90

الغرض، بل إنّما هي بصدد بيان الاحتجاج على اليهود في نفي حرمة ما حرّموه بعدم الوجدان فيما اُوحي إليه(صلى الله عليه وآله)، ولو فرض أنّه بحسب الواقع تكون البراءة مختصّة بالقسم الأوّل الذي هو مفروض الآية كان الاحتجاج تامّاً والغرض حاصلاً، ولا يلزم نقض الغرض.

وقد تلخّص ممّا ذكرناه: أنّ المهمّ من الآيات الدالّة على البراءة من القرآن الكريم هي الآية الاُولى والثالثة.

 

حدود البراءة المستفادة من الكتاب:

ولنبحث الآن عن معرفة حدود البراءة المستفادة من الكتاب الكريم، فإنّ ذلك في نفسه مفيد، ويفيد أيضاً في مقام عرض أخبار البراءة والاحتياط على الكتاب الكريم، وملاحظة النسبة بين الكتاب الكريم الدالّ على البراءة وأخبار الاحتياط، وهنا نطرح ثلاثة أسئلة:

1 ـ هل البراءة المستفادة من الكتاب الكريم تعمّ الشبهة الموضوعيّة والحكميّة، أو تختصّ بإحداهما؟

2 ـ هل البراءة المستفادة من الكتاب الكريم تعمّ الشبهة الوجوبيّة والتحريميّة، أو تختصّ بإحداهما؟

3 ـ هل البراءة المستفادة من الكتاب الكريم تختصّ بما بعد الفحص، أو تعمّ ما قبل الفحص؟

ولنتكلّم في مقام الجواب على هذه الأسئلة في كلّ واحدة من الآيات الماضية، فنقول:

أمّا الآية الاُولى ـ وهي قوله تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا﴾ ـ: فبالنسبة للسؤال الأوّل قد يتخيل أنّها مختصّة بالشبهة الحكميّة؛ لأنّ الإيتاء من

91

قِبَله ـ تعالى ـ يكون بالنسبة للأحكام الكلّيّة دون الموضوعات الخارجيّة، لكن التحقيق: أنّ هذا مبنيّ على حمل الإيتاء على إيتائه ـ تعالى ـ بما هو مولىً لا إيتائه بما هو مكوّن الكون ومعطي كلّ شيء، فإنّ الإيتاء المولويّ هو الذي يختصّ بالأحكام، وحمل الإيتاء على هذا المعنى خلاف مورد الآية الذي هو المال، فلابدّ من حمله على الإيتاء التكوينيّ الذي يعمّ إيتاء المال بمعنى رزقه، وإيتاء الفعل بمعنى الإقدار عليه، وإيتاء الحكم بمعنى إيصاله، سواء كانت الشبهة حكميّة أو موضوعيّة.

وبالنسبة للسؤال الثاني لا إشكال في إطلاق الآية للشبهة الوجوبيّة والتحريميّة، ولا وجه لفرض اختصاصها بإحداهما.

وبالنسبة للسؤال الثالث نقول: إنّها مختصّة بما بعد الفحص، فإنّنا وإن قلنا: إنّ الإيتاء في الأحكام بمعنى الإيصال لكن الإيتاء إنّما استعمل في مفهومه الجامع الذي يكون الإيصال أحد مصاديقه، و هو الإعطاء الذي يكون في المال بالرزق، وفي الفعل بالإقدار، ومن المعلوم أنّه يكفي في إعطاء الحكم جعله في معرض الوجدان بحيث لو فتّش عنه لوجده، ولا يتوقّف صدق إعطائه على حصول هذا التفتيش والوجدان، وهذا الاختصاص بما بعد الفحص له أثر كبير في مقام ملاحظة النسبة بين هذه الآية وأخبار الاحتياط، فإنّه لو كانت الآية مطلقة من هذه الناحية كما كانت مطلقة من النواحي الاُخرى، وكان إخراج ما قبل الفحص منها بحاجة إلى تقييد خارجيّ، فأخبار الاحتياط ـ إن تمّت دلالتها ـ تتقدّم على هذه الآية، سواء فرضنا اختصاصها بالشبهات الحكميّة التحريميّة، أو اختصاصها بمطلق الشبهات الحكميّة، أو شمولها للحكميّة والموضوعيّة أيضاً، فإنّها ـ على أيّ تقدير ـ أخصّ من هذه الآية؛ إذ الآية إنّما دلّت على البراءة ونفي الاحتياط بالإطلاق، لكون ما آتاها شاملاً بالإطلاق للمال المرزوق والفعل المقدور والحكم المعلوم،

92

فتقيّد الآية بإخراج الثالث عنها بأخبار الاحتياط، ولكنّ لمّا كانت الآية بنفسها مختصّة بما بعد الفحص فأخبار الاحتياط ـ ولو فرض اختصاصها بالشبهات الحكميّة التحريميّة ـ تكون أعمّ من وجه من الآية؛ إذ ما قبل الفحص ليس داخلاً في الآية، وهو داخل في إطلاق أخبار الاحتياط، بل هو قدر متيقّن منها.

وأمّا الآية الثانية ـ وهي قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ ـ: فقد عرفت أنّها إنّما تدلّ على البراءة في فرض عدم صدور البيان بمعنى أصل الإبراز، وبمجرّد احتمال صدور البيان يرتفع موضوع التمسّك بها فضلاً عن ورود دليل على الاحتياط(1).

وأمّا الآية الثالثة ـ وهي قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُون﴾ ـ: فبالنسبة للسؤال الأوّل نقول: إنّها مختصّة بالشبهة الحكميّة؛ لما فيها من جعل الغاية البيان الظاهر في الخطاب الذي هو في دائرة الأحكام، فيكون ذلك قرينة على كون المغيّى هي البراءة في الشبهات الحكميّة.

وبالنسبة للسؤال الثاني قد يقال: إنّها مختصّة بالشبهة التحريميّة؛ لأنّ الاتّقاء بمعنى الاجتناب المطعّم بالتحذّر والتخوّف، والاجتناب يطلق عرفاً في باب الأفعال، وشموله للاجتناب عن الترك يحمل مؤونة زائدة.



(1) وبعد فرض التسليم تكون الآية مخصوصة بما بعد الفحص، فإنّ بعث الرسول ليس كناية عن الوصول النهائيّ، بل كناية عن حصول البيان في معرض الوصول بحيث لو فحص لوجد البيان، فإنّ هذا هو شأن الرسول، وليس شأنه الإيصال النهائيّ، والآية مطلقة للشبهات الوجوبيّة والتحريميّة، ومختصّة بالشبهات الحكميّة؛ لأنّ شأن الرسول إنّما هو تبليغ الحكم، إلاّ إذا قطعنا بالتعدّي إلى الشبهات الموضوعيّة كما قطعنا بالتعدّي من الرسول إلى مطلق البيان، وعهدة دعوى القطع بالتعدّي على مدّعيه.

93

وعلى أيّة حال، فنحن لا نحتاج إلى إثبات هذا الاختصاص، فإنّ الآية إن لم تكن مختصّة بالشبهات التحريميّة فلا أقلّ من كون الشبهة التحريميّة قدراً متيقّناً من نفس مفهوم هذا الكلام، فإنّ الاتّقاء والاجتناب إن سُلّم شموله للاجتناب عن الترك فشموله له وللاجتناب عن الفعل ليس على حدّ سواء، بل نسبة المفهوم إلى المصداق الثاني ـ أعني: الاجتناب عن الفعل ـ أوضح إلى حدّ يجعله قدراً متيقّناً من نفس الخطاب، وهذا يكفي في ترتّب الفائدة التي نقصدها من فرض اختصاص الآية بالشبهة التحريميّة التي ستظهر إن شاء الله.

