444

نتكلّم في جهتين:

 

الجهة الاُولى: في الأثر المباشر.

فنقول: إنّنا أثبتنا في محلّه أنّه ليست للحكم الشرعي مرحلتان: مرحلة الجعل، ومرحلة المجعول والفعلية، وهي المرحلة التي تكون موضوعاً لحكم العقل بالتنجيز، وإنّما هنا مرحلة واحدة، وهي مرحلة الجعل، ويترتّب التنجيز العقلي على نفس العلم بمجموع الكبرى وهي الجعل الكلّي، والصغرى وهي الموضوع الخارجي، سواء كان العلم بأحدهما أو كلا العلمين علماً وجدانياً، أو علماً تعبّدياً بلسان التنزيل، أو بلسان إبقاء اليقين، أو بأيّ لسان آخر.

إذن فحينما نستصحب حياة زيد التي هي موضوع لوجوب الصلاة مثلاً فالصغرى وهي الحياة علمت تعبّداً، والكبرى وهي وجوب الصلاة عند حياة زيد معلومة وجداناً، فلا محالة يترتّب على ذلك التنجيز عقلاً.

 

الجهة الثانية: في الاثر الشرعي غير المباشر الذي يتصل بالمستصحب بواسطة الآثار الشرعية.

فنقول إذا ثبت بالبيان الماضي الأثر المباشر ثبت لا محالة الأثر غير المباشر، وذلك لأنّ الأثر غير المباشر مرجعه إلى الأثر المباشر، فإنّ معنى كون الحكم الأوّل موضوعاً لحكم ثان، أي: إنّه مهما وجبت الصلاة علينا فقد وجب التصدّق مثلاً هو أنّ مجموع الكبرى والصغرى في الحكم الأوّل وهما حياة زيد وجعل وجوب الصلاة على تقدير حياته موضوع للحكم الثاني وهو وجوب التصدّق، فالمستصحب يكون بالنسبة للآثار المترتّبة جزء الموضوع، وجزء جزء الموضوع، وهكذا، ويكون هذا الجزء من الموضوع معلوماً بالتعبّد، وباقي الأجزاء معلوماً بالوجدان مثلاً، وكبرى الأثر المطلوب إثباته وهي الجعل معلومة ـ ايضاً ـ بالوجدان مثلاً، ويترتّب عقلاً على معلومية هذه الاُمور التنجيز، وبهذا المعنى يتمّ أن يقال: إنّ أثر الأثر أثرٌ إذا كان كلاهما شرعيين، أي: إنّ موضوع الموضوع موضوع.

فإذا كان مقصود المحقّق النائيني (رحمه الله) ممّا مضى من أنّ كون أثر الأثر أثر يتمّ إذا كانا من سنخ واحد هو هذا، فما ألطف هذا الكلام، فإنّهما إن كان تكوينيين فمن العلوم أنّ علّة العلّة علّة، وإن كانا تشريعيين فقد عرفت أنّ موضوع الموضوع موضوع، ولكن ليست عليّة الموضوع موضوعاً، فإن كان هذا هو مقصود المحقّق النائيني (رحمه الله) ولكنّه لم يتّضح في خلال تعبيرات مَن

445

وصلت إلينا إبحاثه عن طريقهم، فلعلّه ما أكثر التحقيقات اللطيفة للمحقق النائيني(رحمه الله) التي فاتتنا، ولم تصلنا عنه، إلاّ أنّ كون هذا مقصوداً له بعيد.

هذا تمام الكلام في أصل تنبيه الأصل المثبت.

وبقي التنبيه على اُمور:

 

تنبيهات الاصل المثبت

 

بطلان الاستصحاب المثبت بالتعارض:

الأمر الأوّل: قد يبطل الاستصحاب المثبت لا عن طريق بيان عدم حجيّته في نفسه ـ كما عرفت ـ بل عن طريق اسقاطه بالمعارضة لاستصحاب عدم ذلك الأثر التكويني.

وهذا يختلف من حيث الأثر العملي عن طريقتنا في أنّه بناءً على طريقتنا يجري استصحاب عدم ذلك الأثر وتترتّب عليه الآثار الشرعية لعدم ذلك الأثر، وبناءً على هذا الطريق قد سقط هذا الاستصحاب بالتعارض.

وذكر الشيخ الأعظم (رحمه الله)(1): أنّ الاستصحاب المثبت على تقدير جريانه في نفسه حاكم على الاستصحاب النافي لذلك الأثر التكويني ؛ لدخول ذلك في الأصل السببي والمسبّبي، فاستصحاب الحياة مثلاً حاكم على استصحاب عدم الإنبات.

وذكر المحقّق العراقي (رحمه الله)(2) في المقام ثلاثة فروض:

الفرض الأوّل: أن يكون المبنى كون استصحاب شيء مثبتاً لجميع ملازمات ذلك الشيء، سواءً كانت في سلسلة المعلولات أو العلل، أو كانت في عرض المستصحب معلولة لشيء ثالث.

وذكر: أنّه في هذا الفرض يكون استصحاب الحياة حاكماً على استصحاب عدم الإنبات، واستصحاب عدم الإنبات ـ ايضاً ـ حاكماً على استصحاب الحياة؛ لأنّه كما ينظر استصحاب العلّة إلى المعلول كذلك العكس، فيحصل التوارد بين الاستصحابين ويتساقطان.

الفرض الثاني: أن يكون المبنى هو أنّ استصحاب شيء يثبت جميع معلولات ذلك


(1) راجع الرسائل ص385 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة الله.

(2) راجع نهاية الأفكار القسم الأوّل من الجزء الرابع ص182 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم.

446

الشيء، ولكن استصحاب المعلول لا يثبت العلة.

وذكر: أنّه على هذا الفرض يكون استصحاب الحياة حاكماً على استصحاب عدم الإنبات دون العكس.

الفرض الثالث: أن يكون المبنى أنّ الاستصحاب لا يثبت إلاّ الآثار الشرعية، إلاّ أنّه لا يختصّ بالآثار الشرعية المباشرة أو التي تكون بواسطة أثر شرعي، بل يثبت حتّى الآثار الشرعية التي تكون بواسطة أثر تكويني.

وذكر: أنّه على هذا الفرض يقع التعارض بين الاستصحابين ؛ لأنّ استصحاب عدم الإنبات ينفي وجوب التصدّق مثلاً المترتّب على الإنبات، واستصحاب الحياة يثبت وجوب التصدّق، فيتعارضان.

والسيّد الاُستاذ حذف فرض كون الاستصحاب مثبتاً لجميع العلل والمعلولات والملازمات وأضاف فرضاً آخر، وهو فرض كون حجيّة الاستصحاب من باب الأمارية والظنّ، وقال: إنّه على هذا يكون استصحاب الحياة حاكماً على استصحاب عدم الإنبات(1).

فمجموع الفروض أصبحت أربعة:

أمّا الفرض الأوّل، وهو فرض إثبات كلّ الملازمات بما فيها العلل والمعلولات فما ذكره المحقق العراقي (رحمه الله) فيه من تساقط الاستصحابين يمكن أن يورد عليه: ان استصحاب عدم الإنبات لا ينظر إلى الحياة ؛ إذ لا معنى لأن ينظر إلى الحياة لكي ينفيها استطراقاً إلى نفي موضوع وجوب التصدّق الذي هو أثر لأثر الحياة ؛ وذلك لأنّ استصحاب عدم الإنبات ينفي رأساً موضوع وجوب التصدّق، فما معنى الرجوع إلى الوراء بنفي الحياة النافي للإنبات؟!

إذن، فاستصحاب الحياة حاكم على استصحاب عدم الإنبات، دون العكس.

ويمكن الجواب عن ذلك بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ المفروض في هذا المبنى أنّ استصحاب شيء يثبت جميع ملازمات ذلك الشيء، إذن فاستصحاب الحياة يثبت رأساً وجوب التصدّق، اذ هو من ملازمات الحياة، فاذا كان استصحاب الحياة يثبت رأساً وجوب التصدّق من دون حاجة إلى إثبات الإنبات فهو يعارض استصحاب عدم الإنبات الذي يثبت عدم وجوب التصدّق، ويتساقطان ولا


(1) راجع مصباح الأصول ج3 ص159 بحسب طبعة مطبعة النجف في النجف الأشرف.

447

يكون أحد الاستصحابين مقدّماً على الآخر بناءً على المبنى المتعارف في وجه تقدّم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي.

وقد اتّضح بما ذكرناه أنّ الصحيح في المقام هو التعارض، لا ما ذكره المحقّق العراقي (رحمه الله)من التوارد.

الوجه الثاني: مبنيّ على مبنى المحقّق النائيني (رحمه الله) من أنّه يكفي في الاستصحاب ترتّب الأثر على نفس الاستصحاب، ويثبت ذلك الأثر، ومثّل لذلك السيّد الاُستاذ باستصحاب الفقيه بعض أحكام الحائض، حيث إنّه لا يترتّب على ذلك في حقّه إلاّ جواز الافتاء الذي هو أثر للاستصحاب لا المستصحب.

وعليه، نقول في المقام:إنّ استصحاب عدم الإنبات ينفي الحياة لا لنفي الإنبات النافي لوجوب التصدّق فحسب، حتّى يقال لا معنى لذلك بعد كونه بنفسه نفياً للإنبات،بل الأثر يترتّب على نفس الاستصحاب، وهو اسقاطه لاستصحاب الحياة بالحكومة. إذن، فكلّ من الاستصحابين ـ لو خلّي وطبعه ـ يكون داخلاً في إطلاق دليل الاستصحاب فيقع التعارض والتوارد ويتساقطان.

وأمّا الفرض الثاني، وهو فرض إثبات المعلولات فحسب، فما ذكره المحقق العراقي (رحمه الله)فيه من حكومة استصحاب الحياة على استصحاب عدم الإنبات صحيح على التصوّرات المشهورة في تقدّم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي.

وأمّا الفرض الثالث، وهو فرض إثبات الآثار الشرعية فحسب ولو بواسطة أثر تكويني، فما ذكره المحقّق العراقي (رحمه الله) فيه من تعارض الاستصحابين وتساقطهما بالإمكان الإيراد عليه بأنّ استصحاب عدم الإنبات يقدّم على استصحاب الحياة ـ بعكس ما هو المترقّب من تقدم استصحاب الحياة على استصحاب عدم الانبات ـ، وذلك بناءً على الإيمان بمجموع مبنيين:

1 ـ إنّه إذا كان عندنا عامّ يشمل الأفرادبالعموم، وأحوال كلّ فرد بالإطلاق، ودار الامر بين إخراج فرد بالتخصيص وإخراج أحد أحوال فرد آخر بالتقييد، كان الثاني أولى لتقدّم العموم على الإطلاق.

