437

حجيّتها بمثل قوله (خذ بما اشتهر بين أصحابك)، ولا في خبر الثقة بناءً على كون الدليل على حجيّته غير السيرة، ولا في البيّنة في باب القضاء إذا ثبتت حجيّتها بالتعبّد لا بالسيرة.

والصحيح في الضابط في حجيّة اللوازم ما عرفت من أنّه أحد أمرين:

الأوّل: الإطلاق في دليل الحجيّة يثبت اللوازم، وهذا لا تؤثّر فيه أماريّة الأمارة أو أصليّة الأصل.

والثاني: أنّ تكون العبرة فقط بأقوائية الاحتمال. وأمّا إذا تدّخل سنخ المحتمل دخلاً تامّاً أو دخلاً ناقصاً، أو تدخّلت نكتة نفسية ولو احتمالاً فلا يمكننا أن نتعدّى إلاّ إلى لازم ثبت دخوله في دائرة سنخ المحتمل المفروض حجيّته فيه، أو دائرة النكتة النفسيّة على شرط أن لا يكون ثبوت دخوله في تلك الدائرة عن طريق كونه بنفسه مصداقاً للأمر الذي جعل بمدلوله المطابقي حجّة، وإلاّ فالتمسّك بالمدلول الالتزامي لا محصّل له.

فخبر الثقة مثلاً لوازمه حجّة ؛ لأنّ الملحوظ فيه هو أقوائية الاحتمال، والنكتة النفسية غير ملحوظة بمقتضى ظاهر دليل الحجيّة ولو بمعونة الارتكاز العقلائي الذي يرى عدم دخل نكتة نفسية في المقام، ولا أقصد بالارتكاز العقلائي خصوص ارتكاز حجيّة شيء من دون دخل نكتة نفسية، بل يكفي أن يكون المرتكز في أذهان العقلاء أنّ الشيء الفلاني إن كان حجّة فهو إنّما يكون حجّة لأجل ما فيه من قوّة الاحتمال من دون دخل أيّ نكتة نفسية في موارده، سواء كانت حجيّته ـ ايضاً ـ مركوزة، أو لا.

ولو فرضنا أنّ خبرالثقة جعل حجّة في العبادات بالخصوص مثلاً لدخل سنخ المحتمل، ودلّ خبر الثقة على وجوب الصلاة مثلاً، وكانت هناك ملازمة بين وجوب الصلاة ووجوب الصوم، ثبت بذلك وجوب الصوم بالرغم من دخل سنخ المحتمل حسب الفرض، وذلك لاتحاد سنخ المحتمل في المقام.

والاُصول لوازمها غير حجّة ؛ لأنّ العبرة فيها بسنخ المحتمل الذي يحتمل اختلافه من المدلول المطابقي إلى المدلول الالتزامي، ولا إطلاق في دليل حجيّته يشمل المداليل الالتزامية.

والاستصحاب بالرغم من كونه أمارة، بمعنى ملاحظة قوّة الاحتمال فيه دون سنخ المحتمل ـ على ما عرفت ـ، لا تكون لوازمه حجّة، ففي خصوص الاستصحاب نؤيّد الاتّجاه الثاني القائل بالرجوع إلى مرحلة الإثبات. ولتوضيح الحال في الآثار المترتّبة على المستصحب نرجع إلى المقام الثاني.

438

الآثار الشرعية المترتبة على المستصحب بواسطة أثر شرعي أو عقلي

المقام الثاني: في الأمر الثاني وهو الفرق بين الآثار المترتّبة على المستصحب بواسطة أثر تكويني كنبات اللحية مثلاً والآثار الشرعية المتسلسلة المترتّبة على المستصحب، وهذا الفرق مشهور على لسان المحقّقين المتأخرين.

ويقع الكلام في أنّه كيف يفترض لسان دليل الاستصحاب بحيث ينسجم مع كلا هذين الأمرين، اعني عدم ثبوت الآثار الشرعية التي تكون بواسطة أثر تكويني من ناحية، وثبوت الآثار الشرعية التي تكون بواسطة أثر شرعي آخر من ناحية اُخرى؟

وهنا افتراضان في تصوير مفاد دليل الاستصحاب.

الافتراض الأوّل: ما هو مختار المحقّق الخراساني (رحمه الله) من أنّ مفاد دليل الاستصحاب هو تنزيل المشكوك منزلة الواقع، من قبيل تنزيل الطواف بالبيت منزلة الصلاة، إلاّ أنّ ذاك تنزيل واقعي وهذا تنزيل ظاهري، ومعنى التنزيل هو ترتيب أثر المنزل عليه على المنزّل، وجعل المنزّل كأنّه المنزل عليه في الأثر، ولكن هنا في الحقيقة لم يترتّب أثر المنزل عليه على المنزّل، فإنّ أثر بقاء حياة زيد المستصحب حياته إنّما هو مثلاً جواز التقليد واقعاً، والذي يترتّب على الحياة المشكوكة إنّما هو جواز التقليد ظاهراً، وهذا غير ذاك، إلاّ أنّه كانّه هو ذاك، وهو مثله، وهذا معنى ما يقوله المحقّق الخراساني (رحمه الله)من أنّه يكون المجعول في باب الاستصحاب هو الحكم المماثل.

وهذا الافتراض يكون توضيح انسجامه مع عدم ثبوت الآثار الشرعية المترتّبة بواسطة أثر تكويني بأن يقال: إنّ الأثرالتكويني لا يثبت بهذا التنزيل، فإنّ التنزيل إنّما يفيد التوسعة في دائرة ما يكون بيد المولى المُنزِل بما هو مولى، والأثر التكويني ليس هكذا، وإذا لم يثبت الأثر التكويني لم يثبت ما تترتّب عليه من آثار لعدم ثبوت موضوعها وجداناً ولا تنزيلاً.

يبقى أن يُقال: إنّ تلك الآثار الشرعية هي آثار للمستصحب ؛ لأنّها آثار لأثر المستصحب، وأثر الأثر أثر لذلك الشيء، إذن فلتثبت تلك الآثار بواسطة استصحاب المستصحب ابتداءً من دون توسيط إثبات الأثر التكويني، وهنا يقول المحقّق الخراساني(رحمه الله): إنّ دليل الاستصحاب لا يشمل هذا الأثر الذي هو أثر بالواسطة، للانصراف، أو أنّ القدر المتيّقن هو الأثر بلا واسطة(1).


(1) راجع الكفاية ج2 ص327 بحسب الطبعة المشتملة في الحواشي على تعليقات الشيخ المشكيني.

439

وهنا قد يقال: إنّ هذا المنهج لا ينسجم مع القول بترتّب الآثار الشرعيّة التي تكون بواسطة أثر شرعي آخر ؛ لأنّه إذا صار القرار على دعوى عدم شمول إطلاق الدليل للأثر الذي يكون بواسطة أمر تكويني، للإنصراف عن الأثر مع الواسطة، أو وجود القدر المتيقّن، فلا فرق في ذلك بين الأثر الشرعي الذي يكون بواسطة أمر تكويني والأثر الشرعي الذي يكون بواسطة أثر شرعي.

وقد ذكر المحقّق النائيني(رحمه الله): إنّ الآثار المتسلسلة إن كانت من سنخ واحد، أي: كلّها تكوينية، أو كلّها تشريعية، فالأثر المتأخّر يُعدّ أثراً للشيء وإن كان مع الواسطة. وأمّا إذا لم تكن من سنخ واحد كما لو ترتّب أثر شرعي على أثر تكويني للشيء، فذاك الأثر المتأخّر لا يكون أثراً لذلك الشيء(1).

وهذا الكلام لا نفهم له وجهاً ومحصّلاً إن لم يرجع إلى ما سوف نذكره في آخر البحث، ونختاره، وهو لا يرجع إليه.

والذي ينسجم مع تصوّرات المحقّق الخراساني (رحمه الله) وكأنّه المقصود من عبارته في الكفاية(2) أن يقال: إنّ تنزيل الحياة المشكوكة لزيد مثلاً منزلة الحياة الواقعية عبارة عن ترتيب آثار الحياة الواقعية على الحياة المشكوكة، وفي الحقيقة لا تُرتَّب آثار الحياة الواقعية على الحياة المشكوكة، وإنّما يرتّب عليها أثر آخر كانّه هو أثر الحياة الواقعية، وهذا بدوره يستبطن تنزيلاً آخر، وهو تنزيل الأثر الظاهري منزلة الأثر الواقعي ؛ لأنّ حمله على مجرّد تشبيه الأثر الظاهري بالأثر الواقعي دون تنزيله المولوي منزلته في الآثار خلاف ظهور الكلام في المولوية، وكونه تشبيهاً صدر من المولى بما هو مولىً، وهذا التنزيل الثاني يرتّب


(1) راجع فوائد الاُصول ج4 ص489 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم المشتملة على تعليقات الشيخ العراقي (رحمه الله) وأجود التقريرات ج2 ص417.

(2) لم أر في الكفاية عبارة تشير إلى ذلك ولعل استاذنا الشهيد (رحمه الله) يقصد نفس تصريح الآخوند بدلالة دليل الاستصحاب على ترتيب آثار المنزّل عليه بلا واسطة دون الآثار المترتبة على ذلك بواسطة أثر تكويني حيث لا شك أنه لو فرضنا أن أثر المستصحب ينقسم عنده إلى هذين القسمين وليس له قسم ثالث وهو الأثر المترتب شرعاً على أثر المستصحب فالمفروض أن يكون قد أدخل هذا القسم في القسم الأول وهو الأثر بلا واسطة وهذا يكون توجيهه ببيان أن الأثر الأول بنفسه أصبح أيضاً منزّلاً عليه بلحاظ أثره الشرعي وعلى أي حال فقد وجدتُ هذا المعنى في كلّمات المحقق العراقي (رحمه الله) بعد فرض ارجاع التنزيل الاستصحابي إلى جعل الأثر أو المماثل راجع نهاية الافكار القسم الأول من الجزء الرابع بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم وراجع المقالات ج2 ص409 بحسب طبعة مجمع الفكر الاسلامي.

440

على الأثر الظاهري الأثر الثابت للأثر الواقعي بلا واسطة، وهكذا يتسلسل الكلام إلى الأثر الأخير، ففي الحقيقة يكون التنزيل هنا منحلاًّ الى تنزيلات عديدة يكون المرتّب في كلّ واحد منها هو الأثر الثابت بلا واسطة.

