562

كونه كذلك، كما لو احتملنا حجّيّة الشهرة مثلاً يمنعنا ذلك عندئذ عن التمسّك راساً بحديث الرفع لنفي التكليف الذي دلّ عليه ذاك الدليل المشكوك، وهو الشهرة مثلاً، فالعلاج في مثل ذلك هو أحد أمرين:

الأوّل: إجراء استصحاب عدم جعل حجّيّة ذلك الدليل المشكوك حجّيّته.

والثاني: إجراء البراءة عن هذه الحجّيّة على ما تقدّم في محلّه من معقولية البراءة عن الأحكام الظاهرية، كالبراءة عن الأحكام الواقعية.

 

المقام الثاني: في التعارض العرضي بلحاظ مرحلة الجعل

إن الأصلين الجاريين في أطراف العلم الإجمالي لو لزمت من جريانهما مخالفة عمليّة قطعيّة فقد مضى في بحث العلم الإجمالي أنّهما يتساقطان بالتعارض، ولا يجريان، ولا يجري أحدهما على سبيل التخيير. ولو لم تلزم من جريانهما مخالفة عملية قطعية فمجرّد كونهما أصلين على خلاف العلم الإجمالي لا يوجب التساقط.

هذا كلّه مضى تحقيقه في بحث العلم الإجمالي، ولا نعيده هنا، وإنّما الذي نتكلّم عنه هنا هو: أنّه لو كان الأصلان تنزيليين من قبيل الاستصحابين مثلاً فهل كونهما تنزيليين يوجب سقوطهما في أطراف العلم الإجمالي ولو لم تلزم من مجموعهما مخالفة عملية قطعية، كما في مستصحبي النجاسة مع العلم بطهارة أحدهما، أو لا؟

قد ذكر الشيخ الأعظم(قدس سره)(1) في الاستصحاب: أنّ الاستصحابين يتساقطان لمحذور إثباتي، وهو: أنّ صدر الحديث يدلّ على السالبة الكلّيّة، حيث يقول: لا تنقض اليقين بالشكّ، ولكنّ ذيله يدلّ على موجبه جزئية، حيث يقول: أنقضه بيقين آخر، وهنا عندنا يقين آخر يوجب نقض أحد اليقينين السابقين بنحو الموجبة الجزئية، والموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية، إذن فلا يثبت جريان الاستصحاب لتعارض الصدر والذيل.

وقد أورد عليه المتأخّرون عنه تارةً بأنّنا لو سلّمنا تعارض الصدر والذيل، فلماذا لا نرجع إلى الروايات الاُخرى غير المذيّلة بهذا الذيل بعد إجمال هذا النصّ، فإنّ ما لا يكون مذيّلاً بهذا الذيل لا إجمال فيه فيؤخذ به، واُخرى بأنّنا لا نسلّم هنا التعارض والإجمال، فإن ظاهره كون اليقين الثاني متعلّقاً بنفس ما تعلّق به اليقين الأوّل لا بالجامع بينه وبين غيره.


(1) راجع الرسائل: ص 429 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات رحمة الله.

563

والمحقّق النائيني(رحمه الله) عدل عمّا يقوله الشيخ الأعظم(قدس سره) من المحذور الإثباتي إلى دعوى محذور ثبوتي في الاُصول التنزيلية التي مفادها ـ حسب ما يراه ـ جعل العلم والطريقية، وهو استحالة اجتماع أصلين منها على خلاف العلم الإجمالي(1).

وفي مقام الاستدلال على هذا المدّعى لا يستفاد من كلام التقريرين لبحثه(قدس سره)شيء زائد على تكرار المدّعى بعبائر مختلفة، إلاّ أنّه يمكن تقريب هذا الكلام بأحد بيانين:

الأوّل: أن يقال بناءً على ما بنى عليه المحقّق النائيني (رحمه الله) في تصوير جعل الطريقية من أنّ ما ليس طريقاً وكاشفاً ظنّياً يستحيل جعله طريقاً، وإنّما يعقل جعل الطريقية بمعنى أنّ ما له كشف تكويني ناقص يتمّم كشفه تعبداً: إنّ جعل الطريقية لكلا الاستصحابين في المقام غير معقول ؛ إذ يستحيل ثبوت الكشف الذاتي لهما معاً بأن يفيد كلاهما الظنّ مع أنّا نعلم إجمالاً بخلاف أحدهما.

ويرد عليه (بغضّ النظر عن النقض عليه بما لو كانت الأطراف ثلاثة أو أكثر، فعندئذ يعقل حصول الظنّ في كلّ واحد منها بعدم الانتقاض بالرغم من العلم بالانتقاض في أحدها): أنّ العبرة لو كانت بالظنّ الفعلي إذن للزم عدم حجّيّة الاستصحاب، ولا خبر الثقة عند عدم الظنّ الفعلي. وهذا ما لا يلتزم به المحقّق النائيني(قدس سره)، وإن كانت العبرة بقابليّة ما جعل طريقاً لإفادة الظنّ لو خلّي ونفسه ولو منع مانع عن فعليّة ذلك، فالأمر في المقام كذلك؛ فإنّ كلاًّ من الاستصحابين لو خلي وحده كان بالإمكان حصول الظنّ فيه على طبق الحالة السابقة.

الثاني: أنّ يقال: إنّ ما كانت حجّيّته بلحاظ حكايته عن الواقع يشترط فيه احتمال المطابقة للواقع، بمعنى احتمال المطابقة لكلتا الحكايتين ـ اذا كانت الحكاية متعدّدة ـ في عرض واحد إذا كانت حجّيّتهما في عرض واحد، لا بنحو البدلية. وفي المقام المفروض حجّيّة كلا الاستصحابين في عرض واحد، لا بنحو البدليّة، مع أنّ احتمال المطابقة في كلتا الحكايتين عرضاً غير موجود.

ويرد عليه ـ بعد إنكار كون الاستصحاب حاكياً عن الواقع ـ: أنّنا لا نقبل شرطاً زائداً في ما تكون حجّيّته على أساس الحكاية إضافة إلى أصل الشرط الموجود في كلّ الأحكام


(1) راجع فوائد الاصول: ج 4، ص 14 و 693 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات: ج 2، ص 499.

564

الظاهرية من الشكّ في الواقع، واحتمال انحفاظ الواقع به. وأمّا احتمال المطابقة لكلتا الحكايتين عرضياً، بمعنى مطابقة المجموع (لكون حجّيّتهما عرضية) فلا نقبل اشتراطه، واحتمال المطابقة في كلّ منهما في نفسه موجود.

نعم، بالإمكان أن يقال بتعارض الاستصحابين وتساقطهما بناءً على قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي من ناحية أنّ كلاًّ من الاستصحابين يثبت لنا جواز إسناد المستصحب إلى المولى، مع العلم بكون أحدهما كذباً وتشريعاً، فمن هذه الناحية نقع في المخالفة العملية القطعية.

إلاّ أنّ هذا ـ مضافاً إلى عدم تسليم مبناه من قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي ـ لو تمّ فإنّما يقتضي سقوط الاستصحابين بلحاظ هذا الأثر فحسب، لا بلحاظ آثار العلم الطريقي(1).

 


(1) قد تقول في ما إذا كان الأصل في أحد طرفي العلم الإجمالي بالخلاف إلزامياً والآخر ترخيصياً، كما لو كان أحد الإنائين مستصحب النجاسة، والآخر مستصحب الطهارة: إنّ جواز الحكاية أو الإسناد المترتّب على قيام الاستصحاب مقام العلم الموضوعي في جانب الأصل الإلزامي مع الترخيص المترتّب على قيامه مقام العلم الطريقي في جانب الأصل الترخيصي يتعارضان ويتساقطان.

إلاّ أنّه لو فرض دليل قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي دليلاً منفصلاً عن دليل قيامه مقام القطع الطريقي، فدليل قيامه مقام القطع الموضوعي هو الذي يسقط بالتعارض الداخلي بلحاظ لزوم جواز الحكاية أو الإسناد في كلا الطرفين، ويبقى دليل قيامه مقام القطع الطريقي ـ بعد سقوط ذاك بالإجمال ـ بلا معارض.

ولو فرض الدليل على قيام الاستصحاب مقام القطع الطريقي وقيامه مقام القطع الموضوعي واحداً، وهو نفس دليل الاستصحاب كصحيحة زرارة مثلاً، ولكنّ دلالته على قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي كان بدلالة التزامية عرفية على ما قد يقال من أنّ دليل الاستصحاب يجعل الموّدّى او المشكوك منزلة الواقع، ولازمه العرفي كون العلم بالمؤدّى بمنزلة العلم بالواقع، فعندئذ قد يقال في المقام: إنّ الدلالة الالتزامية العرفية لا تصلح لمعارضة الدلالة المطابقية، فإنّها بمجرّد أن تعارضها يَسقط مفادها عن كونه لازماً عرفيّاً.