2 ـ تماميّة الاستدلال للاستصحاب بالصحيحة الثالثة التي جاء فيها (لا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات) فإذا فرض الجمع بين هذين المبنيين قلنا: إنّ جملة: (لا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات) لها ظهور في العموم، ودار الأمر بين إخراج فرد منه وهو استصحاب

448

اليقين والشكّ في بقاء عدم الإنبات الناتج من الشكّ في بقاء الحياة، وإخراج بعض آثار استصحاب بقاء الحياة وهو الأثر المترتّب على الإنبات،والثاني أولى بحسب ما هو المفروض في المبنى الأوّل من هذين المبنيين.

وأمّا الفرض الرابع، فذكر السيّد الاُستاذ فيه:أنّ استصحاب الحياة حاكم على استصحاب عدم الإنبات لان المفروض أنّ الاستصحاب حجّة من باب الأمارية والظن، وإذا حصل الظن بالحياة فقد حصل الظنّ بالإنبات، ومعه يستحيل حصول الظنّ بعدم الإنبات.

ولعلّ مفروضه هو كون الاستصحاب حجّة من باب الظنّ الشخصي، وإلاّ فبالإمكان أن يتناقض ظنّان نوعيان ويتعارضا.

فلنفرض الكلام في الظنّ الشخصي ومع ذلك نقول: إنّ هذا المقدار من البيان في المقام ناقص ؛ إذ كما يمكن أن يقال أنّ الظنّ بالحياة يوجب الظنّ بالإنبات، ومعه يستحيل الظنّ بعدم الإنبات، كذلك يمكن العكس، وهو أن الظنّ بعدم الإنبات يوجب الظنّ بعدم الحياة، ومعه يستحيل الظنّ بالحياة، فإنّ الحياة والإنبات وإن كان الأوّل منهما دائماً هو العلّة للثاني وجوداً وعدماً، ولكن كما أنّ العلم بالعلّة أو الظنّ بها يصبح علة للعلم بالمعلول أو الظنّ به كذلك العلم بالمعلول أو الظنّ به يصبح علة للعلم بالعلة أو الظنّ بها.

كما أنّ مجرّد كون الحياة علّة للإنبات لا يوجب حكومة الأمارة الموجودة في جانب الحياة على الأمارة الموجودة في جانب الإنبات، أفترى أنّه لو بدّل الاستصحاب بخبر الثقة قدّم الخبر الحاكي حياة زيد على الخبرالحاكي عدم الإنبات؟! طبعاً من الواضح أنّ الخبرين يتعارضان.

وتحقيق الحال في هذا المقام هو: أنّه إن كان الاستصحاب يورث الظنّ سواء فرض نوعياً أو شخصياً، فهذا الظنّ يجب أن يكون قائماً على أساس حساب الاحتمالات إمّا بنحو الحساب الكاشف عن نكتة في طبيعة الشيء، كما يقال: إنّ غلبة السوادفي الغربان تكشف عن اقتضاء طبيعة الغراب للسواد مثلاً فكذلك في المقام يقال: إنّ غلبة بقاء الحوادث والأحوال تكشف عن اقتضائها للبقاء. وإمّا بنحو القضيّة الخارجية من قبيل ما إذا أخبرنا مخبر صادق عن أنّ تسعة من هؤلاء الأفراد الخمسة عشر قد سمّوا محمّداً، فكلّ واحد منهم نراه نظنّ أنّ اسمه محمّد.

فإن فرض الأوّل، أعني الظنّ على أساس اكتشاف طبيعة الشيء واقتضائه، فهذا معناه

449

أنّه يوجد عندنا كشفان:

أحدهما: الكشف عن كون طبيعة الحياة مقتضية للاستمرار والبقاء.

وثانيهما: الكشف عن كون طبيعة عدم اللحية مقتضية للبقاء.

ولا منافاة بين الكشفين أبداً، لكن يوجد التنافي بين تأثير المنكشفين، وجانب اقتضاء طبيعة الحياة يقدّم على جانب اقتضاء عدم اللحية ؛ لافتراض أنّ بقاء الحياة علّة للالتحاء ومؤثّرة فيه تكويناً.

وهذا هو السرّ في ما ارتكز في ذهن السيّد الاُستاذ من حكومة استصحاب الحياة على استصحاب عدم اللحية، ويكون ما نحن فيه شبيهاً بما لو أخبرنا ثقة بوقوع نار في البيت الفلاني، وأخبرنا ثقة آخربأنّه هطل على تلك النارفي نفس الوقت ماء كثير، فإنّنا نصدّق كلا الخبرين، ولا يكون أيّ تعارض بينهما، ونحكم بأنّ الماء غلب على النار،ولم يحترق البيت ؛ لأنّ الماءالكثير يغلب على النار تكويناً.

ولو كان الاستصحاب أمارة تعبّدية وحجّة شرعاً من باب الأمارية الصِرف، فأيضاً يكون الجاري هو استصحاب الحياة دون استصحاب عدم الإنبات ؛ لأنّها فرضت كالأمارة التكوينية، إذ المفروض أنّه جعل حجّة بلحاظ الأماريّة الصِرف، فيتبع قوانين الأمارية التكوينية.

وإن فرض الثاني،أعني الظنّ على أساس القضية الخارجية، كما لو افترضنا العلم بخمسة عشر اُمور خمسة منها عبارة عن وجود خمسة رجال، وخمسة أخرى عبارة عن عدم التحائهم، وخمسة ثالثة عبارة عن وجود خمسة نساء، وأخبرنا صادق بأنّ تسعة اُمور من هذه الخمسة عشر باقية، فعندئذ يكون كلّ واحد من هذه الاُمور التسعة ـ لوخلّي وطبعه ـ مظنون البقاء على أساس هذا الإخبار، ولكن من الطبيعي هنا أن يتعارض الظنّ ببقاء كلّ رجل بنحو القضية الخارجية مع الظن بعدم التحائه بعد فرض الملازمة بين البقاء والالتحاء، ولا توجد أيّ حكومة أو تقدّم في المقام.

وطبعاً الصحيح في ما يفرض من الظنّ الاستصحابي هو الأوّل، أعني كونه ظنّاً قائماً على أساس اكتشاف طبيعة الشيء، لا على أساس القضية الخارجية، فإنّ حوادث العالم ليست محصورة في خمسة عشر أمراً مثلاً حتّى يمكن افتراض إجراء الحساب فيها بنحو القضية الخارجية.

خفاء الواسطة

الأمر الثاني: في خفاء الواسطة.

450

ذكر الشيخ الأعظم (قدس سره): أنّه مع خفاء الواسطة يجري الاستصحاب بمسامحة العرف، وأمضى ذلك المحقّق الخراساني (رحمه الله).

وأما المحقّق النائيني (رحمه الله) فلم يقبل ذلك، وذكر: أنّ خفاء الواسطة أو بعض الارتكازات ومناسبات الحكم والموضوع(1) إن أوجب في دليل ذلك الحكم ظهوراً في كونه مترتباً رأساً على نفس المستصحب، إذن لم نحتج إلى التمسّك في إجراء الاستصحاب بخفاء الواسطة ؛ إذ الأثر الشرعي صار حقيقةً أثراً للمستصحب، فيجري الاستصحاب بلحاظه، وإلاّ فلا يجري الاستصحاب، ولا عبرة بمسامحة العرف في مقام التطبيق بعد أن كان مفهوم دليل الاستصحاب ومفهوم دليل ذلك الحكم واضحاً، فمفهوم دليل الاستصحاب هو ترتّب الآثار التي تكون آثاراً للمستصحب بلا واسطة تكوينية، ومفهوم دليل ذلك الحكم هو أنّه حكم على الواسطة لا على المستصحب، ونتيجة ذلك ـ لا محالة ـ عدم جريان الاستصحاب.

وتحقيق الكلام في هذا المقام بعد افتراض أنّه ليست هنا ارتكازات ومسامحات تجعل دليل الحكم ظاهراً في كونه حكماً للمستصحب، وإلاّ لما كان من الاستصحاب المثبت الخفي الواسطة، وإنّما دليل الحكم ظاهر في كونه حكماً لتلك الواسطة الخفية: أنّ المباني المتصورة في عدم حجيّة الاستصحاب حينما يكون الاثر بواسطة أمر تكويني عديدة:

الأوّل: ما اخترناه من أنّ الاستصحاب لا ينظر في لسانه إلى التعبّد بالأثر ولو كان مباشراً، وإنّما يثبت تعبداً نفس المستصحب، ويترتّب على ثبوته وثبوت الكبرى التنجيز، وعندئذ من الواضح عدم جريان الاستصحاب في موارد خفاء الواسطة ؛ إذإنّ خفاء الواسطة لا يجعل الأثر الشرعي أحسن حالاً من الأثر المباشر، والاستصحاب بمدلوله اللفظي لا يثبت الأثر المباشر، غاية ما هناك أنّ العقل يحكم بترتّب التنجيز عند إحراز صغرى التكليف وكبرى التكليف معاً، ومن الواضح أنّ العقل لا يحكم بالتنجيز حينما اُحرزت الكبرى ولكن لم تحرز الصغرى، وإنّما اُحرز تعبداً شيء تكون الصغرى أثراً تكوينياً خفيّاً له، والمفروض أنّ التعبّد الاستصحابي بالشيء ليس مساوقاً للتعبّد بأثره.


(1) ذكر (رحمه الله): أنّ الظاهر أنّ عبارة التقرير تلائم كون المراد افتراض أنّ خفاء الواسطة سبّب ظهور دليل الحكم في كونه مترتّباً على المستصحب (وقال(رحمه الله): هذا غير معقول ؛ لأنّ الواسطة مهما كانت خفيّة يكون أخذها في لسان الدليل تنبيهاً للعرف إليها، ولا معنى لصرف الدليل إلى ما تترتّب عليه هذه الواسطة) وتلائم كون المراد افتراض أنّ بعض الارتكازات سبّب هذا الظهور (وقال (رحمه الله): إنّ هذا يصبح كلاماً غير مرتبط بما نحن فيه نهائياً ؛ إذ لا علاقة له بخفاء الواسطة).

451

الثاني: أنّ الاستصحاب أثبت ذات المستصحب فقط، وهو صغرى، ونضمّ إليها الكبرى المعلومة فيثبت الأثر، وهو فعليّة الحكم لا محالة.