هذا ما يستفاد من كلام صاحب الكفاية مع تعميقه، ولعله أحسن ما اُفيد في المقام.

إلاّ أنّه يرد عليه:

أوّلاً: أنّ ما فرض من عدم إمكان شمول التنزيل للأثر التكويني إنّما يتمّ في التنزيل الواقعي الذي يرتّب على المنزّل عليه حقيقةً ما هو من سنخ أثر المنزّل، من دون أيّ فرق بينهما، فهذا مختصّ بالآثار الشرعيّة بلا إشكال، لأنّها التي يكون أمر توسيعها بيد الشارع بما هو شارع دون الآثار التكوينية، وليس مقصود صاحب الكفاية في المقام دعوى التنزيل الواقعي، وإلاّ لكان الاستصحاب حكماً واقعياً، ولما احتجنا في توضيح ترتّب الآثار الشرعية المتسلسلة إلى تحليل التنزيل إلى تنزيلات عديدة.

وأمّا التنزيل الظاهري والذي هو المقصود في المقام، فشموله للأثر التكويني بمكان من الإمكان ؛ لأنّه ليس إثباتاً لذاك الأثر حقيقةً كي يقال: إنّه أمرٌ تكويني لا يثبت بالتشريع، وإنّما هو إثبات لما فرض ادّعاءً، وبتنزيل آخر أنّه ذاك الأثر رغم الفرق بينهما بكون أحدهما واقعياً والآخر ظاهرياً، أو كون أحدهما تكوينياً والآخر اعتبارياً وجعليّاً. إذن فالحلقة التكوينية من الآثار المتسلسلة لا مبرّر لسقوطها من الحساب كي يؤدّي ذلك إلى سقوط الحلقات الشرعية المترتبة على تلك الحلقة التكوينية.

إلاّ أن يُفترض اقتصار التنزيل على موارد المماثلة التامّة بين أثر الواقع وأثر المشكوك من غير ناحية كون الأوّل واقعياً والثاني ظاهرياً، فيقال: إنّ هذا في الأثر التكويني غير ممكن ؛ لأنّ الأثر الذي يثبت بالاستصحاب ليس تكوينياً، بل هو اعتباري وجعليّ، فانتفت المماثلة.

ولكنّك ترى أنّ هذا الافتراض قيد إضافي منفيّ بالإطلاق ما دمنا اعترفنا بأنّ ادّعاء كون هذا الأثر كذاك الأثر، أو تنزيله منزلته يجبر وجود مثل هذا الفرق.

ولو أصررنا على ضرورة المماثلة التامّة بين الأثرين من غير ناحية كون أحدهما واقعياً والآخر ظاهرياً، لورد النقض بما إذا كان أحد الآثار خارجاً عن محل الابتلاء، وكان يترتّب عليه أثر داخل في محل الابتلاء، فذاك الأثر الخارج عن محل الابتلاء ليس ثبوته فعلاً حكماً وإلزاماً وتحريكاً، في حين أنّ واقع ذاك الأثر جعل لحالة الدخول في محلّ الابتلاء بوصفه

441

إلزاماً وتحريكاً لمن يتوجّه إليه، ومثاله: ما لو استصحبنا حياة زيد، وكان أثرها وجوب الصلاة في يوم الجمعة الماضي، وكان الأثر المترتّب على هذا الأثروجوب الصلاة في اليوم الحاضر، فهنا يرتّبون وجوب الصلاة في اليوم الحاضر على استصحاب الحياة مع أنّ لازم الكلام في المقام عدم ترتيبه، وكذلك ما لو فرضنا أنّ عمراً يستصحب حياة زيد، وأثرها الشرعيوجوب الصلاة على بكر، والأثر المترتّب على هذا الأثر هو وجوب الصلاة على عمرو، فالأثر الأوّل لا يثبت بالنسبة للمستصحب وهو عمرو؛ لأنّه ليس حكماً له، كما لا يثبت لبكر ؛ لأنّه ليس هو صاحب اليقين السابق والشكّ اللاحق، لكن الأثر الثاني يثبت في المقام.

والخلاصة: أنّ كون حلقة من حلقات سلسلة الآثار تكوينية لا يوجب بطلان تنزيل المشكوك منزلة ذي الأثر بلحاظ هذا الأثر التكويني ما دام التنزيل ليس حقيقياً، بل هو ظاهريّ، ويتقوّم حسب الفرض بتنزيل ثان، وهو تنزيل الأثر الظاهري التشريعي منزلة الأثر التكويني استطراقاً إلى ترتيب الأثر الشرعي المترتّب على الحلقة التكوينية.

ودعوى انصراف التنزيل إلى الأثر المباشر لا يضرّ في المقام، كما لم يضرّ حسب الفرض في سلسلة الآثار التي كانت كلّها شرعية ؛ لأنّ المفروض انحلال التنزيل إلى تنزيلات عديدة يترتّب في كلّ واحد منها الأثر المباشر.

إلاّ أن تضمّ إلى ذاك الانصراف المدّعى دعوى انصراف آخر من دون بيان نكتة له، وهو الانصراف إلى الأثر الشرعي دون التكويني، فيقال: إنّ الحلقة التكوينية تسقط بالانصراف الثاني، فتسقط الحلقات المتأخّرة عنها بالانصراف الأوّل، فيتمّ التفصيل المطلوب في المقام.

وثانياً: أنّ فرض لسان دليل الاستصحاب هو التنزيل وجعل الحكم المماثل بلا موجب، سواءً فرضنا مفاد (لا) في الحديث هو النفي، أو فرضناه هو النهي، بان تكون (لا) ناهية، أو نافية اُريد بها النهي.

فلو فرضنا مفادها هو النفي فالمقصود هو نفي الانتقاض الخارجي لليقين، لا النقض العملي، ونفي الانتقاض الخارجي لليقين عبارة اُخرى عن التعبّد ببقاء اليقين وجعل الطريقية ولو بلحاظ مرتبة الجري العملي، كما يقوله المحقّق النائيني (رحمه الله)، ولا وجه لإرجاع الكلام إلى جانب المتيقّن، وحمله على تنزيل المشكوك منزلة المتيّقن.

ولو فرضنا أنّ مفاد الحديث هو النهي كما هو ظاهر في عبارة (لا ينبغي لك أن تنقض

442

اليقين بالشكّ) فإمّا أن يقصد به النهي عن النقض الحقيقي، أو يقصد به النهي عن النقض العملي.

فإن قصد به النهي عن النقض الحقيقي الذي هو غير مقدور كان كناية عن عدم القدرة على نقضه، من قبيل أن يقال: (لا تكسِر البناء الفلاني) بمعنى لا تستطيع كسره، ومرجع بيان عدم القدرة عن نقض اليقين هو التعبّد ببقاء اليقين، وجعل الطريقية ولو بلحاظ الاقتضاء للجري العملي.

وإن قصد به النهي عن النقض العملي فليس هذا نهياً تكليفيّاً وإلزامياً، إذ الاستصحاب يجري في المباحات والترخيصيات أيضا، كما هو مورد صحيحة زرارة. إذن فهو كناية عن ثبوت اقتضاء الجري العملي على طبق اليقين السابق.

فتحصّل: أنّه لا يستفاد من دليل الاستصحاب التنزيل، وإنّما يستفاد منه اقتضاء الجري العملي على طبق اليقين السابق، أو عبّر بإبقاء اليقين العملي.

وصحيحٌ أنّ صحيحة عبدالله بن سنان لم يذكر فيها اليقين، بل ذكر فيها الواقع، حيث قال(عليه السلام): (إنّك أعرته إيّاه وهو طاهر، ولم تستيقن أنّه نجّسه)، لكن هذا ـ ايضاً ـ لا يعيّن التنزيل، فإنّه لم يذكر إلاّ الصغرى، أمّا الكبرى وهي القاعدة التي توجب في موردها الحكم بالطهارة فلا يتعيّن أن تكون بصياغة التنزيل، ولم يثبت كون الارتكاز العقلائي في المقام على عنوان التنزيل، كي يقال: إنّ الكبرى المحذوفة تحمل على ذلك.

الافتراض الثاني: ما اتّضح عند إبطال الافتراض الأوّل من أنّ مفاد الاستصحاب هو النهي عن النقض العملي باليقين، أو التعبد ببقاء اليقين ولو بلحاظ الجري العملي، ونحو ذلك ممّا نسمّي جامعه بإبقاء اليقين العملي، وهذا يختصّ بنفس ما تعلّق به اليقين، أعني نفس المستصحب دون أثره التكويني، أو الأثر الشرعي المترتّب على الأثر التكويني.

وعندئذ يشكل ـ أيضاً ـ إثبات الآثار الشرعية المتسلسلة التي لا يفصلها عن المستصحب أثر تكويني؛ وذلك لأنّ مفاد دليل الاستصحاب هو إبقاء اليقين العملي بلحاظ نفس مصبّ اليقين، ولم يكن للسان الدليل إطلاق أزيد من هذا، فكيف نثبت ترتّب الآثار الشرعية على المستصحب؟!

نعم، نثبت إرادة الشارع ترتيب الأثر الأوّل بدلالة الاقتضاء وصون كلام الحكيم عن اللغوية، ولكن باقي الآثار لا تثبت وإن سلّمنا كونها آثاراً للمستصحب، من باب أنّ أثر الأثر أثر، فإنّ ثبوت الأثر الأوّل لم يكن بملاك كون مصبّ دليل الاستصحاب رأساً هو

443

إثبات الأثر، كما هو الحال على مسلك التنزيل حتّى يقال: إنّ الإطلاق الحكمي لذلك يشمل كلّ آثار المستصحب مثلاً ولو مع الواسطة، وإنّما كان ذلك بملاك دلالة الاقتضاء التي يقتصر فيها على المقدار الرافع لمحذور اللغوية، بل هنا نترقّى أزيد، ونقول: إنّ الأثر الأوّل ـ أيضاً ـ لا يثبت ؛ إذ لا يلزم من عدم ثبوته لغوية دليل الاستصحاب ؛ لأنّ دليل الاستصحاب ليس مورده أمراً تكوينياً يلغو التعبّد به إلاّ بلحاظ إثبات الأثر تعبداً، وإنّما مورده في بعض رواياته الطهارة الحديثية، وفي بعضها الطهارة الخبثية، وسوف يأتي ـ إن شاء الله ـ إنّ استصحاب الطهارة ليس بلحاظ ترتّب أثر عمليّ شرعيّ عليه، وهو عدم وجوب إعادة الصلاة، وإنما يجري استصحاب الطهارة بلحاظ ما يترتّب عقلاً على نفس الاستصحاب، من عدم كون المكلّف ملزماً بالإعادة، فإنّ الطهارة كانت شرطاً للواجب، لا موضوعاً للحكم.

