184

وتعلّق أمر آخر بالإتيان به بداعي الأمر مستحيلاً. اللهمّ إلّا إذا اُخرج الأمر الثاني عن حقيقته كأمر، وفرض شيئاً آخر، كما سيأتي توضيحه إن شاء الله.

وأمّا تحقيق الحال في هذا الوجه على ضوء كلمات الأصحاب، فيوجد هناك أشكال ثلاثة لفرض تعدّد الأمر في كلماتهم:

أشكال فرض تعدّد الأمر في كلمات الأصحاب:

الأوّل: أنّ الأمر الأوّل تعلّق بالصلاة المطلقة الجامعة بين القربيّة وغيرها، والأمر الثاني تعلّق بإتيان ذلك الجامع بقصد القربة.

والثاني: ما ذهب إليه المحقّق النائينيّ (رحمه الله)(1): من أنّ الأمر الأوّل لم يتعلّق بالمقيّدة بالقربة ولا بالمطلقة؛ لأنّ التقييد غير معقول بحسب الفرض، والإطلاق في نظره(قدس سره) غير معقول أيضاً عند عدم معقوليّة التقييد، فالأمر الأوّل متعلّق بالمهمل، وهذا الإهمال معقول، ولا يلزم منه الإهمال في الواقع؛ لأنّ الأمر الأوّل ليس هو تمام الواقع، بل شقّ من الواقع، وشقّه الآخر هو عبارة عن الأمر الآخر، وهذا الأمر يكون موظّفاً برفع الإهمال وتعيين ما هو لبّ الأمر الأوّل، فإمّا أن يرفع الإهمال بالتقييد أو يرفعه بالإطلاق، ويسمّى ذلك بمتمّم الجعل؛ لأنّ الأمر الأوّل ـ بالأخرة ـ لابدّ من تتميمه بما يرفع إهماله حتّى لا يلزم الإهمال في الواقع.

والثالث: ما ذكره المحقّق العراقيّ (رحمه الله) من فرض تعدّد المجعول مع وحدة



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 116 ـ 117 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، وراجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 159 ـ 162 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

185

الجعل(1)، بينما في الشكلين الأوّلين كان الجعل أيضاً متعدّداً.

فهذه أشكال ثلاثة لفرض تعدّد الأمر.

أمّا الشكل الأوّل: وهو تعلّق الأمر الأوّل بالصلاة المطلقة، والأمر الثاني بالإتيان بها بقصد القربة، فقد استشكل فيه كما في الكفاية(2) وغيرها.

ويمكن تقريب الإشكال ببيان: أنّه لو أتى بذات الصلاة بدون قصد القربة، فهذا مصداق لمتعلّق الأمر الأوّل؛ لأنّه تعلّق بالمطلق، والمطلق كما ينطبق على الواجد كذلك ينطبق على الفاقد، فنسأل: هل سقط الأمر الأوّل، أو لا؟ فإن قيل: لم يسقط ويبقى محرّكاً، فهذا غير معقول؛ لأنّ الأمر إنّما يحرّك بمقدار ما تعلّق به، وقد تعلّق بمقدار الجامع، وقد وجد في الخارج، فالتحريك نحوه مرّةً اُخرى تحريك نحو الحاصل. وإن قيل: سقط للإتيان بمتعلّقه، لم يبقَ موضوع لامتثال الأمر الثاني؛ لأنّه متعلّق بإتيان الفعل بقصد امتثال الأمر الأوّل، وقد سقط الأمر الأوّل، فلا معنى لقصد امتثاله، وهذا يؤدّي إلى أنّ من أتى بالصلاة بلا قصد القربة، سقط عنه كلا الأمرين، وهو خلف.

وحينما يصاغ الإشكال بهذه الصياغة يمكن الجواب عليها بأنّنا نختار الشقّ الثاني، ونقول بسقوط الأمر الأوّل، ولكن حيث إنّ هذا السقوط ليس سقوطاً استيفائيّاً قد استوفي غرضه، بل سقوط اضطراريّ من باب أنّه لا يعقل بقاء شخص الأمر مع حصول متعلّقه، وأمّا الغرض فهو لا يزال غير حاصل؛ لأنّ كلا الأمرين



(1) راجع نهاية الأفكار، ج 1، ص 196 ـ 197 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وكذلك ص 190 ـ 191، وراجع المقالات، ج 1، ص 238 ـ 239 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم.

(2) راجع الكفاية، ج 1، ص 111 بحسب طبعة المشكينيّ.

186

مسوقان لتحصيل غرض واحد وهو لم يعمل بالأمر الثاني، إذن فنفس هذا الغرضيستدعي تعلّق الأمر من جديد بالصلاة كما استدعى ذلك أوّلا، فإن ابتلي الأمر في المرّة الثانية بنفس ما ابتلي به في المرّة الاُولى، استدعى الغرض أمراً ثالثاً، وهكذا إلى أن يصلّي بقصد الأمر، فالأمر الثاني لم ينتفِ موضوعه؛ لأنّ موضوعه الأمر بذات الصلاة وهو موجود ولو في ضمن شخص آخر غير الشخص الأوّل من الأمر، فهذا الإشكال غير وارد.

نعم، يأتي إشكالنا عليه، وهو: أنّ الأمر الثاني غير قابل للمحرّكيّة أصلا؛ لأنّ الأمر الأوّل كلّما مات اُحيي من جديد، فهو الذي يحرّك.