إلاّ أنّه بالإمكان الإيراد على هذا الجواب بأنّ دلالة رواية الاستصحاب انحلالية بعدد الموارد، والدلالة الالتزامية لكلّ من الطرفين إنّما عارضت الدلالة المطابقية للطرف الآخر، لا المطابقية التي كانت تلازمها حتّى يقال: إنّ فرض المعارضة يُنهي الملازمة العرفية لا محالة، فتسقط الدالة الالتزامية، لا المطابقية.

اللهم إلاّ أن يقال: إنّ الأمر وإن كان بالتدقيق العقلي كذلك ؛ لمكان الانحلال، ولكنّه بالنظر العرفي يُرى سقوط الدلالة الالتزامية العرفية في المقام على أثر تنافيها مع الدلالة المطابقية الرافع للالتزام، وبقاء الدلالة المطابقية على حالها.

والذي يحسم مادّة الإشكال بعد فرض تسليم أنّ نفس دليل الاستصحاب يدلّ على قيامه مقام القطع الموضوعي هو أنّ دلالة دليل الاستصحاب على ترتيب آثار المتعلّق أقوى من دلالته على ترتيب آثار اليقين

565

نعم، لو انحصر في مورد مّا أثر الاستصحاب في مسألة الاخبار والاسناد، كما لو قيل في الاستصحابات التي يجريها الفقيه فيما هو خارج عن ابتلائه شخصياً: إنّ أثره إنّما هو جواز الإفتاء بالمستصحب، تساقط الاستصحابان.

 

المقام الثالث: في الأصلين المتنافيين بلحاظ عالم الإمتثال

كما في استصحاب وجوب الصلاة واستصحاب وجوب الإزالة مع عدم القدرة على الجمع بينهما. فقد يقال: إنّ هذا التنافي يسري إلى عالم الجعل باعتبار أنّ جعلهما معاً يستلزم التكليف بالمحال.

وذكرت مدرسة المحقّق النائيني (رحمه الله): أنّ هذا خلط بين باب التعارض والتزاحم، وأنّ الجواب الذي يجاب به عن الإشكال في نفس الحكمين الواقعيين المتزاحمين يأتي ـ أيضاً ـ في فرض استصحابهما.

أقول: إنّ روح الجواب الذي أجاب به المحقّق النائيني (رحمه الله) عن الإشكال في نفس الحكمين الواقعيين المتزاحمين هو أنّ كلاًّ من الجعلين موضوعه إنّما هو الإنسان القادر بالقدرة بكلا جناحيها: العقلي والشرعي، فالقدرة العقلية عبارة عن التمكّن خارجاً، والقدرة الشرعية عبارة عن عدم الانشغال بالمزاحم المساوي أو الأهمّ. إذن فلا يلزم من الجعلين التكليف بالمحال ؛ إذ مع الانشغال بأحدهما المساوي أو الأهمّ لا يكون الآخر في حقّه فعلياً لعدم فعليّة موضوعه ؛ لانتفاء القدرة الشرعية الدخيلة في الموضوع. نعم، لدى عصيانه لكليهما أو انشغاله بالمرجوح وعصيانه للراجح بأحد المرجّحات التي يراها المحقّق النائيني(رحمه الله) من الأهمية أو عدم البدل له، مع كون الآخر ذا بدل أو غير ذلك يصبح التكليفان فعليين عليه، ويسقط ما تركه بالعصيان.

وهذا الكلام ـ كما ترى ـ إنّما يدفع التنافي بين الجعلين، وهو في الحقيقة اعتراف بالتنافي بين المجعولين ـ وإن عبّر بالتنافي في مقام الامتثال ـ وإنّما صحّ للمولى الجمع بين هذين الجعلين؛ لأنّه مطمئنّ بعدم إمكان فعلية المجعولين معاً عندما لا يعصي العبد.

 


الموضوعي، فلدى التعارض الداخلي تنتفي الثانية دون الاُولى. والوجه في الأقوائية: أنّ دليل الاستصحاب كصحيحة زرارة وارد في مورد آثار المتعلّق، أو قل: آثار القطع الطريقي، وناظر إليها بالخصوص وإن فرض شمول إطلاقه لآثار القطع الموضوعي، فبطبيعة الحال تصبح دلالته بلحاظها أقوى منها بلحاظ آثار القطع الموضوعي.

566

هذا، والاستصحاب عند المحقّق النائيني(رحمه الله) إنّما يجري في المجعول لا في الجعل، فهو ينكر استصحاب القضية التعليقية التي هي لون من الوان الجعل، ومعه نقول: إنّه عند الشكّ في بقاء الحكمين واستصحابهما إذا اشتغل بالمساوي والراجح دون المرجوح حصل له القطع بعدم فعليّة المجعول الآخر إمّا لانقطاع أمد الحكم وإمّا لانشغاله بالمعجّز الشرعي المساوي أو الأهمّ (إذ الرافع للقدرة الشرعية لا يشترط فيه العلم بكونه مطلوباً للشارع واقعاً، بل يكفي الانشغال بما تنجّز على العبد) وعليه فلا يجري الاستصحاب في ذلك المجعول.

وحلّ الإشكال يكون بالرجوع إلى استصحاب القضية التعليقية، وهي وجوب هذا العمل عليه سابقاً لو كان قادراً. وهذا ما لا ينسجم مع مسلك المحقّق النائيني «رحمة الله تعالى عليه»(1).

والحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

 


(1) إلاّ أن يكتفي المحقّق النائيني (رحمه الله) في مقام دعوى جريان الاستصحاب في المقام بالقول بأنّه على تقدير قدرته على ما تركه من المساوي أو المرجوح يكون استصحاب الحكم الفعلي جارياً، فالتعليق يكون في الاستصحاب لا المستصحب. وهذا كاف في إثبات الحكم الظاهري لدى التزاحم بين الحكمين بمقدار ما كان يثبت الحكم الواقعي لدى التزاحم بينهما.

567

 

 

 

 

 

 

 

مبحث

التعادل والتراجيح

 

 

 

 

 

 

ويقع الكلام في جهات:

الجهة الاولى: تعريف التعارض.

الجهة الثانية: مقتضى القاعدة في الخبرين المتعارضين.

الجهة الثالثة: مفاد الأخبار العلاجيّة.

 

 

 

 

 

569

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تعريف التعارض

 

الجهة الاُولى: أنّه فسّر التعارض ـ كما جاء في كلام الشيخ الأعظم(قدس سره) ـ بأنّه تنافي مدلولي الدليلين(1)، وعدل المحقّق الخراساني(رحمه الله) عن هذا التعريف إلى التعريف بأنّه تنافي الدليلين في دلالتهما(2)، وكأنّ المقصود بهذا العدول أنّ المدلولين متنافيان حتّى إذا وجد بينهما جمع عرفي، في حين أنّهما عندئذ لا يدخلان في التعارض.

وانتصرت مدرسة المحقّق النائيني(رحمه الله) للتعريف الأوّل بأنّ تنافي المدلولين ـ أيضاً ـ إنّما يكون فيما إذا لم يوجد بينهما جمع عرفي.

فهذا السيّد الاُستاذ ذهب إلى أنّ الدليلين الذين يجتمعان معاً لكون نسبة أحدهما إلى الآخر نسبة التخصّص، أو الورود، أو الحكومة، أو التخصيص لا يوجد أيّ تناف بين مدلوليهما(3).

أمّا التخصّص فواضح، فلو دلّ مثلاً دليل على رفع ما لا يعلمون، ودّل دليل آخر قطعي على حرمة شيء، فأيّ تناف بينهما؟!

وكذلك الحال في الورود؛ إذ إنّ أحد الدليلين يرفع موضوع الدليل الآخر تكويناً بواسطة


(1) راجع الرسائل ص431 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة الله.

(2)راجع الكفاية ج2 ص376 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكيني(رحمه الله).

(3) راجع مصباح الاُصول ج3 ص347.

570

التعبّد، فإذا كان موضوع دليل البراءة العقلية مثلاً هو عدم البيان ولو بالحجّة التعبّدية، فأيّ تناف بينه وبين دليل يثبت حرمة شيء بالتعبّد؟!