وبالنسبة للسؤال الثالث نقول: إنّها مختصّة بما بعد الفحص، فإنّنا وإن قلنا: إنّ اللام في قوله: ﴿يُبَيِّنَ لَهُم﴾أوجبت فرقاً بين هذه الآية والآية الثانية، فجعلتها ظاهرة في إرادة الوصول لا مجرّد الوصول، كما في الآية الثانية، لكن ليس المستفاد عرفاً من البيان لهم أن يطرق المولى أبواب بيوتهم ويخبرهم بالحكم واحداً بعد واحد، وإنّما المستفاد عرفاً من ذلك بيان الحكم بمعنى جعله بين أيديهم بحيث لو فحصوا لوجدوه.

إذن فهذه الآية من أنفس الأدلّة في قبال أخبار الاحتياط بناءً على تماميّة دلالتها، فإنّها أخصّ حتّى من أخصّ مضمون يفترض في أخبار الاحتياط، وهو ما يختصّ بالشبهة الحكميّة التحريميّة؛ إذ يشمل ذلك ما قبل الفحص وما بعده، والآية مختصّة بما بعد الفحص، فتقدّم على دليل الاحتياط بالأخصّيّة، بل لو فرضنا تساوي الآية وأخبار الاحتياط من هذه الناحية فأخصّ مضامين الاحتياط ساقط عن الحجّيّة بمعارضة الكتاب الكريم، فإنّ الخبر المعارض للكتاب في غير فرض القرينيّة ساقط عن الحجّيّة، كما حقّقناه في بحث خبر الواحد.

بل لو سلّمنا كون الآية أعمّ من أخبار الاحتياط أمكن أن يقال: إنّ سياقها آب عن التخصيص بتقريب أنّ لسانها لسان: ما كان الله ليفعل كذا، وليس من شأننا

94

العذاب قبل البيان، ولا يناسبنا ذلك، وهذا لا يناسب التخصيص وإخراج بعض الموارد عنه.

وأمّا الآية الرابعة ـ وهي قوله تعالى: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِم يَطْعَمُه...﴾ ـ: فقد عرفت عدم دلالتها على البراءة رأساً، إلاّ أنّنا نقول: إنّها ـ على تقدير دلالتها ـ تكون مختصّة بالشبهة الحكميّة، كما أنّها مختصّة بالشبهة التحريميّة، أو أنّ القدر المتيقّن منها في نطاق نفس العبارة هو الشبهة التحريميّة، ومختصّة أيضاً بما بعد الفحص.

أمّا اختصاصها بالشبهة الحكميّة فلإضافة الوجدان إلى دائرة الوحي، وما يوجد في دائرة الوحي إنّما هو الجواب على الشبهات الحكميّة لا الجواب على الشبهات الموضوعيّة.

وأمّا اختصاصها بالشبهات التحريميّة، أو كونها قدراً متيقّناً منها فلما ترى من أنّ الشبهة التحريميّة هي مورد الآية بصريح قوله: ﴿مُحَرَّماً عَلَى طَاعِم يَطْعَمُه﴾، فإن اُلغيت الخصوصيّة عرفاً، فكونها قدراً متيقّناً ممّا لا إشكال فيه.

وأمّا اختصاصها بما بعد الفحص فلأنّه أضاف عدم الوجدان إلى دائرة الوحي، وظاهر عدم الوجدان المضاف إلى دائرة مّا هو عدم الوجدان فيها بعد الفحص، فمثلاً لو قيل: ما وجدت هذا الخبر في الوسائل، فمعناه أ نّي فحصت فيه وما وجدت، لا أ نّي لم أجد ولو من باب عدم الفحص.

 

 

95

 

البراءة في الأخبار

وممّا استدلّ بها على البراءة الشرعيّة الأخبار:

 

1 ـ رواية: «كلّ شيء مطلق...»:

فمنها: ما روي عن الصادق(عليه السلام) من أنّه قال: «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي»(1). والتقريب الابتدائيّ للاستدلال بذلك هو أنّه(عليه السلام) ذكر: أنّ كلّ شيء محكوم بالإطلاق والسعة ما لم يرد فيه النهي، وهذا هو مفاد البراءة المبحوث عنها في هذا المقام. وتفصيل الكلام في هذا الحديث يقع في جهتين: إحداهما في الدلالة، والاُخرى في السند.

أمّا الجهة الاُولى: فتماميّة دلالة الحديث في المقام تتوقّف على كون المراد من الورود الوصول لا الصدور، وإلاّ لدلّ الحديث على البراءة قبل الصدور التي هي خارجة عن محلّ كلامنا، ولو سلّمنا كون المراد بالورود هو الوصول، فدلالة الحديث على البراءة بالدرجة الثانية التي لا يرتفع موضوعها ببيان وجوب الاحتياط تتوقّف على أن يكون المراد بالنهي المأخوذ غاية في الحديث هو النهي الواقعيّ، لا ما يشمل النهي بعنوان إيجاب الاحتياط، وإلاّ لارتفع موضوع البراءة المستفادة من هذا الحديث ببيان إيجاب الاحتياط، فهذان الأمران لو تمّا دلّ الحديث على البراءة بالدرجة الثانية، أي: التي لا يرتفع موضوعها ببيان إيجاب الاحتياط. ولو تمّ الأوّل فقط دلّ على البراءة بالدرجة الاُولى ـ أي: التي تكون



(1) الوسائل، ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 6، ص 127 ـ 128.

96

في مرتبة البراءة العقليّة ـ والتي يرتفع موضوعها ببيان إيجاب الاحتياط. ولو لم يتمّ الأوّل لم تتمّ دلالة الحديث على البراءة لا بالدرجة الثانية ولا بالدرجة الاُولى، فلابدّ من تحقيق حال هذين الأمرين:

أمّا الأمر الأوّل: فقد ذهب السيّد الاُستاذ إلى أنّ المراد بالورود هو الوصول لا الصدور. وتقريب ذلك: أنّ الإطلاق المذكور في هذا الحديث لا يخلو حاله عن أحد احتمالات ثلاثة:

الاحتمال الأوّل: ما احتمله المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من الإطلاق العقليّ المقابل للحرج العقليّ، بحيث يكون محصّله هو حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، فالحديث ليس إلاّ إرشاداً محضاً إلى حكم العقل من دون إعمال للمولويّة.

الاحتمال الثاني: الإباحة المجعولة من قبل المولى ـ بما هو مولىً ـ إباحة واقعيّة.

الاحتمال الثالث: الإباحة المجعولة بنحو الحكم الظاهريّ.