وإن شئتم قلتم: إنّ الأمر الأوّل إن سقط بنوعه أيضاً كما سقط بشخصه، أي: أنّه حينما مات شخصه الأوّل لم يتجدّد له شخص آخر، إذن فالأمر الثاني يبقى بلا موضوع، فيسقط، ويلزم من ذلك سقوط الصلاة بالإتيان بها بلا قربة، وهو خلف. وإن سقط بشخصه ولم يسقط بنوعه، فالأمر الثاني ليس محرّكاً، وحينما يصاغ الإشكال بهذه الصياغة يكون صحيحاً.

وأمّا الشكل الثاني: وهو ما ذهب إليه المحقّق النائينيّ (رحمه الله) من تعلّق الأمر الأوّل بالطبيعة المهملة، وتعلّق الأمر الثاني بالإتيان بتلك الطبيعة بداعي امتثال الأمر الأوّل، وبذلك يرتفع الإهمال، فالذي دعى المحقّق النائينيّ (رحمه الله) إلى العدول عن الشكل الأوّل إلى هذا الشكل هو قوله بأنّ الإطلاق يستحيل باستحالة التقييد، فلا يبقى إلّا الإهمال، إلّا أنّ هذا ليس إهمالا بحسب الواقع، وإنّما هو إهمال في مرحلة من مراحل بيان الواقع، ويرتفع بضمّ المرحلة الثانية إليها، وهي الأمر الثاني.

وقد أورد السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على ذلك بإيرادين:

187

الأوّل: الإيراد المبنائيّ(1)، بدعوى عدم استحالة الإطلاق باستحالة التقييد، بل استحالة التقييد قد توجب ضرورة الإطلاق، وهذا نقاش في المبنى سوف يأتي تحقيقه ـ إن شاء الله ـ عند الدخول في صلب مسألة التعبّديّ والتوصّليّ.

الثاني: أنّ الإهمال في الأمر الأوّل(2) غير معقول، ويتذبذب بيانه ـ دامت بركاته ـ لهذا الادّعاء بين بيانين؛ فإنّ استحالة الإهمال يمكن بيانها تارةً بلحاظ نفس الحكم، واُخرى بلحاظ الحاكم، ويسلّم السيّد الاُستاذ بأنّه لو تعقّلنا الإهمال في الأمر الأوّل، أمكن رفعه بالأمر الثاني.

أمّا البيان الأوّل: فبأن يقال: إنّ الحكم له حظّ من الوجود في اُفق ذهن الحاكم، وكلّ شيء له حظّ من الوجود لابدّ أن يكون له في اُفق وجوده تعيّن؛ لاستحالة المردّد والمبهم في اُفق الوجود. نعم، لا بأس بأن يكون للشيء إبهام وتردّد في مرتبة تالية لوجوده، أي: بحسب مقام الإثبات، أمّا بلحاظ وعاء وجوده والاُفق الذي يكون فيه حظّه من الوجود، فلابدّ أن يكون متعيّناً ومتحدّداً.

وأمّا البيان الثاني: فبأن يقال: إنّ تعلّق الأمر الأوّل بالمهمل مستحيل؛ لأنّ هذا معناه: أنّ المولى في عالم الجعل لا يدري مدى سعة ما يطلب، هل هي المطلق أو المقيّد، ومن الواضح: أنّه لا يعقل أن يشكّ المولى في دائرة طلبه، ولابدّ أن تكون حدود ما يطلب بالنسبة إليه واضحة. نعم، غير المولى قد يشكّ فيما يطلبه المولى.



(1) راجع تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله) في أجود التقريرات، ج 1، ص 117 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ، وراجع المحاضرات، ج 2، ص 176 ـ 177 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

(2) راجع المحاضرات، ج 2، ص 177 ـ 178 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

188

وكلا البيانين روحهما واحدة وإن اختلف طرز التعبير، وبه يختلف طرز التعبير في الجواب:

أمّا البيان الأوّل: فجوابه: أنّ الحكم في اُفق ذهن الحاكم متعيّن في حكم عرض على ذات الطبيعة بلا ضمّ لحاظ التقييد أو رفض التقييد، وهذا ليس معناه تعلّق الأمر بالمردّد بين المطلق والمقيّد بحيث يكون متعلّق الأمر هو: إمّا المطلق، وإمّا المقيّد بأن تكون كلمة «إمّا» ثابتة في لوح الأمر والواقع، فمتعلّق الأمر لا هو المطلق بعينه، ولا المقيّد بعينه، بل الفرد المردّد بينهما، وإنّما معناه: أنّ هناك وجوداً متعيّناً للأمر بذات الطبيعة، إلّا أنّ هذا الوجود المعيّن لم يضمّ إليه التقييد ولا الإطلاق؛ حيث إنّ التقييد عبارة عن لحاظ الطبيعة مع القيد، والإطلاق عبارة عن رفض القيد، فإذا لوحظت الطبيعة ولم يلحظ معها القيد ولا عدمه، سمّينا ذلك بالإهمال، وهذا ليس معناه: أنّ الحكم في اُفقه مردّد، بل نفس الأمر بالطبيعة متعيّن، ولكن لم يضمّ إليه الإطلاق ولا التقييد، وهذا أجنبيّ عن الفرد المردّد.