وكذلك الحال في الحكومة، كما في (لا ربا بين الوالد وولده) مثلاً مع دليل حرمة الربا، فإنّ دليل المحكوم يبيّن قضية شرطية، ودليل الحاكم ينفي تعبّداً الشرط، وأيّ تناف بين القضيّة الشرطية ونفي الشرط؟!

بل الحال كذلك في باب التخصيص بالرغم ممّا يتراءى من التنافي بين المدلولين فيه؛ وذلك لأنّ الدليل الخاصّ حاكم على دليل حجّيّة العامّ، فما هو المدلول الذي ينافي مدلول الخاصّ؟ إن كان هو مدلول دليل حجّيّة العامّ فهو محكوم له، وقد عرفنا عدم التنافي بين المدلولين في باب الحكومة، وإن كان هو مدلول العامّ فهو قد سقط مسبقاً بحكومة الخاصّ على دليل حجّيّته، فكيف يعارض الخاصّ حينئذ؟! وهذا يكون من باب تعارض الحجّة مع اللاحجّة؛ ولذا يعامل مع الخاصّ والعامّ معاملة الحاكم والمحكوم، فيقدّم الخاصّ ولو كان أضعف ظهوراً، كما يقدّم الحاكم ولو كان أضعف ظهوراً؛ لأنّه لا منافاة بين مدلولي الحاكم والمحكوم، فيؤخذ بكليهما، فيحكم الحاكم ـ لا محالة ـ على المحكوم ولو كان أضعف ظهوراً.

أقول: إنّ لنا هنا ثلاث كلمات:

الكلمة الاُولى: في منهج البحث.

والكلمة الثانية: مع المحقّق الخراساني(رحمه الله).

والكلمة الثالثة: مع مدرسة المحقّق النائيني(رحمه الله).

أمّا الكلمة الاُولى، وهي في منهج البحث. فنقول: إنّ مبحث التعادل والتراجيح فيه مسألتان أساسيّتان:

احداهما: هو حال الدليلين المتعارضين بالقياس إلى دليل الحجّيّة العامّ، فهل يسقطان معاً، أو يرجّح أحدهما، أو يخيّر بينهما مثلاً؟

والثانية: في أنّه هل يوجد دليل خاصّ على الحجّيّة في خصوص دائرة المتعارضين (وهو المسمّى بالأخبار العلاجية)، وما هو مفاده؟

فإن كان المقصود بتعريف التعارض تعريف موضوع البحث الأوّل، فطبعاً موضوعه هو كلّ دليلين وقع التنافي بين اقتضائي دليل الحجّيّة العامّ لشمولهما، سواء فرض تناف بين مدلوليهما أو دلالتهما، أو لا، كما في أمارتين مرخّصتين غير مثبتتين للوازمهما حصل العلم الإجمالي بالإلزام في مورد أحداهما، ومتى ما لم يفرض التنافي بين اقتضائي دليل الحجّيّة العامّ

571

لشمولهما خرجا عن موضوع هذه المسألة، سواء فرض التنافي بين الدليلين أو الدلالتين، أم لا.

وإن كان المقصود تعريف موضوع البحث الثاني، فلا ينبغي أن يؤخذ موضوعه من فهم معنى التعارض لغةً أو اصطلاحاً مثلاً، بل ينبغي أن يؤخذ موضوعه من الأخبار العلاجية نفسها التي لم يؤخذ في شيء منها عدا النادر عنوان التعارض أصلاً.

وإن كان المقصود ذكر عنوان يعمّ موارد الجمع العرفي وغيرها حتّى يقسّم بعد ذلك إلى قسمين، ويقال: أمّا ما وجد فيه جمع عرفي فلا يرجع فيه إلى التساقط، أو التخيير، أو الترجيح مثلاً، وأمّا ما لم يوجد فيه جمع عرفي فحكمه كذا وكذا. إذن فلا بدّ من أخذ عنوان لا يخرج منه موارد الجمع العرفي.

وأمّا الكلمة الثانية، وهي مع من يعدل عن التعريف بالتنافي بين المدلولين إلى التعريف بالتنافي بين الدليلين بلحاظ الدلالة، بدعوى أنّ التنافي بين المدلولين يثبت حتّى مع الجمع العرفي(1)، فهي: أنّ موارد الجمع العرفي كما يوجد فيها التنافي بين المدلولين كذلك يوجد فيها التنافي بين الدلالتين، فدلالة العامّ مع دلالة الخاصّ متنافيتان لا محالة، فإنّ المخصّص المنفصل لا يرفع الظهور، هذا إذا قصد بالتنافي بحسب الدلالة، التنافي بحسب الظهور، وكذلك الحال إذا قصد به التنافي بحسب الحجّيّة، فإنّ حجّيّة ظهور العامّ مع حجّيّة ظهور الخاصّ متنافيتان لا محالة. نعم، لو قصد بذلك ما ذكرناه من التنافي بين اقتضائي دليل الحجّيّة لشمولهما، فمن الواضح عدم التنافي عند الجمع العرفي؛ لأنّ اقتضاء دليل الحجّيّة لشمول العامّ معلّق على عدم الخاصّ، ولكن هذا ليس مقصوداً للمحقّق الخراساني (رحمه الله)، بقرينة أنّه (رحمه الله) يقول بأنّ التعارض هو التنافي بين الدلالتين (بنحو التناقض أو التضادّ)، ومن الواضح أنّ التنافي بين اقتضائي دليل الحجّيّة دائماً يكون بنحو التضادّ.

وأمّا الكلمة الثالثة، وهي مع مدرسة المحقّق النائيني (رحمه الله)، فنحن نقتصر هنا على جانب واحد من جوانب المناقشة، وهي المناقشة بلحاظ باب التخصيص تاركين باقي الجوانب إلى حين بيان مسائل الورود والحكومة.

فنقول: إنّه وإن جاء في لسان الشيخ الأعظم (رحمه الله) التعبير بأنّ دليل الخاصّ حاكم على دليل حجّيّة العموم، لكنّ الظاهر أنّ هذا كان مجرّد ترف علمي، وتحليل فلسفي، ولم يكن المقصود به ما تفرضه مدرسة المحقّق النائيني من الالتزام بنكات التقديم بالحكومة؛ وذلك


(1)الظاهر أنّ الورود خارج عن المقصود.

572

لأنّ تقدّم الخاصّ على العامّ بحاجة إلى نكتة قبل فرض حكومته على دليل حجّيّة العموم، ولولا تلك النكتة كانت حكومته على دليل حجّيّة العموم بلا مبرّر، ولم تكن أولى من العكس، فلو ورد مثلاً: (لا يجب إكرام الفقير) وورد: (أكرم الفقير العادل) فكما يمكن أن يقال مثلاً: إنّ حجّيّة العموم موضوعها الشكّ، والخاصّ يرفع الشكّ، فيحكم عليها، كذلك يمكن أن يقال مثلاً: إنّ حجّيّة ظهور الخاصّ في الوجوب موضوعها الشكّ، والعامّ يرفع الشكّ، فيحكم عليها، فيجب أن يفترض في المرتبة السابقة على ذلك نكتة في تقديم الخاصّ على ما ينافيه مدلوله وهو العامّ، حتّى يأتي بعد ذلك الاُصوليون ويقولوا: إنّ حجّيّة العامّ أصبحت مشروطة بعدم الخاصّ، فالخاصّ حاكم أو وارد عليها، فحكومة الخاصّ أو وروده على دليل حجّيّة العامّ مسبوقة بنكتة تقديم الخاصّ على نفس العامّ.

 

 

 

573

 

 

 

مقتضى القاعدة في الخبرين المتعارضين

 

الجهة الثانية: في ما هو مقتضى القاعدة لو بقينا نحن والدليلين المتعارضين مع دليل الحجّيّة العامّ. ونقدم لذلك مقدمات:

 

مقدمات في التعارض غير المستقر

 

الورود بالمعنى الأعمّ:

المقدّمة الاُولى: يشترط في وقوع التنافي بين اقتضائي دليل الحجّيّة العامّ للشمول لكلّ من الفردين أن لا يكون أحدهما رافعاً تكويناً لموضوع الاخر. وهذا تحته عنوانان:

أحدهما: التخصّص، وهو أن يرفع أحدهما موضوع الآخر تكويناً من دون توسيط التعبّد.

والثاني: الورود، وهو أن يرفع أحدهما موضوع الآخر حقيقةً وتكويناً، لكن بتوسيط التعبّد.