إن قلت: إنّنا نثبت الأثر الشرعي المترتّب على المستصحب تمسكاً بنفس دليل ذلك الأثر، من باب ثبوت موضوعه بالاستصحاب، فمثلاً لو دلّ الدليل على وجوب التصدّق عند حياة زيد فنحن قد أثبتنا حياته بالاستصحاب، وعندئذ نتمسّك لإثبات وجوب التصدّق بعموم ذاك الدليل الدالّ على أنّه كلّما كان زيد حيّاً وجب التصدّق، فيثبت الأثر المقصود.

قلنا: لو كان الاستصحاب موسِّعاً لدائرة موضوع الحكم واقعاً ودالّاً على أنّ المقصود من كلمة (الحياة) في لسان الشارع هو ما يعمّ الحياة الواقعية والحياة المحتملة البقاء صحّ التمسّك عندئذ بدليل وجوب التصدّق عند حياة زيد، لكنّ المفروض أنّ الاستصحاب ليست له حكومة واقعية، وإنّما هو حكم ظاهري، وموضوع دليل وجوب التصدّق إنّما هو الحياة الواقعية، لا الحياة التعبّدية، فلا يمكننا أن نثبت بالجمع بين هذه الصغرى التعبدية وهي الحياة المتعبّد بها والكبرى الواقعية وهي وجوب التصدق عند الحياة الأثر المطلوب، وهو فعلية الوجوب.

وتحقيق الكلام في هذا المقام هو: أنّ المشكلة إنّما استفحلت في المقام مبنيّاً على التصوّر الميرزائي، والمتعارف من افتراض أثر شرعي للمستصحب نحتاج إلى إثباته حتّى يتنجّز علينا عقلاً، فنتكلم في أنّه كيف يمكن إثبات ذلك الأثرمع كون المدلول المطابقي لدليل الاستصحاب إنّما هو إثبات ذات المستصحب لا أكثر، وهذا التصوّر بحسب التدقيق غير مطابق للواقع، وبعد رفع اليد عنه تنحلّ المشكلة بكمال السهولة، ويتّضح الفرق بين الآثار الشرعية المتسلسلة والأثر الشرعي المترتّب بواسطة أثر تكويني، ولتوضيح المقصود

444

نتكلّم في جهتين:

 

الجهة الاُولى: في الأثر المباشر.

فنقول: إنّنا أثبتنا في محلّه أنّه ليست للحكم الشرعي مرحلتان: مرحلة الجعل، ومرحلة المجعول والفعلية، وهي المرحلة التي تكون موضوعاً لحكم العقل بالتنجيز، وإنّما هنا مرحلة واحدة، وهي مرحلة الجعل، ويترتّب التنجيز العقلي على نفس العلم بمجموع الكبرى وهي الجعل الكلّي، والصغرى وهي الموضوع الخارجي، سواء كان العلم بأحدهما أو كلا العلمين علماً وجدانياً، أو علماً تعبّدياً بلسان التنزيل، أو بلسان إبقاء اليقين، أو بأيّ لسان آخر.

إذن فحينما نستصحب حياة زيد التي هي موضوع لوجوب الصلاة مثلاً فالصغرى وهي الحياة علمت تعبّداً، والكبرى وهي وجوب الصلاة عند حياة زيد معلومة وجداناً، فلا محالة يترتّب على ذلك التنجيز عقلاً.

 

الجهة الثانية: في الاثر الشرعي غير المباشر الذي يتصل بالمستصحب بواسطة الآثار الشرعية.

فنقول إذا ثبت بالبيان الماضي الأثر المباشر ثبت لا محالة الأثر غير المباشر، وذلك لأنّ الأثر غير المباشر مرجعه إلى الأثر المباشر، فإنّ معنى كون الحكم الأوّل موضوعاً لحكم ثان، أي: إنّه مهما وجبت الصلاة علينا فقد وجب التصدّق مثلاً هو أنّ مجموع الكبرى والصغرى في الحكم الأوّل وهما حياة زيد وجعل وجوب الصلاة على تقدير حياته موضوع للحكم الثاني وهو وجوب التصدّق، فالمستصحب يكون بالنسبة للآثار المترتّبة جزء الموضوع، وجزء جزء الموضوع، وهكذا، ويكون هذا الجزء من الموضوع معلوماً بالتعبّد، وباقي الأجزاء معلوماً بالوجدان مثلاً، وكبرى الأثر المطلوب إثباته وهي الجعل معلومة ـ ايضاً ـ بالوجدان مثلاً، ويترتّب عقلاً على معلومية هذه الاُمور التنجيز، وبهذا المعنى يتمّ أن يقال: إنّ أثر الأثر أثرٌ إذا كان كلاهما شرعيين، أي: إنّ موضوع الموضوع موضوع.

فإذا كان مقصود المحقّق النائيني (رحمه الله) ممّا مضى من أنّ كون أثر الأثر أثر يتمّ إذا كانا من سنخ واحد هو هذا، فما ألطف هذا الكلام، فإنّهما إن كان تكوينيين فمن العلوم أنّ علّة العلّة علّة، وإن كانا تشريعيين فقد عرفت أنّ موضوع الموضوع موضوع، ولكن ليست عليّة الموضوع موضوعاً، فإن كان هذا هو مقصود المحقّق النائيني (رحمه الله) ولكنّه لم يتّضح في خلال تعبيرات مَن

445

وصلت إلينا إبحاثه عن طريقهم، فلعلّه ما أكثر التحقيقات اللطيفة للمحقق النائيني(رحمه الله) التي فاتتنا، ولم تصلنا عنه، إلاّ أنّ كون هذا مقصوداً له بعيد.

هذا تمام الكلام في أصل تنبيه الأصل المثبت.

وبقي التنبيه على اُمور:

 

تنبيهات الاصل المثبت

 

بطلان الاستصحاب المثبت بالتعارض:

الأمر الأوّل: قد يبطل الاستصحاب المثبت لا عن طريق بيان عدم حجيّته في نفسه ـ كما عرفت ـ بل عن طريق اسقاطه بالمعارضة لاستصحاب عدم ذلك الأثر التكويني.

وهذا يختلف من حيث الأثر العملي عن طريقتنا في أنّه بناءً على طريقتنا يجري استصحاب عدم ذلك الأثر وتترتّب عليه الآثار الشرعية لعدم ذلك الأثر، وبناءً على هذا الطريق قد سقط هذا الاستصحاب بالتعارض.

وذكر الشيخ الأعظم (رحمه الله)(1): أنّ الاستصحاب المثبت على تقدير جريانه في نفسه حاكم على الاستصحاب النافي لذلك الأثر التكويني ؛ لدخول ذلك في الأصل السببي والمسبّبي، فاستصحاب الحياة مثلاً حاكم على استصحاب عدم الإنبات.

وذكر المحقّق العراقي (رحمه الله)(2) في المقام ثلاثة فروض:

الفرض الأوّل: أن يكون المبنى كون استصحاب شيء مثبتاً لجميع ملازمات ذلك الشيء، سواءً كانت في سلسلة المعلولات أو العلل، أو كانت في عرض المستصحب معلولة لشيء ثالث.

وذكر: أنّه في هذا الفرض يكون استصحاب الحياة حاكماً على استصحاب عدم الإنبات، واستصحاب عدم الإنبات ـ ايضاً ـ حاكماً على استصحاب الحياة؛ لأنّه كما ينظر استصحاب العلّة إلى المعلول كذلك العكس، فيحصل التوارد بين الاستصحابين ويتساقطان.

الفرض الثاني: أن يكون المبنى هو أنّ استصحاب شيء يثبت جميع معلولات ذلك


(1) راجع الرسائل ص385 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة الله.

(2) راجع نهاية الأفكار القسم الأوّل من الجزء الرابع ص182 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم.

446

الشيء، ولكن استصحاب المعلول لا يثبت العلة.

وذكر: أنّه على هذا الفرض يكون استصحاب الحياة حاكماً على استصحاب عدم الإنبات دون العكس.

الفرض الثالث: أن يكون المبنى أنّ الاستصحاب لا يثبت إلاّ الآثار الشرعية، إلاّ أنّه لا يختصّ بالآثار الشرعية المباشرة أو التي تكون بواسطة أثر شرعي، بل يثبت حتّى الآثار الشرعية التي تكون بواسطة أثر تكويني.

وذكر: أنّه على هذا الفرض يقع التعارض بين الاستصحابين ؛ لأنّ استصحاب عدم الإنبات ينفي وجوب التصدّق مثلاً المترتّب على الإنبات، واستصحاب الحياة يثبت وجوب التصدّق، فيتعارضان.

والسيّد الاُستاذ حذف فرض كون الاستصحاب مثبتاً لجميع العلل والمعلولات والملازمات وأضاف فرضاً آخر، وهو فرض كون حجيّة الاستصحاب من باب الأمارية والظنّ، وقال: إنّه على هذا يكون استصحاب الحياة حاكماً على استصحاب عدم الإنبات(1).

فمجموع الفروض أصبحت أربعة:

أمّا الفرض الأوّل، وهو فرض إثبات كلّ الملازمات بما فيها العلل والمعلولات فما ذكره المحقق العراقي (رحمه الله) فيه من تساقط الاستصحابين يمكن أن يورد عليه: ان استصحاب عدم الإنبات لا ينظر إلى الحياة ؛ إذ لا معنى لأن ينظر إلى الحياة لكي ينفيها استطراقاً إلى نفي موضوع وجوب التصدّق الذي هو أثر لأثر الحياة ؛ وذلك لأنّ استصحاب عدم الإنبات ينفي رأساً موضوع وجوب التصدّق، فما معنى الرجوع إلى الوراء بنفي الحياة النافي للإنبات؟!

إذن، فاستصحاب الحياة حاكم على استصحاب عدم الإنبات، دون العكس.

ويمكن الجواب عن ذلك بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ المفروض في هذا المبنى أنّ استصحاب شيء يثبت جميع ملازمات ذلك الشيء، إذن فاستصحاب الحياة يثبت رأساً وجوب التصدّق، اذ هو من ملازمات الحياة، فاذا كان استصحاب الحياة يثبت رأساً وجوب التصدّق من دون حاجة إلى إثبات الإنبات فهو يعارض استصحاب عدم الإنبات الذي يثبت عدم وجوب التصدّق، ويتساقطان ولا


(1) راجع مصباح الأصول ج3 ص159 بحسب طبعة مطبعة النجف في النجف الأشرف.

