّ، وتشهد لك ـ أيضاً ـ جملة من الروايات من قبيل:

1 ـ ما في مقبولة عمر بن حنظلة التامّة سنداً: (ما خالف العامّة ففيه الرشاد).

نفس المصدر: ح 23.

2 ـ ما عن عليّ بن أسباط بسند غير تامّ قال: «قلت للرضا (عليه السلام) يحدث الأمر لا أجد بدّاً من معرفته، وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك، قال: فقال: ائتِ فقيه البلد فاستفته من أمرك، فاذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه، فإنّ الحقّ فيه».

نفس المصدر: ح 23.

3 ـ مرفوعة أبي إسحاق الأرجاني قال: «قال أبو عبدالله (عليه السلام): أتدري لم اُمرتم بالأخذ بخلاف ما تقول العامّة؟ فقلت: لا أدري. فقال: إنّ عليّاً (عليه السلام) لم يكن يدين الله بدين إلاّ خالف عليه الأُمّة إلى غيره إرادةً لإبطال أمره، وكانوا يسألون أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الشيء الذي لا يعلمونه، فإذا أفتاهم جعلوا له ضدّاً من عندهم ليلتبسوا على الناس».

نفس المصدر: ح 24.

4 ـ ما عن أبي بصير بسند فيه عليّ بن أبي حمزة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «ما أنتم والله على شيء ممّا هم فيه، ولا هم على شيء ممّا أنتم فيه، فخالفوهم فما هم من الحنيفية».

نفس المصدر: ح 32.

ولم يثبت أنّ روايات الترجيح بمخالفة العامّة كانت ناظرة إلى جانب التقيّة فحسب، بل واحدة منها وهي مقبولة عمر بن حنظلة ظاهرة في النظر إلى نفس أماريّة الموافقة والمخالفة؛ لما فيها من قوله (عليه السلام): (ما خالف العامّة ففيه الرشاد). أمّا سائر روايات الترجيح بها فهي إن لم تكن أقرب إلى هذه النكتة فهي ليست أقرب إلى نكتة التقيّة؛ لأنّها أمرت بالأخذ بما خالف العامّة وترك ما وافقهم، ولعلّ هذا ظاهر في أماريّة نفس المخالفة والموافقة باعتبارها مخالفة للمنحرفين وأهل الباطل، وموافقة لهم، من دون نظر إلى عنصر خارج عن حيطة مفاد هذه النصوص، وهو عنصر أنّ الإمام (عليه السلام) كان يعيش ظرف التقيّة. ولو لم نقبل بهذا الظهور فلا أقلّ من أنّها ليست ظاهرة في الاختصاص بالنظر إلى ظروف التقيّة، فنأخذ بإطلاقها لمثل فرض العلم بعدم التقيّة، ولو فرضنا الإجمال كفتنا المقبولة الظاهرة فيما قلناه.

وقد اتّضح بهذا العرض أنّه لو رأينا خبرين متعارضين أحدهما موافق للعامّة والآخر مخالف لهم، واتّفق صدفة العلم بعدم التقيّة لنكتة في نفس الرواية أو غيرها، أو لكونها مروية عن معصوم لم يكن يعيش ظروف التقية، فرغم ذلك نطبّق عليهما قاعدة الترجيح بمخالفة العامّة.

736

 

 

 

التخيير الفقهي والتخيير الاُصولي

 

الأمر الأوّل: في أنّنا لو بنينا على التخيير ـ ولم نبنِ عليه ـ فهل هو تخيير اُصولي أو تخيير فقهي؟

والفرق بينهما هو أنّ الأوّل تخيير في الحجّيّة التي هي حكم أصولي، والثاني تخيير في الحكم التكليفي العملي. والبحث في ذلك يقع في ثلاث جهات:

الأولى: في ا مكان تصوير التخيير الاُصولي والفقهي في المقام بنحو معقول ثبوتاً وعدمه.

الثانية: في أنّه بعد فرض معقوليتهما معاً ما هو المستظهر من الدليل؟

الثالثة: إذا استظهرنا التخيير الاُصولي، فاختار الفقيه أحدهما، فهل يفتي على طبق ما اختار، أو يفتي بالتخيير؟

أمّا الجهة الاُولى: فتارةً نتكلّم في تصوير التخيير الاُصولي، واُخرى في تصوير التخيير الفقهي.