والتخصّص تارةً يكون بنظر إخباري، كما لو قال: (أكرم كلّ عالم) ثم أخبر عن عدم كون زيد عالماً. واُخرى يكون بتوليد التخصّص تكويناً، كما لو قال: (رفع ما لا يعلمون) ثمّ أوجد العلم بالحرمة بواسطة دليل قطعي، وبما أنّه لا فرق في الثمرة والنتائج بين التخصّص بكلا قسميه والورود نسمّي المجموع بالورود بالمعنى الأعمّ، ونتكلم في هذا العنوان العام فنقول:

إنّ الورود بالمعنى الأعمّ الشامل للتخصّص ينقسم إلى خمسة أقسام، فإنّ أحد الحكمين قد يكون بمجرّد جعله رافعاً لموضوع الآخر، واُخرى يكون بفعليّته رافعاً لموضوع الآخر، وثالثة يكون بوصوله رافعاً له، ورابعة يكون بتنجّزه رافعاً له، وخامسة يكون بامتثاله رافعاً له.

أمّا الخامس، فمن قبيل المتزاحمين بناءً على إمكان الترتّب، فبامتثال الأهمّ أو المساوي يرتفع موضوع الآخر، ومن قبيل دليل وجوب صوم شهر رمضان، ودليل الكفارة على

574

المفطر، فبامتثال الأوّل يرتفع موضوع الثاني وإن كان هذا المثال خارجاً عن باب التعارض.

وأمّا الرابع، فمن قبيل المتزاحمين بناءً على استحالة الترتّب، فليس موضوع المهمّ يرتفع بامتثال الأهمّ، وارتفاعه بامتثال الأهمّ لا يحل مشكلة المنافاة عند القائلين باستحالة الترتّب، بل يرتفع موضوع المهمّ بمجرّد تنجّز الأهمّ، وإنّما لم نقل بارتفاعه بفعليّة الأهمّ لأنّ وجه تخصيص المهمّ بعدم الأهمّ هو قبح إيجاب المهمّ مع الأهمّ على من لا يقدر عليهما معاً مثلاً، ومن الواضح أنّ قبح إيجاب المهمّ إنّما يكون عند تنجّز الأهمّ المستدعي ـ بحسب قانون المولوية والعبودية ـ انشغال العبد به عن المهمّ. وأمّا مع عدم تنجّزه عليه فمن الواضح أنّ العقل لا يرى أيّ قبح أو استحالة في توجيه خطاب المهمّ إليه.

ومن هذا القبيل الواجبات التي يقال باشتراط القدرة الشرعية فيها بالمعنى الذي يرتفع بمجرّد تنجّز المنافي عليه، سواء امتثله أو لا، أي: إنّه أخذ فيها عدم العجز التكويني مع عدم العجز العقلي بلحاظ عالم المولوية والعبودية، بأن لا يفرض تنجّز شيء عليه يستنفد قدرته، فلا يبقى له قدرة على هذا الواجب، مثاله ما يقال من أنّ وجوب الحجّ مشروط بعدم تنجّز واجب آخر عليه وإن كنّا نحن لا نقبله، وكذلك يقال أيضاً: إنّ وجوب الوضوء يتوقّف على عدم تنجّز صرف الماء في أمر آخر كحفظ النفس مثلاً، ومن هذا القبيل ما يدّعى في الزكاة من اشتراط عدم تنجّز حرمة التصرّف عليه في النصاب في أثناء الحول، فلو تنجّز عليه ذلك ارتفع موضوع الزكاة.

وأمّا الثالث، فكتقدّم الدليل القطعي على (رفع ما لا يعلمون) إذا اقتصرنا في الغاية على حاقّ اللفظ، وهو العلم، ولم نفسّره بالتنجّز، وكتقدّم الدليل العلمي على حرمة الافتاء بغير علم.

وأمّا الثاني، فكتقدّم دلالة الكتاب أو السنّة على حرمة شيء على دليل وجوب الوفاء بالشرط إلاّ شرطاً خالف الكتاب والسنّة، وكتقدّم دليل عدم رجحان شيء، أو مرجوحيّته على دليل الوفاء بالنذر أو اليمين المشروط بالرجحان أو عدم المرجوحيّة على الأقلّ.

وأمّا الأوّل، فمثاله ما يقال في باب الزكاة من عدم تعلّق الزكاة بشيء مرّتين، ويفسّر ذلك بأنّه لا يمكن دخول عين واحدة في نصابين في سنة واحدة، فلو كان يملك عشرين إبلاً إلى ستّة أشهر، فهنا يكون حكم جعلي مقدّر على بقاء هذا النصاب إلى آخر السنّة، وهو ثبوت أربع شياة عليه، ثمّ نفرض أنّه صارت إبله على رأس ستّة أشهر خمسة وعشرين إبلاً، وهذا هو النصاب الخامس الذي فيه خمس شياة، فيقع التعارض بين دليلي جعل الزكاتين،

575

ونضمّ إلى ذلك ما قالوا من أنّه في مورد من هذا القبيل تكون الزكاة الثانية مشروطة بعدم تقدّم ما يقتضي الزكاة الاُولى.

إذن فالزكاة الاُولى بجعلها ـ قبل أن تصبح فعلية ـ رفعت موضوع الزكاة الثانية.

وهذا المثال وإن كنّا نحن لا نقبله في الفقه لكنّ المقصود به هنا تقريب هذا القسم من الورود إلى الذهن.

 

الورود من الجانبين:

ثمّ إنّ الورود قد يفترض في بادئ الأمر من الجانبين، وهذا على أقسام:

الأوّل: أن يفرض أنّ كلاًّ منهما مشروط بعدم وجود حكم آخر يعارضه أو يزاحمه مطلقاً، فالحجّ والنذر مثلاً يفترض أن وجوب كلّ منهما مشروط بعدم الآخر مطلقاً، وهذا معناه أنّ كلاًّ منهما يتوقّف على عدم الآخر، وهذا مستحيل يوجب الدور، سنخ ما يقال في استحالة توقّف أحد الضدّين على عدم الضدّ الآخر، وعندئذ يقع التعارض بين الدليلين، لا لاقتضائهما الجمع بين الحكمين؛ فإنّ كلاًّ منهما مشروط بعدم الآخر، فلا يعقل اقتضاؤهما للجمع بين الحكمين، بل للقطع بكذب أحد الظهورين؛ لاستحالة صدقهما معاً.

الثاني: أن يفرض أنّ كلاًّ من وجوب الحجّ ووجوب النذر مثلاً مشروط بعدم الآخر على تقدير عدم الأوّل، أي: إنّ وجوب الحجّ يقول: إنّه لولا وجودي هل كان يوجد حكم آخر يعارض أو يزاحم وجوب الحجّ أو لا، فإن كان يوجد شيء من هذا القبيل فأنا لست بموجود. وكذلك الحال في وجوب النذر.

وهذا القسم معقول؛ لأنّ كلاًّ منهما يتوقّف على العدم اللولائي اللاخر، لا العدم الفعلي، فلا يلزم الدور، إلاّ أنّه عندئذ لو خلّينا نحن ودليلي الحجّ والنذر المفروض تقيّد كلّ منهما بعدم الآخر اللولائي، لم يصبح شيء منهما فعلياً، إلاّ أن يفرض أنّنا نعلم من الخارج بوجوب أحدهما، وعندئذ لو ظهر من الدليل الخارجي وجوب أحدهما تعييناً أو تخييراً فهو، وإلاّ عملنا بقوانين العلم الإجمالي.

الثالث: أن يكون كلّ منهما مقيّداً بالعدم الفعلي دون اللولائي للآخر، إلاّ أنّه لا يكون مقيّداً بعدم المخالف مطلقاً، بل يكون كلّ منهما مقيّداً بعدم حكم يمتاز ذلك الحكم على الحكم الأوّل في أنّه ليس مقيّداً بقيد من قبيل قيد الأوّل الذي يقتضي محكوميّته للأوّل، بل هو الحاكم على الأوّل، وعندئذ يكون مقتضى دليل كلّ منهما وجوبه، ولا يتقدّم أحدهما على

576

الآخر؛ لأنّ المفروض أنّ ما قيّد بعدمه كلّ واحد منهما هو حكم يفرض امتيازه عليه، وليس في شيء من الحكمين امتياز على الآخر، إذن فلا يوجد حاكم في المقام، فيقع بينهما التعارض أو التزاحم.