وهذا المبنى حاله حال المبنى السابق كما هو واضح، إذ المفروض أنّ الاستصحاب لا ينظر إلى الآثار، والكبرى التي تثبت الأثر قد فرضنا أنّها تثبته على الواسطة الخفية،وأنّه ليست هناك مسامحة عرفية تجعل الكبرى ظاهرة في كون الأثر للمستصحب.

الثالث: أنّ الاستصحاب إنّما ينظر إلى الأثر المباشر، ولا يكون لدليل الاستصحاب نظر إلى الأثر مع الواسطة، وذلك لقصور دليل الاستصحاب في نفسه، لا بلحاظ الانصراف.

وإذا سلّمنا كون الاستصحاب ناظراً إلى الأثرالمباشر جاءت شبهة: أنّ مسامحة العرف تجعل الأثر المترتّب على الواسطة الخفيّة كأنّه الأثر المباشر ؛ لأنّه لا يرى الواسطة لخفائها.

وحلّ الشبهة ما سوف يأتي ـ إن شاء الله ـ في بحث اشتراط بقاء الموضوع من أنّ العرف إنّما يكون حجّة في موردين: (أحدهما): في باب مفاهيم الألفاظ وظهوراتها. (والثاني): في باب التطبيق إذا كان نظره نظراً مولويّاً وإنشائيّاً، لا نظراً إدراكيّاً وإخباريّاً، وذلك كما لو قلنا بأنّ عناوين المعاملات أسام للمسبّبات، وجاء حكم على البيع كحلّيّة البيع مثلاً، فهنا يحكّم نظرالعرف الإنشائي ؛ إذ يحكمُ مثلاً بأن المعاطاة تولّد المسبّب. وأمّا في المقام فحكم العرف يكون عبارة عن الإخبار والإدراك في مقام التطبيق، فيرى أنّ الأثر أثر للمستصحب؛ وذلك لأنّه لا يرى الواسطة لخفائها. ونظر العرف في مثل ذلك لا يكون حجّة.

الرابع: أن يقال: إنّ دليل الاستصحاب لولا الانصراف لشمل كلّ الآثار ولو كانت مع الواسطة، إلاّ أنّه منصرف عن الأثر مع الواسطة. وعندئذ إن قلنا: إنّ الانصراف أوجد قيداً في دليل الاستصحاب من قبيل قيد عدم الواسطة، أي: إنّنا أدّعينا الانصراف عن موارد وجود الواسطة كان ذلك حاله حال المبنى السابق ؛ إذ لا يبقى في البين إلاّ مسامحة العرف في التطبيق من باب عدم إدراكه للواسطة في المقام. وإن قلنا: إنّ الانصراف أوجد قيداً أضيق من ذلك، وهو قيد عدم وجدان الواسطة لا عدم وجودها، أي: إنّنا ادّعينا الانصراف عن موارد وجدان الواسطة، فالاستصحاب في المقام يكون حجّة ؛ لأنّ المفروض أنّ العرف لم يجد الواسطة.

بقي الكلام في فروع قد يُرى أنّها تتفرع على حجيّة الأصل المثبت وعدمها.

ولنذكر هنا فرعين رئيسين، ويتضح من البحث فيهما حال سائر الفروع:

الفرع الأوّل: إنّنا حينما نستصحب شهر رمضان في اليوم الثلاثين نرتب آثار العيد على

452

اليوم الذي بعده، في حين أنّنا نحتمل أنّه ليس بعيد، وإنّما العيد هو اليوم السابق، فهذا تمسّك بالأصل المثبت مبنيّاً على خفاء الواسطة ومسامحة العرف، فكأنّ العرف يرى أنّ العيد هو اليوم الذي يكون بعد آخر يوم حكم عليه بأنّه من شهر رمضان، وإلاّ فاستصحاب بقاء شهر رمضان في اليوم الثلاثين كيف يثبت عيدية اليوم الذي بعده؟!

وهذا الإشكال سيّال يأتي في أوّل كلّ شهر، وفي أيّ يوم من أيّام الشهور حينما يوجد أثر مختصّ بذلك اليوم.

وأجاب عن ذلك السيّد الاُستاذ(1) بجواب طريف، وهو أنّنا في أوّل اليوم الثاني نعلم إجمالاً بتحقّق العيد: إمّا في هذا اليوم، أو في اليوم السابق، فنستصحبه، إذ على تقدير كونه في هذا اليوم هو باق، وعلى تقدير كونه في اليوم السابق ليس باقياً، فقد شككنا في بقاء العيد، فيجري استصحابه.

أقول: إنّ هذا الكلام لا يتمّ بناءً على اشتراط كون المشكوك على تقدير ثبوته بقاءً للمتيّقن وعدم كونه نفس المتيقن، فإنّ هذا اليوم: إمّا هو العيد المتيّقن إجمالاً، أو مباين للعيد وليس بقاءً للمتيّقن حتماً، بأن يكون في الواقع تتمّة للمتيّقن من دون انبساط اليقين عليه، فإمّا أنّ اليقين منبسط عليه أو أنّه مباين للمتيّقن.

وقد ذكرت له هذا الكلام فقال نحن لا نشترط ذلك في الاستصحاب.

وأيضاً لا يتمّ هذا الكلام بناءً على مضرّية احتمال عدم اتّصال المشكوك بالمتيّقن، فإنّه هنا من المحتمل كون المتيقّن هو اليوم السابق، والمشكوك هو اليوم اللاحق، وبينهما الليل.

وهذا ـ أيضاً ـ ذكرته له فقال: نحن لا نرى مضرّية احتمال عدم الاتّصال.

وهنا إشكال آخر أوردته عليه، فقبله في ذلك الوقت، إلاّ أنّه لم يذكر في التقريرات، وذكر جريان استصحاب العيد بالتقريب الذي مضى، وذلك الإشكال هو: أنّ هذا الاستصحاب مبتلىً بمعارض أحسن منه أو معارض مثله. بيان ذلك: أنّه إذا كان الأثر مترتّباً على النهار الأوّل من الشهر مثلاً من قبيل صلاة العيد، فهنا يجري استصحاب عدم النهار الأوّل الثابت بالعلم التفصيلي في الليل. وهذا هو الاستصحاب الأحسن. وإن كان الأثر مترتّباً على أوّل الشهر الأعمّ من الليل والنهار فهنا يوجد استصحاب من سنخ الاستصحاب الذي ذكره السيّد الاُستاذ، ويعارضه ؛ وذلك لأنّه في الآن الأوّل من الليل كما يحصل لنا علم إجمالي


(1) راجع مصباح الاُصول ج3 ص165.

453

بوجود أؤّل الشهر: إمّا قبل الليل، وإمّا في الليل، كذلك يحصل لنا علم إجمالي بعدم أوّل الشهر: إمّا قبل الليل، وإمّا في الليل. فإنّ ما قبل الليل مع نفس الليل أحدهما أوّل الشهر والآخر ليس أوّل الشهر، فإن جرى استصحاب أوّل الشهر جرى ـ ايضاً ـ أستصحاب عدم أوّل الشهر، وتساقطا معاً(1).

 


(1) في الدورة التي حضر فيها السيّد الهاشمي (حفظه الله) بحث السيّد الخوئي قرّر السيّد الخوئي الاستصحاب في المقام بالشكل المنقول عنه هنا في المتن، فعرض السيّد الهاشمي الإشكال الموجود في المتن عليه، وذكر له: أنّ استصحاب بقاء الليلة الاُولى مثلاً بعد مضيّ آن من ليلة الواحد والثلاثين معارض باستصحاب عدم الليلة الاُولى المقطوع به في نهار الثلاثين فأجاب السيّد الخوئي بأنّ استصحاب عدمها المقطوع به في نهار الثلاثين لا يجري لمعارضتها باستصحاب عدمها في ليلة الثلاثين المقطوع به في نهار التاسع والعشرين، فإنّنا نعلم إجمالاً بأنّ إحدى الليلتين هي الليلة الاُولى.

وذكر اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) بعد أن بلغه هذا الكلام: أنّه يرد عليه:

أوّلاً: أنّه في الأغلب ليس هذا العلم الإجمالي علماً بالتكليف الإلزامي كي يوجب التعارض، فمثلاً لو فرض استحباب الغسل في الليلة الاُولى من شعبان، وقلنا: إنّ الغسل المستحب يغني عن الوضوء، فكل من الاستصحابين إنّما يترتّب عليه أثر إلزاميّ وهو عدم إغناء الغسل عن الوضوء، لا أثر ترخيصي.

وثانياً: أنّه مع فرض أثر إلزامي يقع التعارض بين الاستصحابات الثلاثة، وتتساقط جميعاً، ولا معنى لفرض استصحاب بقاء الليلة الاُولى سليماً عن المعارض، بل مقتضى مبنى السيّد الاُستاذ الخوئي أن يبقى استصحاب عدم الليلة الاُولى في ليلة الثلاثين سليماً عن المعارض، ويسقط استصحاب عدم الليلة الاُولى في ليلة الواحد والثلاثين واستصحاب بقائها فيها بالمعارضة ؛ لأنّ هذين الاستصحابين متناقضان، والسيّد الاُستاذ الخوئي يرى أنّ خروج الاستصحابين المتناقضين عن دليل الحجيّة يكون بمخصّص لبّيّ كالمتصل ؛ لأنّ عدم جريان الاستصحابين المتناقضين واضح. وأمّا خروج الاستصحابين اللذين لا تعارض ذاتي بينهما، وإنّما كان تعارضهما بسبب استلزامهما الترخيص في مخالفة المعلوم بالإجمال، فليس واضحاً، وليس كالمخصّص المتّصل، فاستصحاب عدم الليلة الاُولى في ليلة الثلاثين يبقى بلا معارض، لأنّ المخصّص المتّصل يهدم الظهور، والمخصّص المنفصل لا يهدم إلاّ الحجيّة، ومع انهدام الظهور في المقام بالنسبة لاستصحاب عدم الليلة الاُولى في ليلة الواحد والثلاثين لا يبقى معارض لاستصحاب عدمها في ليلة الثلاثين.

وقد عرض هذان الإشكالان على السيد الاُستاذ الخوئي فقبلهما، إلاّ أنّه أجاب على أصل الإشكال بوجه آخر.

