49

والخلاصة: أنّ الظاهر أنّ كلمة (من وضوئه) متعلّقة في المقام بالظرف، أي: بما تعلّق به (على يقين) لا باليقين.

وأمّا الثاني، فقد استشكل المحقّق العراقي(قدس سره) في إجداء صرف القيد من اليقين إلى الظرف في تتميم الاستدلال بالحديث، بدعوى: أنّ اليقين ـ على أيّ حال ـ قيّد بالوضوء: إمّا بتضييقه بلسان ذكر متعلّقه بأن يكون الجار والمجرور متعلّقاً باليقين، وإمّا بتضييقه بلسان ذكر منشأه، بأن يقال: إنّه يكون على يقين، ويكون وصف كونه على يقين ناشئاً من الوضوء(1).

أقول: إنّنا إذا جعلنا (من وضوئه) متعلّقاً بالظرف، أي بالفعل العام الذي تعلق به (على يقين) كان معنى ذلك: أنّ شيئاً واحداً وهو الكون قيّد بقيدين عرضيين وهما (على يقين) و (من وضوئه) وإن كان التقييدان طوليين، أيّ: أنّ الكون إنّما قيّد بقيد (من وضوئه) بالنظر إلى كونه مقيّداً بعلى يقين، لكن هذا لا ينافي كون القيدين في عرض واحد، كما هو مقتضى تعلّق كلا الجارّين والمجرورين بشيء واحد، وإذا كانا في عرض واحد فيستحيل تقيّد أحدهما بالآخر، فيكون ـ لا محالة ـ اليقين مطلقاً، فحتّى لو كان اللام للعهد لا ينافي ذلك إطلاق المدخول؛ ولذا ترى أنّه لو قدّم (من وضوئه) على جملة (على يقين) بأن قال: (فإنّه من وضوئه على يقين، ولا ينقض اليقين بالشكّ) يفهم منه الإطلاق بلا إشكال.

 

تنبيهات:

وفي ختام البحث عن هذه الصحيحة ننبّه على اُمور:

1 ـ حول جملة (فإنّه على يقين من وضوئه):

الأمر الأوّل: في البحث عن جملة: (فإنّه على يقين من وضوئه) هل هي قضية خبرية


(1) راجع المقالات: ج 2، ص 345 ـ 346 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي. ونهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 43.

ولا يخفى: أنّ المحقق العراقي(رحمه الله) ملتفت إلى عدم تقيّد اليقين بمنشأه بناءً على تعلّق (من وضوئه) بالظرف، كما هو ظاهر من عبارته في المقالات وفي نهاية الأفكار، فهو يرى أنّ المعلول في معلوليّته لا يتقيّد بعلّته، فإنّ الناشيء من العلّة إنّما هي نفس الذات لا بقيد النشوء عنها، إلاّ أنّه يدّعي أنّ اليقين ـ عندئذ ـ رغم عدم تقيّده بمنشأه ـ وهو الوضوء ـ لا يبقى له إطلاق وسعة ليقين آخر ناشيء من منشأ آخر، وهذا مبتن على فكرته عن الحصّة التوأم، فإبطال كلامه في المقام لا يكون ببيان عرضيّة القيدين، بل يكون بمناقشة فكرة الحصّة التوأم. ولعل اُستاذنا(رحمه الله)سامح في مقام البيان حذراً من التعقيد في البحث، وإلاّ فمن البعيد غفلته(رحمه الله) عن ذلك.

50

تخبر عن اليقين الواقعي، أو لا؟ وعلى أيّ واحد من هذين التقديرين هل هذه الجملة هي الجزاء، أو الجزاء هو ما بعدها، أو هو محذوف؟ وهذه الفروض هل لها دخل في اقتناص المقصود وعدمه من هذه الصحيحية، أو لا؟ فالبحث يقع في نواحي ثلاث:

 

هل الجملة خبرية أو إنشائية؟

الناحية الاُولى: في أنّ هذه الجملة هل هي إخبار عن اليقين الواقعي، أو لا؟

لا شكّ في أنّ هذه الجملة ـ بحسب ظهورها الأوّلي ـ ظاهرة في الإخبار دون الإنشاء، كما اعترف بذلك المحقّق النائيني(رحمه الله) الذي حملها على الإنشاء(1).

نعم، هي قابلة للحمل على الإنشاء خلافاً لما ذكره السيّد الاُستاذ من أنّه لا يمكن حملها على الإنشاء؛ لأنّ الجملة الخبرية التي تأتي للإنشاء إنّما هي الجملة الفعلية مثل: (تسجد سجدتي السهو) أو (تصلّي)، بمعنى اسجد أو صلِّ، دون الجملة الاسمية من قبيل: (هو ساجد) أو (هو مصلٍّ)(2).

أقول: إنّ هذا الكلام إن تمّ فإنّما يتمّ في الإنشاء بمعنى الطلب، لا الإنشاء الذي يقصد به إيجاد المحمول من قبيل: (أنتِ طالق) ونحو ذلك ممّا هو جملة اسمية أفادت الإنشاء، فقد يكون ما نحن فيه من هذا القبيل، أي: يقصد بقوله: «فانه على يقين من وضوئه» ايجاد اليقين واعتباره تعبّداً(3).

نعم، هذا في نفسه خلاف الظاهر، كما لا شكّ ـ أيضاً ـ في أنّ حمل اليقين المخبر عن وجوده على اليقين التعبّدي خلاف الظاهر في نفسه، فالجملة ظاهرة في الإخبار عن اليقين الوجداني.

إلاّ أنّ هناك تقريباً لدعوى حملها على الإنشاء أو على تعبديّة اليقين، وهو: أنّ ما عرفته من الظهورين معارَضان بظهور آخر وهو ظهور هذه الجملة في كون اليقين ثابتاً بالفعل لا


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 336 ـ 337 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) راجع مصباح الاُصول: ج 3، ص 17.

(3) قد ورد في مصباح الاُصول الاعتراف بأنّ اختصاص الجملة الفعلية بصحّة استعمالها مكان الإنشاء دون الاسمية إنّما هو في الإنشاء الطلبي. أمّا إنشاء المحمول فتأتي فيه الجملة الاسمية كأنت طالق، ولكنّي لا أدري كيف وقعت الغفلة عن أنّ فرض الإنشاء في ما نحن فيه يمكن تصويره بإنشاء المحمول، فكون الجملة في المقام اسمية لا يرفع احتمال الإنشاء؟!

51

ثابتاً في زمان سابق قد انقضى، ومن المعلوم أنّه لا يوجد له بالفعل يقين وجداني بالوضوء؛ إذ المفروض أنّه شكّ في الوضوء، إلاّ أن يحمل اليقين بالوضوء في المقام على إرادة اليقين بحدوث الوضوء، لكنّ هذا الحمل لا ينسجم مع ما بعد هذه الجملة، وتوضيح المقصود: أنّه تارةً يؤخذ قيد الحدوث والبقاء في متعلّق اليقين والشكّ، واُخرى يغضّ النظر عن هذا القيد ويلتفت إلى ذات الوضوء، وبهذا النظر يُرى اليقين عرفاً مجارياً لنفس الوضوء، أي: أنّه إذا علم أو احتمل ذهاب وضوئه يقال: إنّ يقينه قد زال، فلو لوحظ في جانب متعلِّق اليقين ذات الوضوء، فبهذا النظر لا يكون اليقين ثابتاً بالفعل، فلابدّ من حمل الكلام على الإنشاء أو الإخبار عن يقين تعبّدي، ولو لوحظ فيه جانب الحدوث لزم من ذلك لحاظ جانب الحدوث ـ أيضاً ـ في اليقين في قوله: «لا ينقض اليقين بالشكّ» تحفظاً على وحدة المقصود من لفظي اليقين الواردين في سياق واحد. وبهذا النظر يكون متعلّق الشكّ غير متعلّق اليقين؛ فإنّ اليقين تعلّق بالحدوث، والشكّ تعلّق بالبقاء، ومع فرض اعتبار التغاير بين متعلّق اليقين ومتعلّق الشكّ لا معنى لإسناد النقض بالشك إلى اليقين، بأن يقال: (لا ينقض اليقين بالشكّ). وعليه فينحصر الأمر في حمل قوله: «فإنّه على يقين من وضوئه» على الإنشاء أو الإخبار بيقين تعبّدي.

ويرد على هذا التقريب:

أوّلاً: ما سوف ياتي ـ إن شاء الله ـ من تصحيح إسناد النقض إلى اليقين بوجه ينسجم مع لحاظ جانب الحدوث والبقاء في اليقين والشكّ.

وثانياً: أنّه لو غضضنا النظر عن ذلك، وفرض وقوع التعارض بين الظهورين الأوّلين والظهور الثالث وهو الظهور في وجود اليقين بالفعل، قلنا: إنّ الظهورين الأوّلين أقوى من الظهور الثالث بحيث يصبحان قرينة على رفع اليد عن هذا الظهور الثالث.

وثالثاً: أنّه لو حمل اليقين مثلاً على اليقين التعبدي، فماذا نصنع باليقين المذكور في قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» هل نحمله ـ أيضاً ـ على اليقين التعبّدي أو لا؟ فإن حملناه على اليقين التعبّدي لزم من ذلك:

أوّلاً: ركاكة قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ»؛ إذ يكون معناه: لا تنقض ما هو حجّة بالشك، في حين أنّ عدم جواز نقضه بالشكّ هو المفروض في حجّيته، فلا معنى للنهي عن نقضه بالشك.

وثانياً: أن يفرض المولى الشخص متيقّناً تعبّداً فيقول: «لا تنقض اليقين» وشاكاً في نفس

52

الوقت؛ ولذا يقول: «بالشك»، وهذا وإن لم تكن فيه استحالة عقلية لعدم المنافاة بين اليقين والشك عقلاً عند فرض التعبّد، لكن يُرى في ذلك التهافت عرفاً.

وإن حملناه على اليقين الوجداني لزم بذلك عدم وحدة المقصود من لفظي اليقين الواردين في سياق واحد، وعدم تحقّق ما مضى أنّ الحديث ظاهر فيه من تألّف القياس من الصغرى والكبرى من هاتين الجملتين، وكون قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» تكراراً صِرفاً لقوله: «فإنّه على يقين من وضوئه» لا كبرى وتلك صغراها.