الرابع: أن يفرض أنّه اُخذ في أحدهما عدم الآخر اللولائي، كما في الصورة الثانية، وفي الثاني عدم الآخر بالنحو الذي مضى في الصورة الثالثة، فيفرض مثلاً أنّ النذر مشروط بالعدم اللولائي لما يزاحمه، والحجّ مشروط بعدم حكم آخر مخالف له يمتاز عليه بأنّه ليس مقيّداً بقيد من قبيل قيد الأوّل حتّى يمنعه عن التقدّم، وعندئذ يتقدّم هذا الحكم على ذاك الحكم المقيّد بالعدم اللولائي وهذا أحد الوجوه الفنّية لتقديم الحجّ على النذر، فيقال: إنّ وجوب الوفاء بالنذر مقيّد بأن لا يجب ما يزاحمه ولو كان وجوباً ثابتاً لولا النذر، ولا إشكال في أنّ الحجّ واجب ثابت لولا النذر، إذن فموضوع النذر منتف.

وأمّا وجوب الحجّ فهو مقيّد بعدم حكم مخالف يمتاز عليه. وهنا لا يوجد حكم مخالف يمتاز عليه؛ فإنّ الحكم المخالف الموجود إنّما هو وجوب الوفاء بالنذر الذي هو مقيّد بقيد أسوأ من قيد الحجّ، فلا يمتاز عليه، فموضوع وجوب الحجّ تامّ.

هذا كلّه إذا فرض تقيّد كلّ واحد من الحكمين بعدم الحكم الآخر.

وقد يفرض أنّ أحدهما مقيّد بعدم الحكم المخالف، لكنّ الآخر مقيّد بعدم امتثال المخالف، فيتقدّم الثاني على الأوّل. وهذا ـ أيضاً ـ أحد الوجوه الفنّيّة لتقديم الحجّ على النذر، حيث يقال مثلاً: إنّ دليل النذر اُخذ فيه عدم الحكم المخالف، وأن لا يكون محلّلاً للحرام، ودليل الحجّ اُخذ فيه القدرة التي بعد التوسيع تشمل عدم انشغاله بامتثال حكم آخر. وعليه فالحجّ مقدّم على النذر؛ لأنّ النذر غير قابل لوجوب الوفاء في هذا الفرض؛ لأنّه كيف يجب الوفاء به؟ هل يجب الوفاء به مطلقاً، أي: سواء امتثل العبد هذا الوجوب أو لا، أو يجب الوفاء به بقيد امتثاله؟

أمّا الأوّل فغير معقول؛ لأنّه عند عدم امتثاله يصبح الحجّ فعلياً، وإذا أصبح فعلياً تقدّم عليه؛ لأنّ النذر مقيّد بعدم الحكم الآخر.

وأمّا الثاني فأيضاً غير معقول؛ لعدم معقوليّة تعليق وجوب شيء على امتثاله.

هذا. ويمكنك بالتأمّل استخراج أقسام اُخرى.

هذا تمام الكلام في أصل توضيح الورود من طرف واحد، أو من طرفين.

 

577

أحكام الورود:

بقيت ملاحظات حول أحكام الورود هي:

1 ـ إنّ الوارد يتقدّم ـ ولو كان من أضعف الظهورات ـ على المورود ولو كان من أقوى الظهورات؛ وذلك لأنّ الوارد يرفع موضوع المورود حقيقة، والمورود لا يتعرّض لحال موضوعه، فلا يكون أيّ تناف بينهما. والترجيح بأقوائية الظهور إنّما يتصوّر في فرض التنافي، وهنا لا تنافي، فنأخذ بكليهما، ولا محالة يرتفع موضوع المورود في مورد الوارد.

2 ـ إذا شكّ في الوارد لم يمكن التمسّك بالمورود، سواء كان الشكّ في أصل الورود، أو في حجمه بنحو الشبهة المفهومية أو المصداقية، وسواء كان الشكّ في الوارد المتّصل أو المنفصل، فالتفصيلات التي تذكر في التمسّك بالعامّ عند الشكّ في المخصّص بلحاظ كون المخصّص متّصلاً أو منفصلاً، أو كون الشبهة مفهومية أو مصداقية ونحو ذلك، لا تأتي هنا؛ فإنّ احتمال الوارد مساوق لاحتمال انتفاء موضوع المورود، فيكون التمسّك بالمورود تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقية لموضوع العامّ. نعم، قد يحرز موضوع العامّ بالاستصحاب إذا لم تكن الشبهة مفهومية.

3 ـ لا فرق بين الوارد المتّصل والمنفصل في هدم الظهور، وليس حاله حال المخصّص الذي لو كان منفصلاً لم يهدم إلاّ الحجّيّة دون الظهور.

وبكملة أوضح: إنّ الوارد لو كان يرد بوصوله، أي: إنّه بوصوله كان يرتفع موضوع المورود كما في الخبر المتواتر الذي بوصوله يرفع موضوع (رفع ما لا يعلمون) فقبل وصوله يكون ظهور العامّ محفوظاً مع حجّيّته، وبمجرد الوصول ترتفع الحجّيّة مع الظهور؛ لأنّه يخرج المورد عن تحت موضوع العامّ حقيقةً، ولو كان يرد بمضمونه لا بوصوله، أي: إنّه يخبر عن انتفاء الموضوع في نفسه فهو ـ في الحقيقة ـ لا يعارض العامّ؛ لأنّ العامّ لم يكن يتكفّل بثبوت الموضوع، وإنّما يعارض الاستصحاب الذي قلنا: إنّه قد يثبت به موضوع العامّ.

4 ـ لا فرق في تقدّم الوارد بين كونه قطعياً أو كونه حجّة شرعاً؛ فانه يخبر عن عدم الموضوع، ولا يعارضه العامّ، فإذا كان المخصّص يتقدّم على العامّ ولو لم يكن قطعياً، وإنّما كان حجّة بالتعبّد، فالوارد بالطريق الأولى.

5 ـ الورود لا يحتاج إلى النظر، بخلاف الحكومة.

ويتفرّع على ذلك أمران:

أ ـ إنّه عند تعدّد الآثار لا نحتاج لإثبات جميع الآثار إلى إطلاق دليل الوارد؛ فإنّ الحاجة

578

إلى الإطلاق فرع الحاجة إلى النظر، فإذا كان الوارد إنّما يثبت الموضوع تكويناً وحقيقة بلا حاجة إلى النظر، فلا محالة يترتّب عليه كلّ آثاره، ولا معنىً للإطلاق.

ب ـ إنّه لا يمكن تخيّل اشتراط تأخّر زمان الوارد عن زمان المورود، كما توهّم في الحاكم؛ فإنّ الوارد ليس كالحاكم بحاجة إلى النظر إلى المورود حتّى يتوهّم أنّ النظر إليه فرع ثبوته مسبقاً مثلاً.

6 ـ إنّ الورود لا يحتاج إلى لسان لفظي؛ لأنّه ليس تصرّفاً في الألفاظ من قبيل الحكومة التنزيلية، وإنّما هو تصرّف معنوي حقيقي في ركن من أركان المورود، وهو الموضوع، وذلك يكون حتّى إذا لم يكن للوارد لسان لفظي، وهذا بخلاف الحكومة التنزيلية كما سيتجلّى بعد ذلك بوضوح إن شاء الله.

 

نظرية الحكومة:

المقدّمة الثانية: أنّ باب الحكومة ـ أيضاً ـ خارج عن باب التعارض. والكلام في الحكومة يقع في ثلاث نقاط:

1 ـ في تعريف الحكومة.

2 ـ في نكتة تقدّم الحاكم على المحكوم.

3 ـ في ملاحظات عامّة حول الحكومة.

 

النقطة الاُولى في تعريف الحكومة:

الحكومة تكون عبارة عن النظر لأحد الدليلين إلى الآخر بقرار شخصي من المتكلّم، ويكون ذلك عادةً بجعل خصوصيّة في أحد الدليلين تدلّ على نظره إلى الدليل الآخر، ولذلك ثلاث وسائل إثبات:

1 ـ لسان التفسير، سواء كان بارزاً بمثل أي وأعني، أو مستبطناً.

2 ـ لسان التنزيل.

3 ـ مناسبات الحكم والموضوع، كما في دليل نفي الضرر الظاهر في النظر إلى أدلّة الأحكام الواقعية، لا في نفي الحكم الضرري ابتداءً، حيث إنّه لم يكن من المترقّب من الشريعة جعل أحكام ضررية في نفسها، وإنّما المترقّب جعل أحكام قد تصبح ضررية.

هذا. والسيد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ لم يفسّر الحكومة بتفسير جامع، بل قسّم

579

الحكومة راساً إلى قسمين(1):

1 ـ الحكومة في الأحكام الظاهرية بعضها على بعض. وقال: إنّ هذا يكون بملاك رفع الموضوع من قبيل حكومة دليل حجّيّة الأمارة على دليل الأصل، لأنّه يوجب العلم.