وما هو المدّعى ومحلّ البحث في المقام إثباتاً ونفياً هي الإباحة بالمعنى الثالث، وعندئذ يقال: إنّ المعنى الأوّل مخالف لظهور الخطاب الصادر من المولى في المولويّة. والمعنى الثاني غير صحيح على كلا التقديرين في معنى الورود ـ أي: سواء اُريد به الوصول أو الصدور ـ فإنّه لو اُريد به الوصول، لم يكن مجال للمعنى الثاني؛ لإنّ الحكم الواقعيّ لا يؤخذ في موضوعه عدم العلم بحكم واقعيّ آخر، وإلاّ لزم عند ثبوت ذلك الحكم الآخر واقعاً اجتماع حكمين واقعيّين وهو محال. ولو اُريد به الصدور، لم يكن أيضاً مجال للمعنى الثاني سواء اُريد تعليق الحلّيّة الواقعيّة ـ المقصود بها مطلق ما يقابل الحرمة، لا الإباحة بالمعنى الأخصّ ـ على عدم الحرمة، أو اُريد مجرّد بيان الملازمة بينهما، فإنّه إن اُريد الأوّل، فقد اُريد المحال، لاستحالة توقّف أحد الضدّين على الآخر. وإن اُريد الثاني كان لغواً

97

وفضولاً من الكلام من قبيل أن يقال: كلّ شيء متحرّك حتّى يسكن، أو كلّ شيء ساكن حتّى يتحرّك، فتعيّن المعنى الثالث وهو الإباحة الظاهريّة، ويكون ذلك قرينة على أنّ المراد بالورود هو الوصول لا الصدور، فإنّ الصدور لا يرفع موضوع الحكم الظاهريّ، وهو الشكّ في الواقع، وإنّما يرتفع موضوعه بالوصول.

أقول: إنّ هنا احتمالاً لم يبطل بهذه الإشكالات، وهو أن يكون الحديث في مقام بيان الملازمة بين الحلّيّة الواقعيّة وعدم صدور النهي بمعنى الخطاب الخارجيّ، لا بمعنى الاعتبار النفسانيّ، أو المبغوضيّة. وهذا ليس فضولاً من الكلام وبياناً للملازمة بين أحد الضدّين وعدم الآخر مع وضوح ذلك، وإنّما هو إخبار عن أنّه مهما لم يصدر من المولى خطاب، فالحكم الثابت في عالم الثبوت، هو الحلّ في مقابل أن يحتمل شخص ـ بالرغم من عدم صدور خطاب بالحرمة ـ أن يكون الحكم في عالم الثبوت هو الحرمة(1).



(1) جاء في مصباح الاُصول الجزء الثاني، ص 281 جواب على هذا الاحتمال، وهو أنّ هذا الاحتمال إنّما يناسب زمن الرسول(صلى الله عليه وآله) الذي هو زمان تكميل التشريع بالتدريج، فيقال: كلّ ما لم يرد فيه النهي فهو حلال، ولا حاجة إلى السؤال والفحص عن حكمه. أمّا في زمان الصادق(عليه السلام)فالمفروض أنّ التشريع مكتمل، والشكّ إنّما يكون بلحاظ الشكّ في الورود، ويجب فيه الفحص، وحمل الرواية على عصر الرسول(صلى الله عليه وآله) خلاف الظاهر، فإنّ ظاهر قوله: «كلّ شيء مطلق» هو الإطلاق الفعليّ والإباحة الفعليّة بلا تقييد بزمان دون زمان.

أقول: إنّ هذا البيان يرد عليه ما سيورده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في المتن قريباً من الجوابين على إشكال أورده على ما لديه من احتمال معنىً رابع للإطلاق والإباحة، فراجع.

98

إلاّ أنّ هذا الاحتمال أيضاً مدفوع عندنا؛ وذلك لأنّ حمل النصّ على بيان الملازمة بين الحلّ وعدم ورود النهي لا التعليق خلاف الظاهر، فإنّ الظاهر من ذكر المولى حكماً مع تقييد مدلول كلامه بشيء كون ذلك الشيء موضوعاً لذلك الحكم، لا ملازماً لموضوعه مثلاً.

والتحقيق: أنّ هذا الوجه ـ حتّى مع هذه الضميمة في المقام ـ لا يتمّ، ولا يمكن إبطال جميع الاحتمالات سوى الاحتمال المساعد على المقصود؛ وذلك لوجهين:

الأوّل: أنّ هنا معنىً رابعاً للإطلاق والإباحة، وإن شئت جعلته شقّاً ثانياً لما مضى من المعنى الثاني، وهو الإباحة الواقعيّة. وتوضيح ذلك: أنّ المولى تارةً يفرض أنّه اطّلع على المفسدة في اُمور، وعدم المفسدة في اُمور، فحرّم القسم الأوّل، وأحلّ القسم الثاني، فهذه حرمة واقعيّة حقيقيّة مع ما يُقابلها من حلّيّة واقعيّة حقيقيّة، واُخرى يفرض أنّه بعد أن شرّع التحريمات والإباحات رأى أنّه قد يختفي على العبد ما شرّعه مولاه ويشكّ في ذلك، ففي ظرف الشكّ في ذلك إمّا أن يوجب عليه الاحتياط، أو يرخّصه في الترك، وهذه هي الحرمة الظاهريّة مع ما يقابلها من الحلّيّة الظاهريّة، وثالثة يفرض أنّه لم يشرّع بعدُ تمام أحكامه إمّا لأنّه لم يتأمّل بعد في تمام الاُمور حتّى يقف على ما يشتمل على المفسدة وما لا يشتمل عليها، أو أنّه وإن تأمّل في تمامها ـ أو لا يحتاج أصلاً إلى التأمّل كما في مولانا سبحانه وتعالى ـ إلاّ أنّ هناك مصلحة في التدرّج في تشريع الأحكام مثلاً كما هو الواقع في أحكام شريعتنا، فعندئذ ـ قبل أن يتمّ تشريعاته ـ قد يفرض أنّه يحرّم على العبد كلّ ما لم يُصدر بعدُ حكمه احتياطاً منه وحفظاً لعبده عن ارتكاب ما فيه المفسدة قبل تماميّة التشريع. وهذا ليس من التحريمات الواقعيّة المتعارفة، لعدم نشوئه من المفسدة في نفس الشيء المحرّم بالخصوص، وليس تحريماً ظاهريّاً، لعدم كون موضوعه الشكّ في الواقع والمفروض عدم ثبوت واقع بعدُ وراء هذا الحكم.

99

وبكلمة اُخرى: إنّ هذا تحريم أنشأه المولى احتياطاً منه، لا أمر باحتياط العبد في مقام التحذّر عمّا حرّمه المولى حتّى يكون حكماً ظاهريّاً، وكم فرق بين تكليف المولى احتياطاً منه وبين التكليف بالاحتياط، فهذه حرمة احتياطيّة متوسّطة بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ أُنشئت تحفّظاً على ملاكات الترك، وإن شئنا عبّرنا عن ذلك بالحكم الواقعيّ الطريقيّ في قبال الأحكام الواقعيّة المتعارفة الحقيقيّة. و في قبال هذه الحرمة حلّيّة من سنخها، وهي ترخيص المولى وعدم تحفّظه على تلك الملاكات قبل إصدار الحكم، فهذه حلّيّة موضوعها عدم ورود النهي بمعنى الصدور لا بمعنى الوصول يحتمل أن تكون هي المقصود من هذا الحديث.

إن قلت: إنّ هذا الحديث إنّما ورد بعد بيان تمام الأحكام؛ إذ هو وارد عن الصادق(عليه السلام)، وليس وارداً في عصر التشريع الذي كان يتمّ بالتدريج.