447

يكون أحد الاستصحابين مقدّماً على الآخر بناءً على المبنى المتعارف في وجه تقدّم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي.

وقد اتّضح بما ذكرناه أنّ الصحيح في المقام هو التعارض، لا ما ذكره المحقّق العراقي (رحمه الله)من التوارد.

الوجه الثاني: مبنيّ على مبنى المحقّق النائيني (رحمه الله) من أنّه يكفي في الاستصحاب ترتّب الأثر على نفس الاستصحاب، ويثبت ذلك الأثر، ومثّل لذلك السيّد الاُستاذ باستصحاب الفقيه بعض أحكام الحائض، حيث إنّه لا يترتّب على ذلك في حقّه إلاّ جواز الافتاء الذي هو أثر للاستصحاب لا المستصحب.

وعليه، نقول في المقام:إنّ استصحاب عدم الإنبات ينفي الحياة لا لنفي الإنبات النافي لوجوب التصدّق فحسب، حتّى يقال لا معنى لذلك بعد كونه بنفسه نفياً للإنبات،بل الأثر يترتّب على نفس الاستصحاب، وهو اسقاطه لاستصحاب الحياة بالحكومة. إذن، فكلّ من الاستصحابين ـ لو خلّي وطبعه ـ يكون داخلاً في إطلاق دليل الاستصحاب فيقع التعارض والتوارد ويتساقطان.

وأمّا الفرض الثاني، وهو فرض إثبات المعلولات فحسب، فما ذكره المحقق العراقي (رحمه الله)فيه من حكومة استصحاب الحياة على استصحاب عدم الإنبات صحيح على التصوّرات المشهورة في تقدّم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي.

وأمّا الفرض الثالث، وهو فرض إثبات الآثار الشرعية فحسب ولو بواسطة أثر تكويني، فما ذكره المحقّق العراقي (رحمه الله) فيه من تعارض الاستصحابين وتساقطهما بالإمكان الإيراد عليه بأنّ استصحاب عدم الإنبات يقدّم على استصحاب الحياة ـ بعكس ما هو المترقّب من تقدم استصحاب الحياة على استصحاب عدم الانبات ـ، وذلك بناءً على الإيمان بمجموع مبنيين:

1 ـ إنّه إذا كان عندنا عامّ يشمل الأفرادبالعموم، وأحوال كلّ فرد بالإطلاق، ودار الامر بين إخراج فرد بالتخصيص وإخراج أحد أحوال فرد آخر بالتقييد، كان الثاني أولى لتقدّم العموم على الإطلاق.

2 ـ تماميّة الاستدلال للاستصحاب بالصحيحة الثالثة التي جاء فيها (لا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات) فإذا فرض الجمع بين هذين المبنيين قلنا: إنّ جملة: (لا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات) لها ظهور في العموم، ودار الأمر بين إخراج فرد منه وهو استصحاب

448

اليقين والشكّ في بقاء عدم الإنبات الناتج من الشكّ في بقاء الحياة، وإخراج بعض آثار استصحاب بقاء الحياة وهو الأثر المترتّب على الإنبات،والثاني أولى بحسب ما هو المفروض في المبنى الأوّل من هذين المبنيين.

وأمّا الفرض الرابع، فذكر السيّد الاُستاذ فيه:أنّ استصحاب الحياة حاكم على استصحاب عدم الإنبات لان المفروض أنّ الاستصحاب حجّة من باب الأمارية والظن، وإذا حصل الظن بالحياة فقد حصل الظنّ بالإنبات، ومعه يستحيل حصول الظنّ بعدم الإنبات.

ولعلّ مفروضه هو كون الاستصحاب حجّة من باب الظنّ الشخصي، وإلاّ فبالإمكان أن يتناقض ظنّان نوعيان ويتعارضا.

فلنفرض الكلام في الظنّ الشخصي ومع ذلك نقول: إنّ هذا المقدار من البيان في المقام ناقص ؛ إذ كما يمكن أن يقال أنّ الظنّ بالحياة يوجب الظنّ بالإنبات، ومعه يستحيل الظنّ بعدم الإنبات، كذلك يمكن العكس، وهو أن الظنّ بعدم الإنبات يوجب الظنّ بعدم الحياة، ومعه يستحيل الظنّ بالحياة، فإنّ الحياة والإنبات وإن كان الأوّل منهما دائماً هو العلّة للثاني وجوداً وعدماً، ولكن كما أنّ العلم بالعلّة أو الظنّ بها يصبح علة للعلم بالمعلول أو الظنّ به كذلك العلم بالمعلول أو الظنّ به يصبح علة للعلم بالعلة أو الظنّ بها.

كما أنّ مجرّد كون الحياة علّة للإنبات لا يوجب حكومة الأمارة الموجودة في جانب الحياة على الأمارة الموجودة في جانب الإنبات، أفترى أنّه لو بدّل الاستصحاب بخبر الثقة قدّم الخبر الحاكي حياة زيد على الخبرالحاكي عدم الإنبات؟! طبعاً من الواضح أنّ الخبرين يتعارضان.

وتحقيق الحال في هذا المقام هو: أنّه إن كان الاستصحاب يورث الظنّ سواء فرض نوعياً أو شخصياً، فهذا الظنّ يجب أن يكون قائماً على أساس حساب الاحتمالات إمّا بنحو الحساب الكاشف عن نكتة في طبيعة الشيء، كما يقال: إنّ غلبة السوادفي الغربان تكشف عن اقتضاء طبيعة الغراب للسواد مثلاً فكذلك في المقام يقال: إنّ غلبة بقاء الحوادث والأحوال تكشف عن اقتضائها للبقاء. وإمّا بنحو القضيّة الخارجية من قبيل ما إذا أخبرنا مخبر صادق عن أنّ تسعة من هؤلاء الأفراد الخمسة عشر قد سمّوا محمّداً، فكلّ واحد منهم نراه نظنّ أنّ اسمه محمّد.

فإن فرض الأوّل، أعني الظنّ على أساس اكتشاف طبيعة الشيء واقتضائه، فهذا معناه

449

أنّه يوجد عندنا كشفان:

أحدهما: الكشف عن كون طبيعة الحياة مقتضية للاستمرار والبقاء.

وثانيهما: الكشف عن كون طبيعة عدم اللحية مقتضية للبقاء.

ولا منافاة بين الكشفين أبداً، لكن يوجد التنافي بين تأثير المنكشفين، وجانب اقتضاء طبيعة الحياة يقدّم على جانب اقتضاء عدم اللحية ؛ لافتراض أنّ بقاء الحياة علّة للالتحاء ومؤثّرة فيه تكويناً.

وهذا هو السرّ في ما ارتكز في ذهن السيّد الاُستاذ من حكومة استصحاب الحياة على استصحاب عدم اللحية، ويكون ما نحن فيه شبيهاً بما لو أخبرنا ثقة بوقوع نار في البيت الفلاني، وأخبرنا ثقة آخربأنّه هطل على تلك النارفي نفس الوقت ماء كثير، فإنّنا نصدّق كلا الخبرين، ولا يكون أيّ تعارض بينهما، ونحكم بأنّ الماء غلب على النار،ولم يحترق البيت ؛ لأنّ الماءالكثير يغلب على النار تكويناً.

ولو كان الاستصحاب أمارة تعبّدية وحجّة شرعاً من باب الأمارية الصِرف، فأيضاً يكون الجاري هو استصحاب الحياة دون استصحاب عدم الإنبات ؛ لأنّها فرضت كالأمارة التكوينية، إذ المفروض أنّه جعل حجّة بلحاظ الأماريّة الصِرف، فيتبع قوانين الأمارية التكوينية.

وإن فرض الثاني،أعني الظنّ على أساس القضية الخارجية، كما لو افترضنا العلم بخمسة عشر اُمور خمسة منها عبارة عن وجود خمسة رجال، وخمسة أخرى عبارة عن عدم التحائهم، وخمسة ثالثة عبارة عن وجود خمسة نساء، وأخبرنا صادق بأنّ تسعة اُمور من هذه الخمسة عشر باقية، فعندئذ يكون كلّ واحد من هذه الاُمور التسعة ـ لوخلّي وطبعه ـ مظنون البقاء على أساس هذا الإخبار، ولكن من الطبيعي هنا أن يتعارض الظنّ ببقاء كلّ رجل بنحو القضية الخارجية مع الظن بعدم التحائه بعد فرض الملازمة بين البقاء والالتحاء، ولا توجد أيّ حكومة أو تقدّم في المقام.

وطبعاً الصحيح في ما يفرض من الظنّ الاستصحابي هو الأوّل، أعني كونه ظنّاً قائماً على أساس اكتشاف طبيعة الشيء، لا على أساس القضية الخارجية، فإنّ حوادث العالم ليست محصورة في خمسة عشر أمراً مثلاً حتّى يمكن افتراض إجراء الحساب فيها بنحو القضية الخارجية.

خفاء الواسطة

الأمر الثاني: في خفاء الواسطة.

450

ذكر الشيخ الأعظم (قدس سره): أنّه مع خفاء الواسطة يجري الاستصحاب بمسامحة العرف، وأمضى ذلك المحقّق الخراساني (رحمه الله).

وأما المحقّق النائيني (رحمه الله) فلم يقبل ذلك، وذكر: أنّ خفاء الواسطة أو بعض الارتكازات ومناسبات الحكم والموضوع(1) إن أوجب في دليل ذلك الحكم ظهوراً في كونه مترتباً رأساً على نفس المستصحب، إذن لم نحتج إلى التمسّك في إجراء الاستصحاب بخفاء الواسطة ؛ إذ الأثر الشرعي صار حقيقةً أثراً للمستصحب، فيجري الاستصحاب بلحاظه، وإلاّ فلا يجري الاستصحاب، ولا عبرة بمسامحة العرف في مقام التطبيق بعد أن كان مفهوم دليل الاستصحاب ومفهوم دليل ذلك الحكم واضحاً، فمفهوم دليل الاستصحاب هو ترتّب الآثار التي تكون آثاراً للمستصحب بلا واسطة تكوينية، ومفهوم دليل ذلك الحكم هو أنّه حكم على الواسطة لا على المستصحب، ونتيجة ذلك ـ لا محالة ـ عدم جريان الاستصحاب.