أمّا التخيير الأصولي، فتصوير التخيير في باب الوجوب كان بأحد شكلين: أحدهما تعلّق الوجوب بالجامع بنحو صرف الوجود. والثاني فرض وجوبين مشروطين.

والكلام في أنّ أيّاً من الشكلين معقول في باب الحجيّة؟ فنقول:

أمّا التخيير في الحجيّة بالشكل الأوّل، بأن تتعلّق الحجيّة بالجامع فغير معقول وإن كان هذا التخيير معقولا في باب الوجوب. وتوضيح الفرق بينهما يكون بذكر أمرين:

الأوّل: إنّ الحكم إذا تعلّق بالجامع بنحو مطلق الوجود سرى إلى الأفراد كإكرم العالم، وإذا تعلّق به بنحو صرف الوجود استحال سريانه إلى الأفراد ببرهان أنّه لو سرى إلى الجميع للزم وجوب الإتيان بالجميع، وكونه بنحو مطلق الوجود، ولو سرى إلى بعض دون بعض كان ترجيحاً بلا مرجّح، ونسبة الجامع إليهما على حدّ سواء، فالحكم يبقى معلّقاً على نفس الجامع.

الثاني: إنّ الغرض المرغوب فيه لو كان لا يحصل بثبوت الحكم على الجامع ويتوقف على سريانه إلى الأفراد لم يعقل تعلّقه بالجامع بنحو صرف الوجود؛ لما عرفت من أنّ الحكم

737

المتعلّق بالجامع نحو صرف الوجود لا يسري إلى الأفراد.

إذا عرفت ذلك قلنا: إن الغرض المرغوب فيه في باب الوجوب التخييري يحصل بتعلّق الوجوب بالجامع على نحو صرف الوجود، فإنّه وإن كان لا يسري إلى الأفراد لكنّه مع ذلك يبعث المكلّف نحو الإتيان بفرد من الأفراد؛ لأنّ الجامع لا يتحقّق إلاّ بذلك.

وأمّا في باب التخيير في الحجّية فالغرض المرغوب فيه لا يتحقّق بتعلّق الحجّية بالجامع بين الخبرين. وتوضيح ذلك: أنّ الخبرين تارةً نفرض أنّهما بين النفي والاثبات، فأحدهما يوجب والآخر ينفي الوجوب. واُخرى نفرض أنّهما معاً يوجبان، فأحدهما مثلا يدلّ على وجوب صلاة الظهر، والآخر على وجوب صلاة الجمعة، ففي الأوّل غاية ما يستفاد من حجّية الجامع بين الخبرين العلم التعبّدي بالجامع، والعلم التعبدي بالجامع ليس بأحسن حالا من العلم الوجداني بالجامع، ومن الواضح أنّ العلم الوجداني بالجامع بين الإلزام وعدم الإلزام لا أثر له، فكيف بالعلم التعبدي. وفي الثاني غاية ما يستفاد من حجّية الجامع العلم التعبّدي بالجامع بين الوجوبين، فغاية ما هناك أن يفيد فائدة العلم الوجداني بذلك وهي لزوم الاحتياط، في حين أنّ الأثر المرغوب فيه للحجّية ليس هو الاحتياط، وإنّما هو أن يأخذ المكلّف بأحد الحكمين، ويكون هو الحكم الثابت عليه، ويعمل به بما هو حكم ثابت عليه، لا أنّه يعمل به من باب الاحتياط(1).

وأمّا التخيير في الحجّية بالشكل الثاني أعني التخييرين المشروطين بنحو لا يلزم من ذلك فعلية كلتا الحجّيتين في بعض الأحيان، فهذا أمر معقول، ويجب أن نفتّش عن ذاك الشرط الذي يجعل الحجّية تخييرية، وفي نفس الوقت لا يوجب الجمع بين كلتا الحجّيتين في بعض الأحيان، وقد جعلوا ذاك الشرط عبارة عن الالتزام بأحد الخبرين، فكل خبر التزم به كان هو الحجّة عليه، ويجب عليه الالتزام بأحدهما كي يخرج عن عهدة الواقع، وبما أنّ العاقل لا يعقل التزامه بكلا الخبرين المتعارضين فلا يتّفق الجمع بين الحجّيتين في حقّه.


(1) كأنّ المقصود: أن حجّية الجامع إمّا أن يقصد بها ثبوت الجامع بالمعنى الذي يسري أثره إلى تمام الأفراد كما يقال بذلك في العلم الإجمالي بالجامع، وهذا لازمه وجوب الاحتياط بالجمع بين الصلاتين مثلاً، وهو خلف المقصود.