قلت: أوّلاً: إنّ تشريع الأحكام ـ على ما يشهد له بعض الأخبار ـ كان متدرّجاً حتّى بلحاظ زمان الأئمّة المعصومين(عليهم السلام)(1)، حتّى أنّ بعض الأحكام استبقي لزمان ظهور الحجّة عجّل الله تعالى فرجه(2).

 


(1) لعلّه(رحمه الله) ينظر إلى بعض الروايات الواردة في اُصول الكافي، ج 1، كتاب الحجّة باب التفويض إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) وإلى الأئمّة(عليهم السلام) في أمر الدين، 265 ـ 268.

(2) لعلّه(رحمه الله) ينظر إلى ما في البحار ـ ج 52، ب 27 من تأريخ الإمام الثاني عشر،ح 2، ص 309 ـ عن أبي حمزة، عن أبي عبد الله(عليه السلام) وأبي الحسن(عليه السلام)قالا: «لو قد قام القائم لحكم بثلاث لم يحكم بها أحد قبله، يقتل الشيخ الزاني، ويقتل مانع الزكاة، ويورّث الأخ أخاه في الأظلّة (قيل: يعني عالم الأرواح والأشباح قبل هذا العالم)»، وأيضاً ورد في

100

وثانياً: إنّ مقصود الحديث هو بيان شأن من شؤون الشريعة في نفسها، ولا يضرّ فرض عدم بقاء موضوع لذلك بعد عصر الرسول(صلى الله عليه وآله).

الثاني: أنّنا لو غضضنا النظر عمّا عرفته من المعنى الوسط بين الإباحة الواقعيّة والإباحة الظاهريّة، قلنا: إنّ من الممكن حمل الإطلاق في هذا الحديث على الإباحة الواقعيّة والورود على الصدور، ولا يلزم من ذلك محذور تعليق أحد الضدّين على عدم الآخر، ولا محذور اللغويّة وتوضيح الواضحات؛ وذلك لأنّه لم يعلّق ملاك الإباحة على عدم ملاك الحرمة حتّى يقال: إنّهما متضادّان، أو متناقضان، ولا يعقل تعليق أحدهما على عدم الآخر، بل علّقت نفس الإباحة على عدم ورود النهي، والنهي معناه الخطاب والتبليغ من قِبل الشارع، فلعلّ هذه الرواية تكون بصدد بيان أنّ الملاكات الواقعيّة للحرمة لا تؤثّر في الحرمة ما لم يتصدّ الشارع للتبليغ من قِبله ويجعل الخطاب على طبقها، أي: أنّ صدور التبليغ من قِبل الحجج قيد في تماميّة ملاك التحريم(1). وفائدة ذلك أنّنا لو اطّلعنا عن طريق


البحار ـ ج 52، ب 27 من تأريخ الإمام الثاني عشر، ح 9، ص 332 ـ عن أبي خديجة، عن أبي عبد الله(عليه السلام)قال: «إذا قام القائم جاء بأمر غير الذي كان».

وأيضاً وردت في الكافي روايات في أنّ الإمام صاحب الزمان (عجّل الله فرجه) سيحكم بالواقع لا بالبيّنات والأيمان. راجع اُصول الكافي، ج 1، باب في أنّ الأئمّة(عليهم السلام) إذا ظهر أمرهم حكموا بحكم داود وآل داود، ولا يسألون البيّنة. ص 397، و398. ولكن أكثر الروايات الراجعة إلى الحجّة (عجّل الله فرجه) أو كلّها تدلّ على تبدّل التشريع بالنسبة له، لا على فراغ في التشريع يكتمل في زمانه.

(1) قد يقال: إنّ التبليغ لو كان قيداً في تماميّة ملاك التحريم لم يبقَ للمولى داع إلى التبليغ.

101

العقل على ملاك للحرمة من دون صدور الخطاب من الشارع، لم نحكم بقاعدة الملازمة بالحرمة شرعاً.

وهذا سنخ ما ذكره الشيخ الأعظم(قدس سره) في توجيه كلام الأخباريّين الذين ذكروا: أنّ القطع المستند إلى الدليل العقليّ ليس حجّة: من أنّه لعلّ مرادهم أنّ توسيط الحجج له دخل في تماميّة موضوع الحكم ـ أي: أنّ الملاكات اللزوميّة الواقعيّة لا تتمّ إلاّ إذا فرض وقوع التبليغ على طبقها ـ وهذا مطلب مفيد ليس من باب توضيح الواضحات، وليس أمراً غير معقول، فبقي إجمال كلمة (الورود) على حاله، فلابدّ من تحقيق حال كلمة (الورود) في نفسها دون تحقيق كلمة الإطلاق أوّلاً، وتفسير الورود على ضوئه كما فعله السيّد الاُستاذ.

وتحقيق الحال في ذلك: أنّه وإن كان ظاهر كلام المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)المناقشة في دلالة الحديث بإبداء احتمال حمل الورود في المقام على معنى الصدور، إلاّ أنّه بالإمكان أن يقال: إنّ استعمال كلمة (الورود) في الصدور محضاً بلا ملاحظة شيء يتحقّق وصول الورود إليه وانتهاؤه إليه غير صحيح بحسب الاستعمالات العرفيّة، ولذلك يقال في كتب اللغة:إنّ الورود في قبال الصدور، فهناك فرق لغةً وعرفاً بين الورود والصدور، فالصدور تلحظ فيه جهة المبدأ الذي


والجواب: أنّ التبليغ قد يكون دخيلاً في تحصيل الملاك لا في أصل عنصر المطلوبيّة، فيتمّ التبليغ بداعي تحصيل الملاك، و في نفس الوقت نقول: لولا التبليغ لانتفى الحكم؛ لأنّ العلم بمتعلّق الحكم قبل التبليغ لا يحقّق الملاك المطلوب. وأمّا المحذور العقليّ في تصوّر دخل تبليغ الحكم في الحكم، فهو من قبيل محذور دخل العلم بالحكم في الحكم، ينحلّ بمثل القول بدخل تبليغ الجعل في المجعول.

102

يصدر منه الصادر، والورود تلحظ فيه جهة المنتهى الذي ينتهي إليه الوارد. والشاهد على هذا موارد الاستعمالات، ففي مورد لا تلحظ هناك جهة للانتهاء إليها والوصول إليها لا يعبّر بكلمة الورود.

هذا المطلب قريب، إلاّ أنّه مع هذا لا يكفي في مقام دفع الإجمال، بل يبقى الإجمال أيضاً على حاله؛ لأنّ غاية ما يتحصّل من مثل هذه الدعوى هي أنّ استعمال كلمة (الورود) بحاجة إلى جهة ينتهى إليها. وأمّا الوصول بالمعنى الذي يفيدنا والانكشاف وعلم العبد بالحكم فهو ليس معنى (الورود) جزماً، ويمكن أن نتصوّر في المقام جهة ينتهي إليها النهي تصحيحاً لاستعمال كلمة (الورود) من دون أن يكون ذلك مساوقاً لوصول الحكم إلى هذا الفرد من المكلّف بالخصوص، أو ذاك؛ وذلك لوجهين:

الأوّل: أن تكون تلك الجهة الملحوظة نفس الشيء المنهيّ عنه لا المكلّف، وعلى هذا يكون قوله: «حتّى يرد فيه نهي» بمعنى: حتّى يرده النهي، كقولنا: (ورد في المشرعة)، أي: ورد المشرعة.