فالصحيح هو التحفّظ على ظهور جملة: (فإنّه على يقين من وضوئه) في الإخبار باليقين الحقيقي.

 

هل الجملة هي الجزاء؟

الناحية الثانية: في أنّ هذه الجملة وهي قوله: «فإنّه على يقين من وضوئه» هل هي الجزاء أو غيرها هو الجزاء؟

وقد ذكرت في هذه الجملة في المقام احتمالات ثلاثة:

الأوّل: كونها من متمّمات الجواب، بأن يكون الجواب محذوفاً، أي: وإلاّ لا يجب عليه الوضوء، فإنّه على يقين من وضوئه.

والثاني: كون الجواب هو قوله: «ولا ينقض اليقين بالشكّ» فقوله: «فإنّه على يقين من وضوئه» إمّا هو من متمّمات الشرط أو من مقدّمات الجواب.

والثالث: كون هذه الجملة بنفسها جواباً.

ولندرس هذه الاحتمالات تارةً بناءً على كون هذه الجملة إخباراً، واُخرى بناءً على كونها إنشاءً، ونقصد بالإنشاء ما يعمّ كون نفس الجملة إنشاء وكونها إخباراً عن يقين تعبدي، فنقول:

أمّا بناءً على الإخبار فالاحتمال الأوّل احتمال متين ومنسجم مع الذوق العرفي، وما قد يقال في مقام استبعاده: (أوّلاً: من أنّه يلزم التكرار؛ إذ الجزاء المحذوف وهو قوله: «لا يجب عليه الوضوء» تكرار لما سبق من قوله: «لا، حتّى يستيقن»، وثانياً: من أنّ التقدير خلاف الأصل، إذن فهذا الاحتمال يكون على خلاف الظاهر) غير صحيح:

أمّا الأوّل؛ فلأنّ المفروض هو حذف أحد المكرّرين، فلم يلزم تكرار في اللفظ، وما يوجد فيه شيء من القبح أو الركّة في الكلام إنّما هو التكرار الفعلي في اللفظ لا التكرار

53

التقديري، بمعنى كون الشيء المقدّر تكراراً لشيء مذكور.

وأمّا الثاني؛ فلأنّ ما يكون على خلاف الأصل هو أن يعتمد المتكلّم في فهم شيء على مجموع الكلام والقرائن الحاليّة والمقاليّة ونحو ذلك من دون أن يصرّح بذلك الشيء، وأمّا في ما نحن فيه فهو صرّح أوّلاً بعدم وجوب الوضوء بقوله: «لا»، وجعل لذلك غاية، وهي قوله: «حتّى يستيقن أنّه قد نام»، ثمّ فرض عدم الغاية بقوله: «وإلاّ»، والمترقّب ـ عندئذ ـ أن يأتي الجواب لفرض عدم الغاية بعين ما مضى من التصريح به من الحكم المغيّى بالغاية التي نفيت، إلاّ انّه إعتمد على ذلك التصريح، فلم يذكر الجواب، وليست في ذلك أيّة مؤونة بحسب النظر العرفي.

وأمّا الاحتمال الثاني فغير صحيح؛ إذ لو فرضت جملة: (فإنه على يقين من وضوئه) مقدّمة للجواب، وقوله: (ولا ينقض...) هو الجواب، ورد عليه: أنّه لا يصحّ دخول الواو على جواب الشرط. ولو فرضت تلك الجملة تتمة للشرط، وقوله: (ولا ينقض...) جواباً، ورد عليه مضافاً إلى ذلك: أنّه لا يصحّ دخول الفاء على ما هو تتمّة للشرط(1)، فهذا الاحتمال غير منسجم مع المحاورات العرفية.

وأمّا الاحتال الثالث، فقد ناقش فيه المحقّق الخراساني(رحمه الله) بأنّ الجزاء لا بدّ أن يكون مرتبطاً بالشرط، وكونه على يقين من وضوئه غير مرتبط بعدم تيقّنه بالنوم(2).

وذكر المحقق الإصفهاني(قدس سره) أنّ الربط بينهما موجود باعتبار ملازمة اليقين بالوضوء لعدم اليقين بالنوم(3).

أقول: إنْ اُريد اليقين بالوضوء حدوثاً أو اليقين بذات الوضوء بغضّ النظر عن حدوثه وبقائه، فهذا ثابت في نفسه بلا فرق بين أن يشكّ في النوم أو يقطع بوجوده أو عدمه. وإن اُريد اليقين بالوضوء بالفعل فهذا كذب؛ لأنّ المفروض هو الشكّ. وإن اُريد اليقين التعبدّي كان هذا خلف مفروض الكلام فعلاً.


(1) صحّة وعدم صحة دخول الفاء على تتمة الشرط ترتبط بكيفية كون تلك التتمّة تتمّةً، فقد تكون سنخ تتمّة ترتّب على الجزء الأوّل من الشرط بالفاء،كقولك: (إن ضربت زيداً فمات وجبت عليك ديّة كاملة)، وفي المقام قوله: «فإنّه على يقين من وضوئه» لا ينسجم معناه في ذاته مع كونه تتمّة للشرط، وكلمة (إنّ) ـ أيضاً ـ تأبى ذلك، وكون الشرط محذوفاً باستثناء حرف لا ـ أيضاً ـ يأبى ذلك، فليس من المقبول العطف على المحذوف سواء بالفاء أو بغير الفاء.

(2) راجع تعليقة الآخوند على الكفاية: ص 179، بحسب طبعة بصيرتي.

(3) راجع نهاية الدراية: ج 5، ص 42 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

54

نعم يمكن تخريج جملة: (فإنّه على يقين من وضوئه) على الاحتمال الثالث بنحو صحيح عرفيّ،وذلك بأن نفرض جملتي: (فإنّه على يقين من وضوئه) و (لا ينقض اليقين بالشكّ) معاً جزاءً للشرط، لكن جزائيتهما باعتبارهما قياساً ودليلاً، أي: بلحاظ مرحلة الإثبات، فكأنّه قيل: وإن لم يستيقن أنّه قد نام جرى في حقّه هذا القياس: أنّه على يقين من ضوئه، ولا ينقض اليقين بالشكّ.

وأمّا بناءً على الإنشاء، فالاحتمال الأوّل يأتي هنا بنفس البيان الذي وضّحناه حرفاً بحرف.

والاحتمال الثاني يكون باطلاً كما كان باطلاً على الإخبار بنفس البيان أيضاً.

وأمّا الاحتمال الثالث فهو صحيح هنا من دون حاجة إلى التوجيه الذي وجّهناه به على الإخبار من جعل مجموع الجملتين جزاءً؛ فإنّ ثبوت اليقين بالوضوء فعلاً تعبّداً فرع عدم اليقين بالنوم، فلا بأس بجعله جزاءً له.

 

هل يخل بعض الفروض السابقة بالاستدلال؟

الناحية الثالثة: في أنّه هل يخلّ بعض هذه الفروض بالاستدلال بالحديث على الاستصحاب في جميع الأبواب أو لا؟

قد يتراءى أنّ استفادة القاعدة الكلّية من هذا الحديث لا تتمّ لو جعلنا قوله: «لا ينقض اليقين بالشكّ» جواباً؛ لأنّ الجواب إنّما يكون على حدّ الشرط وبمقداره سعةً وضيقاً، فيلزم أن يختصّ ذلك بباب الوضوء باعتبار اختصاص الشرط في الكلام به.

ولكن لو جعلنا قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» جواباً بحسب عالم الإثبات، أي: باعتبار دليليته وكبرويته كما مضى منّا في توجيه الاحتمال الثالث، لم يلزم منه ذلك؛ فان غاية الأمر هي أنّ الإثبات المقصود في الحديث مختصّ بهذا الباب، ولا ينافي ذلك التمسّك بكلّيّة الكبرى في سائر الموارد.

على أنّه لو لم يتمّ اقتناص كبرىً كلّية من هذا الكلام في نفسه، كفانا بعض الوجوه السابقة في مقام فهم القاعدة الكلّية التي لم تكن مربوطة بدعوى كلّية نفس النصّ عموماً أو إطلاقاً، وذلك كما في التعدّي والتعميم بواسطة الارتكاز، فلا تبقى لهذه الفروض التي مضت في المقام ثمرة في مقام إمكان اقتناص المقصود وعدمه من الحديث فيما نحن فيه.

 

55

2 ـ شبهة استفادة قاعدة المقتضي والمانع من الرواية:

الأمر الثاني: قد يناقش في دلالة هذه الصحيحة على الاستصحاب بدعوى عدم معلوميّة كونها بصدد بيان الاستصحاب، وإنّما هي بصدد بيان قاعدة المقتضي والمانع، ويكون لاستفادة قاعدة المقتضي والمانع من هذا الحديث تقريبان:

التقريب الأوّل: أنّه قد اُسند اليقين في الحديث إلى الوضوء حيث قال: «كنت على يقين من وضوئك» ومن المعلوم أنّ الوضوء ليس شيئاً يدوم فنشكّ في انتقاضه وعدمه، وإنّما الوضوء عمل مخصوص ينتهي بانتهاء مدّة العمل. نعم، هو مقتض للطهارة التي تبقى إلى أن يأتي مانع عن البقاء وهو النوم، والمفروض في المقام احتمال تحقّق النوم، فالحديث ينطبق تماماً على قاعدة المقتضي والمانع دون الاستصحاب.