وأمّا البيان الثاني: وهو لزوم كون المولى بما هو جاعل للأمر الأوّل وبغضّ النظر عن الأمر الثاني جاهلا بمدى سعة مطلوبه، فالجواب: أنّ مطلوبه المعلوم له هو الطبيعة بما لها من سعة عند الإهمال.

وتوضيح ذلك: أنّه بعد أن اتّضح في دفع البيان الأوّل: أنّه يمكن تعلّق أمر المولى بذات الطبيعة بلا ضمّ لحاظ القيد ولا رفضه، نقول: إنّ الطبيعة بلا ضمّ لحاظ القيد ولا رفضه لها درجة من السعة، فالمولى مطلوبه هذه الطبيعة بمقدار ما لها من سعة في مقام الانطباق، وحيث إنّ هذه السعة متعيّنة فمطلوب المولى متعيّن، فإن قلنا: إنّ المهمل في قوّة المقيّد، فمطلوب المولى لا يسري إلى غير المقيّد. وإن قلنا: إنّه في قوّة المطلق، فالطبيعة تسري إلى الأفراد، فمطلوب المولى أيضاً يسري. وعلى أيّ حال فحدود مطلوب المولى بالأمر الأوّل واضحة عنده.

189

والحاصل: أنّ في سريان الطبيعة إلى تمام أفرادها نظريّتين:

1 ـ إنّ الطبيعة بذاتها لو خلّيت ونفسها لا تقتضي السريان ولا عدمه، وإنّما السريان من شؤون الإطلاق اللحاظيّ، أيّ: رفض القيود، وعدم السريان من شؤون لحاظ التقييد.

2 ـ إنّ الطبيعة بذاتها تقتضي السريان ما لم يمنع مانع، والمانع لحاظ القيد.

وفرق النظريّتين: أنّ المقتضي للسريان في الاُولى أمر خارج عن الطبيعة، وهو الإطلاق اللحاظيّ، وفي الثانية ذات الطبيعة ما لم تقترن بمانع، وهو لحاظ القيد. والفرق العمليّ بينهما يظهر في الطبيعة المهملة التي لم يلحظ معها القيد ولا رُفض معها القيد، فإن قلنا: إنّ الطبيعة بذاتها لا تقتضي السريان، فالطبيعة المهملة في قوّة المقيّدة، وإن قلنا: إنّها بذاتها تقتضي السريان ـ كما هو الصحيح ـ فالطبيعة المهملة في قوّة المطلقة؛ لأنّ المقتضي للسريان موجود وهو ذات الطبيعة، والمانع مفقود وهو لحاظ القيد.

وقد ظهر: أنّه لا يرد إشكال التردّد، لا في عالم الوجود الذهنيّ وبلحاظ عالم عروض الحكم؛ فإنّه متعيّن في وجود الأمر بذات الطبيعة لا مطلقة ولا مقيّدة، ولا في عالم الانطباق والسريان؛ لأنّ الطبيعة المهملة إن كانت في قوّة المطلقة يسري إلى تمام الأفراد، وإلّا لم يسرِ إلّا بمقدار المقيّد، وهذا يختلف باختلاف النظريّتين في باب المطلق والمقيّد.

والسرّ في ذلك كلّه هو حمل الإهمال في كلام المحقّق النائينيّ (رحمه الله) على الإهمال اللحاظيّ، بمعنى عدم لحاظ التقييد ولا رفضه، لا على الفرد المردّد، وأمّا لو حمل على الفرد المردّد، فهذا الإهمال لا يزول بضمّ الأمر الثاني؛ فإنّ الأمر الثاني إنّما يكمّل مهمّة الكشف عن الغرض، لا أنّه يجعل متعلّق الجعل الأوّل متعيّن الحدود، فإنّ الواقع لا ينقلب عمّا وقع عليه، مع أنّه ـ دامت بركاته ـ يسلّم أنّه لو فرض

190

الإهمال في الأمر الأوّل، صحّت الاستعانة بالأمر الثاني لرفعه. هذا.

وقد انقدح من تضاعيف ما ذكرناه إشكال على ما فرضه المحقّق النائينيّ (رحمه الله) من تصوير التعبّديّة بوجود أمرين: أحدهما تعلّق بالطبيعة المهملة، والآخر بإتيان متعلّق الأمر الأوّل بقصد الأمر، وهو: أنّنا إن قلنا: إنّ الطبيعة المهملة في قوّة المطلقة، فقد رجع ـ بحسب الحقيقة ـ إلى الشكل الأوّل، وهو فرض تعلّق الأمر الأوّل بالمطلق؛ لأنّنا أخذنا بالنظريّة القائلة: إنّ الإطلاق من شؤون ذات الطبيعة، فقد أصبح متعلّق الأمر الأوّل مطلقاً. نعم، أصبح مطلقاً بالإطلاق الذاتيّ دون اللحاظيّ، وإذا رجع إلى الشكل الأوّل، فتحقيق الحال فيه هو ما مضى في تحقيق حال الشكل الأوّل.