الثاني: أن تكون تلك الجهة نفس المكلّف، لكنّ المكلّف هنا لم يدلّ عليه لفظ حتّى يقال: إنّ لفظ المكلّف اسم جنس، وهو ظاهر في الانحلال، فلعلّ المنتهى إليه هو الاُمّة باعتبار ملاحظتها بنحو العموم المجموعيّ، فكأنّه قيل: كلّ شيء مطلق حتّى تبلّغ الاُمّة بتحريمه. وتبليغ الاُمّة بنحو العموم المجموعيّ عبارة عن تبليغ أبعاضها وأجزائها، وقراءة الحكم عليهم، لا التبليغ إلى كلّ فرد من أفرادها كما يقال: إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)والأئمّة(عليهم السلام) بلّغوا الاُمّة بتمام الأحكام مع أنّهم لم يذهبوا إلى كلّ فرد مكلّف ويبلّغوه بتمام الأحكام.

فاتّضح أنّ صياغة الإشكال ينبغي أن تغيّر عن النحو الموجود في الكفاية وغيرها من الكتب من تردّد أمر الورود بين الصدور والوصول، فإنّ استعمال

103

الورود في الصدور محضاً من دون ملاحظة جهة ينتهي إليها الورود لعلّه غير صحيح بحسب الاستعمالات العرفيّة، وإنّما الإشكال يكون من ناحية تحقيق الجهة التي يُنتهى إليها.

وأمّا الأمر الثاني: فالتحقيق أنّه لو سلّمنا أنّ الورود في الحديث بمعنى الوصول، قلنا: إنّ الحديث دالّ على البراءة بالدرجة الثانية، لتماميّة الأمر الثاني، وهو كون النهي هنا بمعنى النهي الواقعيّ.

وتوضيح ذلك: أنّ ظاهر الحديث هو كون مصبّ النهي الذي جعل غاية، ومصبّ الإطلاق الذي جعل مغيّىً واحد. ومصبّ الإطلاق في هذا الحديث وإن كان مركّباً من جزءين: ذات الشيء، وعدم وصول النهي، لكنّ الجزء الثاني ليس مستفاداً من نصّ المغيّى، أعني: قوله: «كلّ شيء مطلق»، وإنّما استفيد ذلك في طول فرض الغاية، أعني: قوله: «حتّى يرد فيه نهي»، فظاهر ذلك تعليق الغاية، وهي النهي بالجزء المستفاد من الصدر الذي جعل مغيّىً من دون دخل الجزء الآخر؛ لأنّه مستفاد في طول فرض هذه الغاية، فلا تكون الغاية ناظرة إليه، وهو موضوع الإطلاق والإباحة بقطع النظر عن ربط الغاية وهو ذات الشيء، كشرب الدخان مثلاً، لا عنوان الشيء الذي لم يرد فيه النهي وشكّ في النهي عنه. ويتحصّل من ذلك: أنّ الغاية هي النهي الواقعيّ، لا ما يشمل النهي الظاهريّ؛ لأنّ النهي الظاهريّ موضوعه هو عنوان الشيء الذي لا يعلم النهي عنه، لا ذات الشيء، أي: ذات شرب الدخان مثلاً.

إلاّ أنّ تماميّة الأمر الثاني لا تنفع في المقام بعد أن لم يتمّ الأمر الأوّل. فلم تتمّ دلالة الحديث على البراءة.

ثمّ إنّ المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) بعد أن ذكر عدم تماميّة دلالة الحديث على البراءة لاحتمال كون المراد من الورود الصدور، ذكر: أنّه مع الشكّ في الصدور يمكن

104

استصحاب عدم الصدور، فيتنقّح بذلك موضوع هذا الحديث، فيتمسّك به، إلاّ أنّ هذا ليس عبارة عن أصالة البراءة، وإنّما هذا تعبّد بالإباحة الواقعيّة ببركة استصحاب موضوعها. وذكر(قدس سره): أنّ هذا لا يتمّ على إطلاقه؛ لأنّ إطلاقه ينتقض بفرض توارد الحالتين بأن علمنا بأنّ الشيء الفلانيّ كان منهيّاً عنه في وقت، وحلالاً في وقت آخر، ولم يعلم ما هو المتقدّم ممّا هو المتأخّر،ففي هذا الفرض لا يتمّ هذا الوجه، وعلّل ذلك ـ على ما يظهر من عبارته ـ بأنّ الغاية هي ورود النهي، والمفروض وروده، فقد حصلت الغاية، فلا موضوع للتمسّك بالحديث(1).

إلاّ أنّ المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) استظهر من عبارة صاحب الكفاية أن يكون مقصوده هو إبطال التمسّك في فرض توارد الحالتين بهذا الحديث بعدم جريان الاستصحاب، لابتلائه في موارد توارد الحالتين بالتعارض، أو بانفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين. وعندئذ اعترض عليه: بأنّنا إن فرضنا في مفاد الحديث أنّ موضوع الإطلاق حدوثاً هو نفس الشيء بعنوانه الأوّلي، وقد جعل الإطلاق مغيّىً بورود النهي لم يعقل الشكّ في تقدّم النهي أو الإباحة المعلومين، بل نقطع بتقدّم النهي على تلك الإباحة الخاصّة المعلومة؛ إذ لو كانت الإباحة الخاصّة هي المقدّمة على النهي لعاصرت الإباحة العامّة الثابتة بقوله: «كلّ شيء مطلق». وهذا يعني اجتماع إباحتين على عنوان واحد، وهو مستحيل. إذن فلا علاقة للمورد بإشكال الاستصحاب في فرض توارد الحالتين.

وأمّا إن فرضنا في مفاد الحديث كون موضوع الإطلاق من أوّل الأمر هو ما لم يرد النهي عنه، فالإطلاق ليس حكماً ثابتاً على نفس عنوان الشيء، بل هو حكم



(1) راجع الكفاية، ج 2، ص 177 و179 من الطبعة القديمة المقرونة بتعليقة المشكينيّ.

105

ثابت على الشيء بعنوان أنّه لم يرد النهي عنه، فهنا يكون الشكّ في تقدّم النهي على الإباحة الخاصّة وبالعكس معقولاً؛ لعدم ورود إشكال اجتماع إباحتين على عنوان واحد؛ لأنّ الإباحة العامّة ثابتة على الشيء بعنوان أنّه لم يرد النهي عنه، والإباحة الخاصّة ثابتة على نفس الشيء بعنوانه(1)، لكنّنا نقول: إنّه أساساً لا مجال فيما نحن فيه لاستصحاب عدم ورود النهي حتّى يستشكل فيه بإشكال الاستصحاب في باب توارد الحالتين؛ لأنّ النهي وارد حتماً بحسب الفرض، والموضوع في الحديث هو عدم ورود النهي، فنحن نقطع بانتفاء الموضوع.