2 ـ الحكومة في الأحكام الواقعية بعضها على بعض، وقال: إنّ ذلك يكون بملاك النظر كما في حكومة (لا ربا بين الوالد وولده) على دليل حرمة الربا، حيث إنّ الأوّل ناظر إلى الثاني؛ إذ لولا الثاني للغا الأوّل.

وكأنّ مقصوده بذلك أنّ في باب الحكومة في الأحكام الواقعية دائماً يكون النظر موجوداً؛ إذ لولا المحكوم للغا الحاكم، في حين أنّه ليس الأمر كذلك في باب الأحكام الظاهرية؛ فإنّ دليل حجّيّة الأمارة لا يلغو وإن فرض عدم ورود (رفع ما لا يعلمون)، إلاّ أنّك ترى أنّه في باب الأحكام الواقعيّة ـ أيضاً ـ قد لا يلغو الحاكم لولا المحكوم، كما في حكومة دليل حجّيّة الأمارة وجعلها علماً ـ على مبناهم ـ على دليل حرمة الإفتاء بغير علم.

وعلى أيّ حال، فالحكومة لا تكون إلاّ بملاك النظر، وفرضها تارةً بملاك النظر، واُخرى بملاك رفع الموضوع ـ وكأنّها مشترك لفظي بينهما ـ غير صحيح. نعم، وسائل إثبات النظر تختلف كما مضى.

وأمّا ما ذكره ـ دامت بركاته ـ من فرض حكومة دليل الأمارة على دليل الأصل بملاك رفع الموضوع، فيرد عليه: انّه إن فرضت الغاية في الأصل مطلق ما يعتبره المولى علماً لا خصوص العلم الحقيقي، فالدليل الذي يجعل الأمارة علماً يكون وارداً عليه لا حاكماً، فإنّه يرفع موضوعه حقيقة. وإن فرضت الغاية فيه خصوص العلم الحقيقي اللغوي، فإن كان دليل جعل الأمارة علماً ناظراً إليه أصبح حاكماً عليه بملاك النظر، وإن لم يكن ناظراً إليه، وإنّما كان يدلّ على مجرّد فرض غير العلم واعتبارِه علماً، فهذا ليس له أيّ أثر، ولا يثبت آثار العلم بالدليل المحكوم؛ لأنّ الغاية المأخوذة فيه إنّما هو العلم الحقيقي دون الاعتباري، ولا بالدليل الحاكم؛ لأنّه لم ينظر إلى ذلك، وإنّما غاية ما صنع أنّه اعتبر وفرض اللاعلم علماً، وأيّ قيمة لذلك؟

 

النقطة الثانية في نكتة تقدّم الحاكم على المحكوم:

إنّ نكتة تقدّم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم هي أنّ الحاكم له ظهوران: الظهور الأوّل


(1) راجع مصباح الاصول ج3 ص348 ـ 349.

580

هو ظهوره فيما ينافي ظاهر المحكوم، فمثلاً يدلّ دليل حرمة الربا على حرمة كلّ ربا بإطلاقه، ويدلّ قوله: (لا ربا بين الوالد وولده) على عدم حرمة الربا بين الوالد والولد. وهذان الظهوران متعارضان. والظهور الثاني هو ظهوره ـ بحكم نظره إلى المحكوم ـ في أنّ المتكلّم يريد تقديم الظهور الأوّل على ظهور المحكوم، فيدخل ذلك في كبرىً عقلائية، وهي: أنّ من حقّ المتكلّم أن يجعل نظاماً خاصّاً في مقام تفهيم وتفهّم مقاصده، وإذا جعل ذلك كان متّبعاً، فلا محالة يتقدّم الحاكم على المحكوم.

هذا. وهناك تقريبان مشهوران لتقديم الحاكم على المحكوم:

التقريب الأوّل: أنّ الحاكم يرفع موضوع المحكوم، فالمحكوم الذي كان موضوعه عدم العلم مثلاً وقد جعل الحاكم العلم، لم يبقَ له مجال؛ لانتفائه بانتفاء الموضوع، وليس المحكوم متعرّضاً لإثبات موضوعه، فلا تعارض بينهما، فلا محالة يعمل بهما معاً.

ويرد عليه: أنّ دليل المحكوم إن فرض موضوعه عدم ما اعتبره المتكلّم علماً مثلاً، وكان دليل الحاكم يجعل العلم اعتباراً، فهذا رفع للموضوع تكويناً وحقيقة، ويدخل ذلك في باب الورود، لا الحكومة. وأمّا إن فرض أنّ موضوعه هو عدم العلم الحقيقي، فمجموع الدليل المحكوم مع دليل وجود الموضوع يكون معارضاً للدليل الحاكم، فيحتاج تقديم الدليل الحاكم إلى نكتة.

التقريب الثاني: أنّ الحاكم يتعرّض لشيء زائد لا يتعرّض له المحكوم، فالحاكم مثلاً يتعرّض إلى أنّ الربا بين الوالد وولده ليس ربا، إضافةً إلى تعرّضه لعدم الحرمة، لكنّ المحكوم يتعرّض فقط للحرمة، ولا يتعرّض لكون ذلك ربا، فيتقدّم الأوّل على الثاني.

ويرد عليه: أنّ مجرّد تعرّض الحاكم لشيء زائد، وهو مثلاً نفي كون هذا ربا لا يكون نكتة للتقدّم. نعم، هذا يستلزم النظر إلى المحكوم، فيتقدّم عليه بملاك النظر، ولذا حينما يوجد النظر وحده ولا يوجد تعرّض الحاكم لشيء زائد ترى أنّه يتقدّم ـ أيضاً ـ على المحكوم، وذلك من قبيل موارد الحكومة بمناسبات الحكم والموضوع، فدليل نفي الضرر مثلاً ينظر إلى أدلّة الأحكام الأوّلية، وتلك الأدلّة تشمل بالإطلاق صورة كون ذلك الحكم ضررياً، ودليل (لا ضرر) أيضاً يشمل ذلك بالإطلاق، فكلاهما يتعرّضان لشيء واحد، ومع ذلك يتقدّم الثاني على الأوّل لأجل النظر.

 

النقطة الثالثة في ملاحظات عامّة حول الحكومة:

وهي تستفاد من النقطتين السابقيتن. ونتعرض هنا لخمس ملاحظات:

581

1 ـ إنّ الحاكم يقدّم على المحكوم سواء كان متّصلاً أو منفصلاً. فان كان متّصلاً رفع الظهور؛ لأنّه يحقّ للمتكلّم عقلائياً أن يلحق بكلامه ما شاء من القرائن لدفع انعقاد الظهور التصديقي ما دام متشاغلاً بالكلام. وإن كان منفصلاً لم يرفع الظهور، وإنّما يرفع الحجّيّة؛ لأنّ الظهور قد انعقد بانتهاء الكلام، والحاكم شأنه من هذه الناحية شأن المخصّص الذي يرفع الظهور لو كان متّصلاً، ويرفع الحجّيّة فقط لو كان منفصلاً.

2 ـ إنّ الحاكم يقدّم ـ ولو كان من أضعف الظهورات ـ على المحكوم ولو كان من أقوى الظهورات. وقاعدة تقديم أقوى الظهورين لا تأتي هنا؛ وذلك لأنّ تقديم أقوى الظهورين إنّما هو على أساس نظام عامّ لفهم المراد من الكلام عند العرف والعقلاء. وتقديم الحاكم على المحكوم يكون على أساس نظام خاصّ فرضه المتكلّم لفهم مراده، وطبعاً النظام الخاصّ الذي يفرضه المتكلّم لفهم مراده يتقدّم على النظام العامّ.

وهذه هي نكتة تقديم الحاكم ولو كان أضعف الظهورات على المحكوم ولو كان أقواها، لا ما ذكره السيّد الاُستاذ من عدم المعارضة بينهما، فقد مضى توضيح وجود المعارضة بينهما.

هذا. وظهور الحاكم في النظر، وكون ظهوره المعارض لظهور المحكوم مقدّماً عليه ـ أيضاً ـ لا يشترط أن يكون أقوى من ظهور المحكوم، فهو يوجب التقدّم ولو كان من اضعف الظهورات، فإنّ ظهور الحاكم في النظر قد يكون قوياً جدّاً فيقول مثلاً: إنّما عنيت الشكّ بين الثلاث والأربع، وقد يكون أضعف من ذلك، ويتدرّج في الضعف إلى أن يصل إلى مرتبة مناسبات الحكم والموضوع، وعلى أيّ حال فمهما بلغ الظهور في النظر من الضعف ـ ما دام لم يسقط عن كونه ظهوراً ـ يكون حجّة؛ فإنّه يكفي في تخصيص القرارات النوعية أقلّ الظهورات.