ويرد عليه: أنّ الوضوء ـ على ما ثبت في الفقه ـ قد اعتبره الشارع تعبداً طهارة، واعتبره ـ أيضاً ـ باقياً، فلو نظرنا إلى الوضوء بما هو فعل من الأفعال، لا معنى لاستصحابه كما بيّن في الإشكال. ولو نظرنا إليه بما هو طهارة قابلة للبقاء. صحّ إسناد اليقين إليه وفرض الشك في بقائه، وقد نظر الشارع إلى الوضوء بهذه النظرة في كثير من الروايات، كالروايات التي تقول: (إنّ العمل الفلاني من النوم أو غيره ينقض الوضوء) فإنّ الوضوء بما هو فعل من الأفعال لا معنى لنقضه بذلك، وفي نفس هذا الحديث قد نُظر إلى الوضوء بهذه النظرة، حيث قال الراوي في أوّل الحديث: «قلت له: الرجل ينام وهو على وضوء» وهذا يعني: أنّه نُظِر إلى الوضوء بما هو طهارة باقية إلى زمان النوم، فعبّر بتعبير: نام عليها، فظهر أنّ هذا الحديث لا يأبى عن حمله على الاستصحاب.

ولكن الحديث يأبى عن حمله على قاعدة المقتضي والمانع؛ وذلك لأنّ حذف متعلّق اليقين والشك مع وحدة سياقهما دليل على اتّحاد متعلقهما، فلا يناسب فرض متعلّق اليقين الوضوء، ومتعلق الشكّ النوم.

أضف إلى ذلك: أنّ الشكّ إذا كان متعلّقاً بشيء واليقين متعلّقاً بشيء آخر لم تكن من المناسب نسبة النقض بهذا الشك الى ذاك اليقين، فلا بدّ أن يكون ذلك باعتبار المتيقّن والمشكوك، وهو خلاف الظاهر، إذن فلا بدّ من حمل الحديث على الاستصحاب.

التقريب الثاني: أنّه لو كان الحديث ناظراً إلى الاستصحاب لكان يُجرى استصحاب عدم النوم الحاكم على استصحاب الطهارة، ولا مجال لاستصحاب الطهارة لثبوت الاستصحاب في جانب السبب، وهو ناقض الطهارة، وهذا بخلاف ما لو حملناه على قاعدة المقتضي

56

والمانع؛ فإنّه لا توجد هنا قاعدة اُخرى سببيّة تحكم على القاعدة المذكورة في الحديث، فهذا شاهد على إرادة قاعدة المقتضى والمانع.

وقد يجاب على ذلك: بأنّ مورد الرواية هي الشبهة المفهومية؛ لأنّ الراوي يسأل عن الحالة التي يحرّك في جنب النائم الشيء وهو لا يعلم هل هذه الحالة تعتبر نوماً فيبطل الوضوء أو لا؟ وعليه، فلا مجال للاستصحاب الموضوعي الحاكم في المقام بناءً على ما هو الصحيح من عدم جريان الاستصحاب الموضوعي في الشبهات المفهوميّة.

ويرد عليه: أنّه لا يمكن حمل الرواية على الشبهة المفهومية، بل الراوي سأل أوّلاً عن الشبهة المفهوميّة وعرف الضابط فيها بتفصيل الإمام(عليه السلام) بين نوم العين ونوم القلب والاُذن، ثمّ وصلت النوبة إلى الشبهة المصداقية، وعدم التفاته إلى ما حرّك في جنبه منشأ لشكّه في النوم، فسأل عن هذه الشبهة المصداقية، ولو كانت الشبهة مفهومية لكان السؤال عن حدود النوم المبطل للوضوء، وعندئذ لا معنى لأن يجيبه الإمام(عليه السلام) بالاستصحاب، بل لا بدّ من بَيانه(عليه السلام) للحكم الواقعي، وإنّما الذي يجري الاستصحاب في الشبهات الحكمية هو الفقيه غير العارف بالحكم الواقعي، لا الإمام(عليه السلام) الذي شأنه بيان الأحكام الواقعية، إذن، فلا بدّ من استيناف الجواب عن هذه الشبهة.

ويمكن أن يجاب عنها بما يلي:

1 ـ ما سوف يظهر ـ إن شاء الله ـ من أنّ حكومة الأصل السببي على المسبّبي ممّا لا أساس له، وإنّما يقدّم بوجه عرفي الأصل السببي على المسبّبي إذا كانا متعارضين، وفيما نحن فيه لا تعارض بينهما، فلا بأس بالتمسّك باستصحاب الطهارة.

2 ـ لو سلّمنا صحّة مبنى الحكومة في نفسه قلنا: إنّ مقتضى هذا الحديث تقييد نكتة الحكومة وتخصيصها بخصوص الأصل السببي المعارض للمسبّبي دون الموافق له، فإنّه إذا دار الأمر بين رفع اليد عن إطلاق ذلك أو عن الظهور الذي بيّناه للحديث في الاستصحاب كان المتعيّن هو الأوّل حتماً.

3 ـ أن يفرض في المقام أنّ النوم حدّ للطهارة لا مانع عنها، بمعنى كون عدمه مأخوذاً في موضوع الحكم ببقاء الطهارة، وعندئذ لا يترتّب على استصحاب عدم النوم أثر شرعيّ إلاّ بالملازمة، حيث إنّ لازم عدم ثبوت الحدّ والغاية ثبوت المغيّى، وليس ثبوت المغيّى أثراً لعدم النوم مترتباً عليه على حدّ ترتب الحكم على موضوعه، فعندئذ لا يجري استصحاب عدم النوم.

57

ويرد عليه: أنّ العرف لا يتعقّل التفكيك بين فرض عدم النوم داخلاً في موضوع الحكم ببقاء الطهارة وفرض النوم حدّاً وغايةً، بل يفهم من الثاني ـ أيضاً ـ الأوّل، على أنّ هذا الكلام إنّما يتوجّه بناءً على فرض الحكم عبارة عن الاعتبارات والإنشاءات ونحو ذلك. وأمّا بناءً على ما هو الحقّ من أنّه لا بدّ من لحاظ نفس الحبّ والبغض، فلا محالة يكون عدم النوم دخيلاً في عالم الحبّ والبغض، وإلاّ لما جعل النوم غاية وحدّاً للحكم، فيرجع ذلك إلى كون عدم النوم موضوعاً، ولا يبقى فرق بينهما.

4 ـ أن يقال: إنّ الطهارة من الاُمور التكوينية التي كشف الشارع عنها، وليست حكماً شرعياً مترتّباً بقاؤها على عدم النوم حتّى يمكن إثباتها باستصحاب عدم النوم، فلا بدّ من استصحاب نفس الطهارة، ولا يكفي استصحاب عدم النوم المستلزم تكويناً لبقاء الطهارة.

ويرد عليه: عدم صحّة المبنى، أعني: كون الطهارة من الاُمور التكوينية لا حكماً شرعياً. وتحقيق ذلك موكول إلى الفقه.

 

3 ـ شبهة أنّ السلب في (لا تنقض اليقين) للعموم لا للعامّ:

الأمر الثالث: جاء في كلام الشيخ الأعظم(قدس سره) ذكر شبهة في المقام، وهي: أنّ قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» قد يكون سلباً للعموم لا سلباً للعامّ، فلا يدلّ على الاستصحاب بنحو القضية الكلّية. واستظهر هو(قدس سره) كونه سلباً للعام لا للعموم(1).

وهذه الشبهة في نفسها لم تكن تستحقّ الذكر، إلاّ أنّ المحقّق النائيني(رحمه الله) ذكرها وفصّل الكلام في تحقيق الحال فيها، ولعلّه لأجل استخلاص قانون عام يفيد في كثير من الموارد، فذكر(قدس سره): أنّ العموم إذا كان مستفاداً بمعنىً اسمي أمكن فيه توجه السلب إلى العموم؛ لكونه منظوراً إليه بالاستقلال، كما أمكن توجّهه إلى العامّ. وأمّا إذا كان مستفاداً بمعنىً حرفي من قبيل اللام بناءً على إفادته للعموم، أو بنفس كون اسم الجنس في سياق النفي، كما في قوله: «لا


(1) راجع الرسائل: ص 331، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة الله.

وقد أجاب الشيخ(رحمه الله) على الشبهة:

أوّلاً: بأنّ اللام لا يدلّ على عموم واقع في سياق النفي حتّى يحمل ذلك على نفي العموم، وإنّما العموم مستفاد من وقوع الجنس في سياق النفي؛ وذلك يدلّ على سلب العامّ.

وثانياً: بأنّه لو سلّم أنّ اللام للاستغراق، فدلّ على العموم، وكان العموم في سياق النفي، قلنا: إنّ الظاهر بقرينة المقام والتعليل وقوله: «أبداً» هو عموم السلب، لا سلب العموم.

58

تنقض اليقين» فلا يمكن أن يكون السلب متوجّهاً إلى العموم. أمّا في الأوّل فلأنّ العموم مستفاد بمعنىً حرفي، والمعنى الحرفي غير منظور إليه استقلالاً، فلا يمكن توجيه السلب إليه. وأمّا في الثاني فلأنّ العموم مستفاد بحكم العقل من باب أنّ سلب الطبيعة لا يكون عقلاً إلاّ بسلب تمام أفرادها، وهذا كما ترى عموم في طول السلب فيستحيل توجه السلب إليه(1).

ويوجد في تقرير الشيخ الكاظمي(قدس سره)(2) تشويش في المقام، حيث ذكر في عنوان المطلب الفرق بين العموم والإطلاق بكون الأوّل معنىً اسمياً يلحظ مستقلاً، فيصحّ توجّه السلب إليه، والثاني معنىً حرفياً غير ملحوظ استقلالاً. ثمّ ذكر في مقام بيان الفرق: أنّ الإطلاق ومقدّمات الحكمة يكون في طول الحكم، فيستحيل توجّه السلب إليه(3).

وهذا الكلام ـ بغضّ النظر عن أنّه يغاير ما عنون به المطلب ـ إن كان صادراً من المحقّق النائيني(قدس سره) يوجب تهافتاً في مبانيه، وذلك لأنّه(قدس سره) يرى أنّ العامّ دائماً يحتاج إلى الإطلاق ومقدّمات الحكمة؛ لكون أداة العموم إنّما تدلّ على شمول ما اُريد من مدخوله بالإرادة الجدّية من الأفراد، فلا بدّ من تعيين ذلك بالإطلاق، وإذا كان الإطلاق في طول الحكم إذن فالسلب لا يتسلّط على العموم بلا فرق بين العام و المطلق.