وإن قلنا: إنّ الطبيعة المهملة في قوّة المقيّدة، إذن لا حاجة إلى الأمر الثاني، بل يكفي الأمر الأوّل، فإنّه إذا كان المهمل في قوّة المقيّد فلابدّ للعبد في مقام التطبيق أن يأتي بالفعل بقصد القربة حتّى ينطبق عليه المهمل؛ لأنّ المفروض: أنّه كالمقيّد لا ينطبق إلّا على واجد القيد، فالأمر الأوّل وحده كاف لإلزام العبد بالقربة بلا حاجة إلى الأمر الثاني، ومن دون أن يرد أكثر الوجوه الأربعة التي قدّمناها لاستحالة أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر جزءاً أو قيداً؛ لأنّ قصد القربة لم يؤخذ في متعلّق الأمر، فمثلا المولى لم يلحظ الأمر حتّى يلزم التهافت في اللحاظ ورؤية عروض الأمر على ما هو متعلّق الأمر، وليس هناك أمر متعلّق بقصد الأمر حتّى يقال: إنّ هذا غير محرّك؛ إذ المفروض: أنّه ليس هنا إلّا أمر واحد متعلّق بالطبيعة المهملة التي هي في قوّة المقيّدة بحسب الفرض، فصار العمل عباديّاً بلا حاجة إلى أمر آخر متعلّق بقصد الأمر الأوّل.

نعم، يرد عليه الوجه الأوّل من الوجوه الأربعة، وهو لزوم أخذ وصول الأمر في موضوعه؛ لأنّ الأمر بالطبيعة المهملة إذا كان في قوّة الأمر بالمقيّدة، لا يمكن

191

تطبيقه ـ بحسب الخارج ـ على غير المقيّد، إذن، فلا يمكن للعبد العمل به إلّا بأن يكون قادراً على الإتيان بالمقيّد، وقدرته على ذلك فرع وصول الأمر، وإلّا لم يمكنه الإتيان بالمقيّد بغير الابتلاء بالتشريع. وهذا إشكال آخر على الشكل الذي افترضه المحقّق النائينيّ (رحمه الله)من كون الأمر الأوّل متعلّقاً بالمهمل، والثاني بقصد امتثال الأوّل، يرد عليه لو جعل المهمل في قوّة المقيّد. أمّا لو جعله في قوّة المطلق، فقد عرفت أنّه يرجع إلى الشكل الأوّل ولم يكن وجهاً في قباله.

وأمّا الشكل الثالث لتعدّد الأمر في مقابل الشكلين السابقين، فهو ما اقترحه المحقّق العراقيّ (رحمه الله)، وذلك: أنّ الشكلين السابقين كانا مجتمعين في خصيصة واحدة، وهي: أنّ هناك جعلين ومجعولين. وهذا الشكل الثالث يختلف عنهما في أنّه يرى تعدّد الأمر لا تعدّد الجعل، فهناك أمران طوليّان: أحدهما تعلّق بذات العمل، والآخر تعلّق بقصد الأمر، ويكون الأمر الأوّل مأخوذاً في موضوع الثاني، فالأمر الأوّل موضوعه متحقّق بغضّ النظر عنه، وهو يحقّق موضوع الأمر الثاني، والتعدّد إنّما هو في المجعول دون الجعل. فهذان الأمران على رغم طوليّتهما مجعولان بجعل واحد، فإنّ الطوليّة بين المجعولين لا تنافي عرضيّتهما في مقام الجعل وكونهما مجعولين بجعل واحد، وشَبَّه(قدس سره) ذلك بمثل خطاب «صدّق العادل» بالقياس إلى الأخبار مع الواسطة، وقد مضى شرحه فيما سبق، حيث إنّ المحقّق العراقيّ (رحمه الله) ذكر هذا المطلب في موضعين(1): أحدهما هذا الموضع، وهو تصوير الواجب التعبّديّ بتعدّد الأمر، والثاني فيما مضى من تصوير ردٍّ على الوجه الثاني من الوجوه التي اخترناها في مقام بيان استحالة أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر.



(1) ورد هذا في نهاية الأفكار في موضعين: الأوّل في ص 190 ـ 191، والثاني في ص 196 ـ 197 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

192

وقد وضّحنا هناك: أنّ هذا لا يمكن تتميمه سواء فرض الأمران ضمنيّين أو استقلاليّين، فراجع.

على أنّ فرض تعدّد الأمر بهذا الشكل الثالث ـ وهو فرض تعدّد المجعول مع وحدة الجعل ـ لا يختلف عمّا مضى من فرض التعدّد حتّى في الجعل في الإشكالات الواردة عليه، أي: أنّ الوجه الثالث والرابع من الوجوه التي أخترناها لإثبات استحالة أخذ قصد الأمر في متعلّقه واردان على فرضيّة تعدّد الأمر كما مضى توضيحه، ومجرّد كونهما بجعل واحد لا يكون علاجاً لذلك كما هو واضح.

وكأنّ المحقّق العراقيّ (رحمه الله) عدل عن فرض تعدّد الجعل إلى فرض وحدة الجعل لكون فرض وحدة الجعل هو الأمر العرفيّ في الواجبات التعبّديّة دون تعدّده، وسوف نوضّح نحن كيف يمكن تصوير الواجب التعبّديّ خالياً من الإشكالات بنحو ينسجم مع التصوّر العرفيّ.