(1) لا يخفى أنّ تعدّد العنوان لا يحلّ الإشكال في المقام، فإذا استحال اجتماع إباحتين على شيء واحد بعنوان واحد، كذلك يستحيل اجتماعهما على شيء واحد بعنوانين، إلاّ إذا كان بين الإباحتين عموم من وجه، كي يظهر أثر التعدّد في موردي الافتراق. و فيما نحن فيه تكون النسبة بين إباحة ما لم يرد فيه النهي، والإباحة الخاصّة لهذا الشيء قبل النهي عموماً مطلقاً، فتلغو الإباحة الخاصّة. هذا إذا كانت الإباحة العامّة إباحة واحدة لجميع الأشياء. وأمّا إذا كانت تجميعاً لإباحات خاصّة لزم اجتماع إباحتين متساويتين على شيء واحد، ولكنّي أظنّ أنّ مقصود المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) ليس هو حلّ الإشكال بمجرّد تعدّد العنوان، بل حلّه بتعدّد نفس الشيء المنهي عنه، أي: أنّه يفترض تارةً: أنّ الإطلاق ثابت ومجعول ابتداءً على جميع الأشياء، ثمّ يرتفع عمّا يرد فيه النهي. وهذا معنى فرض ورود النهي غاية للإطلاق، واُخرى: أنّ الإطلاق العامّ ليس مجعولاً من أوّل الأمر على جميع الأشياء، بل مجعول على خصوص ما سوف لن يرد فيه النهي. وهذا معنى فرض ورود النهي قيداً في موضوع الإطلاق العامّ من أوّل الأمر. فعلى الفرض الأوّل يلزم من تقدّم الإباحة الخاصّة على النهي اجتماع إباحتين على مورد واحد العامّة والخاصّة. وعلى الفرض الثاني لا يلزم ذلك؛ لأنّ ما ورد أخيراً فيه النهي كان سابقاً مباحاً بالإباحة الخاصّة دون العامّة. راجع عبارة المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) في نهاية الدراية، ج 2، ص 190.

106

ثمّ ذكر: أنّه من الممكن حمل عبارة الكفاية على إرادة عدم شمول الحديث في نفسه لهذا الفرض.

أقول: يرد عليه:

أوّلاً: أنّ العلم بالإباحة التي هي إحدى الحالتين المتواردتين يمكن تصويرها بنحوين:

الأوّل: العلم بإباحة خاصّة غير الإباحة العامّة الموضوعة على كلّ شيء مالم يرد فيه نهي.

والثاني: العلم بالجامع بين إباحة خاصّة وتلك الإباحة العامّة. فإن فرض الأوّل لزم من فرض تقدّم الإباحة المعلومة إجمالاً على النهي المعلوم إجمالاً اجتماع إباحتين على موضوع واحد. أمّا إذا فرض الثاني لم يلزم من تقدّم الإباحة المعلومة على النهي اجتماع إباحتين، لإمكان أن تكون تلك الإباحة نفس الإباحة العامّة. وهذا الفرض كاف للنقض على إطلاق دعوى استفادة معنىً مساو في النتيجة للبراءة من هذا الحديث ببركة الاستصحاب.

وثانياً: أنّنا نمنع عدم إمكان اجتماع الإباحة الخاصّة مع تلك الإباحة العامّة المستفادة من هذا الحديث، بناءً على ما مضى من تصويرنا إباحة متوسطة بين الإباحة الواقعيّة والإباحة الظاهريّة، بأن لا يكون قوله: «كلّ شيء مطلق» تجميعاً في العبارة بين إباحات واقعيّة وضعت كلّ واحدة منها على فرد من أفراد الشيء بالخصوص بلحاظ ما فيه من المصالح والمفاسد، بل يكون إباحة مجعولة على عنوان «كلّ شيء» باعتبار أنّ الأشياء قد يوجد فيها ما يكون ذا مفسدة، وقد يوجد فيها ما يكون غير ذي مفسدة، فكان من الممكن أن يحتاط المولى بجعل الحرمة عليها، لكنّه لم يفعل ذلك، وفرضها غير محرّمة، وجعل غاية هذه الإباحة صدور النهي، وأنت ترى أنّ هذه الإباحة تجتمع مع الإباحة الواقعيّة كما تجتمع الإباحة

107

الظاهريّة مع الإباحة الواقعيّة، فإنّ الشيء يمكن تحريمه بإحدى جهتين: بجهة المفسدة الواقعيّة، وبجهة التحفّظ على الملاك الثابت بالنسبة لبعض الأشياء والاحتياط من ناحيته. فإذا فرض المولى عدم الحرمة من كلتا الناحيتين، فقد اجتمعت الإباحتان سواء فرض مورد هذا التحفّظ مورد التحريم البرزخ بين التحريم الواقعيّ والظاهريّ، أو فرض مورد التحريم بمعنى جعل الاحتياط الذي هو حكم ظاهريّ، ففي الأوّل اجتمعت الإباحة الواقعيّة مع الإباحة البرزخيّة،وفي الثاني اجتمعت مع الإباحة الظاهريّة.

ثمّ إنّ المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) ذكر في المقام بعد ما مضى من النقض بمورد توارد الحالتين: أنّه لا يمكن دفع هذا النقض بالإجماع على عدم الفرق بين هذا المورد وغيره؛ لأنّ الإجماع وإن كان يوجب الملازمة بين هذا المورد وغيره في ثبوت البراءة والإطلاق وعدمه، لكنّ موضوع هذا الإطلاق إنّما ثبت في غير مورد توارد الحالتين بالاستصحاب فثبت الإطلاق بمعونة الاستصحاب، ومثبتات الاستصحاب ليست حجّة، إذن لا يثبت في المقام الإطلاق في مورد توارد الحالتين رغم الملازمة بين الإطلاقين؛ لأنّ أحد المتلازمين لم يكن ثابتاً بمحض الدليل اللفظيّ كي نتعدّى إلى لازمه، بل ثبت بمعونة الأصل. هذا ما يستفاد من ظاهر عبارة المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)في المقام.

إلاّ أنّ المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) أفاد: أنّ هذا غير صحيح، وأنّ مقصود الخراسانيّ شيء آخر، وهو أنّ الإجماع إنّما قام على الملازمة بين براءة وبراءة، لا بين استصحاب وبراءة، وأمّا مجرّد أنّ البراءة فيما نحن فيه ثبتت بالأصل لا بالدليل اللفظيّ، فهذا لا يوجب عدم التعدّي إلى مورد توارد الحالتين كما ذكر المحقّق الخراسانيّ بنفسه في أصالة البراءة المستفادة من أصالة الإباحة في قوله: «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام» أنّنا نتعدّى من البراءة في الشبهة التحريميّة

108

إلى البراءة في الشبهة الوجوبيّة، للإجماع على عدم اختصاص البراءة بالشبهةالتحريميّة، فلا يضرّنا اختصاص النصّ بالشبهة التحريميّة، فقد تعدّى من البراءة في الشبهة التحريميّة إلى البراءة في الشبهة الوجوبيّة، مع أنّ الدليل المفروض على البراءة في الشبهة التحريميّة هنا هي أصالة الإباحة التي هي أصل عمليّ لا أمارة من الأمارات، وأيّ فرق بين ما نحن فيه وهذا المقام؟!(1).

أقول: أمّا قياسه(قدس سره) ـ لما نحن فيه بأصالة البراءة المستفادة من قوله: «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام» ـ فمن غرائبه، فإنّ هذا الكلام دليل لفظيّ دلّ على أصالة الإباحة التي هي قسم من أصالة البراءة، وهي البراءة في الشبهات التحريميّة مثلاً. وأين هذا ممّا نحن فيه الذي يكون الدليل فيه على البراءة هو الاستصحاب؟!