وعلى أيّ حال، فما ذكره(قدس سره) ـ من أنّ العموم إذا كان بنحو المعنى الحرفي لا يمكن تسلط النفي عليه لكونه غير ملحوظ استقلالاً ـ يرد عليه: أنّ تسلّط النفي عليه ليس معناه لحاظه استقلالاً وتوجيه النفي إليه، وإنما معناه تسلط النفي على العامّ بما هو عامّ، لا على ذات العامّ، كما هو الحال عند إرادة نفي أيّ قيد حرفيّ، فمثلاً إذا اُريد نفي تقيّد الجلوس بكونه في الدار لا نفي أصل الجلوس، يقال: (ما جلست في الدار)، فقد نفيت هنا النسبة الظرفيّة، لكن لا بمعنى توجيه النفي ابتداءً إلى النسبة الظرفيّة حتى يقال: إنّ المعنى الحرفي لا يلحظ مستقلاًّ، بل بمعنى توجيه النفي إلى المقيّد بما هو مقيّد، فينفى ـ لا محالة ـ القيد.

وأمّا ما ذكره(قدس سره) من أنّ الإطلاق إذا كان بملاك وقوع الطبيعة في سياق النفي فهذا إطلاق عقليّ في طول النفي ولا يمكن أن يتوجّه إليه النفي، فيرد عليه: أنّ العقل إنّما يحكم بأنّ ما نفي لا بدّ من انتفاء تمام أفراده. وأمّا أنّه هل نفيت ذات الطبيعة بلا قيد حتّى ينتفي تمام أفرادها، أو


(1) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 361.

(2) ج 4، ص 121، بحسب الطبعة التي هي من منشورات مؤسّسة النصر ومكتبة النصر بطهران. وص 338 ـ 339 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(3) ليس هذا نقلاً لكل ما ورد في فوائد الاُصول، وإنّما هو نقل لما ذكره بلحاظ المفرد المحلّى باللام.

59

نفيت الطبيعة مقيّدة بقيد حتى ينتفي تمام أفراد المقيّد، فهذا غير مرتبط بحكم العقل، ولا بدّ من تعيين الأول بمقدّمات الحكمة، فلا يبقى إلاّ أن يقال: إنّ العموم الحَكَميّ معنىً حرفي لا يلحظ مستقلاًّ، فلا يتوجّه إليه النفي. وقد عرفت ما فيه، أو يقال: إنّ العموم الحَكَمي في طول الحكم، فلا يتوجّه إليه النفي، وهذا ما قلنا: إنّه يوجب التهافت بين مبانيه(قدس سره).

وإن كان الصحيح عندنا هو هذا، أعني: التفصيل بين العموم والإطلاق بأنّ الأوّل يمكن توجّه السلب إليه؛ لعدم كونه في طول الحكم، والثاني لا يمكن توجيه السلب إليه؛ لكونه في طول الحكم.

توضيح ذلك: أنّ هنا فرقاً جوهرياً بين العامّ والمطلق، وهو: أنّ العامّ يحكي بذاته عن الأفراد بغضّ النظر عن الحكم الثابت عليه. وأمّا المطلق فلا يحكي عن الأفراد، ولا يكون ذاته حاكياً إلاّ عن الماهيّة الجامعة بين الأفراد، وإنما الإطلاق معناه وقوع الماهية موضوعاً للحكم بلا دخل لأيّ قيد في ذلك، فيسري الحكم إلى تمام الأفراد، فقبل الحكم لا يتصوّر إطلاق وشمول للأفراد، وإنّما يكون ذلك في طول الحكم، وعليه فلا يمكن توجّه السلب إلى الإطلاق، فيكون المسلوب نفس المطلق.

هذا. ويشبه هذا البحث ما يقال في مثال: (إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء) من أنّه هل المعلّق على الشرط مطلق السلب، فينتج مفهوماً عامّاً، أو السلب المطلق، فلا ينتج مفهوماً عامّاً؟

وفي الحقيقة هنا ربطان:

الأوّل: ربط المحمول بالموضوع في الجزاء، أيّ: سلب التنجيس عن الشيء، وهذا يكون داخلاً في ما بيّناه من أنّ شموله يكون بالإطلاق الذي هو في طول الحكم، فلا يكون النفي متوجّهاً إلى الإطلاق.

والثاني: تعليق الجزاء على الشرط، وحيث إنّ هذا يكون بعد تكوّن الإطلاق، فتوجّه التعليق إلى الإطلاق معقول كما يعقل تعليق ذات المطلق. فعلى الأوّل لا ينتج مفهوماً عامّاً، وعلى الثاني ينتج ذلك، وقد استظهرنا في ما سبق في بحث المفاهيم كون المعلّق في باب القضايا الشرطية ذات المطلق، فينتج مفهوماً عامّاً، لكنّنا استثنينا في الفقه من ذلك ما يكون من قبيل قوله: (الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجسه شيء)، فقلنا: إنّه في مثل ذلك يكون المعلّق هو الحكم المطلق بما هو مطلق، لا مطلق الحكم، فلا ينتج مفهوماً عامّاً. وشرح الكلام في ذلك من حيث المستثنى والمستثنى منه خارج عن المقام.

60

4 ـ شبهة اقتصار الاستصحاب على موارد الارتكاز:

الأمر الرابع: قد مضى أنّ أحد الوجوه الصحيحة لتعميم حكم الاستصحاب في هذه الصحيحة عن مورده هو التمسّك بالارتكاز العرفي، وقد يقال إشكالاً على هذا الوجه: إنّه لا يثبت به إطلاق الحكم بالنحو المقصود، بل لا بدّ من الاقتصار على موارد الارتكاز، ففي مثل مورد الظنّ بالخلاف مثلاً يشكل إثبات الاستصحاب بهذا الحديث؛ لعدم معلوميّة ثبوت الارتكاز فيه.

والجواب: أنّ الارتكاز العرفي قد يكون جليّ الأطراف واضح الحدود في نظر العرف، فيصرف الحكم ـ لا محالة ـ إلى نفسه بحدوده وقيوده، وقد يكون ارتكازاً مطّاطاً مختلف المراتب غير واضح الحدود ولا جليّ الأطراف، وهذا هو الحال في ما نحن فيه، وهذا الارتكاز غاية ما يصنعه أنّه يُلغي خصوصية المورد؛ لكون دخول خصوصيّته على خلاف الارتكاز، وفي طول ذلك يجري الإطلاق ومقدّمات الحكمة لنفي خصوصية اُخرى محتملة الدخل في الحكم، فيثبت في المقام الحكم الاستصحابي بإطلاقه.

 

الرواية الثانية:

وهي صحيحة ثانية لزرارة، قال: «قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من المني، فعلّمت أثره إلى أن أصبّ عليه الماء (اصيب له الماء ـ خ ـ) فحضرت الصلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئاً، فصلّيت ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟ قال: تعيد الصلاة وتغسله. قلت: فإن لم أكن رأيت موضعه، وعلمت أنّه قد أصابه، فطلبته ولم أقدر عليه، فلمّا صلّيت وجدته؟ قال: تغسله وتعيد. قلت: فإن ظننت أنّه أصابه ولم أتيقّن، فنظرت ولم أرَ شيئاً، فصلّيت فرأيت فيه؟ قال: تغسله ولا تعيد. قلت: لمَ ذلك؟ قال: لأنّك كنت على يقين من طهارتك، فشككت، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً. قلت: فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدرِ أين هو فأغسله؟ قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه قد أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك. قلت: فهل عليّ إن شككت أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال: لا، لكنّك إنّما تريد أن تذهب بالشكّ الذي وقع في نفسك. قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال: تنقض الصلاة، وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً، قطعت الصلاة وغسلته، ثمّ بنيت على الصلاة؛

61

لأنّك لا تدري لعلّه شيء اُوقع عليك، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ»(1).

 

فقه الرواية:

وهذه الرواية قد تكفّلت ستّة أسئلة من قبل زرارة مع أجوبتها من قبل الإمام(عليه السلام).

1 ـ إذا صلّى الإنسان في ثوب نجس نسياناً لنجاسته بعد علمه بها، والجواب هو: وجوب إعادة الصلاة.

2 ـ لو علم إجمالاً بوقوع النجاسة في بعض نواحي الثوب ولم يقدر على تعيين موضعها بالفحص، فهل يكفي فحصه وعدم رؤيته لها بالرغم من علمه الإجمالي بوجودها، أو لا؟ والجواب يكون بالنفي. وقوله: «لم أقدر عليه» ظاهر في أنّ أصل وجود ما عُلم سابقاً يكون لا زال مفروغاً عنه لكنه لم يقدر على وجدانه، لا أنّ علمه الإجمالي تبدّل إلى الشكّ في أصل النجاسة. نعم، لو كان يعبّر بقوله: (لم أره) بدلاً عن قوله: (لم أقدر عليه) لأمكنت دعوى احتمال تبدّل علمه إلى الشكّ.

3 ـ لو ظننت الإصابة، ففحصت ولم أجد، فصلّيت فرأيت فيه، فقال(عليه السلام): «تغسله ولا تعيد» باعتبار أنّك كنت على يقين من الطهارة فشككت، ولا ينبغي نقض اليقين بالشكّ. وهذه الفقرة مع الفقرة السادسة هما محل الشاهد في هذا الحديث.

وهذا السؤال من زرارة يتصوّر فيه احتمالات أربعة، أحدها فاسد يقيناً، والباقي محتمل على اختلاف درجات الاحتمال.

الأوّل: أن يقصد أنّه فحص إلى أن حصل له العلم بعدم وجود النجاسة، ثمّ صلّى، وبعد الصلاة وجدها، وعلم بأنّها هي النجاسة التي ظنّ بها ولم يجدها.

وبناءً على هذا الاحتمال لا يكون حال السائل من موارد الاستصحاب، ولا من موارد قاعدة اليقين؛ لأنّه لم يكن شاكّاً لا في حال الصلاة، لعلمه بالطهارة، ولا بعدها لعلمه بالنجاسة في حال الصلاة. ومن هنا يكون هذا الفرض غير محتمل، باعتبار أنّ المفروض في جواب الإمام(عليه السلام) هو تطبيق قاعدة من قواعد الشكّ، وفرض وجود شكّ في المقام.