الوجه الثالث للفرق بين التعبّديّ والتوصّليّ

الوجه الثالث: ما يظهر من عبارة صاحب الكفاية(1): من أنّ الأمر التوصّليّ والتعبّديّ كلاهما متعلّقان بذات الفعل، إلّا أنّ الأمر التوصّليّ يكفي في حصول الغرض منه مجرّد الإتيان بمتعلّقه، فيسقط، وأمّا الأمر التعبّديّ فيبقى بشخصه بعد الإتيان بمتعلّقه من دون قصد القربة؛ لأنّ الغرض منه لا يحصل خارجاً إلّا بالإتيان بمتعلّقه مع قصد القربة، وسقوط الأمر يتبع حصول الغرض لا مجرّد الإتيان بمتعلّقه.

ويرد عليه: أنّ عدم سقوط الأمر بالإتيان بمتعلّقه مستحيل؛ فإنّه إذا أتى بمتعلّقه



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 107 بحسب طبعة المشكينيّ.

193

خارجاً، قلنا: إنّ الأمر كان متعلّقاً بالجامع بين الفرد الذي أتى به والأفراد الاُخرى، فبعد أن أتى بالفرد الأوّل إن فرضنا أنّ ذلك الأمر لا يزال متعلّقاً بالجامع بين ذلك الفرد وباقي الأفراد، فهذا الأمر يستحيل داعويّته إلى الإتيان بالجامع في ضمن فرد آخر؛ لأنّ متعلّقه حاصل، وطلب الحاصل محال، فلا محالة يكون الأمر ساقطاً (ولو بمعنى سقوط محرّكيّته على ما هو التحقيق في معنى سقوط الأمر). وإن فرضنا أنّه يتعلّق بالجامع بين باقي الأفراد دون الفرد الأوّل، كان معنى ذلك سقوط الأمر الأوّل؛ لأنّ شخص الأمر يتقوّم بشخص متعلّقه وحدوده.

وقد اتّضح بكلّ ما ذكرناه في مقام التعليق على هذه الوجوه للفرق بين الأمر التعبّديّ والتوصّليّ: أنّه لا يمكن التفرقة بين الأمر التعبّديّ والأمر التوصّليّ من ناحية المتعلّق، سواء كان بأمر واحد ينبسط على قصد القربة أو بمتمّم الجعل، بل الأمر سواء كان تعبّديّاً أو توصّليّاً إنّما يتعلّق بذات الفعل.

كما اتّضح أيضاً: أنّ الأمر إذا تعلّق بذات الفعل فشخص ذلك الأمر يسقط ـ لا محالة ـ بالإتيان بذات الفعل؛ لأنّه متعلّق بالجامع بين ما أتى به وما لم يؤتَ به، وهذا الجامع حاصل، فعلى أيّ حال يسقط ذلك الأمر، سواء كان ذلك توصّليّاً أو تعبّديّاً، ومن هنا ننتقل إلى الوجه الرابع من وجوه الفرق بين الأمر التعبّديّ والتوصّليّ، فنقول:

الوجه الرابع للفرق بين التعبّديّ والتوصّليّ

الوجه الرابع: هو الوجه المختار، وهو أنّ الأمر التوصّليّ كان ناشئاً من غرض في ذات الفعل بلا حاجة إلى قصد القربة، فحينما يسقط بشخصه بإتيان ذات الفعل من دون قصد الامتثال لا يتولّد أمر جديد بالفعل؛ لأنّ الغرض حصل بلا حاجة إلى قصد الامتثال. وأمّا الأمر التعبّديّ فهو أمر ناشئ من غرض لا يُستوفى إلّا بالإتيان

194

بالحصّة القربيّة خاصّة، فهو وإن كان يتعلّق بذات الفعل لما تقدّم من البراهين، ويسقط شخصه بالإتيان بذات الفعل؛ لاستحالة طلب الحاصل، لكن يتولّد أمر جديد بذات الفعل إن كان قد أتى بغير الحصّة القربيّة، فإن أتى في المرّة الثانية بالحصّة القربيّة، فهو، وإلّا تولّد أمر ثالث به بعد موت الأمر الثاني، وهكذا إلى أن يأتي بالحصّة القربيّة.

والسرّ في تولّد الأمر مرّة اُخرى بعد الفعل هو: أنّ الغرض باق وغير مستوفىً، فكما دعا هذا الغرض المولى من أوّل الأمر إلى أن يأمر كذلك بلحاظ الآن يدعوه إلى الأمر، إلّا أنّ هذا الأمر الجديد لا يتعلّق بالجامع بين الفرد الذي أتى به وباقي الأفراد، ليستحيل محرّكيّته من باب استحالة طلب الحاصل، بل يأمر المولى بالطبيعة بقيد أن تكون بغير ذلك الفرد، فيقول مثلا: «صلِّ صلاة اُخرى» حتّى تكون لهذا الأمر داعويّة ومحرّكيّة.