وإمّا أن يقصد بها كون الحجّية، بمقدار الجامع فلا يتنجّز إلاّ مقدار الجامع. وهذا لازمه الاتيان بأحدهما، لا بالبناء على وجوبه بخصوصيته؛ لأنّه لم تتمّ الحجّة عليه بخصوصه، و إنّما تمّت الحجّة بمقدار الجامع، وهذا خلف مايريدونه من نتيجة الحجّية الاُصولية، وهي الانتهاء إلى ثبوت الفرد الذي يختاره بخصوصيّته، لا مجرّد الثبوت بمقدار الجامع.

738

وهذا الذي ذكروه أمر معقول ومتين وإن كان فيه شيء من الغرابة باعتبار أنّ الالتزام لم يكن واجباً في الأخبار غير المبتلاة بالمعارض، فكيف بالأخبار المعارضة مع أنّ الالتزام إنّما هو في طول الحجّية، فكيف صارت الحجّية في طول الالتزام، والالتزام قبل الحجّية نوع تشريع.

ويمكن تفادي هذه الاستغرابات، وذلك بتبديل الشرط، وذلك بأن يقال: إنّ المولى جعل أحد الخبرين حجّة وهو الخبر الذي سوف يختار المكلف(1) أن يكون حجّة له، كما يمكن فرض إعطاء الشارع أمر تشريع إحدى الحجّيتين بيد المكلّف، فهو الذي يشرعّ لنفسه أيّاً من الحجّيتين شاء، إلاّ أنّ هذا يستبطن غرابة تجويز التشريع.

وأمّا التخيير الفقهي، فتصويره واضح، وذلك عبارة عن ترخيص المولى للعبد في أيّ عمل لا يكون منافياً لكلا الخبرين دون ما يكون مخالفاً لهما معاً.

وأمّا الجهة الثانية: فيمكن إثبات التخيير الاُصولي الذي هو المحتاج إلى مؤونة زائدة على التخيير الفقهي بأحد تقريبات ثلاثة:

التقريب الأوّل: يختصّ ببعض ألسنة روايات التخيير، وهو اللسان المشتمل على الأخذ من قبيل قوله: (بأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً)(2) وهو أن يقال: إنّ الأخذ يشمل بإطلاقه الأخذ العملي والأخذ المفادي، أي الأخذ بمفاد الخبر، والالتزام به، واختياره للحجّية، وما شابه ذلك من التعبيرات. والتوسعة في الأخذ المفادي مساوق للحجّية الاُصولية.

وهذا التقريب لا يأتي في لسان آخر من قبيل قوله: (موسّع عليك حتّى ترى القائم) ولا يقال: إنّ السعة بإطلاقها تشمل السعة في العمل والسعة في الأخذ بالمفاد، فإنّ السعة بحسب المفهوم العرفي تكون في مقابل الضيق، ولا ضيق عرفاً في عدم التخيير الاُصولي، وعدم صحّة الالتزام بمفاد معيّن، وإنّما الضيق يكون في الاحتياط العملي، فالسعة معناها رفع الضيق العملي وهو التخيير الفقهي.


(1) لا يخفى أن هذا وإن كان يرفع مشكلة التشريع؛ لأنّ اختيار المكلّف يكشف بنحو الشرط المتأخّر عن ثبوت الحجيّة سابقاً، ولكن الحجّية أصبحت على أيّ حال في طول الالتزام، وأصبح الالتزام الواجب أمراً ثابتاً في الرتبة السابقة على الحجّيّة، في حين أنّه لم يكن الالتزام في موارد خبر الثقة الخالي عن المعارض واجباً، وكان الالتزام هناك في طول الحجّية كما هو المترقّب عادةً لا العكس. وهذان أمران غريبان، لا يمكن تصوير رفعهما.

(2) وهذا هو الحديث الذي أتممناه سنداً ودلالة على التخيير.

739

التقريب الثاني: يشمل كلّ ألسنة أدلّة التخيير، وهو أنّ أدلّة التخيير ناظرة إلى رفع النقص الموجود في أدلّة حجيّة خبر الثقة، وكمتممّ جعل بالنسبة لتلك الأدلّة التي نقصها أنّها لا تشمل الخبرين المتعارضين.

اذن فالمستفاد منها عرفاً هو الحجّية التخييرية، لا مجرّد التخيير في العمل(1).