وأمّا قوله: إنّ الملازمة إنّما قامت بين براءة وبراءة لا بين استصحاب وبراءة، فلعلّ مقصوده من ذلك هو أنّ المفروض أنّ الإطلاق في الحديث إباحة واقعيّة، فيترتّب على استصحاب عدم صدور النهي الإباحة الواقعيّة ظاهراً لا البراءة، فالحكم الظاهريّ هنا ينحصر في الاستصحاب، بخلاف ما لو كان المقصود من الإطلاق في الحديث البراءة، فإنّه عندئذ كانت تثبت البراءة بالاستصحاب. والإجماع إنّما قام على الملازمة بين البراءتين، ولا يجري فيما هو المفروض من انحصار الحكم الظاهريّ في استصحاب الحكم الواقعيّ. فكأنّ في كلامه(قدس سره)مقدّمة مطويّة، وهي ما ذكرناه من أنّ الإطلاق في الحديث إباحة واقعيّة، فهي المترتّبة على الاستصحاب، فالحكم الظاهريّ منحصر فيه.

والتحقيق: أنّ التعدّي من غير مورد توارد الحالتين إلى مورد توارد الحالتين يرد عليه كلا الإشكالين، أي: يرد عليه:

أوّلاً: أنّ التلازم بين البراءتين لا يوجب ثبوت إحداهما بثبوت الاُخرى



(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 190.

109

بالاستصحاب، لعدم حجّيّة مثبتات الاستصحاب.

وثانياً: أنّ الإجماع إنّما قام على الملازمة بين البراءتين، والاستصحاب هنا إنّما ترتّبت عليه الإباحة الواقعيّة لا البراءة حتّى يتعدّى إلى لازمها من البراءة في مورد توارد الحالتين.

نعم، يمكن دعوى الإجماع بوجهين آخرين، بناءً على أحدهما يرتفع كلا الإشكالين، وبناءً على الآخر يرتفع الإشكال الثاني فقط، إلاّ أنّ الصحيح أنّه إن كان هنا إجماع فإنّما هو بالنحو الأوّل لا بهذين الوجهين الآخرين، وهذان الوجهان ما يلي:

الأوّل: أن يدّعى الإجماع على الملازمة بين الموردين في جامع المؤمّن، فيرتفع الإشكال الأوّل؛ لأنّه عندئذ نتمسّك بالدلالة الالتزاميّة لنفس دليل الاستصحاب الذي هو دليل لفظيّ، كما يرتفع الإشكال الثاني؛ لأنّ المفروض ثبوت التأمين في غير مورد توارد الحالتين واستلزامه للتأمين في ذلك المورد.

والثاني: أن يدّعى الإجماع على الملازمة بين الإباحة الواقعيّة في غير مورد توارد الحالتين والإباحة الظاهريّة في مورد تواردهما، أو بين الإباحة الواقعيّة في غير ذلك المورد مع ثبوتها فيه تعبّداً، والإباحة الظاهريّة في ذلك المورد، وعندئذ يرتفع الإشكال الثاني؛ لأنّ ما اُثبتت في غير مورد توارد الحالتين من الإباحة الواقعيّة تكون بنفسها، أو مع ما تحقّق من ثبوتها التعبّديّ مستلزم للبراءة في مورد توارد الحالتين، ولا يرتفع الإشكال الأوّل؛ لأنّ الإباحة الواقعيّة في غير مورد توارد الحالتين ثبتت بالأصل العمليّ، وهو الاستصحاب، لا الأصل اللفظيّ.

وأمّا الإجماع على الملازمة بين الإباحتين الواقعيّتين فلا يتعقّل دعواه.

وعلى أيّة حال، فهذه المباحث لا أثر لها، فإنّه إن صار البناء على تتميم الاستدلال بهذا الحديث بالاستصحاب، قلنا: إنّ الاستصحاب بنفسه مؤمّن مستقلّ عن التكليف المشكوك ـ كما يأتي بيانه إن شاء الله ـ بلا حاجة إلى ضمّه إلى هذا الحديث.

110

بقي هنا شيء، وهو: أنّه على تقدير تماميّة دلالة هذا الحديث على البراءة يمكن دعوى اختصاصه بالشبهة التحريميّة لقوله: «حتّى يرد فيه نهي»، واختصاصه بالشبهة الحكميّة؛ لأنّ كلمة النهي يمكن أن يستظهر منها الخطاب. ففرق بين أن يقال: (حتّى يرد فيه نهي)، أو يقال: (حتّى ترد فيه الحرمة)، بل حتّى لو عبّر بالتعبير الثاني يمكن استظهار الاختصاص بالشبهة الحكميّة؛ لأنّ الورود وإن فرض بمعنى الوصول لكنّه ظاهر في الوصول من قِبَل الشارع.

وأمّا الجهة الثانية: وهي الكلام من حيث السند، فهذا الحديث مرسل، أرسله الصدوق(رحمه الله)بلسان (قال الصادق(عليه السلام))، فلا حجّيّة فيه بناءً على ما هو المختار من عدم حجّيّة المرسل حتّى إذا كان بمثل هذا اللسان، فلا فرق في عدم الحجّيّة بين أن يقول مثلاً: قال الصادق(عليه السلام)، أو يقول مثلاً: روي عن الصادق(عليه السلام)(1).

 

2 ـ حديث الرفع:

ومنها: حديث الرفع. والكلام فيه يقع في مقامات أربعة:

الأوّل: في دلالة فقرة (رفع عن اُمّتي ما لا يعلمون) على البراءة في الجملة وعدمها.

والثاني: في أنّها ـ على تقدير دلالتها على البراءة ـ هل تشمل الشبهة الحكميّة والموضوعيّة معاً، أو لا؟

والثالث: في فقه تمام الحديث.

والرابع: في سند الحديث.



(1) وذلك لأنّ إخبار الصدوق عن الإمام الصادق(عليه السلام) إخبار عن حدس، ولا نعلم أنّ مستند حدسه هل كان عبارة عن توثيقه الحسّيّ للرواة، أو غير ذلك.

111

 

مقطع الاستدلال:

أمّا المقام الأوّل: وهو الكلام في دلالة فقرة (رفع عن اُمّتي ما لا يعلمون) على البراءة وعدمها. فالآن نفترض أنّ هذه الفقرة منفصلة عن سائر فقرات الحديث، ونفترض أنّ المراد بالموصول هو التكليف إلى أن يأتي البحث عن سائر الجهات، فإن ثبت شيء بنحو يوجب احتمال تغيير في النتائج السابقة درسنا ذلك.

وبناءً على ذلك فقوله: (رفع عن اُمّتي ما لا يعلمون) قد دلّ على رفع التكليف عند عدم العلم، ويقع الكلام في أنّ هذا الرفع هل هو ظاهريّ حتّى تكون هي البراءة المقصودة في المقام، أو رفع واقعيّ للتكليف فلا يكون براءة؟

 

شبهة الرفع الواقعيّ:

قد يقال: إنّ حمله على الرفع الظاهريّ بحاجة إلى مؤونة زائدة لا داعي إليها، فليحمل الحديث على الرفع الواقعيّ، وبذلك تبطل دلالة الحديث على البراءة. إذن فنحن بحاجة إلى البحث عن واقعيّة هذا الرفع وظاهريّته.

لا يقال: إنّ غرض الاُصوليّ من إثبات البراءة هو تحصيل الأمن، وهذا يثبت بالحديث سواء فرض الرفع ظاهريّاً أو واقعيّاً.