وهذا الوجه من الفرق يشترك مع الوجه الثالث في دعوى: أنّ الأمر نشأ من الغرض في حصّة خاصّة من الفعل، وهو الفعل القربيّ، ولكنّه متعلّق بذات الفعل، إلّا أنّه يختلف عنه في أنّه كان يقال في الوجه الثالث ببقاء شخص الأمر إلى أن يحصل الغرض بالإتيان بالفعل بقصد القربة، بينما هنا نقول بتجدّد الأمر وتبدّله إلى أمر آخر، لا بقاءه بشخصه، كما يشترك مع الوجه الثاني في دعوى تعدّد الأمر، إلّا أنّه غير تعدّد الأمر بالمعنى الذي جاء في ذلك الوجه، فإنّ ذلك كان عبارة عن تعلّق الأمر الثاني بقصد القربة، بينما نقول هنا: إنّ الأمر الثاني يتولّد إذا أتى بالحصّة غير القربيّة، ويتعلّق بذات الفعل كالأمر الأوّل، وكذلك يتولّد أمر ثالث ورابع، وهكذا تتبادل الأوامر مادام يأتي بالحصّة غير القربيّة إلى أن يأتي بالحصّة القربيّة.

فإن قلت: كيف يتعلّق الأمر بذات الفعل مع أنّ المفروض أنّ ذات الفعل ليس

195

محبوباً، وإنّما المحبوب هو الفعل القربيّ، والأمر يجب أن يتعلّق بالمحبوب حتّى يحرّك نحو المحبوب.

قلت: أوّلا: أنّنا لو سلّمنا ذلك فإنّما نسلّمه في غير مثل المقام الذي يكون نفس تحريك الأمر فيه موجداً للمحبوب، فالأمر عادةً يجب تعلّقه بالمحبوب حتّى يحرّك نحو المحبوب، ولكن لو اتّفق صدفةً: أنّ متعلّقه وإن لم يكن وحده محبوباً، لكن نفس تحريك الأمر كان كفيلا بإيجاد الجزء الآخر الذي به يتمّ المحبوب، فهنا لا إشكال في الأمر بذلك الفعل والتحريك نحوه، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنّ الأمر إذا حرّك العبد نحو الصلاة، حصل المحبوب؛ إذ الصلاة المأتيّ بها بتحريك الأمر صلاة قربيّة، وهي المحبوب.

وثانياً: أنّه لم تنزل آية أو رواية تدلّ على أنّ الأمر يجب أن يتعلّق بالمحبوب، بل يكفي عقلاً تعلّقه بما يحتمل حصول المحبوب به، مثلا لو أراد المولى كتاب الوسائل من مكتبته والعبد لا يعرف كتاب الوسائل بالضبط، فالمولى يقول: جئني بكتاب من المكتبة، فهو يأمره بذلك برجاء حصول محبوبه به بأن يتّفق صدفةً أن يختار العبد كتاب الوسائل، فالعبد يأتيه بكتاب، فإن اتّفق: أنّ الكتاب كان هو الوسائل، سقط الأمر بشخصه، ولم يتجدّد أمر آخر لحصول الغرض، والمأمور به كان هو جامع الإتيان بالكتاب الذي لم يكن بحدّه الجامعيّ محبوباً، ولم تكن خصوصيّة كتاب الوسائل داخلة تحت هذا الأمر، ولكن مع ذلك صحّ تعلّق الأمر به؛ لاحتمال حصول محبوبه بذلك، وإن اتّفق: أنّه أتى بكتاب آخر غير الوسائل، سقط شخص الأمر لا محالة؛ لتعلّقه بالجامع بين ما أتى به وغيره، لكنه يجدّد المولى أمره، ويأمره بالإتيان بكتاب آخر غير الفرد الأوّل، فإذا أتى صدفةً بالوسائل، سقط الأمر لا إلى بدل، وإلّا أمره بأمر ثالث، وهكذا، فليكن ما نحن فيه من هذا القبيل، فهو يأمر بجامع الصلاة برجاء حصول الحصّة المطلوبة وهي الصلاة

196

القربيّة، فإن حصلت سقط الأمر لا إلى بدل، وإن أتى بحصّة اُخرى كرّر المولى الأمر، وهكذا.

وبكلمة اُخرى: إنّ ما نحن فيه شبيه بما لو فرض: أنّ الأب أمر ابنه الصغير بشيء سهل لا غرض للمولى فيه بداعي أن يعوّده على التحرّك بأوامر أبيه حتّى يستطيع بعد ذلك حمله على الاُمور الشاقّة المفيدة مثلا، فهو يأمره بذلك الشيء وينتظر ليرى: أنّه هل يأتي به بمحرّكيّة الأمر، أو لا، فإن أتى الابن به بمحرّكيّة الأمر، فقد حصل المطلوب، وكان ذلك نوع ترويض للابن، ولو اتّفق صدفةً: أنّ الابن أتى بذلك الشيء بداع آخر غير أمر الأب، اضطرّ الأب إلى أن يأمره مرّة ثانية، وهكذا إلى أن يرى ابنه قد تحرّك بأمره.