التقريب الثالث: أنّ أخبار التخيير حتّى إذا لم تدلّ على التخيير الاُصولي يمكن ضمّها إلى دليل حجّية خبر الثقة إذا كان لفظياً له إطلاق، فنثّبت بمجموعهما التخيير الاُصولي. وتوضيح ذلك: أنّ دليل حجّية خبر الثقة إنّما كان لا يشمل المتعارضين، لأنّ شموله لهما معاً غير ممكن، وشموله لأحدهما بالخصوص ترجيح بلا مرجّح. وأمّا التمسّك بإطلاقه لإثبات حجّية مشروطة بالالتزام في كلّ واحد من الطرفين فعيبه أنّه معارض لدلالة إطلاقه على الحجّيّة المطلقة في الطرف الآخر، ولكن أخبار التخيير قد أسقطت هذا الإطلاق؛ لأنّ التخيير سواء كان اُصولياً أو فقهياً لا يجتمع مع الحجّيّة المطلقة لأحد الطرفين، فنتمسّك بإطلاق دليل حجّيّة خبر الثقة لإثبات حجّيّتين مشروطتين.

فإن قلت: إنّ دليل حجّيّة خبر الثقة مبتلى بالإجمال؛ للتعارض الداخلي بين الحجّيّة المشروطة لطرف والحجّيّة المطلقة للطرف الآخر، وأدلّة التخيير قرينة منفصلة، والقرينة المنفصلة لا ترفع الإجمال.

قلت: إنّ دليل حجّيّة خبر الثقة له ظهور في قضية شرطية، وهي الحجّيّة المشروطة في كلّ طرف على تقدير عدم الحجّيّة المطلقة في الطرف الآخر، والشرط قد ثبت بأخبار التخيير(2).

 


(1) فهذه الحجّية تصحّح الالتزام والاسناد إلى الله كما هو الحال في حجّية الخبر غير المبتلى بالمعارض بناءً على قيامها مقام القطع الموضوعي.

(2) لا يخفى أن التخيير الاُصولي لا يجد مضمونه لو لم تترتّب عليه ثمرة زائداً على أصل التخيير العملي الذي هو التخيير الفقهي، وتلك الثمرة عبارة عن جواز إسناد ما يختاره إلى الله، وهذه الثمرة تتوقّف على الإيمان بقيام الحجّة التعبّديّة مقام القطع الموضوعيّ المحض، ونحن لا نؤمن بذلك؛ لأنّ الوجه في قيامها مقام القطع الموضوعي المحض أحد أمرين: إمّا الإيمان بالعلم الاعتباريّ الذي يقول به المحقق النائيني(رحمه الله)، وهذا مالم نؤمن به، وإمّا الاستظهار من مثل: (ليس لأحد التشكيك فيما يروي عنّاثقاتنا) بناءً على أنّ هذا يعني ترتيب تمام آثار القطع وعدم الشكّ. إلاّ أن هذا ـ أيضاً ـ منصرف إلى آثار المرويّ، فلا يدلّ على أكثر من ترتيب آثار القطع الطريقي، وآثار القطع الموضوعيّ الطريقي دون الموضوعيّ المحض.

740

وأمّا الجهة الثالثة: فلو قلنا بالتخيير الفقهي فلا إشكال في أنّ الفقيه إنّما يفتي بالتخيير، فإنّ الحكم التكليفي العملي إنّما هو التخيير، فيفتي به.

أمّا لو قلنا بالتخيير الأصولي فاختار الفقيه أحد الخبرين، فهل يفتي هو بالتخيير الاُصولي أو يفتي بمفاد الخبر الذي اختاره؟

التحقيق: أنّ إفتاءه بالتخيير الاُصولي لا عيب فيه، عدا ما يقال من أنّ الأحكام الاُصولية مختصّة بالفقية، ولا تثبت للعامي؛ لأنّها تحتاج إلى خبرة وبصيرة غير موجودتين في العامي، ولكنّنا قد أبطلنا هذه الشبهة في أوّل المباحث العقلية، إذن فيجوز الإفتاء بالتخيير الاُصولي.