فإنّه يقال: إنّ الثمرة تظهر في مورد حصول القطع بدليل خاصّ بشمول الحكم الواقعيّ لفرض عدم العلم على تقدير ثبوته في نفسه، فعندئذ لو قلنا بدلالة هذا الحديث على البراءة ثبت الأمن، ولو قلنا بدلالته على نفي الواقع بعدم العلم فالمفروض أنّنا قاطعون بأنّ عدم العلم لا ينفي الواقع، فيقيّد الحديث بغير هذا المورد ولا يثبت الأمن فيه.

112

 

موقف المحقّق العراقيّ:

وقد أجاب المحقّق العراقيّ(رحمه الله) عن شبهة حمل الحديث على الرفع الواقعيّ بوجهين، أحدهما عرفيّ، والثاني فنّيّ:

أمّا الوجه الأوّل: فهو أنّ قوله: «رفع عن اُمّتي» ظاهر في سوق الحديث مساق الامتنان، وبهذه القرينة يجب أن نلتزم بأنّ المقدار المرفوع هو المقدار الذي يكون ثبوته خلاف الامتنان، ويكون رفعه امتناناً، وهذا المقدار عبارة عن وجوب الاحتياط، فإنّه يوجب الكلفة على العبد، ويكون رفعه امتناناً. وأمّا رفعه برفع منشأه، أي: رفع كلّ من وجوب الاحتياط والواقع معاً، فالزائد فيه ليس توسعة على العباد، وليس فيه امتناناً عليهم، فإنّ مجرّد ثبوت الواقع لا يوجب كلفة على العباد(1).

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ هذه القرينة مبنيّة على المبنى المشهور من جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ إذ على ذلك لا تكون مشقّة في التكليف الواقعيّ في نفسه بقطع النظر عن إيجاب الاحتياط، وإنّما يوجب التكليف المشقّة عند عدم العلم بتوسيط إيجاب الاحتياط، فليرفع الوسط في مقام الامتنان لا أصل التكليف. وأمّا بناءً على ما حقّقناه من إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فالتكليف الواقعيّ بوجوده الاحتماليّ موضوع لحكم العقل بلزوم الامتثال بلا حاجة إلى توسيط إيجاب الاحتياط.

ولا نقول: إنّ الموضوع لحكم العقل بالامتثال هو التكليف الواقعيّ بوجوده الاحتماليّ زائداً اهتمام المولى به في ظرف الشكّ، حتّى يقال: إنّ نفي الاهتمام هو الذي يتجسّد فيه الامتنان، وليس في نفي الواقع زائداً على نفي الاهتمام امتنان،



(1) راجع نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 212.

113

بل نقول: إنّ الموضوع لحكم العقل بالامتثال هو التكليف الواقعيّ بوجوده الاحتماليّ زائداً عدم وصول الترخيص، فلو لم يصل الترخيص وجب الامتثال؛ لنفس عدم وصول الترخيص مع احتمال التكليف، لا من باب احتمال اهتمام المولى بالتكليف في ظرف الشكّ، فالامتنان يكون بأحد أمرين في عرض واحد، إيصال الترخيص(1)، ورفع التكليف الواقعيّ.

وثانياً: أنّنا لو سلّمنا أنّ التكليف الواقعيّ في نفسه لا يتطلّب الامتثال، وإنّما يوجب الكلفة بتوسّط إيجاب الاحتياط، قلنا: إنّ التكليف الواقعيّ وإن لم يوجب الكلفة مباشرة، لكنّه واقع في طريق تحقّق الكلفة، فيكون رفع هذا التكليف واقعاً في صراط الامتنان وموجباً للامتنان، باعتبار أنّه مع رفع التكليف الواقعيّ المشكوك لا يبقى موضوع لذلك الوسط وهو إيجاب الاحتياط، فيقع التوسع للعباد. نعم، الامتنان لا يكون متوقّفاً على رفع التكليف، وإنّما هو متوقّف على رفع إيجاب الاحتياط بنفسه، أو برفع منشأه وهو التكليف. لكنّنا لا نسلّم ظهور الحديث في كون الرفع متوقّفاً عليه الامتنان، وإنّما نسلّم ظهوره في كونه امتنانيّاً وواقعاً في صراط الامتنان والتوسعة على العباد(2).

 


(1) الظاهر أنّ إيصال الترخيص إنّما يرفع حكم العقل بوجوب الامتثال، لكونه إيصالاً لعدم اهتمام المولى بالحكم، والموضوع الواقعيّ لحكم العقل بالامتثال لدى الشكّ، إنّما هو احتمال التكليف زائداً احتمال اهتمام المولى به. فإبراز عدم وجود تكليف يهمّه، هو الذي يرفع موضوع حكم العقل. وأمّا إبراز عدم أصل التكليف فأمر زائد لا يتوقّف عليه الامتنان.

(2) لا يخفى أنّنا لو قلنا: بأنّ الحكم عبارة عن الحبّ والبغض، فمن الواضح أنّ

114

وأمّا الوجه الثاني ـ وهو بيان قرينة صناعيّة(1) في المقام ـ: فبيانها يتوقّف على مقدّمتين:

الاُولى: أنّ رفع كلّ شيء نقيض وجوده، والنقيضان في مرتبة واحدة، فالرفع والمرفوع دائماً في مرتبة واحدة.

 


الامتنان إنّما يكون بنفي إيجاب الاحتياط لا بنفي الحكم الواقعيّ، لا للتقريب الماضي عن المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، بل لأنّ معنى نفي الحكم عدم الحبّ أو البغض، ومع عدمه لا مقتضي لثبوت الكلفة على العباد كي يمتنّ عليهم بالرفع. وأمّا لو قلنا: بأنّ الحكم عبارة عن الجعل والاعتبار، وهو أمر وسط بين الحبّ والبغض من ناحية، والإبراز من ناحية اُخرى، فمن الصحيح أن يقال: إنّ نفي هذا الجعل يكون امتنانيّاً عندما تكون المبادئ من المصالح والمفاسد والحبّ والبغض ثابتة، ولكنّ المولى نفى الجعل والاعتبار بغرض إفهام عدم اهتمامه بتلك المبادئ توسيعاً على العباد، وهذا امتنان، إلاّ أنّه يتمّ على هذا الفرض من الناحية الواقعيّة ما مضى من أنّه لا أثر عمليّ لمعرفة أنّ مفاد الحديث هل هو البراءة، أو نفي الحكم الواقعيّ؟ فعلى أيّ حال يتمّ التأمين، وهو المقصود. وما مضى من أنّ الأثر يظهر لدى علمنا صدفة بدليل خاصّ بشمول الحكم الواقعيّ ـ على تقدير ثبوته ـ لظرف الشكّ وإن كان صحيحاً عقلاً وفلسفيّاً، ولكن لا مورد له خارجاً، فلئن كان من حقّنا أن ندّعي القطع بثبوت الحكم بمعنى الحبّ والبغض في مورد الشكّ في كثير من الموارد، كالخمر مثلاً بمثل الضرورة الفقهيّة فليس من حقّنا عند دوران الأمر بين الترخيص الظاهريّ ورفع مجرّد الجعل والاعتبار واقعاً مع ثبوت المبادئ دعوى القطع بشمول الجعل والاعتبار ـ لو كان ـ بضرورة من هذا القبيل، ومن البعيد افتراض ورود نصّ يدلّ على ذلك.

(1) راجع المقالات، ج 2، ص 55 ـ 56. والعبارة لا تخلو من غموض يحتمل أن يكون نظره فيها إلى ما شرحه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) هنا.