والمولى لو كان مع العبد في الأوامر الشخصيّة، وتعلّق غرضه بالعمل العباديّ، أمكنه أن يصل إلى مطلوبه عن طريق أن يأمره بذات العمل ويصبر، فإن أتى صدفةً بالعمل بداع غير قربيّ، يأمره مرّةً اُخرى، وهكذا إلى أن يصل إلى مطلوبه، ولكن في الأوامر الكلّيّة المجعولة بنحو القضايا الحقيقيّة لا يمكن ذلك؛ إذ ليس المولى يمشي مع العبد حتّى يأمره كلّ حين حينما يراه أتى بالعمل لا بقصد القربة، فطريق وصوله إلى المطلوب هو أن يأمره أمراً كلّيّاً، وينصب قرينة عامّة على أنّ هذا الأمر له توجّهات عديدة متى ما أتى العبد بالفعل لا بقصد القربة، فيعرف العبد أنّه لو أتى بالفعل لا بقصد القربة كان للأمر توجّه آخر إليه، وهكذا، فلا يستطيع أن يخرج من عهدة هذا الأمر إلّا بأن يأتي بالعمل بقصد القربة بالرغم من أنّه تعلّق بذات الفعل؛ وذلك لأنّه يتجدّد متى ما أتى بمتعلّقه بلا قصد القربة، فهذا يعطي نفس نتيجة ما لو كان الأمر متعلّقاً بالفعل المقيّد بقصد القربة، ولهذا يصحّ عرفاً أن تبيّن هذه القرينة العامّة بلسان تقييد متعلّق الأمر، فيقال: «صلِّ بقصد القربة»، فهذا تقييد بحسب مقام الإثبات كاشف عن تجدّد الأمر بحسب مقام الثبوت لا تقيّده، فالتجدّد

197

والتقييد متباينان ثبوتاً، والثاني مستحيل، والأوّل ممكن، بل واقع، وهو الفارق الثبوتيّ بين الأمر التعبّديّ والأمر التوصّليّ بالنحو الذي عرفت، ولكن بحسب مقام الإثبات هناك تعبير واحد يصلح أن يكون بياناً لكلّ من هذين المطلبين الثبوتيّين اللذين أحدهما مستحيل وهو التقييد، والآخر ممكن وهو التجدّد، وحيث إنّ التقييد الإثباتيّ بيان عرفيّ للتجدّد، كفى ذلك في الوصول إلى ما هو المهمّ من هذا البحث من نفي القربيّة بالإطلاق، كما سوف يأتي حينما ندخل في صلب البحث.

والمتحصّل من كلّ ما ذكرناه: أنّ الأمر التعبّديّ من زاوية عالم الثبوت والحقيقة عبارة عن الأمر المتجدّد بالتفصيل الذي عرفت، ومن زاوية عالم الإثبات عبارة عن الأمر المتقيّد بقصد القربة. هذا.

وبالإمكان أن يقال: إنّ التقييد الثبوتيّ بقصد القربة الذي قلنا: إنّه محال ليس محالا على الإطلاق ومن كلّ آمر، بل هو محال استحالة مقيّدة. وتوضيح ذلك: أنّ بعض المحالات مستحيل من أيّ فاعل كالجمع بين الضدّين، فإنّه مستحيل من أيّ فاعل ذكيّاً كان أو بليداً، مطّلعاً على بعض الاُمور أو لا، وهناك بعض استحالات تختصّ ببعض الأشخاص، مثلا العبد المشلول يستحيل توجّه الأمر إليه من قبل المولى الذي يعرف أنّه مشلول، ولكن لا يستحيل من مولىً يتخيّل أنّه في تمام الصحّة والسلامة.

فهل الاستحالة فيما نحن فيه استحالة مطلقة، أو مقيّدة؟

لابدّ أن ننظر إلى براهين هذه الاستحالة لكي نعرف أنّها مطلقة أو مقيّدة، فنقول: قد مضى منّا اختيار براهين أربعة لإثبات استحالة أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر، والبرهان الثاني وهو لزوم التهافت في اللحاظ ينتج استحالة مطلقة، فإنّ التهافت في اللحاظ مستحيل من أيّ شخص كان، وأمّا إذا تخلّصنا من هذا البرهان ولو

198

بحمل الأمر على طبيعيّ الأمر، فنبقى نحن وباقي البراهين، وهي تنتج استحالة مقيّدة:

أمّا البرهان الأوّل، فكان حاصله: أنّه يلزم أخذ نفس الأمر ـ على حدّ تعبير المحقّق النائينيّ (رحمه الله) ـ أو أخذ وصوله ـ على حدّ تعبيرنا ـ في موضوع الأمر، وإنّما كان يلزم ذلك لئلاّ يلزم التكليف بغير المقدور، فكان يقال مثلا: إنّ الأمر من قبيل القبلة، فكما أنّ القبلة أمر غير اختياريّ لابدّ من فرضه مفروض الوجود في الموضوع كذلك الأمر، فببرهان استحالة التكليف بغير المقدور لابدّ من تقييد الأمر، ومن الواضح: أنّ هذا إنّما يأتي في حقّ مولىً التفت إلى هذه النكتة كالشارع الذي لا تخفى عليه خافية، أو كالاُصوليّ الدقيق الملتفت إلى هذه النكات، وأمّا إذا كان المولى من قبيل العلماء الذين لم يلتفتوا إلى ذلك فضلاً عن الإنسان العرفيّ العاديّ، فلا يستحيل صدور الأمر منه بالعمل القربيّ بقيد القربة من دون أخذ الأمر أو وصوله في موضوع الحكم؛ إذ لا يدري أنّ هذا تكليف بغير المقدور.