وهو: انّ استصحاب عدم الليلة الاُولى المتيقّن في نهار الثلاثين ـ في الحقيقة ـ استصحاب للقسم الثاني من الكلّي ؛ لأنّنا نعلم إجمالاً في نهار الثلاثين بأحد عدمين: الأوّل: العدم قبل الليلة الاُولى من شوال، والثاني: العدم الحادث بعد الليلة الاُولى من شوال، فإن كان هو العدم الأوّل فقد زال، وإن كان العدم الثاني فهو باق، ونحن لدينا استصحاب يعيّن هذا الكلّي في الفرد القصير، فيحكم على استصحاب الكلّي وهو استصحاب استمرار العدم الثابت من قبل ليلة الثلاثين إلى يوم الثلاثين.

454

فإذا اتّضح أنّ استصحاب بقاء أوّل الشهر لا يفيدنا، وأردنا الرجوع إلى استصحاب بقاء شهر رمضان في اليوم الثلاثين، لم يبق أمامنا لحلّ إشكال الإثبات إلاّ كلامان:

الكلام الأوّل: إنّ عنوان أوّل الشهر هل وضع لمعنى بسيط لا يثبت بالاستصحاب، أو أنّ معناه ـ في الحقيقة ـ مركّب من أن يكون اليوم يوماً هلّ هلال شوّال في ليلته وأن لا يهلّ الهلال في ما قبلها، وأحد الجزئين ثابت بالوجدان وهو الجزء الأوّل، والآخر ثابت


وحينما بلغ اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) هذا الكلام أورد عليه:

أوّلاً: أنّ استصحاب الفرد القصير لا يثبت أن الكلّي المعلوم بالإجمال متحقّق في ضمن الفرد القصير دون الطويل، فإنّ هذا إثبات لمفاد كان الناقصة باستصحاب مفاد كان التامّة.

وثانياً: أنّه لو ثبت بالاستصحاب أنّ الكلّي الموجود إنّما هو في ضمن القصير دون الطويل، قلنا: إنّ ترتّب ارتفاع الكلّي على كونه موجوداً في ضمن القصير دون الطويل ـ أيضاً ـ ترتّب عقلي، فلا يثبت، فلا يكون الاستصحاب المثبت لكون الكلّي في ضمن الفرد القصير حاكماً على استصحاب الكلّي.

هذا إذا اُريد بالحكومة رافعيّة هذا الاستصحاب للشكّ في بقاء الكلّي.

وأمّا إذا اريد بها رافعية الاستصحاب لليقين السابق بدعوى أنّ اليقين السابق كان عبارة عن العلم الإجمالي بأحد العدمين، وقد انحلّ العلم الإجمالي بالعلم التعبدي بأحد الطرفين (وبكلمة اُخرى: أظنّ أنّ مقصود السيّد الخوئي هو أنّ العلم الإجمالي بفرد مردّد بين القصير والطويل وإن كان مورداً للاستصحاب الكلّي من القسم الثاني، ولكن لو جرى استصحاب الفرد القصير تحوّل ذلك إلى مورد استصحاب الكلّي من القسم الثالث ؛ لأنّه يتحقّق العلم ولو تعبّداً بالفرد القصير والشكّ في فردآخر، واستصحاب الكلّي من القسم الثالث ليس حجّة.) ففيه: أنّ هذاالعلم ليس علماً وجدانياً حتّى يترتّب عليه تكويناً وعقلاً زوال العلم الإجمالي مثلاً، وليس زوال العلم الإجمالي أثراً شرعياً للعلم حتّى يفترض ترتّبه على العلم التعبّدي، وإنّما هو أثر تكوينيّ يترتّب على العلم الوجداني بأحد الطرفين.

هذا مضافاً إلى أنّ المستصحب ليس هو العدم الكلّي المعلوم بالإجمال حتّى يقال: إنّ اليقين السابق الذي هو العلم الإجمالي قد ارتفع وإنّما المستصحب عدم شخصيّ معلوم في يوم الثلاثين، وإنّما العلم الإجمالي كان متعلّقاً بإحدى حالتي هذا العدم، فنحن لا نعلم أنّ هذا العدم المشار إليه بشخصه هل كان ثابتاً في ليلة الثلاثين أيضاً، فيرتفع في ليلة الواحد والثلاثين، أو حدث بعد ليلة الثلاثين، وهو باق.

وقد ذُكرللسيّد الاُستاذ الخوئي بعض هذه النكات، فأورد النقض بمسألة ما إذا كان الإنسان محدثاً بالحدث الأصغر ثمّ خرج منه بلل مشتبه بين الحدث الأصغر والأكبر، فإنّه عندئذ يستصحب بقاء الحدث الأصغر وعدم انقلابه إلى الأكبر، ويكون ذلك حاكماً على استصحاب كلّي الحدث فيثبت ارتفاع الحدث بالوضوء.

وأجاب على ذلك اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في بحثه بأنّه إنّما يصحّ الاكتفاء في تلك المسألة بالوضوء ؛ لأجل أنّ المستظهر من الآية الشريفة هو الحكم شرعاً بارتفاع الحدث بالوضوء، مستثنياً من ذلك فرض وجود الحدث الأكبر، أي: إنّ موضوع الحكم بارتفاع الحدث بالوضوء مركّب من صدور الحدث الأصغر وعدم الحدث الأكبر، والجزء الأوّل ثابت بالوجدان، والثاني ثابت بالاستصحاب، ولا علاقة لذلك ما نحن فيه.

455

بالاستصحاب وهو الجزء الثاني؟

هنا تارةً يقع الكلام في مرحلة الثبوت، واُخرى في مرحلة الإثبات:

أما الأوّل، فذكر المحقّق النائيني (رحمه الله)(1): أنّه يستحيل وضع لفظ الأوّل لجزئين بحيث يثبت معناه حينما يثبت أحد الجزئين بالوجدان والآخر بالاستصحاب.

وبيان ما ذكره(رحمه الله) مع تكميل منّا هو: أنّ اللفظ في أيّ لغة حينما يوضع لمعنى مركّب من أمرين لا بدّ من إلباسهما لباس الوحدة حتّى يعقل أن يكون المجموع معنىً واحداً، ويستحيل أن يكون كلاهما بنحو الاستقلال معنىً لهذا اللفظ بوضع واحد، ويكون إلباسهما لباس الوحدة بأحد امرين:

1 ـ انتزاع عنوان بسيط منهمايوضع اللفظ بازائه.

2 ـ تقييد أحدهما بالآخر، فيوضع اللفظ للمقيّد.

فإن فرض الأوّل كان الاستصحاب في المقام مثبتاً ؛ لأنّ هذا العنوان الانتزاعي لا يثبت بالاستصحاب. وإن فرض الثاني كان ـ أيضاً ـ مثبتاً ؛ لأنّ طرفي التقييد وإن كان أحدهما ثابتاً بالوجدان والآخر بالاستصحاب لكن ما بينهمامن التقييد والارتباط لا يثبت.

أقول: بالإمكان إلباس ثوب الوحدة عن طريق آخر غير طريق انتزاع عنوان بسيط منهما وطريق التقييد إن قصد به التوصيف، وذلك عن طريق الاستثناء والاقتطاع.

وتوضيحه: أنّ العام حينما يستثنى منه شيء كما في قولنا: (المرأة إلاّ القرشية) فهو يعطي وجداناً إلى الذهن مفهوماً وحدانياً يضيق عن الانطباق على مورد المستثنى، ولكن هذا الضيق لم يكن عن طريق التقييد بمعنى التوصيف، بل كان عن طريق الاستثناء، ولذا لو جعل هذا الأمر الوحداني موضوعاً لحكم شرعيّ صحّ إثبات عدم العنوان المستثنى باستصحاب العدم الأزلي، ولا يرجع هذا العدم إلى العدم النعتي.

وعليه نقول في المقام: إنّه بالإمكان أن يفترض أنّ كلمة الأوّل اسم لكلّ يوم هلّ في ليلته هلال شوّال، إلاّ ذلك اليوم الذي يوجد قبله يوم شوّال، بأن يكون الواضع قد تصوّر في المقام تضييق دائرة أوّل شوّال بنحو لا ينطبق على الأيّام الاُخرى بعد اليوم الأوّل عن طريق الاقتطاع والاستثناء، لا عن طريق التوصيف، فبالإمكان، إثبات عدم المستثنى بالاستصحاب.


(1) راجع فوائد الاصول ج4 ص499 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات الشيخ العراقي (رحمه الله)المطبوعة من قبل جماعة المدرسين بقم وأجود التقريرات ج2 ص421.

456

وأمّا الثاني، وهو البحث الإثباتي فلا إشكال في أنّ العرف يفهم أنّ كلمة الأوّل اسم لعنوان بسيط منتزع عن مجموع الأمرين، أو للمقيّد بنحو التوصيف. أما تضييق المفهوم عن طريق الاستثناء والاقتطاع فليس أمراً ملحوظاً للعرف في باب الأوضاع. وعليه فإشكال الإثبات يبقى إلى هنا مستحكماً.

الكلام الثاني: إنّ هذا الأمر الانتزاعي أو التقييد وإن فرض أخذه في الموضوع له، لكن يمكن دعوى أنّ العرف بحسب ارتكازه يلغيه في ترتّب الحكم الشرعي، ويرى أنّ موضوع الحكم الشرعي إنّما هو منشأ انتزاع ذلك، أعني واقع الأوّل، لا عنوان الأوّل، أي: إنّ موضوع الحكم هو أن يهلّ هلال شهر شوّال في ليلة هذا اليوم، وأن لا يهلّ قبله، والأوّل ثابت بالوجدان، والثاني بالاستصحاب، وفرض كون الموضوع له اللفظ هو المقيّد لا يضرّنا شيئاً في المقام إن تمّ إلغاء العرف لذلك في موضوع الحكم.

لكن الصحيح: أنّ هذا الإلغاء لايتمّ في المقام ؛ لما سيأتي ـ إن شاء الله ـ من بيان ضابط إرجاع العرف المقيد إلى المركّبات والذي لاينطبق على المقام.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني (رحمه الله) ذكر في المقام(1): أنّنا لسنا بحاجة إلى الاستصحاب؛ إذ تكفينا روايات (صم للرؤية وأفطر للرؤية)(2).

وذكر السيّد الاُستاذ(3): أنّ هذه الروايات غاية ما تثبت هي مسألة الصوم والإفطار، ولا تثبت باقي الآثار، ولا باقي الأيّام.