الثاني: أنّه علم بالعدم عند الفحص وعدم الظفر، وبعد الوجدان عقيب الصلاة احتمل كونها نفس ما فحص عنها وعدمه، فينطبق على المقام الاستصحاب بلحاظ حال السؤال،


(1) التهذيب: ج 1، ح 1335.

62

لا حال الصلاة، باعتبار اليقين بالطهارة قبل طروّ هذه النجاسة، كما تنطبق على المقام قاعدة اليقين باعتبار اليقين بالطهارة في حال الصلاة الزائل بعد الصلاة بالشكّ الساري.

الثالث: عكس الصورة السابقة، أي: أنّه عند الفحص لم يحصل له العلم بالعدم، وبعد الصلاة حصل له العلم بأنّ ما وجده هو ما كان يفحص عنه، فينطبق على المقام الاستصحاب بلحاظ حال الصلاة وحال السؤال معاً؛ إذ كان على يقين من طهارة الثوب قبل هذه النجاسة، ولم يتيقّن في حال الصلاة ولا بعدها بنجاسته في حال الصلاة، ولا تنطبق قاعدة اليقين لعدم يقين بالطهارة زائل بعد ذلك بالشكّ الساري.

الرابع: عكس الصورة الاُولى، أي: لا يحصل له كلا العلمين: لا العلم بالعدم عند الفحص، ولا العلم بعد الصلاة بأنّ ما وجده هو الذي كان يفحص عنه، وعندئذ ينطبق على المقام ـ أيضاً ـ الاستصحاب بلحاظ كلا الحالين، ولا تنطبق قاعدة اليقين.

4 ـ السؤال عن مورد العلم الإجمالي بالإصابة وعدم تعيّن موضعها، والجواب: أنّه يغسل أطراف العلم الإجمالي.

5 ـ عند الشكّ البدوي في أصل النجاسة هل يجب الفحص؟ فأجاب(عليه السلام) بالنفي.

6 ـ لو وجدت النجاسة في أثناء الصلاة لا بعدها فماذا أصنع؟ فالإمام(عليه السلام) ذكر فرضين، فقال: «تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً قطعت الصلاة وغسلته، ثمّ بنيت على الصلاة؛ لأنّك لا تدري لعلّه شيء اُوقع عليك، ولا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً».

وهذا الجواب يحتمل فيه احتمالان:

الأوّل: أن يكون المقصود بالشكّ في موضع منه الشك البدوي، وبقوله: «إن لم تشكّ» أيضاً نفي الشكّ، فبيّن(عليه السلام) حكم فرضين: الأوّل: ما إذا شكّ في النجاسة ثمّ رآها وعلم أنّها نفس ما شكّ فيها، فحكم بالبطلان. والثاني: ما إذا لم يكن كذلك، فاحتمل كون النجاسة وقعت الآن؛ إذ رآها دفعة من دون احتمالها قبل ذلك، فحكم(عليه السلام) بالصحّة.

الثاني: أن يكون المقصود بالشكّ في موضع منه الشكّ في الموضع بعد فرض العلم الإجمالي بأصل النجاسة، وبقوله: «إن لم تشكّ» أيضاً نفي الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي، لا نفي مطلق الشكّ.

ويتبيّن حكم الفرض الأوّل ـ وهو ما إذا شكّ بدواً في النجاسة ثمّ رآها وعلم أنّها نفس ما شكّ فيها ـ من مفهوم التعليل، حيث قال(عليه السلام): «لأنّك لا تدري لعلّه شيء اُوقع عليك»،

63

فيظهر من ذلك أنّه لو علم أنّ النجاسة كانت من السابق بطلت صلاته.

ولكلّ من الاحتمالين مؤيّدات:

أمّا مؤيّدات الاحتمال الأوّل فكما يلي:

1 ـ أنّه لو كان المقصود الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي لكان هذا تكراراً لما مضى في الفقرة الثانية، ولما مضى في الفقرة الرابعة، باعتبار أنّ وجوب الغسل المذكور في الفقرة الرابعة ليس وجوباً نفسياً، بل هو مقدّمة لصحّة الصلاة، والعرف لا يفرّق بين فرض كون العلم الإجمالي ثابتاً قبل الصلاة وكونه عارضاً في أثناء الصلاة.

2 ـ أنّ الظاهر من قوله: «وإن لم تشكّ» نفي أصل الشكّ، كما أنّ الظاهر ـ أيضاً ـ من قوله: «إن شككت» بغضّ النظر عن كلمة(في موضع منه) التي قد تدّعى قرينيته على إرادة العلم الإجمالي ـ وسوف يأتي الكلام فيه ـ هو إثبات أصل الشكّ.

3 ـ وهو العمدة، أنّ الظاهر من قوله: «ثم رأيته» دخل الرؤية في البطلان، ومع فرض العلم الإجمالي تبطل الصلاة بقطع النظر عن الرؤية.

4 ـ أنّ قوله: «تنقض الصلاة» قد يستفاد منه أنّه كان للصلاة نوع استحكام، فالآن تنقضها، ومع فرض العلم الإجمالي كانت الصلاة باطلة من قبل، ولم يكن لها أيّ استحكام.

وهذا المؤيّد الأخير غير صحيح؛ لإنّه لو حملنا العبارة على الشكّ البدوي يقال أيضاً: إنّ الصلاة بطلت قبل أن ينقضها هو ولو آناً مّا، باعتبار أنّه بمجرد أن حصل له العلم بأنّه صلّى في ثوب نجس بطلت صلاته فقد انتفى استحكامها، فما معنى قوله: «تنقض الصلاة»؟! إذن فالمقصود من قوله: «تنقض الصلاة» هو رفع اليد عن الصلاة، ولا ربط له بفرض الاستحكام.

وأمّا مؤيّدات الاحتمال الثاني فأمران:

1 ـ أنّه إن كان المقصود الشكّ البدوي كانت كلمة(في موضع منه) زائدة، وبلا فائدة.

2 ـ أنّه إن كان المقصود الشكّ البدوي كان بالإمكان في الشقّ الأوّل أن يفرض ـ أيضاً ـ عدم العلم بأنّ النجاسة التي رآها كانت موجودة من قبل، فلماذا ذكر الإمام(عليه السلام)هذا الفرض في الشقّ الثاني فقط؟!

والتحقيق: أنّ هذين المؤيدين غير صحيحين:

أمّا الأوّل؛ فلأنّه ليست كلمة(في موضع منه) مناسبة لفرض العلم الإجمالي، فإنّ المناسب لفرض العلم الإجمالي إنّما هو أن يأتي بكلمة(الموضع) معرفةً بأن يقول مثلاً:(إن شككت في

64

الموضع منه) أو (في موضع النجاسة)، فكأنّ أصل وجود موضع للنجاسة معهود وقد شكّ في الموضع. وأمّا مع إتيانه نكرةً، فيكون معنى الكلام: أنّه وقع الشكّ في النجاسة في موضع من مواضع الثوب، لا أنّ هنا موضعاً مفروغاً عنه للنجاسة شكّ في تعيينه، ولعلّ السرّ في ذكر الموضع في المقام أنّه إذا كان شكّ في موضع معيّن ثمّ رآى النجاسة في نفس ذلك الموضع، كان هذا أقرب إلى حصول العلم بأنّ ما رآها هي نفس ما شكّ فيها، بخلاف ما إذا شكّ في وقوع النجاسة في الثوب إجمالاً ثمّ رآى نجاسة في موضع مّا من مواضعه، إذن فلا تصبح كلمة(موضع) زائدة.

وأمّا الثاني؛ فلأنّه يحتمل أن يكون عدم ذكر الإمام(عليه السلام) لفرض الشكّ في كون النجاسة التي رآها نفس النجاسة التي شكّ فيها مسبقاً في الشقّ الأوّل بنكتة أنّ الشكّ السابق إذا كان في موضع معيّن ـ على ما ذكرناه في الجواب على المؤيّد الأوّل ـ ثمّ رآها في نفس ذلك الموضع يحصل عادة الاطمئنان بأنّها نفس ما شكّ فيها.

أضف إلى ذلك احتمال أن تكون الفقرة السادسة تتمّة للفقرة الخامسة، توضيح ذلك: أنّ زرارة قال في الفقرة الخامسة: هل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ فأجاب(عليه السلام) بالنفي، ثمّ قال في الفقرة السادسة: إن رايته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ فإن فرض أنّ هذا تتمة للسؤال السابق، كان الضمير في(رايته) راجعاً إلى نفس النجاسة التي شكّ أنّه أصابته، فيكون فرض زرارة هو فرض العلم بأنّ ما رآه هو نفس ما كان قد شكّ فيه، فأجاب الإمام(عليه السلام) بأنّه إذا كان هكذا وجبت الإعادة، ثمّ ذكر(عليه السلام) فرعاً زائداً على سؤال زرارة وهو قوله: «وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً...الخ».

 

ما ادّعاه الشيخ الأعظم(قدس سره) من التعارض:

بقي في المقام شيء: وهو أنّ الشيخ الأعظم(قدس سره) أوقع المعارضة بين جواب الإمام(عليه السلام)على السؤال الأخير لزرارة وجوابه على السؤال الثالث، حيث إنّه يظهر من الفقرة الأخيرة أنّه إذا رآى نجاسة في ثوبه في أثناء الصلاة، وعلم أنّها كانت موجودة من قبل بطلت صلاته، ولا يكفي له أن يطهّر موضع النجاسة من حين الرؤية (وهذا الحكم يستفاد من هذه الفقرة على كلا تفسيريها، غير أنّه بدلالة منطوقيّة على تفسير، وبمفهوم التعليل على تفسير آخر)، وهذا الحكم لا يمكن الأخذ به مع فرض صحّة الصلاة إذا وقعت تماماً في اللباس النجس جهلاً ثمّ علم بذلك بعد الصلاة على ما يستفاد من الفقرة الثالثة، فإنّ كون الصلاة نصفها واقعاً في

65

الثوب النجس ليس بأسوأ حالاً من وقوع تمامها في الثوب النجس(1). وهذا بناءً على ما حملوا عليه الفقرة الثالثة من فرض أنّه بعد الصلاة حصل له العلم بالنجاسة في حال الصلاة.