3 ـ إنّ موازين التمسّك بالمحكوم عند أقسام الشكّ في الحاكم المنفصل هي نفس موازين التمسّك بالعامّ عند أقسام الشكّ في التخصيص المنفصل، فيجوز التمسّك به في باب الحكومة عندما يجوز التمسّك به في باب التخصيص، ولا يجوز حينما لا يجوز هناك؛ وذلك لأنّ الحاكم المنفصل لم يرفع ظهور المحكوم، ولا أوجب انتفاء موضوعه، فحاله في ذلك حال المخصّص.

4 ـ إذا تعدّدت الآثار فإنّما تثبت تلك الآثار بمقدار نظر الحاكم، فمثلاً الصلاة مشروطة بالطهارة عن الحدث وبالطهارة عن الخبث، ولها آثار اُخرى، فحينما يقول: (الطواف بالبيت صلاة) لا بدّ أن يرى مقدار نظر هذا الكلام إلى تلك الآثار، فلا تثبت إلاّ الآثار التي يكون الحاكم ناظراً إليها؛ وذلك لأنّ نكتة الحكومة ودلالته على الحكم هي النظر، فتتقدّر بمقدار

582

النظر، وإثبات كلّ الآثار يتوقّف على إثبات الإطلاق بدليل من الأدلّة، وهذا بخلاف الورود على ما عرفت.

5 ـ إنّ الحكومة تختصّ بالأدلّة اللفظية، ولا معنىً لها في الأدلّة العقلية؛ فإنّ الدليل العقلي راساً يثبت الحكم، لا أنّه ينظر إلى دليل المحكوم، وإنّما النظر شأن اللفظ، سواء كان نظراً تفسيرياً؛ فإنّ التفسير اُسلوب من أساليب اللفظ، أو نظراً تنزيلياً؛ فإنّ التنزيل لا واقع له إلاّ في عالم التعبير اللفظي، أو كان بمناسبات الحكم والموضوع؛ فإنّ مناسبات الحكم والموضوع تنشئ ظهوراً في الدليل اللفظي، فيصبح ذاك الظهور حجّة.

 

التخصيص:

المقدّمة الثالثة: أنّ باب التخصيص ـ أيضاً ـ خارج عن باب التعارض.

وتوضيح الكلام في ذلك تارةً يقع في المخصّص المتّصل، واُخرى في المخصّص المنفصل.

 

المخصّص المتّصل:

أمّا الكلام في المخصص المتّصل، فهناك أسئلة فنيّة ينبغي الإجابة عنها، والمهمّ منها والذي ينبغي ذكره في هذا المقام سؤالان:

1 ـ لماذا يقدّم الخاصّ على العامّ؟

2 ـ بعد فرض عدم حمل العامّ على العموم الذي هو معناه الأوّلي يُسأل عن المبرّر لحمله على تمام الباقي، مع أنّ تحته درجات متعدّدة يمكن حمل العامّ ـ بعد رفع اليد عن معناه الأصلي ـ على واحدة منها.

والبحث ـ في الحقيقة ـ لا يعدو أن يكون مجرّد بحث علمي لا عملي؛ فإنّ تقدّم المخصّص المتّصل على العامّ، وكذا حجّيّة العامّ في الباقي لا إشكال فيه عرفاً، وإنّما الكلام في تفسير ذلك فنّاً.

وعلى أيّة حال فينبغي الالتفات إلى أنّ المخصّص الذي يكون داخلاً في هذا البحث ليس هو المخصّص الذي يكون من شؤون المدخول، من قبيل الوصف، كما في قوله: (أكرم كلّ عالم عادل) فإنّه عندئذ لا يوجد عامّ وخاصّ؛ وإنّما العموم رأساً دخل على خصوص العلماء العدول، ولا كلام فيه، وإنّما الكلام في المخصّص الذي يكون بكلام مستقلّ من قبيل قوله: (أكرم كلّ عالم) و(لا تكرم فسّاق العلماء).

583

وأمّا حال الاستثناء من قبيل (أكرم هؤلاء العشرة إلاّ زيداً) أو (أكرم كلّ عالم إلاّ زيداً) فسنشير إليه في الأثناء إن شاء الله.

وعلى أي حال، ففي الإجابة عن هذين السؤالين اتّجاهان:

الاتّجاه الأوّل: هو الاتّجاه المختار من افتراض وجود دلالة تصوّرية جديدة مخلوقة للسياق في مقابل الدلالة التصوّرية للعامّ والدلالة التصوّرية للخاصّ، ولا نقصد بذلك البرهنة على تقديم الخاصّ على العامّ، وإنّما المقصود تفسير ذلك بعد الفراغ عنه بحسب الوجدان العرفي.

ونوضّح المقصود بعد ذكر مقدّمة، وهي: انّ الكلام يدلّ بالدلالة التصوّرية على معناه المستفاد من نظام اللغة، أي: إنّه يُخطر بالبال معناه، ثمّ بعد ذلك تتحقّق دلالة تصديقية من الدرجة الاُولى، وهي كشف الكلام عن المراد الاستعمالي للمتكلّم، أعني إرادته لا نتقاش المعنى في الذهن.

والدلالة الاُولى أعني التصورية ليس فيها كشف، وليست إلاّ مجرّد انتقاش الصورة في الذهن، ولذا سمّيت بالدلالة التصوّرية، والدلالة الثانية تكشف عن إرادة المتكلّم لهذا الانتقاش.

وتتعيّن الصورة التي يريد المتكلم نقشها في الذهن على أساس الغلبة أو التعهّد العامّ بين العقلاء مع غلبة جري أيّ متكلّم وفق ذلك التعهّد، فمثلاً حينما يقول المتكلّم: (رايت أسداً) فهنا صورتان ذهنيّتان يمكن أن يصوّرهما الكلام: إحداهما صورة المعنى الحقيقي، أي رؤية الحيوان المفترس، والاُخرى صورة المعنى المجازي، أي الرجل الشجاع. ونكتشف ـ ولو كشفاً ظنياً مثلاً ـ إرادة المتكلّم الحيوان المفترس: إمّا على أساس غلبة استعمال اللفظ بلا قرينة في معناه الحقيقي. وإمّا على أساس التعهّد النوعي باستعمال اللفظ عند عدم القرينة في معناه الحقيقي مع غلبة جريان كلّ فرد وفق ذلك التعهّد، وبعد ذلك تصل النوبة إلى الدلالة التصديقية من الدرجة الثانية، وهي كشف الكلام عن كون داعي المتكلّم إلى إرادة نقش الصورة في ذهن السامع، وهي صورة النسبة الطلبيّة من الأمر هو الجدّ مثلاً، أي وجود ذلك الطلب في نفسه حقيقة لا داعي الاستهزاء، أو التعجيز، أو غير ذلك.

وهذا الكشف ـ أيضاً ـ يكون على نفس أحد الأساسين، أي الغلبة أو التعهّد النوعي مع غلبة الجري على وفقه.

ثمّ الدلالة التصوّريّة تكون للمواد، وتكون لهيئات المفردات، وتكون للحالات السياقيّة

584

الثابتة عند تركّب المفردات بعضها ببعض، من قبيل حالة التكرار المفيدة للتأكيد مثلاً، والتقديم والتأخير، ووحدة السياق، ونسب الكلام بعضه مع بعض كالأعميّة والأخصيّة، وما إلى ذلك من الحالات السياقيّة، وقد تختلف الدلالة التصوّرية للحالة السياقية عن الدلالة التصوّرية للمفرد، ويكون عندئذ ما يستقرّ في النفس ويلتفت إليه تفصيلاً هي الصورة التي تعطيها الحالة السياقية وإن كان بالتحليل السيكولوجي قد مرّت النفس بتلك الصور الاُخرى، وطوتها إلى أن وصلت إلى الصورة التركبية، مثال ذلك أنّه حينما نسمع من المتكلّم: (رأيت اسداً يرمي) فكلمة (أسد) تعطي للذهن المعنى الحقيقي لأسد، كما أنّ كلمة (يرمي) تعطي للذهن المعنى الحقيقي للرمي، إلاّ أنّ الحالة التركيبية والسياقية بين أسد والرمي غير المنسجمة إلاّ مع الإنسان يمكن أن يفترض أنّها بالوضع(1) تنقش في الذهن معنى الرجل الشجاع، وهذه الصورة هي الصورة التي تستقرّ في الذهن، ويلتفت إليها تفصيلاً، دون صورة الحيوان المفترس.