أقول: قد ورد في الأخبار عنوان (صم للرؤية وأفطر للرؤية) مفرَّعاً على تفسير الأهلّة، كما ورد في صحيح الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «إنّه سئل عن الأهلّة، فقال: هي أهلّة الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيته فافطر» وليس المقصود السؤال عن المعنى اللغوي للأهلّة، وإلاّ لم يكن معنى للتفريع بثبوت حكم الصوم والإفطار بالرؤية على ذلك، وإنما المقصود هو السؤال عن تفسير الآية: «يسألونك عن الأهلّة...»(4). والجواب عليه بقوله: «هي أهلّة الشهور» وفرّع على هذا الجواب قوله: «فإذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيته


(1) راجع أجود التقريرات ج2 ص421 ـ 422 وفوائد الاصول ج4 ص499 ـ 500 بحسب طبة جماعة المدرسين بقم المشتملة على تعليقات الشيخ العراقي (رحمه الله).

(2) راجع الوسائل، ج10، ب3 من أحكام شهر رمضان، ص252 ـ 260 بحسب طبعة آل البيت.

(3) راجع مصباح الاصول ج3 ص165.

(4) سورة (2) البقرة، الآية 189.

457

فأفطر» وهذا التفريع دليل على أنّ قوله تعالى: «قل هي مواقيت للناس...» ليس بياناً لكون الأهلّة مواقيت تكويناً، بل هو بيان للتوقيت التشريعي، وإلاّ لما كان معنى لتفريع هذا الأمر التشريعي عليه.

ويعرف ببركة هذه الروايات أنّه جعل شرعاً الميزان في هذا التوقيت هو الرؤية ولو بنحو الحكم الظاهري، فكأنّما لوحظ في كلمة (الهلال) البروز والظهور، كما هو كذلك في معناه اللغوي الأصل، وإنّ استعماله في هلال الشهر بالمعنى الذي نفهمه اليوم استعمال شرعي اشتهر بالتدريج إلى أن صار حقيقة، وبما أنّ الآية مطلقة تشمل كلّ الشهور وكلّ الأيام ـ وذكر الحجّ في ذيل الآية ليس للاختصاص به، بل هو ذكر للخاصّ بعد العام لأجل الاهتمام به ـ فنحن نثبت مقصودنا بالتمسّك بإطلاق الآية.

ويؤيّد ذلك الروايات التي تقول: «إذا تغيّمت السماء فأتمّ العدّة ثلاثين» أو تقول: «وإذا كانت علّة، فأتمّ شعبان ثلاثين» ونحو ذلك(1).

فالتعبير بثلاثين يعطي ثبوت عنوان الثلاثين.

الفرع الثاني: هو استصحاب بقاء رطوبة النجس حينما لاقاه شيء بداعي إثبات تنجّس الملاقي.

فقد ذكروا: أنّ هذا الاستصحاب إنّما يجري إذا فرضنا أنّ موضوع تنجّس الملاقي هو نجاسة الملاقى ورطوبته، فنجاسته ثابتة بالوجدان، ورطوبته ثابتة بالاستصحاب.

وأمّا إذا فرضنا أنّ موضوع تنجّس الملاقي هو نجاسة الملاقى وسراية الرطوبة، فالاستصحاب هنا يبتلي بإشكال المثبتية ؛ لأنّ السراية إنّما تثبت بالملازمة العقلية.

وأمّا إذا فرضنا أنّ الرطوبة كانت معلومة بالوجدان والنجاسة مستصحبة فقد قالوا بأنّ استصحاب النجاسة يجري من دون أن يبتلي بإشكال المثبتية، من دون فرق بين مبنى الرطوبة ومبنى السراية ؛ لأنّ الشكّ ليس في السراية، وإنّما الشكّ في نجاسة الملاقى، والمفروض ثبوتها بالاستصحاب.

أقول: إنّ الشكّ تارةً يكون في بقاء الرطوبة مع العلم بالنجاسة، واُخرى بالعكس، وثالثة يكون الشكّ في بقاء كلّ منهما. والكلام يقع في جهتين:

الاُولى: في ما إذا كانت الرطوبة مستصحبة سواءً كانت النجاسة ـ أيضاً ـ مستصحبة أو


(1) راجع الوسائل: ج10، ب3 ـ 5 من أحكام شهر رمضان.

458

كانت وجدانية.

والثانية: في ما إذا كانت النجاسة مستصحبة والرطوبة وجدانية.

أمّا الجهة الاُولى، فقد عرفت ما ذكروه من التفصيل من أنّه لو كان الموضوع هو السراية فهي لا تثبت باستصحاب الرطوبة ؛ لأنّ هذا تعويل على الأصل المثبت، ولو كان الموضوع هو الرطوبة فالاستصحاب جار بلا إشكال.

أقول: إن كان الموضوع هو السراية ـ كما هو الحقّ ـ فالاستصحاب مبتلى بإشكال المثبتية ـ كما قالواـ، وإن كان الموضوع هو الرطوبة فهنا يجب أن نرى أنّ الموضوع هل هو نجاسة الملاقى ورطوبة ذات النجس، أو هو نجاسة الملاقى ورطوبة النجس بما هو نجس.

فبناءً على الأوّل ـ وهو الحقّ ـ صحّ ما ذكروه، فإنّ جزء الموضوع وهو النجاسة ثابت بالوجدان أو الاستصحاب، والجزء الآخروهو الرطوبة ثابت بالاستصحاب، فقد ثبت تمام أجزاء الموضوع.

وعلى الثاني إنّما يجري استصحاب الرطوبة إذا كنّا نعلم حدوثاً برطوبة النجس بما هو نجس، وإلاّ فاستصحاب رطوبة الشيء لا يثبت رطوبته بما هو نجس، ولسنا دائماً نعلم حدوثاً برطوبة النجس بما هو نجس، فإنّه بالإمكان أن يفترض عدم العلم بذلك في فروض:

منها: أن نفترض شيئاً ثبتت نجاسته بالاستصحاب، ثمّ أصبح رطباً بعد أن كان يابساً، ثمّ شككنا في بقاء الرطوبة، فاستصحبنا الرطوبة فهذا الاستصحاب لا يثبت رطوبة هذا الشيء بما هو نجس(1).

ومنها: أن نفترض أنّ الشيء كانت نجاسته العارضة عليه نجاسة ذاتية، كما لو كفر المسلم وقلنا بنجاسة الكافر، وقد كان جسمه قبل النجاسة رطباً فأردنا استصحاب رطوبته بعد النجاسة، فهذا الاستصحاب لا يثبت رطوبة بدنه بما هو نجس.

ومنها: ما إذا كان الشكّ في رطوبة الملاقي لا الملاقى النجس، فعندئذ إن قلنا: إنّ الملاقي المرطوب إنّما ينجس بملاقاة النجس من باب أنّ النجس يصبح بسبب ملاقاة المرطوب


(1) لا يخفى أنّه في هذا الفرع لا تثبت نجاسة الملاقي حتّى لو فرضت قطعيّة بقاء الرطوبة بناءً على كون جزء الموضوع رطوبة النجس بما هو نجس ؛ لأنّ المفروض أنّ أصل النجاسة إنّما ثبتت بالاستصحاب، واستصحاب النجاسة لا يثبت كون الرطوبة رطوبة النجس بما هو نجس إلاّ بالملازمة العقلية. وهذا في الحقيقة رجوع إلى ما سيأتي من بحث الجهة الثانية. أمّا لو غضضنا النظر عن ذلك وافترضناأنّ رطوبة النجس الاستصحابي تعتبر رطوبة النجس بما هو نجس، اذن فبعد الشكّ في الجفاف يجري استصحاب رطوبة النجس بما هو نجس بلا إشكال.

459

مرطوباً فينجّس ـ وذلك لأجل أنّ الارتكاز يقتضي أنّ الانفعال يكون بتأثّر الملاقي بالملاقى لا العكس ـ فمن الواضح أنّ الاستصحاب لا يجري ؛ إذ لا تثبت به رطوبة الملاقى النجس.

وإن قلنا: إنّه تكفي في نجاسة الملاقي نجاسة الملاقى ورطوبة الملاقي فعندئذ نرجع إلى نظير ما مضى، بأن نقول: هل الموضوع هو رطوبة الشيء في نفسه، أو رطوبته بما هو ملاق للنجس؟ فعلى الأوّل يجري الاستصحاب، وعلى الثاني لا يجري.

ومنها: ما إذا افترضنا أنّ الشيء كان رطباً ولم ندرِ أنّه جفّ أو لا، ثمّ تنجّس بنجاسة مرطوبه، وعلمنا أنّ تلك الرطوبة الثانية التي اكتسبها من النجس زالت، ولم نعلم أنّ الرطوبة الاُولى التي كانت قبل النجاسة زالت أو لا، وذلك كما لو كانت الرطوبة الثانية سنخ رطوبة تكون أسرع في التحوّل إلى البخار من الرطوبة الاُولى، فعندئذ نقول: إنّ استصحاب الرطوبة الاُولى لا يثبت رطوبة هذا الشيء بما هو نجس.

وأمّا الجهة الثانية، فقد عرفت أنّهم ذكروا أنّ استصحاب النجاسة يجري سواء قلنا أنّ الميزان في انفعال الملاقي هو رطوبة النجس، أو سرايتها ؛ لأنّ الرطوبة أو السراية ثابتة بالوجدان، والنجاسة تثبت بالاستصحاب.

وهنا ـ أيضاً ـ يأتي التفصيل المتقدّم، فيتمّ هذا الكلام بناءً على ماهو الحقّ من أنّ أحد جزئي الموضوع هو رطوبة ذات الملاقى أو سرايتها. وأمّا بناءً على أنّه هو رطوبة النجس بما هو نجس، أو سرايتها، فهذا الاستصحاب لا يثبت ذلك.

ثم إنّ هذا البحث كلّه كان فيمالو افترضنا أنّ النجس غير بدن الحيوان.

وأمّا إذا كان النجس هو بدن الحيوان فزوال الرطوبة عنه يساوق زوال النجاسة عنه لو قلنا: إنّ بدن الحيوان ينجس، فهنا نحتاج إلى استيناف بحث جديد في أنّه لو شككنا في زوال الرطوبة عن بدنه ولاقى بدنه شيئاً رطباً أو ساور المائع الذي ينجس على تقدير وجود تلك النجاسة، فهل يحكم بنجاسة ذلك الشيء، أو ذلك المائع، أو لا؟

ذُكِرَ في المقام: أنّ هذا يبتني على البحث في أنّ بدن الحيوان هل ينجس بملاقاة النجاسة ثم يطهر بالجفاف، أو لا ينجس أصلاً، فعلى الثاني لا يجري استصحاب النجاسة؛ لأنّ المفروض عدم نجاسة بدنه، ولا استصحاب الرطوبة وبقاء عين النجس ؛ لأنّه لا تثبت بذلك ملاقاة ذلك الشيءأو المائع للنجس. وعلى الأوّل يجري استصحاب نجاسة بدن الحيوان، وتثبت بذلك نجاسة الملاقي.