وأجاب السيد الاُستاذ عن ذلك بأنّ ملاكات الأحكام غير معلومة لدينا، ولا يمكننا قياس بعضها ببعض، فلعلّ الملاك الواقعيّ كان بنحو اقتضى هذا التفصيل الغريب عن الذهن(2).

أقول: إن كان مراد الشيخ الأعظم(قدس سره) دعوى أنّه لا يتصوّر عقلاً التفصيل بين الموردين في الحديث بالحكم بالصحّة في المورد الأوّل والفساد في الثاني، أمكن أن يكون هذا الكلام جواباً له، ولكن قد يدّعى وجود التعارض بحسب الفهم العرفي بين الفقرتين، بدعوى: أنّ العرف يتعدّى في الفقرة الاُولى من المورد وهو وقوع تمام الصلاة في الثوب النجس إلى فرض وقوع نصفها فيه، فيرى للفقرة إطلاقاً يدلّ على الصحّة في الفرض الثاني أيضاً، وكذلك يتعدّى في الفقرة الثانية من الفرض الثاني إلى الفرض الأوّل، ويرى لها إطلاقاً للفرض الأوّل.

وهذا المقدار من التقريب يمكن الجواب عليه بارتفاع إطلاق كل منهما بنصّ الآخر.

ولكن قد يدّعى أنّ العرف لا يتعقّل هذا التفكيك بأن يكون وقوع نصف الصلاة في الثوب الطاهر موجباً لأسوئية الحال، بحيث لا يرى لهذا التعارض جمعاً، فيحصل الإجمال لا محالة.

وهذا ـ كما ترى ـ ليس جوابه ما ذكره السيد الاُستاذ من عدم معلوميّة ملاكات الأحكام لنا(3)، بل يكون حلّه بإبراز نكتة يحتمل العرف كونها فارقة. وتوضيح الحال في


(1) راجع الرسائل: ص 331، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة الله.

(2) راجع مصباح الاُصول: ج 3، ص 52.

(3) الذي أفهمه من مصباح الاُصول هو أنّه ليس مقصود السيد الخوئي إنكار وجود قيمة لارتكازية عدم إمكان التفكيك بين فرض وقوع بعض الصلاة في النجس بالحكم ببطلانها وفرض وقوع كلّها في النجس بالحكم بصحتها وأولويّة الثاني بالبطلان من الأوّل، بل مقصوده إنكار فرض ارتكاز عرفي من هذا القبيل أساساً؛ وذلك لأنّ الحكم بالبطلان لم يكن حكماً له جذور عقلائية في ذهن العرف حتّى يقال: إنّ العرف لا يتعقّل التفكيك، أو أنّه يرى البطلان في الفرض الثاني أؤلى، بل كان حكماً تعبّدياً بحتاً، فلا معنىً لاستبعاد التفكيك، أو ارتكاز الأولويّة.

أقول: إنّ هذا الكلام غريب؛ لأنّ ارتكازية عدم التفكيك في الحكم بين أمرين أو الأولويّة ليست دائماً على أساس ارتكازية نفس الحكم أو أولويّته، بل قد تكون على أساس مناسبة مّا مفترضة لدى العرف بعد فرض

66

ذلك: أنّ من صلّى في ثوب نجس ثمّ اطّلع في أثناء الصلاة في غير حالات الاشتغال بأعمال الصلاة على نجاسته، فطهّره وأكمل الصلاة، قد مضت عليه ثلاث حالات:

1 ـ حالة وقوع مقدار من الصلاة في الثوب النجس من دون علم بالنجاسة إلاّ متاخراً.

2 ـ حالة كونية للصلاة في الثوب النجس مع العلم بذلك من دون الاشتغال بعمل صلاتي.

3 ـ الإتيان بباقي الصلاة في ثوب طاهر.

أمّا الحالة الثالثة فلا يتعقّل العرف دخلها في الفرق، بأن يوجب ذلك أسوئيّة الحال وبطلان الصلاة.

وأمّا الحالة الثانية فأيضاً لا يتعقّل كونها هي المبطلة للصلاة بعد أن حكم الإمام(عليه السلام)في نفس الفقرة السادسة بصحّة الصلاة في الشقّ الثاني، أيّ: في غير فرض انكشاف كون النجاسة ثابتة من أوّل الأمر، فإنّ هذه الحالة موجودة هناك أيضاً.

قد تقول: إنّ النجاسة المعلومة في آن من آنات الكون في الصلاة في الشق الأوّل من تلك الفقرة كانت نجاسة بقائية، في حين أنّ النجاسة المعلومة في الشقّ الثاني من المحتمل كونها نجاسة حدوثية، فلعلّ هذا الفرق هو الفارق بأن يكون المبطل للصلاة هو العلم في آن من الآنات الكونية للصلاة بالنجاسة البقائية، لا بمطلق النجاسة ولو الحدوثية.

ولكن إن لم نقل: إنّ هذا بنفسه تفكيك غير عرفي وإنّ العرف لا يحتمل دخل حدوثية وبقائية النجاسة في الصحّة والبطلان، قلنا: إنّ هذا خلاف ظاهر تعليل الإمام(عليه السلام) لصحّة الصلاة في الشقّ الثاني باستصحاب عدم النجاسة إلى حين الرؤية؛ إذ لو كان المبطل هو الوجود البقائي للنجاسة لا ثبوت النجاسة من أوّل الأمر، لكان استصحاب عدم النجاسة بذاته غير مصحّح للصلاة، وإنّما الذي يصحّح الصلاة هو لازمه وهو عدم كون النجاسة الفعلية بقائية.

 


ثبوت الحكم تعبداً، وما نحن فيه من هذا القبيل، فصحيح أنّ أصل بطلان الصلاة بوقوع بعضها في النجس ليس أمراً ارتكازياً أو عقلائياً، بل هو أمر تعبّدي، لكن الذهن العقلائي العرفي يستبعد بعد فرض ثبوت هذا الحكم ـ ولو تعبداً ـ عدم ثبوته في فرض وقوعها تماماً في النجس؛ لأنّه يرى أنّ مناسبة هذا الحكم ـ لو كان ـ تكمن في قذارة مّا وقعت فيها الصلاة التى هي معراج المؤمن الموجودة في الفرض الثاني بشكل أقوى.

وبكلمة اُخرى: أنّ مبطليّة وقوع جزء من العمل الصلاتي في النجس وإن لم تكن ارتكازية، لكن عدم مبطلية وقوع الجزء الآخر منه في الطاهر أو عدم مصحّحيّة وقوع الجزء الآخر منه ـ أيضاً ـ في النجس ارتكازي.

67

فإن قلت: لا بأس بذلك، ولتكن نفس هذه الرواية عندئذ دليلاً على حجّيّة الاستصحاب المثبت للوازم.

قلت: إنّ ظاهر تعليل الصحّة باستصحاب عدم النجاسة هو أنّ المصحّح للصلاة نفس عدم النجاسة السابقة، لا ما يلزم من ذلك من عدم كون النجاسة الفعلية بقائية.

وعليه، فالحالة الفارقة في المقام إنّما هي الحالة الاُولى، وهي وقوع القسم الأوّل من الصلاة في الثوب النجس، وإنّما كان ذلك مبطلاً للصلاة لحصول العلم بالنجاسة في أثناء الصلاة. وهذا بخلاف فرضيّة الفقرة الثالثة للحديث، فإنّ النجاسة لم يعلم بها إلى أن انتهى من الصلاة، وكون هذا فارقاً ليس على خلاف ارتكاز عرفي.

والحاصل: لو كنّا وإطلاق أدلّة ما نعيّة النجاسة لكنّا نقول بما نعيّتها مطلقاً، لكنّنا نخرج عن هذا الإطلاق بمقتضى هذا الحديث بناءً على تفسيرهم للفقرة الثالثة، وبمقتضى أحاديث اُخرى دلّت على صحّة الصلاة في الثوب النجس مع الجهل، فنقول: إنّ هنا قيداً لموضوع المانعيّة، وهو أن تصبح النجاسة معلومة في الصلاة ولو بوجودها البقائي فيها، أو تتنجّز بأيّ منجّز آخر غير العلم كالبيّنة، وحيث إنّ هذا القيد لم يكن حاصلاً في فرضيّة الفقرة الثالثة حكم الإمام(عليه السلام) بالصحّة، وحيث إنّه كان حاصلاً في فرضية الفقرة السادسة فصّل الإمام(عليه السلام) بين ما إذا علم بأنّ النجاسة كانت ثابتة من أوّل الأمر وما إذا شكّ في ذلك، فإن علم بذلك بطلت الصلاة، وإن شكّ في ذلك جرى استصحاب عدم النجاسة، وحكم بصحة الصلاة.

وأمّا كون هذه صحّة واقعيّة أو ظاهريّة؟ فإن قلنا: إنّ قيد المانعية هو تنجّز النجاسة ولو بوجودها البقائي، كانت الصحّة ظاهرية، وإن قلنا: إنّه هو تنجّز نفس القطعة المبطلة من النجاسة ولو كان تنجزها متاخّراً عنها زماناً، فالاستصحاب هنا رافع لهذا التنجز، صحّت الصلاة واقعاً. والظاهر هو الأوّل؛ لأنّ ظاهر استدلاله(عليه السلام) بالاستصحاب الذي هو حكم ظاهري هو الاستدلال به بما هو حكم ظاهري ينجّز الواقع ويعذّر عنه.

 

كيفية الاستدلال بالرواية:

وبعد هذا كلّه نشرع في الكلام في أصل ما هو المقصود إثباته من هذا الحديث وهو الاستصحاب الذي يستفاد من الفقرة الثالثة والسادسة.

ولنبدأ أوّلاً بالكلام في الفقرة الثالثة، واليك نصّ السؤال والجواب: (فإن ظننت أنّه قد

68

أصابه ولم أتيقّن ذلك، فنظرت فلم أرَ شيئاً، فصلّيت فرأيت فيه، قال: تغسله ولا تعيد الصلاة، قلت: لِمَ ذلك؟ قال: لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً).