وأمّا إفتاؤه بمفاد الخبر الذي اختاره فبما هو إخبار بحكم الله لا إشكال في جوازه، حيث إنّ الخبر الذي اختاره صار حجّة له، فقد ثبت بالحجّة ذلك الحكم، فيخبر به(1)، ولكنّ صحة افتائه بمعنى كونه حجّة على المقلّد محل إشكال عندي؛ وذلك لأنّ التقليد ليس أمراً تعبّدياً صرفاً، وإنّما هو بملاك رجوع الجاهل إلى العالم، ورجوع غير أهل الخبرة إلى أهل الخبرة، وافتاؤه بمفاد هذا الخبر ليس على أساس علم وخبرة، وإنّما على أساس اشتهاء شخصي، فلا معنىً للرجوع إليه، فيكون حال العامي حال الفقيه في أنّه يختار أيّ الخبرين شاء، فقد يختار غير ما اختاره الفقيه.

 

 

 

 


على أنّ ما مضى من غرابة وجوب الالتزام وغرابة كون الحجّيّة في طول الالتزام دون العكس لعلّه يكفي في صرف ظهور دليل التخيير إلى التخيير الفقهي الذي لا غرابة فيه.

ثمّ إنّ التخيير الفقهي يكون من ثمراته وضوح إجزاء الخبر الأوّل في الأعمال السابقة ولو عدل منه إلى الخبر الثاني بناءً على استمرارية التخيير؛ وذلك لأنّه معنى التخيير الفقهي، لأنّ المنجّز عليه إنّما هو قدر الجامع بين الخبرين، وقد أتى بالجامع ضمن العمل بالخبر الأوّل، فلا معنىً لعدم الإجزاء، في حين أنّه قد يقال في التخيير الاُصولي: إنّه لو عدل إلى الخبر الثاني فقد أصبح الخبر الثاني حجّة له بكلّ خصوصيّاته، ومن خصوصيّاته أنّه يرى مضمون الخبر الأوّل باطلا، ومعه لا يثبت الإجزاء إلاّ بدليل خاصّ.

(1) بناءً على قيام ذلك مقام العلم الموضوعيّ البحت.

741

 

 

 

هل يستفاد التخيير الابتدائي أو الاستمراري؟

 

الأمر الثاني: في أنّ التخيير ابتدائي أو استمراري؟

تارةً يقع الكلام في أنّه هل يمكن استفادة استمرارية التخيير من الدليل الاجتهادي، أو لا؟ واُخرى في أنّه هل يمكن استفادة ذلك على أساس الاُصول العملية، أو لا؟ فهنا مقامان من الكلام:

 

المقام الأول: في إمكان استفادة استمرارية التخيير من الدليل الاجتهادي وعدمه

وما ينبغي أن يقال في تشخيص الضابط في ذلك هو: إنّ الأخذ إن كان مورداً للحكم بنحو الإطلاق الشمولي، كما لو كان موضوعاً في الحكم بنحو القضية الخبرية، كما لو قال: المأخوذ من الخبرين المتعارضين حجّة، فهذا تستفاد منه استمرارية التخيير، ففي هذا اليوم يكون هذا الخبر هو المأخوذ، فيكون حجّة، وفي اليوم الثاني يكون ذاك الخبر هو المأخوذ فيكون حجّة، وهكذا، عيناً من قبيل ما لو قال المولى؛ من رأيته من العلماء وجب إكرامه، ففي هذا اليوم رأى زيداً فوجب إكرامه، وفي اليوم الثاني رأى عمراً فوجب إكرامه.

وأمّا إن كان مورداً للحكم بنحو الإطلاق البدلي، كما لو أنشأ الأمر به بأن قال: خذ بأحد المتعارضين، فعندئذ إن كان لسانه بنحو يستفاد منه الانحلالية بلحاظ الوقائع الطولية زماناً، فأيضاً تستفاد منه استمرارية التخيير. وأمّا إن كان بنحو كأنّما لو حظت الوقائع فيه واقعة واحدة، وقد أمرنا فيها بأخذ أحد الخبرين، فهذا المطلق البدلي قد امتثل بالأخذ الأوّل،ولا يبقى للدليل الاجتهادي دليل على استمرارية التخيير.

 

المقام الثاني: في إمكان استفادة استمرارية التخيير بالأصل العملي

وهذا الأصل عبارة عن استصحاب التخيير، وقد اُورد عليه بأنّ الموضوع قد تبدّل؛ لأن الموضوع كان هو الإنسان المتحيّر، وقد زال التحيّر بعد الأخذ بأحد الخبرين.

واُجيب عن ذلك بأنّ الموضوع ليس هو المتحيّر، ولم يؤخذ التحيّر في أدلّة التخيير، وإنّما