أقول: إنّ عدم جريان الاستصحاب بناءً على المبنى الثاني واضح. وأمّا على المبنى الأوّل

460

فتنقيح الكلام فيه هو:أنّ هناك نكتة فقهية يجب أن تلحظ، وهناك نكتة أصولية يجب أن تلحظ أيضاً:

أمّا النكتة الفقهية فهي أنّ بدن الحيوان بناءً على تنجّسه بملاقاة النجاسة لا نقبل منجّسيته، لأنّ الدليل على منجّسيّة المتنجّس الأوّل هو أخبار غسل الأواني والفراش ونحو ذلك، وهي لا تشمل ما يكون من قبيل بدن الحيوان الذي لا يحتاج إلى الغسل حتماً؛ إذ المفروض أنّه يطهر بمجرّد زوال النجاسة أو جفافها، ومنجّسية المتنجس الذي يحتاج إلى الغسل لا تلازم منجّسية متنجس تكون نجاسته أخفّ من ذلك، فهي ليست إلاّ نجاسة تبعيّة لعين النجس، وتزول بزوالها، والعرف بما هو عرف يحتمل الفرق بينهما في التنجيس، فلا يمكن التعدّي بالارتكاز العرفي.

وأمّا النكتة الاُصولية فهي مبتنية على مقدّمة، وهي دعوى أنّ ملاقاة النجاسة إنّماتكون موضوعاً للحكم بنجاسة الملاقي إذا كانت ملاقاة اُولى. وأمّا الملاقاة الثانيةوالثالثة و... فليست موضوعاً للنجاسة، وعندئذ نقول: إنّ هذا المائع لم يتنجّس بملاقاة بدن الحيوان حتماً؛ لأنّه: إمّا أنّ بدن الحيوان طاهر ـ كما إذافرض زوال عين النجاسة ـ أو أنّه قد لاقى هذا المائع (قبل ملاقاته لبدن الحيوان) عين النجاسة الثابتة على بدن الحيوان. إذن فلا يجري استصحاب نجاسة بدن الحيوان للقطع بعدم تنجس المائع ببدن الحيوان، كما لا يجري استصحاب بقاء الدم أو أيّ نجاسة اُخرى على بدن الحيوان لعدم ثبوت ملاقاة المائع لتلك النجاسة بذلك(1).

وقد نُقِلَ: أنّ السيّد الاُستاذ ذكر في بحثه في هذه الدورة الأخيرة التي هو مشغول بها فعلاً(2) هذه النكتة الاُصولية وأجاب عنها بأنّه ليس المقصود إثبات نشوء نجاسة الملاقي من بدن الحيوان، وإنّما المقصود إثبات نجاسة الملاقي، فإن كان المقصود إثبات نشوئها من بدن الحيوان صحّ أن يقال: إنّ هذا مقطوع العدم، فكيف يثبت تعبّداً. وأمّا أصل نجاسة الملاقي فليست مقطوعة العدم، فيمكن إثباتهاتعبداً.

أقول: إنّ هذا الكلام غريب، فإنّه لو كان المقصود إثبات نجاسة الملاقي بأصل حكمي


(1) وهذا الإشكال يأتي ـ ايضا ـ في غير الحيوان إذا كان المستصحب هو رطوبة الملاقى، فيقال: إنّ الجسم الملاقى لم ينجّس الملاقي يقيناً ؛ إمّا لجفافه، أو لكون الملاقاة معه بعد الملاقاة مع الرطوبة، واستصحاب الرطوبة لا يثبت الملاقاة مع الرطوبة إلاّ بالملازمة العقلية. إذن لا تثبت نجاسة الملاقي بملاقاة الجسم، ولا بملاقاة الرطوبة.

(2) بتاريخ 1389 هجرية.

461

صحّ أن يقال: إنّ هذه النجاسة غير مقطوعة العدم، فلا بأس بإثباتها تعبّداً، لكن المفروض هو إثباتهابأصل موضوعي، ومعنى ذلك أن نثبت فرداً من أفراد موضوع نجاسة هذا الملاقي، وهذا ما لايمكننا إثباته ؛ لأنّ موضوع نجاسة الملاقي له فردان: أحدهما ملاقاة الدم الموجود على بدن الحيوان مثلاً،وهذا لايثبت إلاّ بالأصل المثبت. والثاني ملاقاة بدن الحيوان في حالة كونه نجساً، وهذا الموضوع في الحقيقة مركّب من ثلاثة أجزاء: ملاقاته لبدن الحيوان، ونجاسة بدن الحيوان، وعدم ملاقاته مسبقاً بنجاسة اُخرى. وليكن كل واحد من هذه الأجزاء ثابتاً: إمّا بالوجدان، وإمّا بالأصل، لكنّنانعلم وجداناً أنّ مجموع هذه الأجزاء الذي هو فرد من أفراد موضوع النجاسة غير ثابت ؛ وذلك لعلمنا الإجمالي إمّا بطهارة بدن الحيوان، أو بأنّه قد حصلت ملاقاة لعين النجاسة قبل ملاقاة بدن الحيوان.

وكان الأولى به ـ دامت بركاته ـ أن يناقش هذه النكتة الاُصولية بوجهين آخرين:

الأوّل: أنّ عين النجس الموجودة على بدن الحيوان إذا كان لهانُتوءٌ وحجم بارز كان لهذه النكتة الاُصولية مجال. وأمّا إذاكانت رطوبة لا حجم لها عرفاً بحيث تكون الملاقاة لعين النجس ولبدن الحيوان في وقت واحد بحسب النظر العرفي وإن فرض الترتّب بينهما بالدقة الفلسفية، فلا مجال لتلك النكتة الاُصولية، فإنّ بدن الحيوان يكون عندئذ منجِّساً في عرض منجسية عين النجس.

الثاني: أنّ عدم كون الملاقاة المسبوقة بملاقاة نجاسة اُخرى موضوعاً للحكم بالنجاسة إنّما هو على أساس اللغوية العرفية، من باب أنّه لا يجب التطهير إلاّ مرّة واحدة، ولا يتعدّد بتعدّد الملاقاة، ولولاها لتمسّكنا بإطلاق دليل (إنّ ملاقاة النجاسة تنجّس) لو وجد نصّ من هذا القبيل، وعندما تترتّب ثمرة عملية ترتفع اللغوية، ولذانقول بأنّ ما لاقى الدم إذا لاقى بعد ذلك البول تنجس مرّة ثانية ؛ لأنّه يترتّب على ذلك أثر عملي، وهو لزوم التعدّد في الغَسل.

وفي ما نحن فيه تترتّب ثمرة على النجاسة بلحاظ بدن الحيوان، وهي أنّ النجاسة بلحاظ ملاقاة الدم لاتصل ولا تتنجّز، لكن النجاسة بلحاظ بدن الحيوان تقبل الوصول والتنجّز.

فإن قلت: إنّ اللغوية في المقام عرفية، واللغوية العرفيّة إنّما ترتفع بتصوير ثمرة عرفية دون ثمرة اُصولية من هذا القبيل:

قلنا: إن بُني على أنّ مثل هذه الثمرة لا ترفع اللغوية كان معنى ذلك عدم الالتزام بشمول إطلاق دليل منجسية الملاقاة لبدن الحيوان رأساً، أي: عدم التسليم بأنّ بدن الحيوان ينجس؛ إذ ليس لنجاسة بدن الحيوان التي ترتفع بزوال عين النجس ثمرة إلاّ ما يكون من

462

هذا القبيل(1)، ففرض البناء على تنجّس بدن الحيوان مساوق لقبول ثمرة من هذا القبيل، وإلاّ رجعنا إلى المنبى الآخر، وهو عدم نجاسة بدن الحيوان(2).

 

أقسام اُخرى للاستصحاب المثبت

الأمر الثالث: إنّنا حتّى الآن كنّا نتكلّم في الاستصحاب المثبت، بمعنى إثبات اللازم الذي يكون مصبّ الملازمة فيه نفس المستصحب، فإنّ مصبّ الملازمة تارةً يفرض هو المستصحب، واُخرى يفرض هو الحكم الاستصحابي، وثالثة يفرض هو حجيّة الاستصحاب. فنحن حتى الآن كنّا نتكلّم في القسم الأوّل من هذه الأقسام الثلاثة، فإنّ الاستصحاب في هذا القسم هو المسمى بالاستصحاب المثبت.

وأمّا القسم الثاني، فلا إشكال في ثبوت اللازم فيه بالاستصحاب ؛ إذ هو في الحقيقة من


(1) قد تفترض ثمرة عملية من غير هذا القبيل لتنجّس بدن الحيوان، بأن يقال: لو لاقى بدن الحيوان دماً رطباً، ثمّ جفّ الدم على بدنه، ثمّ ذبح الحيوان، ثمّ اُزيل الدم بالحكّ، فبناءً على تنجّس بدن الحيوان بملاقاة النجس الرطب يكون الجلد نجساً ؛ لأنّ بدن الحيوان لاقى دماً رطباً فتنجس ثمّ لم يطهر إلى أن ذبح ؛ لأنّ المفروض عدم زوال عين النجاسة عن بدنه، والآن خرج عن كونه حيواناً، فلا يطهر بمجرد إزالة العين بالحكّ. وبناءً على عدم تنجّس بدن الحيوان يكون الجلد طاهراً ؛ لأنّه حينما لاقى الدم الرطب كان حيواناً لايتنجّس، وبعد أن خرج عن كونه حيواناً لم يكن ملاقياً إلاّ للدم الجافّ، والجافّ لا ينجّس، وقد أزلناه بالحكّ حسب الفرض، وكذلك الحال قبل الحكّ، فلو صلّى في هذا الجلد مع ذاك الدم الجافّ وكان أكثر من الدرهم، وقلنا: إنّ حمل النجس لا يبطل الصلاة، ولكن لبس المتنجّس يبطل الصلاة، فبناءً على تنجّس بدن الحيوان تبطل صلاته، وبناءً على عدم تنجّسه تصحّ صلاته.

نعم، لو قلنا: إنّ بدن الحيوان على تقدير تنجّسه يطهر بالجفاف بلا حاجة إلى إزالة العين بمثل الحكّ بطلت هذه الثمرة.