وتحقيق الكلام في هذا المقام بعد افتراض أنّه ليست هنا ارتكازات ومسامحات تجعل دليل الحكم ظاهراً في كونه حكماً للمستصحب، وإلاّ لما كان من الاستصحاب المثبت الخفي الواسطة، وإنّما دليل الحكم ظاهر في كونه حكماً لتلك الواسطة الخفية: أنّ المباني المتصورة في عدم حجيّة الاستصحاب حينما يكون الاثر بواسطة أمر تكويني عديدة:

الأوّل: ما اخترناه من أنّ الاستصحاب لا ينظر في لسانه إلى التعبّد بالأثر ولو كان مباشراً، وإنّما يثبت تعبداً نفس المستصحب، ويترتّب على ثبوته وثبوت الكبرى التنجيز، وعندئذ من الواضح عدم جريان الاستصحاب في موارد خفاء الواسطة ؛ إذإنّ خفاء الواسطة لا يجعل الأثر الشرعي أحسن حالاً من الأثر المباشر، والاستصحاب بمدلوله اللفظي لا يثبت الأثر المباشر، غاية ما هناك أنّ العقل يحكم بترتّب التنجيز عند إحراز صغرى التكليف وكبرى التكليف معاً، ومن الواضح أنّ العقل لا يحكم بالتنجيز حينما اُحرزت الكبرى ولكن لم تحرز الصغرى، وإنّما اُحرز تعبداً شيء تكون الصغرى أثراً تكوينياً خفيّاً له، والمفروض أنّ التعبّد الاستصحابي بالشيء ليس مساوقاً للتعبّد بأثره.


(1) ذكر (رحمه الله): أنّ الظاهر أنّ عبارة التقرير تلائم كون المراد افتراض أنّ خفاء الواسطة سبّب ظهور دليل الحكم في كونه مترتّباً على المستصحب (وقال(رحمه الله): هذا غير معقول ؛ لأنّ الواسطة مهما كانت خفيّة يكون أخذها في لسان الدليل تنبيهاً للعرف إليها، ولا معنى لصرف الدليل إلى ما تترتّب عليه هذه الواسطة) وتلائم كون المراد افتراض أنّ بعض الارتكازات سبّب هذا الظهور (وقال (رحمه الله): إنّ هذا يصبح كلاماً غير مرتبط بما نحن فيه نهائياً ؛ إذ لا علاقة له بخفاء الواسطة).

451

الثاني: أنّ الاستصحاب أثبت ذات المستصحب فقط، وهو صغرى، ونضمّ إليها الكبرى المعلومة فيثبت الأثر، وهو فعليّة الحكم لا محالة.

وهذا المبنى حاله حال المبنى السابق كما هو واضح، إذ المفروض أنّ الاستصحاب لا ينظر إلى الآثار، والكبرى التي تثبت الأثر قد فرضنا أنّها تثبته على الواسطة الخفية،وأنّه ليست هناك مسامحة عرفية تجعل الكبرى ظاهرة في كون الأثر للمستصحب.

الثالث: أنّ الاستصحاب إنّما ينظر إلى الأثر المباشر، ولا يكون لدليل الاستصحاب نظر إلى الأثر مع الواسطة، وذلك لقصور دليل الاستصحاب في نفسه، لا بلحاظ الانصراف.

وإذا سلّمنا كون الاستصحاب ناظراً إلى الأثرالمباشر جاءت شبهة: أنّ مسامحة العرف تجعل الأثر المترتّب على الواسطة الخفيّة كأنّه الأثر المباشر ؛ لأنّه لا يرى الواسطة لخفائها.

وحلّ الشبهة ما سوف يأتي ـ إن شاء الله ـ في بحث اشتراط بقاء الموضوع من أنّ العرف إنّما يكون حجّة في موردين: (أحدهما): في باب مفاهيم الألفاظ وظهوراتها. (والثاني): في باب التطبيق إذا كان نظره نظراً مولويّاً وإنشائيّاً، لا نظراً إدراكيّاً وإخباريّاً، وذلك كما لو قلنا بأنّ عناوين المعاملات أسام للمسبّبات، وجاء حكم على البيع كحلّيّة البيع مثلاً، فهنا يحكّم نظرالعرف الإنشائي ؛ إذ يحكمُ مثلاً بأن المعاطاة تولّد المسبّب. وأمّا في المقام فحكم العرف يكون عبارة عن الإخبار والإدراك في مقام التطبيق، فيرى أنّ الأثر أثر للمستصحب؛ وذلك لأنّه لا يرى الواسطة لخفائها. ونظر العرف في مثل ذلك لا يكون حجّة.

الرابع: أن يقال: إنّ دليل الاستصحاب لولا الانصراف لشمل كلّ الآثار ولو كانت مع الواسطة، إلاّ أنّه منصرف عن الأثر مع الواسطة. وعندئذ إن قلنا: إنّ الانصراف أوجد قيداً في دليل الاستصحاب من قبيل قيد عدم الواسطة، أي: إنّنا أدّعينا الانصراف عن موارد وجود الواسطة كان ذلك حاله حال المبنى السابق ؛ إذ لا يبقى في البين إلاّ مسامحة العرف في التطبيق من باب عدم إدراكه للواسطة في المقام. وإن قلنا: إنّ الانصراف أوجد قيداً أضيق من ذلك، وهو قيد عدم وجدان الواسطة لا عدم وجودها، أي: إنّنا ادّعينا الانصراف عن موارد وجدان الواسطة، فالاستصحاب في المقام يكون حجّة ؛ لأنّ المفروض أنّ العرف لم يجد الواسطة.

بقي الكلام في فروع قد يُرى أنّها تتفرع على حجيّة الأصل المثبت وعدمها.

ولنذكر هنا فرعين رئيسين، ويتضح من البحث فيهما حال سائر الفروع:

الفرع الأوّل: إنّنا حينما نستصحب شهر رمضان في اليوم الثلاثين نرتب آثار العيد على

452

اليوم الذي بعده، في حين أنّنا نحتمل أنّه ليس بعيد، وإنّما العيد هو اليوم السابق، فهذا تمسّك بالأصل المثبت مبنيّاً على خفاء الواسطة ومسامحة العرف، فكأنّ العرف يرى أنّ العيد هو اليوم الذي يكون بعد آخر يوم حكم عليه بأنّه من شهر رمضان، وإلاّ فاستصحاب بقاء شهر رمضان في اليوم الثلاثين كيف يثبت عيدية اليوم الذي بعده؟!

وهذا الإشكال سيّال يأتي في أوّل كلّ شهر، وفي أيّ يوم من أيّام الشهور حينما يوجد أثر مختصّ بذلك اليوم.

وأجاب عن ذلك السيّد الاُستاذ(1) بجواب طريف، وهو أنّنا في أوّل اليوم الثاني نعلم إجمالاً بتحقّق العيد: إمّا في هذا اليوم، أو في اليوم السابق، فنستصحبه، إذ على تقدير كونه في هذا اليوم هو باق، وعلى تقدير كونه في اليوم السابق ليس باقياً، فقد شككنا في بقاء العيد، فيجري استصحابه.

أقول: إنّ هذا الكلام لا يتمّ بناءً على اشتراط كون المشكوك على تقدير ثبوته بقاءً للمتيّقن وعدم كونه نفس المتيقن، فإنّ هذا اليوم: إمّا هو العيد المتيّقن إجمالاً، أو مباين للعيد وليس بقاءً للمتيّقن حتماً، بأن يكون في الواقع تتمّة للمتيّقن من دون انبساط اليقين عليه، فإمّا أنّ اليقين منبسط عليه أو أنّه مباين للمتيّقن.

وقد ذكرت له هذا الكلام فقال نحن لا نشترط ذلك في الاستصحاب.

وأيضاً لا يتمّ هذا الكلام بناءً على مضرّية احتمال عدم اتّصال المشكوك بالمتيّقن، فإنّه هنا من المحتمل كون المتيقّن هو اليوم السابق، والمشكوك هو اليوم اللاحق، وبينهما الليل.

وهذا ـ أيضاً ـ ذكرته له فقال: نحن لا نرى مضرّية احتمال عدم الاتّصال.

وهنا إشكال آخر أوردته عليه، فقبله في ذلك الوقت، إلاّ أنّه لم يذكر في التقريرات، وذكر جريان استصحاب العيد بالتقريب الذي مضى، وذلك الإشكال هو: أنّ هذا الاستصحاب مبتلىً بمعارض أحسن منه أو معارض مثله. بيان ذلك: أنّه إذا كان الأثر مترتّباً على النهار الأوّل من الشهر مثلاً من قبيل صلاة العيد، فهنا يجري استصحاب عدم النهار الأوّل الثابت بالعلم التفصيلي في الليل. وهذا هو الاستصحاب الأحسن. وإن كان الأثر مترتّباً على أوّل الشهر الأعمّ من الليل والنهار فهنا يوجد استصحاب من سنخ الاستصحاب الذي ذكره السيّد الاُستاذ، ويعارضه ؛ وذلك لأنّه في الآن الأوّل من الليل كما يحصل لنا علم إجمالي


(1) راجع مصباح الاُصول ج3 ص165.

453

بوجود أؤّل الشهر: إمّا قبل الليل، وإمّا في الليل، كذلك يحصل لنا علم إجمالي بعدم أوّل الشهر: إمّا قبل الليل، وإمّا في الليل. فإنّ ما قبل الليل مع نفس الليل أحدهما أوّل الشهر والآخر ليس أوّل الشهر، فإن جرى استصحاب أوّل الشهر جرى ـ ايضاً ـ أستصحاب عدم أوّل الشهر، وتساقطا معاً(1).

 


(1) في الدورة التي حضر فيها السيّد الهاشمي (حفظه الله) بحث السيّد الخوئي قرّر السيّد الخوئي الاستصحاب في المقام بالشكل المنقول عنه هنا في المتن، فعرض السيّد الهاشمي الإشكال الموجود في المتن عليه، وذكر له: أنّ استصحاب بقاء الليلة الاُولى مثلاً بعد مضيّ آن من ليلة الواحد والثلاثين معارض باستصحاب عدم الليلة الاُولى المقطوع به في نهار الثلاثين فأجاب السيّد الخوئي بأنّ استصحاب عدمها المقطوع به في نهار الثلاثين لا يجري لمعارضتها باستصحاب عدمها في ليلة الثلاثين المقطوع به في نهار التاسع والعشرين، فإنّنا نعلم إجمالاً بأنّ إحدى الليلتين هي الليلة الاُولى.