هذا حال الدلالة التصورية، وكذلك الحال في الدلالة الاستعمالية، فتوجد دلالة استعمالية بعدد الدلالات التصورية، إلاّ أنّ الذي يلتفت إليه تفصيلاً هي الدلالة الاستعمالية وفق الدلالة التصورية السياقية. وأمّا الدلالة الجدّيّة فهي تتبع ما يستقرّ من الدلالة الاستعماليّة التابع لما يستقرّ من الدلالة التصوّريّة. إذن فتكون الدلالة الجدّيّة دائماً موافقة للمدلول السياقي عند اختلافه مع مداليل المفردات.

إذا عرفت هذه المقدمة قلنا:

إنّه لو قال المولى مثلاً: (اكرم العلماء، ولا تكرم النحويين) فهناك ثلاث دلالات تصورية: الاُولى: دلالة العامّ على العموم، والثانية: دلالة الخاصّ على الخصوص، والثالثة: دلالة الحالة


(1)قوله: (يمكن أن يفترض أنّها بالوضع) كأنّه إشارة إلى إمكان افتراض آخر أيضاً، وهو ما سيأتي في المقدّمة الرابعة من افتراض تخريج الأمر على أساس الأقوائية، بأن يقال: إنّه لمّا صعب على الذهن تصوّر الصورة التي يقتضيها مجموع كلمة (أسد) وكلمة (يرمي) ـ لو حملا على المعنى الحقيقي، وهي صورة حيوان مفترس يرمي بالنبل ـ اقتضى هذا المجموع أن يتّجه الذهن إلى الاستقرار على صورة ثالثة، وهي: إمّا صورة الحيوان المفترس الذي يرمي بالنظر مثلاً لا بالنبل، أو صورة الرجل الشجاع الذي يرمي بالنبل، أي إنّ أحد المعنيين المجازين لإحدى الكلمتين يبرز إلى الذهن بعد أن كان مغموراً تحت شعاع المعنى الحقيقي، وهنا يقع التزاحم بين اقتضاء كلمة (أسد) لاستقرار الذهن على الحيوان المفترس واقتضاء كلمة (يرمي) لاستقرار الذهن على الرمي بالنبل، فإذا كان الثاني أقوى تقدّم في التأثير بالأقوائية، وأدّى ذلك إلى استقرار الذهن على صورة الرجل الشجاع الذي يرمي بالنبل.

585

السياقية على صورة العموم المقتطع منه الخاصّ، وتلك الحالة السياقية هي اجتماع جملتين مع كون النسبة بينهما هي نسبة الأخصّيّة والأعمّيّة، أي: إنّ موضوع إحداهما أخصّ من الاُخرى، والدلالة التصوّريّة التي تستقرّ في النفس هي هذه الدلالة الثالثة، أي: العموم المقتطع منه الخاصّ، لا العموم، إذن فالدلالة التصديقية الجدّية التي تنعقد في المقام هي عبارة عن طلب إكرام من عدا النحويين من العلماء(1). وبهذا اتّضح الجواب عن كلا السؤالين:

أمّا السؤال الأوّل وهو: لماذا يقدّم الخاص على العام؟

فالجواب: أنّنا لا نقدّم الخاصّ على العامّ، وإنّما نقول: إنّ الدلالتين التصوّريّتين للخاصّ والعامّ تندكّان في دلالة تصوّرية ثالثة وهي صورة العامّ المقتطع منه الخاصّ، والدلالة التصديقية إنّما تنعقد على طبق هذه الصورة.

وأمّا السؤال الثاني وهو: لماذا يكون العامّ حجّة في تمام الباقي؟

فالجواب: أنّ الدلالة التصديقية قد انعقدت على طبق الدلالة التصوّرية النهائية المستقرّة في الذهن، وهي العموم المقتطع منه الخاصّ المساوق لتمام الباقي.

ولو قال المتكلم: (لا يجب إكرام أي عالم) و(أكرم النحويين) فهنا بالإمكان الجمع بين الجملتين بأحد شكلين:

الأوّل: التخصيص، بأن يقال: إنّ الحالة السياقية للعامّ المجتمع معه الخاصّ، تدلّ على العموم المقتطع منه الخاصّ.

والثاني: حمل الأمر على الاستحباب، بأن يقال: إنّ الحالة السياقية لأمر اجتمع معه الترخيص تدلّ على الاستحباب، إلاّ أنّنا ندّعي أنّ وضع الواضع للحالة السياقية الثانية مخصوص بغير صورة وجود الحالة السياقية الاُولى، وطبعاً ليس المقصود إثبات ذلك بالبرهان، فإنّنا لا نقصد إثبات قاعدة التخصيص بالبرهان، وإنّما نقصد التفسير الفنّي لما هو مسلّم من قاعدة التخصيص.

هذا كلّه في ما لو كان التخصيص بجملة مستقلّة من قبيل: (أكرم العلماء) و(ولا تكرم النحويين). وأمّا ما يكون من قبيل: (أكرم كلّ عالم عادل) فقد مضى أنّ أداة العموم تدلّ


(1) ورد في كتاب السيّد الهاشمي (حفظه الله) عن لسان اُستاذنا الردّ على فرضية وضع سياق العامّ المتّصل بالخاص للعموم المقتطع منه الخاصّ، وأن دعوى هذا الوضع عهدتها على مدّعيها.

586

رأساً على شمول أفراد المدخول بجميع قيوده، فلا كلام في مثل ذلك.

وأمّا ما يكون من قبيل: (أكرم هؤلاء العشرة إلاّ زيداً) فطبعاً الإشكال الفني الذي كان يوجد في المقام والذي احتاج إلى الإجابة الفنية بتفسيرنا الفنّي بإبراز الدلالة التصوّرية الثالثة لا يوجد فيه، لأنّ أداة الاستثناء لها نظر إلى المستثنى منه، وهي حاكمة عليه، فلا إشكال في التخصيص فيه والاقتطاع من العامّ، إلاّ أنّ التفسير الفنّي الذي ذكرناه يأتي هنا في نفسه؛ لأنّه ليست هناك أداة عموم دخلت على مدخول يدّعى أنّ الاستثناء يكون من شؤونه، وإنّما الموجود هو كلمة (العشرة) وهي تدلّ دلالة تصوّرية على تمام العشرة، والاستثناء تدل دلالة تصوريّة على الاقتطاع، والحالة السياقية من المركّب منهما تدلّ دلالة تصوّرية على عشرة مقتطع منها زيد، فهي الدلالة التي تستقرّ في النفس، وتكون على طبقها الدلالة التصديقية الجدّية.

وأمّا مثل قولنا: (أكرم كلّ عالم إلاّ زيداً) فإنْ فرضت (إلاّ) بمعنى غير ووصفاً للعالم كان من قبيل قولنا: (أكرم كلّ عالم عادل) وإن فرضت أداة الاقتطاع والاستثناء كان من قبيل: (أكرم هؤلاء العشرة إلاّ زيداً) فإنّه وإن كان توجد هنا أداة عموم مع مدخولها، لكن ليست كلمة (إلاّ) من شؤون المدخول وقيوده، وإنّما هي اقتطاع من العموم.

الاتّجاه الثاني: هو الاتّجاه المشهور للأصحاب، وهو الاقتصار على ملاحظة دلالة العامّ ودلالة الخاصّ، وغضّ النظر عن دلالة تصوّرية جديدة نحن أبرزناها، وعندئذ يكون لتفسير سرّ باب التخصيص عدّة وجوه.

الوجه الأوّل: ما ارتضاه المحقّق النائيني (رحمه الله) وهو(1): أنّ أداة العموم تدل على العموم في طول الاطلاق ومقدمات الحكمة، أي: إنّ أداة العموم لا تدلّ على شمول أفراد مدلول المدخول، أي: مدلول (عالم) في قولنا: (أكرم كلّ عالم) مثلاً، وإنّما تدلّ على شمول أفراد المراد من المدخول التي تحدّد ولو بتعدّد الدالّ والمدلول من المدخول ومقدّمات الحكمة، فكلّ ما يمنع عن جريان مقدّمات الحكمة يكون وارداً على أداة العموم، ورافعاً للعموم بقدر رفعه لجريان مقدّمات الحكمة، فإذا قال: (أكرم كلّ عالم، ولا تكرم النحويين) فلا إشكال في أنّ قوله: (لا تكرم النحويين) يرفع موضوع مقدّمات الحكمة بمقدار النحويين، فهو يرفع


(1) راجع فوائد الاصول الجزء الاول والثاني ص518 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم وأجود التقريرات ج1 ـ ص450 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيد الخوئي (رحمه الله).