(2) قد يقال: إنّ عدم الإيمان بمنجّسية الملاقاة الثانية فيما إذا لم تكن نجاسة الملاقى الثاني أشدّ من نجاسة الملاقى الأوّل ليس لأجل لزوم اللغوية فحسب، بل حتّى لو آمنّا بأنّ عدم وجود ثمرة عملية لا يضرّ بالإيمان بالنجاسة، قلنا: إنّ دليل منجّسية الملاقاة ينصرف إلى كون الملاقاة منجّسة بالشكل المألوف في منجّسيّة الملاقاة في النجاسات العرفية التي ليست اعتبارية بحتاً، بل لهاواقعية خارجية، ومن المعلوم أنّ الملاقاة الثانية في النجاسات العرفية فيما إذالم تستلزم أشدّية النجاسة لا تكون منجّسة لا للغوية، إذ ليس الكلام فيها في الجعل والاعتبار، بل لعدم معنىً لاكتساب قذارة جديدة بتكرّر الملاقاة من دون فرض الاشتداد.

وعلى أية حال، فلو لم نتصوّر ثمرة اُخرى لتنجّس بدن الحيوان فهذا الكلام ـ أيضاً ـ يؤدّي بنا إلى عدم الإيمان بتنجّس بدن الحيوان بناءً على أنّ التنجّس أمر اعتباري شرعي ؛ وذلك لأنّ هذا الكلام ينتهي إلى إنكار الثمرة، فيصبح الحكم بتنجّس بدن الحيوان لغواً.

463

لوازم مفاد الأمارة، وهي الدليل الدالّ على حجيّة الاستصحاب، وليس من لوازم مفاد الأصل، أي: المستصحب. وهذا واضح.

ولكن يقع الكلام في تشخيص مصاديق هذا الشيء فنقول: إنّ ما يكون لازماً للجعل الاستصحابي تارةً يكون لازماً له على كلّ المباني في تشخيص حقيقة هذا الجعل من كونه جعل الحكم المماثل، او جعل الطريقية، أو غير ذلك. واُخرى يكون لازماً له على بعض المباني.

أمّا الأوّل، وهو ما يكون لازماً للجعل الاستصحابي على كلّ المباني، فهو تارةً يكون من باب قيام دليل تصديقي على الملازمة بين التعبد الاستصحابي وهذا اللازم. واُخرى يكون من باب الملازمة التصوّرية بينهما الموجبة لظهور دليل الاستصحاب في ثبوتهما معاً.

وتوضيح الثاني هو: أنّه قد يقال: إنّ التعبّد بالاُبوّة والتعبّد بالبنوّة بينهما ملازمة تصورية، أي: إنّ تصوّر أحدهما يستلزم تصور الآخر، فالدليل الدالّ على التعبّد بأحدهماوهو الاُبوّة مثلاً ـ لو فرض إمكان الشكّ في بقائهاـ آلة لا يجاد تصوّرين طوليين وبحكم استتباع الدلالة التصورية للكلام للدلالة التصديقية يثبت لدليل الاستصحاب ظهور تصديقي في كلا الأمرين، ولعلّ هذا هو مراد من استثنى من عدم حجيّة الاستصحاب المثبت المتضايفين.

إلاّ أنّ الصحيح أنّ هذا القسم من اللوازم لا يثبت، وذلك لأنّه لو كان دليل الاستصحاب على التعبّد بالاُبوّة بالخصوص صحّ هذا التقريب، لكن دليل الاستصحاب لم يدلّ على التعبد بهذا العنوان الخاصّ، وإنّمادلّ على التعبد بعنوان عامّ، وهو عنوان ماتيقّن به في السابق، وهو بهذا العنوان ليست له دلالة تصوّرية على التعبّد بالبنوّة حتى تتحوّل إلى دلالة تصديقية.

إذن، فينحصر الأمر في أن يفرض دليل تصديقي يدلّ على الملازمة بين التعبّد الاستصحابي وحكم آخر واقعي أو ظاهري، سواء كان دليلاً شرعياً، أو دليلاً عقلياً، أو ارتكازاً عقلائياً بحيث يفرض أنّ العرف لا يتصوّر أنّ مولىً عاقلاً يحكم بالاستصحاب هنا، ولا يحكم بالحكم الاخر، فينعقد لدليل الاستصحاب ظهور في ذلك الحكم الآخر.

ومثال الملازمة بالدليل التصديقي هو استصحاب نجاسة الماء المتنجّس المتممّ كراً بماء طاهر، واستصحاب طهارة ذلك الماء الطاهر ـ إذا عجزنا عن التمسك بالأدلّة الاجتهادية ووصلت النوبة إلى الأصل العملي ـ فالاستصحابان هنا يتعارضان، ولا يمكن الالتزام

464

بنجاسة ما كان نجساًوطهارة ما كان طاهراً ؛ وذلك: إمّا لقيام الإجماع على أنّ الماء الواحد لا يتبعّض حكمه، سواء كان واقعياً أو ظاهرياً، فهو دليل شرعي على الملازمة بين النجاسة المستصحبة ونجاسة الباقي ظاهراً، وكذلك بين الطهارة المستصحبة وطهارة الباقي ظاهراً، وإمّا لعدم مساعدة الارتكاز العقلائي على التفكيك في حكم أجزاء الماء الواحد، سواء كان حكماً واقعياً أو ظاهرياً، فالقطرة الواحدة في نظر العرف لا تتحمّل حكمين مختلفين من حيث الطهارة والنجاسة.

ويمكن أن يمثّل للمقام بمثال آخر، وهو استصحاب الجعل الكلّي، وإثبات فعليّة المجعول بناءً على تصوّرات المحقّق النائيني (رحمه الله) من التفكيك بين الجعل والمجعول. وتوضيح ذلك: أنّنا لو استصحبنا بنحو كلّي نجاسة الماء المتغيّر بعد فرض زوال تغيّره، ثمّ وجد خارجاً ماء متغيّر زال تغيّره، فذلك الاستصحاب كاف في ثبوت فعليّة النجاسة ظاهراً ؛ وذلك لأنّه كما أنّ الجعل الواقعي حينما يوجد موضوعه خارجاً يصبح فعلياً بحكم العقل بالملازمة بين الجعل وفعلية المجعول عند تحقّق الموضوع خارجاً، كذلك الجعل الظاهري يصبح فعلياً حينما يوجد موضوعه خارجاً بحكم العقل بالملازمة بينهما.

هذا على تصورات المحقق النائيني (رحمه الله).

وأمّا على تصوّراتنا فلا موضوع لهذا الكلام؛ إذ لايوجد لنا عالم المجعول والفعلية وراء عالم الجعل، ويكفي استصحاب الجعل مع تحقّق الموضوع خارجاً لترتّب التنجيز المطلوب.

وأمّا الثاني، وهو ما يكون لازماً للجعل الاستصحابي على بعض المباني، فمن قبيل وجوب المقدّمة أو حرمة الضدّ بناءً على الإيمان بهما، فقد يقال: إنّنا إذا استصحبنا وجوب شيئاً ثبت وجوب مقدّمته أو حرمة ضدّه ؛ لأنّه كما أنّ الوجوب الواقعي لشيء يستلزم وجوب مقدّمته أو حرمة ضدّه واقعاً كذلك الوجوب الظاهري له يستلزم وجوب مقدّمته أو حرمة ضدّه ظاهراً. إلاّ أنّ هذا الكلام إنّما يتأتى على بعض المباني وهو مبنى كون مفاد الاستصحاب وجوباً تكليفياً كما لو قلنا بالحكم المماثل، فعلى هذا المبنى لو استصحبنا وجوب شيء ثبت وجوب مقدّمته وحرمة ضدّه إن ادّعينا التلازم بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته، أو حرمة ضدّه بلحاظ عالم الجعل والإنشاء.

ويترتّب على ذلك بطلان الضدّ إذا كان عبادة بناءً على مبطلية هذا النهي للعبادة، وعدم الحرمة مطلقاً إذا كانت المقدّمة في نفسها محرّمة بناءً على أنّه ترتفع حرمتها بمجرّد صيرورتها واجبة بالوجوب المقدّمي، ونحو ذلك من الآثار التي قد تظهر بالتتبّع في الأبواب المتفرّقة.

465

وأمّا إن كان التلازم مقصوراً على عالم المبادئ فهنا لا يثبت وجوب المقدّمة أو حرمة الضد على شيء من المباني في الاستصحاب، ولو كان من قبيل مبنى جعل الحكم المماثل؛ وذلك لأنّ الأحكام الظاهرية ليست لهامبادئ وراء مبادئ الأحكام الواقعية.

وأمّا القسم الثالث، وهو ما كان ملازماً لحجّيّة الاستصحاب فثبوته في غاية الوضوح، فإنّه إن كان القسم الأوّل يدخل في مثبتات الاُصول والقسم الثاني يدخل في مثبتات الأمارة، فهذا القسم لا يدخل حتّى في مثبتات الأمارة، بل يثبت بالقطع الوجداني؛ إذ هو من لوازم الحجّيّة المفروض ثبوتها بالقطع الوجداني ؛ لانتهاء سلسلة ادلّتها إلى القطع، فتثبت حتماً اللوازم والآثار المترتّبة على الحجّيّة من قبيل ثبوت التنجيز،ووجوب الطاعة، وحرمة المعصية، واستحقاق العقاب.

وبعد هذا كلّه ننتقل إلى ملاحظة حال ما ذكره المحقّق الخراساني (رحمه الله) حيث إنّه عطف على استثناء الشيخ خفاء الواسطة من قانون عدم حجّيّة الأصل المثبت فرض جلاء الملازمة، وذكر له ملاكين أو تقريبين:

الأوّل: إنّ العرف حينما لا يتعقّل التفكيك في التعبّد بين شيئين ؛ لشدّة التصاق أحدهما بالآخر كالاُبوّة والبنوّة مثلاً، فلا محالة يدلّ دليل التعبد بأحدهما على التعبّد بالآخر.

الثاني: أنّ أثر الواسطة يسنده العرف إلى نفس المستصحب ؛ لشدّة التصاق الواسطة به، فكأنّما يكونان وجهين لشيء واحد، فكأنّ علقة الاُبوّة والبنوة مثلاً شيء واحد، حينما ينظر إليه من هذا الجانب يسمّى بالابوّة. وحينما ينظر إليه من ذاك الجانب يسمّى بالبنوّة(1).