وذكر اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) بعد أن بلغه هذا الكلام: أنّه يرد عليه:

أوّلاً: أنّه في الأغلب ليس هذا العلم الإجمالي علماً بالتكليف الإلزامي كي يوجب التعارض، فمثلاً لو فرض استحباب الغسل في الليلة الاُولى من شعبان، وقلنا: إنّ الغسل المستحب يغني عن الوضوء، فكل من الاستصحابين إنّما يترتّب عليه أثر إلزاميّ وهو عدم إغناء الغسل عن الوضوء، لا أثر ترخيصي.

وثانياً: أنّه مع فرض أثر إلزامي يقع التعارض بين الاستصحابات الثلاثة، وتتساقط جميعاً، ولا معنى لفرض استصحاب بقاء الليلة الاُولى سليماً عن المعارض، بل مقتضى مبنى السيّد الاُستاذ الخوئي أن يبقى استصحاب عدم الليلة الاُولى في ليلة الثلاثين سليماً عن المعارض، ويسقط استصحاب عدم الليلة الاُولى في ليلة الواحد والثلاثين واستصحاب بقائها فيها بالمعارضة ؛ لأنّ هذين الاستصحابين متناقضان، والسيّد الاُستاذ الخوئي يرى أنّ خروج الاستصحابين المتناقضين عن دليل الحجيّة يكون بمخصّص لبّيّ كالمتصل ؛ لأنّ عدم جريان الاستصحابين المتناقضين واضح. وأمّا خروج الاستصحابين اللذين لا تعارض ذاتي بينهما، وإنّما كان تعارضهما بسبب استلزامهما الترخيص في مخالفة المعلوم بالإجمال، فليس واضحاً، وليس كالمخصّص المتّصل، فاستصحاب عدم الليلة الاُولى في ليلة الثلاثين يبقى بلا معارض، لأنّ المخصّص المتّصل يهدم الظهور، والمخصّص المنفصل لا يهدم إلاّ الحجيّة، ومع انهدام الظهور في المقام بالنسبة لاستصحاب عدم الليلة الاُولى في ليلة الواحد والثلاثين لا يبقى معارض لاستصحاب عدمها في ليلة الثلاثين.

وقد عرض هذان الإشكالان على السيد الاُستاذ الخوئي فقبلهما، إلاّ أنّه أجاب على أصل الإشكال بوجه آخر.

وهو: انّ استصحاب عدم الليلة الاُولى المتيقّن في نهار الثلاثين ـ في الحقيقة ـ استصحاب للقسم الثاني من الكلّي ؛ لأنّنا نعلم إجمالاً في نهار الثلاثين بأحد عدمين: الأوّل: العدم قبل الليلة الاُولى من شوال، والثاني: العدم الحادث بعد الليلة الاُولى من شوال، فإن كان هو العدم الأوّل فقد زال، وإن كان العدم الثاني فهو باق، ونحن لدينا استصحاب يعيّن هذا الكلّي في الفرد القصير، فيحكم على استصحاب الكلّي وهو استصحاب استمرار العدم الثابت من قبل ليلة الثلاثين إلى يوم الثلاثين.

454

فإذا اتّضح أنّ استصحاب بقاء أوّل الشهر لا يفيدنا، وأردنا الرجوع إلى استصحاب بقاء شهر رمضان في اليوم الثلاثين، لم يبق أمامنا لحلّ إشكال الإثبات إلاّ كلامان:

الكلام الأوّل: إنّ عنوان أوّل الشهر هل وضع لمعنى بسيط لا يثبت بالاستصحاب، أو أنّ معناه ـ في الحقيقة ـ مركّب من أن يكون اليوم يوماً هلّ هلال شوّال في ليلته وأن لا يهلّ الهلال في ما قبلها، وأحد الجزئين ثابت بالوجدان وهو الجزء الأوّل، والآخر ثابت


وحينما بلغ اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) هذا الكلام أورد عليه:

أوّلاً: أنّ استصحاب الفرد القصير لا يثبت أن الكلّي المعلوم بالإجمال متحقّق في ضمن الفرد القصير دون الطويل، فإنّ هذا إثبات لمفاد كان الناقصة باستصحاب مفاد كان التامّة.

وثانياً: أنّه لو ثبت بالاستصحاب أنّ الكلّي الموجود إنّما هو في ضمن القصير دون الطويل، قلنا: إنّ ترتّب ارتفاع الكلّي على كونه موجوداً في ضمن القصير دون الطويل ـ أيضاً ـ ترتّب عقلي، فلا يثبت، فلا يكون الاستصحاب المثبت لكون الكلّي في ضمن الفرد القصير حاكماً على استصحاب الكلّي.

هذا إذا اُريد بالحكومة رافعيّة هذا الاستصحاب للشكّ في بقاء الكلّي.

وأمّا إذا اريد بها رافعية الاستصحاب لليقين السابق بدعوى أنّ اليقين السابق كان عبارة عن العلم الإجمالي بأحد العدمين، وقد انحلّ العلم الإجمالي بالعلم التعبدي بأحد الطرفين (وبكلمة اُخرى: أظنّ أنّ مقصود السيّد الخوئي هو أنّ العلم الإجمالي بفرد مردّد بين القصير والطويل وإن كان مورداً للاستصحاب الكلّي من القسم الثاني، ولكن لو جرى استصحاب الفرد القصير تحوّل ذلك إلى مورد استصحاب الكلّي من القسم الثالث ؛ لأنّه يتحقّق العلم ولو تعبّداً بالفرد القصير والشكّ في فردآخر، واستصحاب الكلّي من القسم الثالث ليس حجّة.) ففيه: أنّ هذاالعلم ليس علماً وجدانياً حتّى يترتّب عليه تكويناً وعقلاً زوال العلم الإجمالي مثلاً، وليس زوال العلم الإجمالي أثراً شرعياً للعلم حتّى يفترض ترتّبه على العلم التعبّدي، وإنّما هو أثر تكوينيّ يترتّب على العلم الوجداني بأحد الطرفين.

هذا مضافاً إلى أنّ المستصحب ليس هو العدم الكلّي المعلوم بالإجمال حتّى يقال: إنّ اليقين السابق الذي هو العلم الإجمالي قد ارتفع وإنّما المستصحب عدم شخصيّ معلوم في يوم الثلاثين، وإنّما العلم الإجمالي كان متعلّقاً بإحدى حالتي هذا العدم، فنحن لا نعلم أنّ هذا العدم المشار إليه بشخصه هل كان ثابتاً في ليلة الثلاثين أيضاً، فيرتفع في ليلة الواحد والثلاثين، أو حدث بعد ليلة الثلاثين، وهو باق.

وقد ذُكرللسيّد الاُستاذ الخوئي بعض هذه النكات، فأورد النقض بمسألة ما إذا كان الإنسان محدثاً بالحدث الأصغر ثمّ خرج منه بلل مشتبه بين الحدث الأصغر والأكبر، فإنّه عندئذ يستصحب بقاء الحدث الأصغر وعدم انقلابه إلى الأكبر، ويكون ذلك حاكماً على استصحاب كلّي الحدث فيثبت ارتفاع الحدث بالوضوء.

وأجاب على ذلك اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في بحثه بأنّه إنّما يصحّ الاكتفاء في تلك المسألة بالوضوء ؛ لأجل أنّ المستظهر من الآية الشريفة هو الحكم شرعاً بارتفاع الحدث بالوضوء، مستثنياً من ذلك فرض وجود الحدث الأكبر، أي: إنّ موضوع الحكم بارتفاع الحدث بالوضوء مركّب من صدور الحدث الأصغر وعدم الحدث الأكبر، والجزء الأوّل ثابت بالوجدان، والثاني ثابت بالاستصحاب، ولا علاقة لذلك ما نحن فيه.

455

بالاستصحاب وهو الجزء الثاني؟

هنا تارةً يقع الكلام في مرحلة الثبوت، واُخرى في مرحلة الإثبات:

أما الأوّل، فذكر المحقّق النائيني (رحمه الله)(1): أنّه يستحيل وضع لفظ الأوّل لجزئين بحيث يثبت معناه حينما يثبت أحد الجزئين بالوجدان والآخر بالاستصحاب.

وبيان ما ذكره(رحمه الله) مع تكميل منّا هو: أنّ اللفظ في أيّ لغة حينما يوضع لمعنى مركّب من أمرين لا بدّ من إلباسهما لباس الوحدة حتّى يعقل أن يكون المجموع معنىً واحداً، ويستحيل أن يكون كلاهما بنحو الاستقلال معنىً لهذا اللفظ بوضع واحد، ويكون إلباسهما لباس الوحدة بأحد امرين:

1 ـ انتزاع عنوان بسيط منهمايوضع اللفظ بازائه.

2 ـ تقييد أحدهما بالآخر، فيوضع اللفظ للمقيّد.

فإن فرض الأوّل كان الاستصحاب في المقام مثبتاً ؛ لأنّ هذا العنوان الانتزاعي لا يثبت بالاستصحاب. وإن فرض الثاني كان ـ أيضاً ـ مثبتاً ؛ لأنّ طرفي التقييد وإن كان أحدهما ثابتاً بالوجدان والآخر بالاستصحاب لكن ما بينهمامن التقييد والارتباط لا يثبت.

أقول: بالإمكان إلباس ثوب الوحدة عن طريق آخر غير طريق انتزاع عنوان بسيط منهما وطريق التقييد إن قصد به التوصيف، وذلك عن طريق الاستثناء والاقتطاع.

وتوضيحه: أنّ العام حينما يستثنى منه شيء كما في قولنا: (المرأة إلاّ القرشية) فهو يعطي وجداناً إلى الذهن مفهوماً وحدانياً يضيق عن الانطباق على مورد المستثنى، ولكن هذا الضيق لم يكن عن طريق التقييد بمعنى التوصيف، بل كان عن طريق الاستثناء، ولذا لو جعل هذا الأمر الوحداني موضوعاً لحكم شرعيّ صحّ إثبات عدم العنوان المستثنى باستصحاب العدم الأزلي، ولا يرجع هذا العدم إلى العدم النعتي.