ولا يخفى: أنّه بناءً على استفادة الاستصحاب من هذا الحديث نستفيده بنحو الكبرى الكلّيّة لا بنحو يختصّ بمورد الحديث، فإنّ الوجوه التي مضت للتعميم في الصحيحة الاُولى تاتي هنا، لا سيّما أنّ كلام الإمام(عليه السلام) هنا أظهر في كونه بصدد التعليل، حيث ذكر كبرى الاستصحاب بعد سؤال السائل عن علّة الحكم، فتكون الوجوه التي كانت مبنيّة على استظهار العلّية أقوى وأظهر في هذا الحديث منها في ذاك الحديث.

ومحتملات الرواية أمران: أحدهما: الاستصحاب، والثاني: قاعدة اليقين. والمتعيّن هو الأوّل.

توضيح ذلك: أنّ المفروض في الإمام(عليه السلام) أنّه عند بيانه للأحكام يتكلّم كإنسان متعارف، ولا يعمل علم الغيب في ذلك المقام، وعليه فجواب الإمام(عليه السلام) في هذه الفقرة ينبغي أن يكون على أساس ما يستفاد من سؤال زرارة فيها، لا على أساس علم الإمام بالغيب بما في نفس زرارة، كما هو واضح، ومن هنا يظهر أنّ تطبيق كلام الإمام على الاستصحاب صحيح، وتطبيقه على قاعدة اليقين غير صحيح، والوجه في ذلك: أنّ أركان الاستصحاب مفروضة في كلام السائل، وأركان قاعدة اليقين غير مفروضة في كلامه، ولعلّها كانت مفروضة في مقصوده، لكن المفروض أنّ الإمام(عليه السلام) لا يعمل علم الغيب في مقام بيان الأحكام:

أمّا أركان الاستصحاب فهي اليقين السابق والشكّ اللاحق: أمّا اليقين السابق فيستفاد من قوله: «ظننت أنّه قد أصابه» الظاهر في أنّه كان قبل ذلك عالماً بالطهارة، بل قد لا يكون من المعقول عرفاً عدم اليقين بالطهارة حدوثاً بحيث كان زرارة شاكّاً في الطهارة منذ خلق الثوب. وأمّا الشكّ اللاحق فهو مفروض على كلّ تقدير، ولذا يطبّق الإمام(عليه السلام) في المقام قاعدة من قواعد الشكّ.

وأمّا أركان قاعدة اليقين فهي اليقين السابق مع الشكّ الساري، وهذا لا ينطبق في المقام إلاّ إذا فرض أمران: أحدهما: أنّه كان في حال الصلاة عالماً بطهارة ثوبه، بأن كان فحصه وعدم وجدانه مؤدّياً الى علمه بالعدم. وثانيهما: أنّه بعد أن رآى النجاسة في ثوبه بعد الصلاة لم يحصل له العلم بأنّها نفس النجاسة التي فحص عنها، وهذا الأمر الثاني وإن كان هو الظاهر من قوله: «رأيت فيه» حيث لم يقل: (رايته فيه) ممّا يظهر أنّه علم بأصل النجاسة لا بكونها

69

النجاسة السابقة، لكن الأمر الأوّل لا يظهر من قوله: «نظرت فلم أرَ شيئاً» فإنّه لا يستفاد من ذلك حصول العلم له بالفحص بعدم النجاسة، وذلك لا لأنّ مجرّد الفحص وعدم الوجدان لا يكشف عن عدم الوجود، وأنّ عدم الوجدان أعمّ منه، فإنّ تطبيق قاعدة أعمّية عدم الوجدان من عدم الوجود في المقام مبتن على التدقيق في حساب الاحتمالات، والإنسان الاعتيادي كثيراً مّا يحصل له القطع أو الاطمئنان بالطهارة بواسطة الفحص وعدم الظفر، باعتبار غلبة كشف عدم الوجدان في أمثال هذه الاُمور الحسّيّة عن عدم الوجود، فهذه العبارة تصلح لأن تكون مُفهِمة لليقين بالطهارة وقرينة عليه فيما لو اعتمد المتكلم على الغلبة المذكورة. ويؤيّد هذا ما ذكره الإمام(عليه السلام) في جواب السؤال الخامس، حيث سأل زرارة: «هل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال: لا، ولكنّك إنّما تريد أن تذهب بالشكّ الذي وقع في نفسك»، ممّا يدلّ على أنّه(عليه السلام) فهم من النظر والفحص حصول الجزم واليقين.

بل النكتة في عدم تماميّة استظهار الأمر الأوّل من هذه الفقرة هي أنّ مثل هذه العبارة وإن كانت صالحة للتعبير عن فرض حصول اليقين والاطمئنان لكنّها صالحة ـ أيضاً ـ للتعبير عن غير ذلك، باعتبار أنّه ليس دائماً يحصل للإنسان بهذا الفحص العلم بالعدم، بل كثيراً مّا لا يحصل ـ أيضاً ـ العلم بذلك، وذلك إذا لم يعتمد الفاحص على تلك الغلبة المذكورة، فليست العبارة ظاهرة في حصول الجزم والاطمئنان ما لم يعلم أنّ السائل اعتمد على الغلبة المذكورة، فتكون مجملة من هذه الناحية، ففهم حصول العلم للسائل بالعدم يتوقّف على إعمال الغيب في المقام، والمفروض خلافه. وعليه، فيتعيّن كون الفقرة ناظرة إلى الاستصحاب دون قاعدة اليقين.

وبعد هذا يقع الكلام في أنّ ما ذكر في الحديث من الاستصحاب هل هو بلحاظ حال الصلاة أو بلحاظ ما بعد الصلاة، أي: أنّ المقصود من الشكّ الذي لا ينبغي نقض اليقين به هل هو الشكّ في حال الصلاة الذي ينسجم مع فرض حصول العلم بعد الصلاة بوقوعها مع النجاسة، أو الشكّ بعد الصلاة في ثبوت النجاسة حال الصلاة؛ لاحتمال طروّ النجاسة بعدها؟ الصحيح هو الثاني؛ وذلك لما عرفت من أنّ قوله: «نظرت فلم أرَ شيئاً» مجمل من ناحية فرض كونه عالماً بالعدم بواسطة هذا الفحص وكونه شاكّاً، فكما أنّ حمل العبارة على فرض العلم بالعدم يحتاج إلى إعمال العلم بالغيب كما مضى،كذلك حملها على الشكّ يحتاج إلى إعمال العلم بالغيب، فلو حملنا الحديث على الاستصحاب في حال الصلاة لزم عدم اقتناص

70

الركن الثاني للاستصحاب وهو الشك حال الصلاة من كلام السائل، وهذا بخلاف ما لو حملناه على الاستصحاب فيما بعد الصلاة، فإنّ الشكّ بعد الصلاة مقتنص من قوله: «رأيت فيه» حيث لم يقل: «رأيته فيه» كما صنعه في بعض الفقرات الاُخرى، ممّا يظهر أنّه علم بأصل النجاسة فقط لا بسبقها. إذن فالرواية ظاهرة في الاستصحاب بلحاظ ما بعد الصلاة(1).

ولا يوجد شيء في مقابل هذا الاستظهار عدا القول بأنّ زرارة لو كان مفروضه هو الشكّ في النجاسة في حال الصلاة وعدم العلم بذلك حتّى بعد الصلاة، لم يكن وجه لاستغرابه من صحّة الصلاة وسؤاله للإمام عن علّة الحكم؛ إذ من البعيد جدّاً ـ بلحاظ جلالة مقامه، ورفعة شأنه في اطلاعه على الأحكام والقواعد ـ أنّه لم يكن يعلم بأنّ الحكم عند الشكّ هو الصحّة لأجل الاستصحاب، فيسأل بل يستغرب حينما يأتي الجواب بالصحّة، ويسأل عن علّة ذلك، وهذا بخلاف ما لو حمل على فرض العلم بعد الصلاة بالنجاسة حال الصلاة، فإنّه ـ عندئذ ـ يكون سؤاله عن الحكم واستغرابه الصحّة في محلّه.

ولكنّ التحقيق: أنّ الذي يحدس من مجموع هذه الرواية أنّ زرارة ارتكز في ذهنه ـ ولو بلحاظ سؤاله لفرض النسيان وفرض العلم الإجمالي وإجابة الإمام(عليه السلام) فيهما بالبطلان ـ أنّ النجاسة لها مانعيّة واقعيّة، ومبنيّاً على ذلك ارتكز في ذهنه أنّه لا بدّ للدخول في الصلاة من تحصيل أمارة عرفيّة مثلاً على نفي هذا المانع الواقعيّ، حتّى يكون معتمداً على طريقة


(1) لا يخفى: أنّه لو بنينا على صحّة الصلاة واقعاً في النجس عن جهل فقد يقال: إنّ تعليل صحّة الصلاة بالاستصحاب بلحاظ ما بعد الصلاة مع فرض كفاية ما كان له في حال الصلاة من اليقين بالطهارة أو استصحاب الطهارة بعيد؛ إذ لو كان قد علم بعد الصلاة بوقوع الصلاة في النجاسة لكانت صلاته صحيحة؛ لما كانت لديه في حال الصلاة من طهارة خيالية أو استصحابية، فلماذا تعلّل صحّة الصلاة بالاستصحاب الجاري بلحاظ ما بعد الصلاة؟

ولكن قد يقال بالمقابل: إنّ المصحّح للصلاة هو الجامع بين إحراز الطهارة أو عدم النجاسة في داخل الصلاة ولو خياليّاً أو ظاهريّاً، وإحراز ذلك بعد الصلاة على فرق بينهما، وهو أنّ الأوّل لو انكشف خلافه بعد الصلاة لم يضرّ ذلك بالحكم بالصحّة على ما هو المستفاد من بعض الروايات من صحّة الصلاة لدى الجهل بالنجاسة، في حين أنّ الثاني لو انكشف خلافه بطلت الصلاة؛ إذ لا دليل على كفاية إحراز خيالي أو ظاهري بعد الصلاة آناً مّا، ومع انكشاف الخلاف فإذا كان المصحّح للصلاة هو الجامع بين الأمرين كان من حقّ الإمام(عليه السلام) أن يعلّل صحّة الصلاة بأيّ فرد شاء من فردي هذا الجامع، وقد علّلها بالفرد الثاني.