وبين هذين الملاكين فرق عملي، وهو أنّه إذا كان المستصحب وهو الاُبوّة مثلاً لا يترتّب عليه أثر شرعي، وإنما يترتّب الأثر على البنوّة، فالتقريب الأوّل لا يتمّ، لكنّه يتمّ التقريب الثاني، فإنّه على التقريب الثاني يقال: إنّ أثر البنوّة هو أثر للاُبوّة، فيثبت. وأمّا على التقريب الأوّل فالتعبّد بالاُبوّة لم يثبت ؛ إذ لا أثر له حتّى يقال: إنّه إذا ثبت هذا التعبّد ثبت التعبد بالبنوّة ـ أيضاً ـ بالملازمة العرفية بين التعبّدين.

وتحقيق حال الملاك الأوّل ظهر من هذا التنبيه، وتحقيق حال الملاك الثاني ظهر من التنبيه السابق. أمّا الملاك الأوّل فقد عرفت أنّه متى ما كان بحسب الارتكاز العرفي ملازمة بين التعبّدين ثبت أحدهماعند ثبوت الآخر بالاستصحاب، ولا يبعد كون المتضايفين


(1) راجع الكفاية: ج2 ص327 بحسب طبعة المشكيني.

466

كذلك، وليس هذا استثناء من الأصل المثبت، وإنّما هذا داخل في لوازم الأمارة ؛ لأنّ مركز الملازمة والأثر هو نفس التعبّد الاستصحابي الذي هو مفاد أمارة من الأمارات. وأمّا الملاك الثاني فهو نفس ما مضى في خفاء الواسطة من أنّ العرف يسند أثر الواسطة إلى المستصحب، غاية ما هناك أنّ نكتة هذا الاسناد المدّعى هناك كان هو خفاء الواسطة، وهنا هو جلاء الملازمة وشدّة التصاق الواسطة بالمستصحب، ويظهر عدم ثبوت آثار اللوازم هنا بمراجعة ما مضى في عدم ثبوتها هناك.

الأمر الرابع: ذكر المحقّق الخراساني (رحمه الله)(1): انّه إذا كان الامر مرتباً على عنوان الكلّي فهذا العنوان تارةً يكون ذاتياً كعنوان الإنسان، واُخرى عرضياً بنحو المحمول بالضميمة، ويقصد(رحمه الله)بذلك ما يكون بإزائه في الخارج شيء زائد على ذات المعنون كعنوان الأسود الذي يكون بإزائه السواد، وثالثة بنحو الخارج المحمول، ويقصد بذلك العنوان الانتزاعي الذي ليس بإزائه في الخارج شيء زائد على ذات الموصوف والمعنون، كعنوان فوق.

أمّا في القسم الأوّل وهو العناوين الذاتية فقد ذكر (رحمه الله): أنّه لا بأس باستصحاب الفرد وترتيب أثر العنوان ؛ لأنّ الواسطة في المقام التي هي ذلك العنوان وهو عنوان الإنسان مثلاً لا تضرّ بعد ماكان روحها وجوهرها في الخارج ليس إلاّ الفرد.

أقول: إنّ كلامه (رحمه الله) يمكن أن يعمّم، بأن يقال: إنّ ذلك يشمل كلّ الأقسام الثلاثة، فيجري في جميعها استصحاب الفرد لإثبات أثر العنوان، إلاّ أنّ كلاًّ بحسبه، ففي عنوان الإنسان يستصحب فرد الإنسان، وفي عنوان الأسود ـ أيضاً ـ يستصحب فرد الأسود بما هو أسود، فإنّ هذا العنوان بالنسبة لفرده، أي: الاسود بماهو أسود ذاتي لا محالة، وفي عنوان الفوق ـ أيضاً ـ يستصحب هذا الفرد من الفوق بما هو كذلك، فإنّ هذا العنوان ذاتي بالنسبة إليه.

وعلى أي حال، فقد اعترض عليه السيّد الاُستاذ بأنّ جريان الاستصحاب هنا ليس من باب الاستثناء من قاعدة عدم حجّيّة الاستصحاب المثبت، وإنّما هو خارج عن الاستصحاب المثبت موضوعاً، فإنّ العنوان الكلّي إن لوحظ بمعناه الاسمي فهو مباين للفرد، ويأتي إشكال الاستصحاب المثبت، لكنّ الأحكام دائماً تتعلّق بالعناوين لا بمعانيها الاسمية، بل بما هي مرآة، وبما هي فانية في الفرد ومنطبقة عليها، فتثبت تلك الأحكام ـ لا محالة ـ


(1) راجع الكفاية: ج2، ص329 ـ 330 بحسب طبعة المشكيني.

467

باستصحاب الفرد(1).

أقول: الظاهر أنّ مقصود المحقّق الخراساني (رحمه الله) أيضاً كان هو هذا المطلب، لا دعوى الاستثناء من الأصل المثبت.

وعلى أيّ حال، فكلّ هذه الكلمات لا تخلو من تشويش.

وتحقيق الحال بنحو يخرج من التشويش هو: أن يقال: ماذا يقصد باستصحاب الفرد؟ هل يقصد به إجراء الاستصحاب في الفرد الخارجي الذي لا يمكن أن يدرك أو يقصد به إجراؤه في المفهوم الذهني المدرك المضيّق إلى درجة لا تنطبق إلاّ على فردواحد، وهو المفهوم الذي يعبّر عنه بكلمة زيد ونحوها؟

فإن قصد الأوّل قلنا: إنّه لا يجري فيه الاستصحاب، فإنّه ليس هو مصبّ اليقين والشكّ، والأحكام الشرعية، وإنّما مصبّ الجميع هي المفاهيم الذهنية. وان قصد الثاني قلنا: إنّ هذا المفهوم هل يفترض مركّباً من مجموعة مفاهيم منها ذاك العنوان العام الذي يقصد ترتيب آثاره كما لو استصحبنامفهوم زيد الذي هو مثلاً عبارة عن الإنسان الذي طوله كذا وعرضه كذا ولونه كذا و... أو يفترض عدم دخول ذاك العنوان العام في هذاالمفهوم وإنّما ذاك العنوان وهذا المفهوم مفهومان في عرض واحد، متصادقان على شيء واحد، كما لو كان المستصحب مثلاً عنوان المولود في الساعة الفلانية، وهذا المفوم ليس أحد أجزائه عنوان الإنسان؟

فإن قصد الثاني فهذامن أوضح أنحاء الاستصحاب المثبت، وكيف يمكن استصحاب مفهوم وترتيب آثار مفهوم آخر بمجرّد أنّهما متصادقان على شيء واحد؟

وإن قصد الأوّل فهذاالعنوان العامّ بنفسه قد استصحب في ضمن استصحاب الفرد فتترتّب عليه آثاره لا محالة، وباقي المفاهيم المنضمّة إلى هذا العنوان العامّ لو فرض أنّه كان لها أثر صحّ استصحاب الفرد الذي هو استصحاب لمجموعة هذه المفاهيم، وإلاّ فاستصحاب تلك المفاهيم المنضمّة لامعنى له وهذامعناه أنّه عندئذ يجري استصحاب ذاك العنوان العامّ فحسب.

وأمّا في القسم الثاني والثالث فذكر (رحمه الله) التفصيل بينهما، ففي المحمول بالضميمة قال: إنّه لا تثبت آثار هذا العنوان العرضي باستصحاب ذات الفرد، فإنّ هذا العنوان ما بإزائه في الخارج غير ذات الفردوأمر زائد عليه، وهذا الأمر الزائد لا يثبت باستصحاب ذات الفرد. وأمّا في


(1) راجع مصباح الاُصول: ج3 ص171، والدراسات ج 4 ص 169 ـ 170.

468

الخارج المحمول من قبيل عنوان الزوج والملك (على ما يمثّلُ به حيث يرى أنّهما من قبيل عنوان الفوقية) فلا بأس بترتيب الآثار بمجرّد استصحاب ذات الشخص المتصف بصفة الزوجية أو الملك مثلاً ؛ وذلك لأنّ هذا العنوان ليس له ما بإزاء في الخارج حقيقة عدا نفس هذا الشيء الذي قد ثبت بالاستصحاب.

وأورد على ذلك السيّد الاُستاذ بأنّ هذا العنوان الخارج المحمول يكون على أيّ حال واسطة بين المستصحب والأثر المطلوب، فيكون الاستصحاب من الاستصحاب المثبت، ولا يجري.

أقول: الظاهر من عبارة المحقّق الخراساني (رحمه الله) في الكفاية والصريح في تعليقته على الرسائل(1) هو أنّه يقصد الاستظهار من دليل تلك الآثار كونها ـ في الحقيقة ـ مترتّبة على ذات الشيء المستصحب، فأحكام الزوجية مثلاً مترتّبة على ذات الشخص بشرط كونه قد عقَد على إمرأة لا على هذا العنوان الاعتباري، وهو الزوجية ؛ وذلك بنكتة أنّ هذا العنوان ليس له ما بإزاء في الخارج زائد على ذات الشيء، فإمّا ببرهان عقلي أو بالارتكاز العرفي يكون غير قابل لكونه دخيلاً في الحكم.

إذن فينبغي النقاش مع صاحب الكفاية في هذه النكتة، وهي أنّه هل هذا العنوان الانتزاعي دخيل في الحكم، أو لا؟

فنقول: يمكن أن يتصوّر عدم دخله في الحكم بأحد تقريبين:

الأوّل: القطع الخارجي بعدم دخل مثل هذا العنوان في الحكم، لأنّه ليس إلاّ مجرّد اعتبار وافتراض وخيال، ولا معنى لفرض دخله في الحكم.

وفيه: أنّ الفرض والاعتبار إن كان عبارة عن خيال يتخيّله الإنسان ويفترضه متى ما اراد، وبإمكانه أن يفترض عكسه، وذلك كأن يفترض أنّ هذه الغرفة فوق المريخ، فالاعتبار بهذا المعنى ليس دخيلاً في الحكم الشرعي قطعاً. وأمّا إذا كان الاعتبار عبارة عن ذاك الاعتبار الذي يكون مفروضاً على العقل البشري، ولا يمكن للعقل البشري أن يتخلّى عنه، وذلك من قبيل اعتبار أنّ هذا فوق ذاك، وهذا هو القسم المبحوث عنه هنا، فالقطع بعدم دخله في الحكم ممنوع جدّاً، خصوصاً بناءً على مبنانا من أنّ هذه الاُمور لها واقع موضوعي خارج حدود الذهن، وإلاّ فلماذا يكون العقل البشري مضطراً إلى الخضوع لهذه


(1) ص214 ـ 514، بحسب طبعة منشورات مكتبة بصيرتي.