وعليه نقول في المقام: إنّه بالإمكان أن يفترض أنّ كلمة الأوّل اسم لكلّ يوم هلّ في ليلته هلال شوّال، إلاّ ذلك اليوم الذي يوجد قبله يوم شوّال، بأن يكون الواضع قد تصوّر في المقام تضييق دائرة أوّل شوّال بنحو لا ينطبق على الأيّام الاُخرى بعد اليوم الأوّل عن طريق الاقتطاع والاستثناء، لا عن طريق التوصيف، فبالإمكان، إثبات عدم المستثنى بالاستصحاب.


(1) راجع فوائد الاصول ج4 ص499 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات الشيخ العراقي (رحمه الله)المطبوعة من قبل جماعة المدرسين بقم وأجود التقريرات ج2 ص421.

456

وأمّا الثاني، وهو البحث الإثباتي فلا إشكال في أنّ العرف يفهم أنّ كلمة الأوّل اسم لعنوان بسيط منتزع عن مجموع الأمرين، أو للمقيّد بنحو التوصيف. أما تضييق المفهوم عن طريق الاستثناء والاقتطاع فليس أمراً ملحوظاً للعرف في باب الأوضاع. وعليه فإشكال الإثبات يبقى إلى هنا مستحكماً.

الكلام الثاني: إنّ هذا الأمر الانتزاعي أو التقييد وإن فرض أخذه في الموضوع له، لكن يمكن دعوى أنّ العرف بحسب ارتكازه يلغيه في ترتّب الحكم الشرعي، ويرى أنّ موضوع الحكم الشرعي إنّما هو منشأ انتزاع ذلك، أعني واقع الأوّل، لا عنوان الأوّل، أي: إنّ موضوع الحكم هو أن يهلّ هلال شهر شوّال في ليلة هذا اليوم، وأن لا يهلّ قبله، والأوّل ثابت بالوجدان، والثاني بالاستصحاب، وفرض كون الموضوع له اللفظ هو المقيّد لا يضرّنا شيئاً في المقام إن تمّ إلغاء العرف لذلك في موضوع الحكم.

لكن الصحيح: أنّ هذا الإلغاء لايتمّ في المقام ؛ لما سيأتي ـ إن شاء الله ـ من بيان ضابط إرجاع العرف المقيد إلى المركّبات والذي لاينطبق على المقام.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني (رحمه الله) ذكر في المقام(1): أنّنا لسنا بحاجة إلى الاستصحاب؛ إذ تكفينا روايات (صم للرؤية وأفطر للرؤية)(2).

وذكر السيّد الاُستاذ(3): أنّ هذه الروايات غاية ما تثبت هي مسألة الصوم والإفطار، ولا تثبت باقي الآثار، ولا باقي الأيّام.

أقول: قد ورد في الأخبار عنوان (صم للرؤية وأفطر للرؤية) مفرَّعاً على تفسير الأهلّة، كما ورد في صحيح الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «إنّه سئل عن الأهلّة، فقال: هي أهلّة الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيته فافطر» وليس المقصود السؤال عن المعنى اللغوي للأهلّة، وإلاّ لم يكن معنى للتفريع بثبوت حكم الصوم والإفطار بالرؤية على ذلك، وإنما المقصود هو السؤال عن تفسير الآية: «يسألونك عن الأهلّة...»(4). والجواب عليه بقوله: «هي أهلّة الشهور» وفرّع على هذا الجواب قوله: «فإذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيته


(1) راجع أجود التقريرات ج2 ص421 ـ 422 وفوائد الاصول ج4 ص499 ـ 500 بحسب طبة جماعة المدرسين بقم المشتملة على تعليقات الشيخ العراقي (رحمه الله).

(2) راجع الوسائل، ج10، ب3 من أحكام شهر رمضان، ص252 ـ 260 بحسب طبعة آل البيت.

(3) راجع مصباح الاصول ج3 ص165.

(4) سورة (2) البقرة، الآية 189.

457

فأفطر» وهذا التفريع دليل على أنّ قوله تعالى: «قل هي مواقيت للناس...» ليس بياناً لكون الأهلّة مواقيت تكويناً، بل هو بيان للتوقيت التشريعي، وإلاّ لما كان معنى لتفريع هذا الأمر التشريعي عليه.

ويعرف ببركة هذه الروايات أنّه جعل شرعاً الميزان في هذا التوقيت هو الرؤية ولو بنحو الحكم الظاهري، فكأنّما لوحظ في كلمة (الهلال) البروز والظهور، كما هو كذلك في معناه اللغوي الأصل، وإنّ استعماله في هلال الشهر بالمعنى الذي نفهمه اليوم استعمال شرعي اشتهر بالتدريج إلى أن صار حقيقة، وبما أنّ الآية مطلقة تشمل كلّ الشهور وكلّ الأيام ـ وذكر الحجّ في ذيل الآية ليس للاختصاص به، بل هو ذكر للخاصّ بعد العام لأجل الاهتمام به ـ فنحن نثبت مقصودنا بالتمسّك بإطلاق الآية.

ويؤيّد ذلك الروايات التي تقول: «إذا تغيّمت السماء فأتمّ العدّة ثلاثين» أو تقول: «وإذا كانت علّة، فأتمّ شعبان ثلاثين» ونحو ذلك(1).

فالتعبير بثلاثين يعطي ثبوت عنوان الثلاثين.

الفرع الثاني: هو استصحاب بقاء رطوبة النجس حينما لاقاه شيء بداعي إثبات تنجّس الملاقي.

فقد ذكروا: أنّ هذا الاستصحاب إنّما يجري إذا فرضنا أنّ موضوع تنجّس الملاقي هو نجاسة الملاقى ورطوبته، فنجاسته ثابتة بالوجدان، ورطوبته ثابتة بالاستصحاب.

وأمّا إذا فرضنا أنّ موضوع تنجّس الملاقي هو نجاسة الملاقى وسراية الرطوبة، فالاستصحاب هنا يبتلي بإشكال المثبتية ؛ لأنّ السراية إنّما تثبت بالملازمة العقلية.

وأمّا إذا فرضنا أنّ الرطوبة كانت معلومة بالوجدان والنجاسة مستصحبة فقد قالوا بأنّ استصحاب النجاسة يجري من دون أن يبتلي بإشكال المثبتية، من دون فرق بين مبنى الرطوبة ومبنى السراية ؛ لأنّ الشكّ ليس في السراية، وإنّما الشكّ في نجاسة الملاقى، والمفروض ثبوتها بالاستصحاب.

أقول: إنّ الشكّ تارةً يكون في بقاء الرطوبة مع العلم بالنجاسة، واُخرى بالعكس، وثالثة يكون الشكّ في بقاء كلّ منهما. والكلام يقع في جهتين:

الاُولى: في ما إذا كانت الرطوبة مستصحبة سواءً كانت النجاسة ـ أيضاً ـ مستصحبة أو


(1) راجع الوسائل: ج10، ب3 ـ 5 من أحكام شهر رمضان.

458

كانت وجدانية.

والثانية: في ما إذا كانت النجاسة مستصحبة والرطوبة وجدانية.

أمّا الجهة الاُولى، فقد عرفت ما ذكروه من التفصيل من أنّه لو كان الموضوع هو السراية فهي لا تثبت باستصحاب الرطوبة ؛ لأنّ هذا تعويل على الأصل المثبت، ولو كان الموضوع هو الرطوبة فالاستصحاب جار بلا إشكال.

أقول: إن كان الموضوع هو السراية ـ كما هو الحقّ ـ فالاستصحاب مبتلى بإشكال المثبتية ـ كما قالواـ، وإن كان الموضوع هو الرطوبة فهنا يجب أن نرى أنّ الموضوع هل هو نجاسة الملاقى ورطوبة ذات النجس، أو هو نجاسة الملاقى ورطوبة النجس بما هو نجس.

فبناءً على الأوّل ـ وهو الحقّ ـ صحّ ما ذكروه، فإنّ جزء الموضوع وهو النجاسة ثابت بالوجدان أو الاستصحاب، والجزء الآخروهو الرطوبة ثابت بالاستصحاب، فقد ثبت تمام أجزاء الموضوع.

وعلى الثاني إنّما يجري استصحاب الرطوبة إذا كنّا نعلم حدوثاً برطوبة النجس بما هو نجس، وإلاّ فاستصحاب رطوبة الشيء لا يثبت رطوبته بما هو نجس، ولسنا دائماً نعلم حدوثاً برطوبة النجس بما هو نجس، فإنّه بالإمكان أن يفترض عدم العلم بذلك في فروض:

منها: أن نفترض شيئاً ثبتت نجاسته بالاستصحاب، ثمّ أصبح رطباً بعد أن كان يابساً، ثمّ شككنا في بقاء الرطوبة، فاستصحبنا الرطوبة فهذا الاستصحاب لا يثبت رطوبة هذا الشيء بما هو نجس(1).

ومنها: أن نفترض أنّ الشيء كانت نجاسته العارضة عليه نجاسة ذاتية، كما لو كفر المسلم وقلنا بنجاسة الكافر، وقد كان جسمه قبل النجاسة رطباً فأردنا استصحاب رطوبته بعد النجاسة، فهذا الاستصحاب لا يثبت رطوبة بدنه بما هو نجس.

ومنها: ما إذا كان الشكّ في رطوبة الملاقي لا الملاقى النجس، فعندئذ إن قلنا: إنّ الملاقي المرطوب إنّما ينجس بملاقاة النجس من باب أنّ النجس يصبح بسبب ملاقاة المرطوب


(1) لا يخفى أنّه في هذا الفرع لا تثبت نجاسة الملاقي حتّى لو فرضت قطعيّة بقاء الرطوبة بناءً على كون جزء الموضوع رطوبة النجس بما هو نجس ؛ لأنّ المفروض أنّ أصل النجاسة إنّما ثبتت بالاستصحاب، واستصحاب النجاسة لا يثبت كون الرطوبة رطوبة النجس بما هو نجس إلاّ بالملازمة العقلية. وهذا في الحقيقة رجوع إلى ما سيأتي من بحث الجهة الثانية. أمّا لو غضضنا النظر عن ذلك وافترضناأنّ رطوبة النجس الاستصحابي تعتبر رطوبة النجس بما هو نجس، اذن فبعد الشكّ في الجفاف يجري استصحاب رطوبة النجس بما هو نجس بلا إشكال.

459

مرطوباً فينجّس ـ وذلك لأجل أنّ الارتكاز يقتضي أنّ الانفعال يكون بتأثّر الملاقي بالملاقى لا العكس ـ فمن الواضح أنّ الاستصحاب لا يجري ؛ إذ لا تثبت به رطوبة الملاقى النجس.