أو يقال: إنّ المصحّح للصلاة هو الجامع بين الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية أو الخيالية حين الصلاة، وإنّ الفرد الأوّل وهو الطهارة الواقعية أكمل الفردين، فالإمام(عليه السلام) تمسّك لإثبات صحّة الصلاة بإثبات الفرد الأوّل إثباتاً ظاهرياً بعد الصلاة.

71

عقلائية في مقام إحراز القيد الدخيل في صحّة الصلاة، ولهذا فرض في الفقرة الثالثة أنّه حينما ظنّ بالإصابة فحص ولم يرَ شيئاً، فدخل في الصلاة، أي: أنّه إنّما صلّى على أساس هذه الأمارة العرفية، وهي الفحص وعدم الظفر. وعليه انفتح باب السؤال عن أنّه لو فرض أنّ هذه الأمارة سقطت عن الأماريّة بعد الصلاة، بأن رأى النجاسة بعد الصلاة فاحتمل كونها نفس ما كان يفحص عنه، فإنّه في مثل هذا الفرض يسقط عادة الفحص السابق عن الأمارية، فماذا يصنع؟ هل تصحّ الصلاة مع أنّ الأمارة التي كان المركوز في الذهن أنّه لا بدّ منها للدخول في الصلاة سقطت عن الأماريّة بعد الصلاة، أو لا؟ فسأل عن ذلك، فأجاب الإمام(عليه السلام) بأنّ الصلاة صحيحة؛ لأنّ ما كان هو الوجه في صحّة الصلاة لم يكن في الحقيقة هو الفحص الزائل أماريّته، بل هو الاستصحاب. وأمّا مسألة كون زرارة عارفاً بالأحكام والقواعد، فكيف يعقل أن يسأل بل يستغرب الحكم بالصحّة مع فرض الشكّ وعدم العلم حتّى بعد الصلاة؟ فجوابها: أنّ زرارة بالتدريج أصبح عارفاً بالأحكام والقواعد، ولا ندري تأريخ سؤاله للإمام(عليه السلام) عن هذه المسألة، وأنّه هل وقع بعد صيرورته عارفاً بالأحكام وعالماً جليلاً، أو قبلها. وتشهد لعدم اطّلاعه على القواعد وعدم استيعابه لأحكام من هذا القبيل عند صدور هذه الرواية جملة من أسئلته في نفس هذه الرواية، كسؤاله عن فرض الشكّ البدوي في النجاسة، وأنّه يجب الفحص أولا، مع أنّ من الواضح فقهياً عدم وجوب الفحص، وكسؤاله عن أنّه لو علم إجمالاً بنجاسة موضع من ثوبه فماذا يصنع، مع وضوح أنّه لا بدّ من غسل أطراف العلم الإجمالي، وكسؤاله عن الصلاة في الثوب مع علمه إجمالاً بنجاسة موضع منه، مع وضوح بطلان هذه الصلاة، وأنّه لا يصحّ له من أوّل الأمر الدخول فيها.

وقد تلخّص ممّا ذكرناه: أنّ الظاهر من هذا الحديث هو فرض كونه شاكّاً في النجاسة وغير عالم بها حتّى بعد الصلاة.

ومن هنا يتبيّن أنّه لا موضوع للإيراد المشهور على الرواية من أنّه ليست إعادة الصلاة في المقام نقضاً لليقين بالشكّ، وإنّما هي نقض لليقين باليقين؛ لأن المفروض أنّه تيقّن بعد الصلاة بالنجاسة، فكيف علّل الإمام(عليه السلام) الصحّة وعدم الإعادة بمسألة عدم جواز نقض اليقين بالشكّ؟

نعم، بناءً على التفسير المشهور للرواية من حملها على فرض العلم بعد الصلاة بالنجاسة في حال الصلاة يكون لهذا الإشكال مجال، وعند ئذ يقع الكلام في جهات ثلاث:

72

1 ـ أنّ هذا الإشكال إن لم يمكن حلّه فهل يضّر بالاستدلال بهذه الفقرة على الاستصحاب أو لا؟

2 ـ أنّه هل يمكن حلّ هذا الإشكال أو لا؟ وما هو حلّه؟

3 ـ في تحقيق أصل المطلب، أي: كيفيّة دخل طهارة الثوب ونجاسته في صحّة الصلاة وبطلانها، وأنّه هل هذا قيد علمي أو قيد واقعي أم ماذا؟ وهل الطهارة شرط أو النجاسة مانعة؟

 

مضرّية الإشكال المشهور بالاستدلال على التفسير المشهور للرواية:

أمّا الجهة الاُولى: فقد ذكر المحقّق الخراساني(رحمه الله) في الكفاية: أنّ هذا الإشكال لو لم يمكن حلّه لا يضّر باستدلالنا بالاستصحاب بهذه الفقرة؛ لأنّه ليس إشكالاً مختصّاً بفرض حملها على الاستصحاب كي يصبح قرينة على حملها على قاعدة اليقين، فإنّ المفروض أنّه قد حصل له العلم بالنجاسة، فيكون هذا نقضاً لليقين باليقين لا نقضاً لليقين بالشكّ، سواءً فرض الشكّ سارياً أو غير سار(1).

وكأنّه(قدس سره) يرى أنّ الإشكال في المقام يكون على مستوى الفهم العرفي، ويحتمل عدم وروده واقعاً.

أقول هذا كي لا يلزم من كلامه الأخذ بما يرد على تطبيقه الإشكال قطعاً سواءً حملناه على الاستصحاب أو على القاعدة، والتسليم بورود الإشكال على ما يفترض كونه كلاماً للإمام(عليه السلام).

وعلى أيّة حال، فهذا الكلام بهذا المقدار قد اعترض عليه المعلّقون كالمحقّق الإصفهاني(رحمه الله)(2)، ونعم ماصنعوا، فإنّ الذي يستفيد قاعدة اليقين من الرواية لا يفرض أنّها ناظرة إلى قاعدة اليقين بالنسبة لحال الصلاة ـ كما كان يمكن فرض ذلك بناءً على الاستصحاب ـ، فإنّ شكّه في حال الصلاة لم يكن شكّاً سارياً كما هو واضح، بل يفرض أنّها ناظرة إلى ما بعد الصلاة، أي: أنّه يحمل قوله: «رأيت فيه» على فرض العلم بأصل النجاسة والشكّ في تقدّمها، فحمل الرواية على قاعدة اليقين ملازم لحمل قوله: «رأيت فيه» على


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 294، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكيني.

(2) راجع نهاية الدراية: ج 5، ص 81 بحسب طبعة آل البيت.

73

فرض الشكّ في سبق النجاسة.

نعم، للمحقّق الخراساني(رحمه الله) أن يقول: إنّ الذي أوجب في المقام دفع الإشكال ليس هو في الحقيقة حمل الرواية على قاعدة اليقين، بل ما يلزمه من حمل قوله: «رأيت فيه» على فرض الشكّ في تقدّم النجاسة، وحمل الرواية على قاعدة اليقين وإن لم يمكن تفكيكه عن حمل جملة: (رأيت فيه) على فرض الشكّ في سبق النجاسة، لكن العكس ممكن. وعليه، فغاية ما يصنعه الإشكال في المقام ـ إن لم نتمكّن من حلّه ـ هو أنّه يوجب الاضطرار إلى رفع اليد عن ظهور كلمة: (رأيت فيه) في العلم بسبق النجاسة، وهذا ما لا بدّ منه حتى على فرض حمل الرواية على قاعدة اليقين، فليس هذا موجباً لصرف الرواية عن الاستصحاب إلى قاعدة اليقين.

وتحقيق الكلام في هذا المقام هو: أنّه لا بدّ أن نرى ما هو الوجه في استفادة الاستصحاب من هذه الفقرة؟ فإن كان الوجه في استفادة ذلك نفس ظهور قوله: «رأيت فيه» في العلم بسبق النجاسة، حيث إنّه مع العلم بسبق النجاسة يستحيل انطباق قاعدة اليقين على المقام، ولكن يمكن استفادة الاستصحاب في المقام ولو بلحاظ حال الصلاة، كان العجز عن حلّ هذا الإشكال مخلاًّ بالاستدلال؛ لأنّ هذا إشكال على نفس هذا الظهور، ولو رفعنا اليد عن هذا الظهور كانت نسبة الرواية الى الأستصحاب والقاعدة على حدّ سواء، وتكون مجملة من هذه الناحية. وأمّا إذا كان الوجه في استفادة الاستصحاب شيئاً آخر من قبيل ما مضى منّا من أنّ أركان الاستصحاب مستفادة من كلام السائل، وأركان قاعدة اليقين غير مستفادة منه، فلا بدّ من حمل الرواية على الاستصحاب، فقد يقال: إنّ عدم حلّ هذا الإشكال لا يضرّ بالاستدلال؛ لأنّ هذا الإشكال مصبّه هو ظهور غير مرتبط باستفادة الاستصحاب، ويستفاد الاستصحاب من الحديث حتى بغضّ النظر عن هذا الظهور، وحمله على خلاف ظاهره من فرض عدم العلم بسبق النجاسة.

إلاّ أنّ الصحيح هو: أنّ هذا الإشكال ـ لو عجزنا عن حلّه ـ يضرّ بالاستدلال حتّى مع فرض كون نكتة استفادة الاستصحاب غير الظهور الذي انصبّ عليه هذا الإشكال؛ والوجه في ذلك هو: أنّ هذا الإشكال ليست غاية مفعوله رفع اليد عن ذلك الظهور حتّى يقال: إنّ هذا لا يضرّ بالاستدلال؛ لعدم ارتباطه بذلك الظهور حسب الفرض، بل هذا الإشكال يولّد ـ لا محالة ـ الظنّ بوقوع سقط أو خلل في الرواية، فيكون إخبار الراوي وشهادته على أنّ هذا المقدار هو الصادر من الإمام(عليه السلام) بدون أيّ خلل موهوناً، باعتبار