وإن قلنا: إنّه تكفي في نجاسة الملاقي نجاسة الملاقى ورطوبة الملاقي فعندئذ نرجع إلى نظير ما مضى، بأن نقول: هل الموضوع هو رطوبة الشيء في نفسه، أو رطوبته بما هو ملاق للنجس؟ فعلى الأوّل يجري الاستصحاب، وعلى الثاني لا يجري.

ومنها: ما إذا افترضنا أنّ الشيء كان رطباً ولم ندرِ أنّه جفّ أو لا، ثمّ تنجّس بنجاسة مرطوبه، وعلمنا أنّ تلك الرطوبة الثانية التي اكتسبها من النجس زالت، ولم نعلم أنّ الرطوبة الاُولى التي كانت قبل النجاسة زالت أو لا، وذلك كما لو كانت الرطوبة الثانية سنخ رطوبة تكون أسرع في التحوّل إلى البخار من الرطوبة الاُولى، فعندئذ نقول: إنّ استصحاب الرطوبة الاُولى لا يثبت رطوبة هذا الشيء بما هو نجس.

وأمّا الجهة الثانية، فقد عرفت أنّهم ذكروا أنّ استصحاب النجاسة يجري سواء قلنا أنّ الميزان في انفعال الملاقي هو رطوبة النجس، أو سرايتها ؛ لأنّ الرطوبة أو السراية ثابتة بالوجدان، والنجاسة تثبت بالاستصحاب.

وهنا ـ أيضاً ـ يأتي التفصيل المتقدّم، فيتمّ هذا الكلام بناءً على ماهو الحقّ من أنّ أحد جزئي الموضوع هو رطوبة ذات الملاقى أو سرايتها. وأمّا بناءً على أنّه هو رطوبة النجس بما هو نجس، أو سرايتها، فهذا الاستصحاب لا يثبت ذلك.

ثم إنّ هذا البحث كلّه كان فيمالو افترضنا أنّ النجس غير بدن الحيوان.

وأمّا إذا كان النجس هو بدن الحيوان فزوال الرطوبة عنه يساوق زوال النجاسة عنه لو قلنا: إنّ بدن الحيوان ينجس، فهنا نحتاج إلى استيناف بحث جديد في أنّه لو شككنا في زوال الرطوبة عن بدنه ولاقى بدنه شيئاً رطباً أو ساور المائع الذي ينجس على تقدير وجود تلك النجاسة، فهل يحكم بنجاسة ذلك الشيء، أو ذلك المائع، أو لا؟

ذُكِرَ في المقام: أنّ هذا يبتني على البحث في أنّ بدن الحيوان هل ينجس بملاقاة النجاسة ثم يطهر بالجفاف، أو لا ينجس أصلاً، فعلى الثاني لا يجري استصحاب النجاسة؛ لأنّ المفروض عدم نجاسة بدنه، ولا استصحاب الرطوبة وبقاء عين النجس ؛ لأنّه لا تثبت بذلك ملاقاة ذلك الشيءأو المائع للنجس. وعلى الأوّل يجري استصحاب نجاسة بدن الحيوان، وتثبت بذلك نجاسة الملاقي.

أقول: إنّ عدم جريان الاستصحاب بناءً على المبنى الثاني واضح. وأمّا على المبنى الأوّل

460

فتنقيح الكلام فيه هو:أنّ هناك نكتة فقهية يجب أن تلحظ، وهناك نكتة أصولية يجب أن تلحظ أيضاً:

أمّا النكتة الفقهية فهي أنّ بدن الحيوان بناءً على تنجّسه بملاقاة النجاسة لا نقبل منجّسيته، لأنّ الدليل على منجّسيّة المتنجّس الأوّل هو أخبار غسل الأواني والفراش ونحو ذلك، وهي لا تشمل ما يكون من قبيل بدن الحيوان الذي لا يحتاج إلى الغسل حتماً؛ إذ المفروض أنّه يطهر بمجرّد زوال النجاسة أو جفافها، ومنجّسية المتنجس الذي يحتاج إلى الغسل لا تلازم منجّسية متنجس تكون نجاسته أخفّ من ذلك، فهي ليست إلاّ نجاسة تبعيّة لعين النجس، وتزول بزوالها، والعرف بما هو عرف يحتمل الفرق بينهما في التنجيس، فلا يمكن التعدّي بالارتكاز العرفي.

وأمّا النكتة الاُصولية فهي مبتنية على مقدّمة، وهي دعوى أنّ ملاقاة النجاسة إنّماتكون موضوعاً للحكم بنجاسة الملاقي إذا كانت ملاقاة اُولى. وأمّا الملاقاة الثانيةوالثالثة و... فليست موضوعاً للنجاسة، وعندئذ نقول: إنّ هذا المائع لم يتنجّس بملاقاة بدن الحيوان حتماً؛ لأنّه: إمّا أنّ بدن الحيوان طاهر ـ كما إذافرض زوال عين النجاسة ـ أو أنّه قد لاقى هذا المائع (قبل ملاقاته لبدن الحيوان) عين النجاسة الثابتة على بدن الحيوان. إذن فلا يجري استصحاب نجاسة بدن الحيوان للقطع بعدم تنجس المائع ببدن الحيوان، كما لا يجري استصحاب بقاء الدم أو أيّ نجاسة اُخرى على بدن الحيوان لعدم ثبوت ملاقاة المائع لتلك النجاسة بذلك(1).

وقد نُقِلَ: أنّ السيّد الاُستاذ ذكر في بحثه في هذه الدورة الأخيرة التي هو مشغول بها فعلاً(2) هذه النكتة الاُصولية وأجاب عنها بأنّه ليس المقصود إثبات نشوء نجاسة الملاقي من بدن الحيوان، وإنّما المقصود إثبات نجاسة الملاقي، فإن كان المقصود إثبات نشوئها من بدن الحيوان صحّ أن يقال: إنّ هذا مقطوع العدم، فكيف يثبت تعبّداً. وأمّا أصل نجاسة الملاقي فليست مقطوعة العدم، فيمكن إثباتهاتعبداً.

أقول: إنّ هذا الكلام غريب، فإنّه لو كان المقصود إثبات نجاسة الملاقي بأصل حكمي


(1) وهذا الإشكال يأتي ـ ايضا ـ في غير الحيوان إذا كان المستصحب هو رطوبة الملاقى، فيقال: إنّ الجسم الملاقى لم ينجّس الملاقي يقيناً ؛ إمّا لجفافه، أو لكون الملاقاة معه بعد الملاقاة مع الرطوبة، واستصحاب الرطوبة لا يثبت الملاقاة مع الرطوبة إلاّ بالملازمة العقلية. إذن لا تثبت نجاسة الملاقي بملاقاة الجسم، ولا بملاقاة الرطوبة.

(2) بتاريخ 1389 هجرية.

461

صحّ أن يقال: إنّ هذه النجاسة غير مقطوعة العدم، فلا بأس بإثباتها تعبّداً، لكن المفروض هو إثباتهابأصل موضوعي، ومعنى ذلك أن نثبت فرداً من أفراد موضوع نجاسة هذا الملاقي، وهذا ما لايمكننا إثباته ؛ لأنّ موضوع نجاسة الملاقي له فردان: أحدهما ملاقاة الدم الموجود على بدن الحيوان مثلاً،وهذا لايثبت إلاّ بالأصل المثبت. والثاني ملاقاة بدن الحيوان في حالة كونه نجساً، وهذا الموضوع في الحقيقة مركّب من ثلاثة أجزاء: ملاقاته لبدن الحيوان، ونجاسة بدن الحيوان، وعدم ملاقاته مسبقاً بنجاسة اُخرى. وليكن كل واحد من هذه الأجزاء ثابتاً: إمّا بالوجدان، وإمّا بالأصل، لكنّنانعلم وجداناً أنّ مجموع هذه الأجزاء الذي هو فرد من أفراد موضوع النجاسة غير ثابت ؛ وذلك لعلمنا الإجمالي إمّا بطهارة بدن الحيوان، أو بأنّه قد حصلت ملاقاة لعين النجاسة قبل ملاقاة بدن الحيوان.

وكان الأولى به ـ دامت بركاته ـ أن يناقش هذه النكتة الاُصولية بوجهين آخرين:

الأوّل: أنّ عين النجس الموجودة على بدن الحيوان إذا كان لهانُتوءٌ وحجم بارز كان لهذه النكتة الاُصولية مجال. وأمّا إذاكانت رطوبة لا حجم لها عرفاً بحيث تكون الملاقاة لعين النجس ولبدن الحيوان في وقت واحد بحسب النظر العرفي وإن فرض الترتّب بينهما بالدقة الفلسفية، فلا مجال لتلك النكتة الاُصولية، فإنّ بدن الحيوان يكون عندئذ منجِّساً في عرض منجسية عين النجس.

الثاني: أنّ عدم كون الملاقاة المسبوقة بملاقاة نجاسة اُخرى موضوعاً للحكم بالنجاسة إنّما هو على أساس اللغوية العرفية، من باب أنّه لا يجب التطهير إلاّ مرّة واحدة، ولا يتعدّد بتعدّد الملاقاة، ولولاها لتمسّكنا بإطلاق دليل (إنّ ملاقاة النجاسة تنجّس) لو وجد نصّ من هذا القبيل، وعندما تترتّب ثمرة عملية ترتفع اللغوية، ولذانقول بأنّ ما لاقى الدم إذا لاقى بعد ذلك البول تنجس مرّة ثانية ؛ لأنّه يترتّب على ذلك أثر عملي، وهو لزوم التعدّد في الغَسل.

وفي ما نحن فيه تترتّب ثمرة على النجاسة بلحاظ بدن الحيوان، وهي أنّ النجاسة بلحاظ ملاقاة الدم لاتصل ولا تتنجّز، لكن النجاسة بلحاظ بدن الحيوان تقبل الوصول والتنجّز.

فإن قلت: إنّ اللغوية في المقام عرفية، واللغوية العرفيّة إنّما ترتفع بتصوير ثمرة عرفية دون ثمرة اُصولية من هذا القبيل:

قلنا: إن بُني على أنّ مثل هذه الثمرة لا ترفع اللغوية كان معنى ذلك عدم الالتزام بشمول إطلاق دليل منجسية الملاقاة لبدن الحيوان رأساً، أي: عدم التسليم بأنّ بدن الحيوان ينجس؛ إذ ليس لنجاسة بدن الحيوان التي ترتفع بزوال عين النجس ثمرة إلاّ ما يكون من