وأمّا البرهان الثالث والرابع، فأيضاً حالهما حال البرهان الأوّل؛ إذ قد وضّحنا فيهما: أنّ الأمر المتعلّق بقصد القربة يستحيل محرّكيّته، فكلّ مولىً التفت إلى ذلك استحال منه جعل هذا الأمر، أمّا من خُيّل له بسذاجيّته العرفيّة أنّ الأمر الضمنيّ المتعلّق بقصد القربة حاله حال الأمر الضمنيّ المتعلّق بالركوع والسجود يكون محرّكاً، فيعقل صدور الأمر منه بداعي التحريك وإن كان العبد خارجاً لا يتحرّك إلّا من الأمر الضمنيّ الآخر، وهو الأمر بأصل الفعل دون الأمر بقصد الأمر.

إذن، فهذه التقريبات كلّها تنتج الاستحالة في حقّ الملتفت إلى هذه النكات، فصحّ أن نقول: إنّ أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر ثبوتاً معقول من الإنسان العرفيّ وإن كان غير معقول من الاُصوليّ الدقيق والشارع، وهذا يؤكّد أنّ المولى الدقيق وإن كان يعرف دقّةً أنّ الصحيح هو التجدّد لا التقييد، ولكن من حقّه إثباتاً أن يتكلّم بلسان التقييد؛ حيث إنّ المولى العرفيّ في مقام البيان يتابع العرف.

199

هل الأصل في الواجبات التعبّديّة أو التوصّليّة؟

وبعد هذا ننتقل إلى صلب البحث، وهو: أنّ الأصل في الواجبات هل هو التعبّديّة أو التوصّليّة؟

والكلام يقع في مقامين: أحدهما في الأصل اللفظيّ، والآخر في الأصل العمليّ:

الأصل اللفظيّ:

أمّا المقام الأوّل: وهو الكلام في الأصل اللفظيّ، فيقع البحث فيه في مرحلتين: الاُولى في الإطلاق اللفظيّ، والثانية في الإطلاق المقاميّ:

الإطلاق اللفظيّ:

أمّا المرحلة الاُولى: وهي الإطلاق اللفظيّ، فنقول:

أمّا على مسلك من قبيل مسلك السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ القائل بمعقوليّة أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر، وأنّه بذلك يختلف التعبّديّ عن التوصّليّ، فلا إشكال في تماميّة الإطلاق اللفظيّ لنفي التعبّديّة؛ فإنّ حالها حال بقيّة القيود والأجزاء التي تنفى بالإطلاق كما هو واضح.

وأمّا على مسلكنا: من أنّ الأمر التعبّديّ كالتوصّليّ متعلّق بذات الفعل، وإنّما يختلف عنه في تجدّد الأمر إذا لم ياتِ بقصد القربة بالنحو الذي عرفت، فأيضاً يتمّ التمسّك بالإطلاق اللفظيّ لنفي التعبّديّة، وذلك بأحد تقريبين:

الأوّل: أنّ قصد القربة وإن لم يكن قيداً في متعلّق الأمر ثبوتاً، لكنّه يعتبر قيداً له إثباتاً، ويكون بيان التجدّد في نظر العرف وبلسان عرفيّ بالتقييد، إذن فالعرف يجري مقدّمات الحكمة لنفي هذا القيد، وبذلك تثبت التوصّليّة.

200

الثاني: أنّه حتّى لو فرض: أنّ بيان هذا التجدّد في الأمر التعبّديّ ليس بلسان التقييد إثباتاً، وفرض: أنّ العرف يفرّق بين التقييد بقصد القربة وتجدّد الأمر، ويبيّن كلاًّ منهما إثباتاً ببيان خاصّ، قلنا: إنّ هذا التجدّد يعتبر مؤونة زائدة تحتاج إلى بيان زائد. وأمّا أصل الأمر فلا يقتضي أزيد من طلب الطبيعة بنحو صرف الوجود، فافتراض اشتمال الخطاب على أوامر متبادلة مطلب إضافيّ يحتاج إلى بيان إضافيّ، وحينما يقتصر المتكلّم على مجرّد ذكر الأمر الذي لا يتطلّب أزيد من طلب الطبيعة بنحو صرف الوجود ينفى التجدّد بالإطلاق ومقدّمات الحكمة، وأصالة التطابق بين عالم الثبوت والإثبات، وذلك يكون من سنخ تعيين طلب صرف الوجود في مقابل طلب مطلق الوجود في صيغة الأمر بمقدّمات الحكمة.

وأمّا على مسلك التفصيل بين خصوص قصد الأمر وجامع قصد القربة، وأنّ الأوّل لا يعقل أخذه في متعلّق الأمر والثاني يعقل أخذه فيه، فلا إشكال في أنّه ينفى أخذ جامع قصد القربة في متعلّق الأمر بالإطلاق؛ لأنّ حاله حال سائر القيود. وأمّا أخذ خصوص قصد الأمر، فأيضاً يمكن نفيه بالإطلاق من باب: أنّه لو كان دخيلا ولا يمكن للمولى أخذه، كان عليه أن يأخذ ـ على الأقلّ ـ جامع قصد القربة إن كان في مقام البيان؛ لأنّ هذا ممكن له، وبذلك يقترب إلى مطلوبه الحقيقيّ، فعدم أخذ هذا الجامع في مقام الإثبات يشكّل ظهوراً إطلاقيّاً في أنّه لا جامع القربة دخيل في المقصود ولا خصوص قصد الأمر.

نعم، لو أخذ جامع القربة، فقال مثلا: «صلِّ بنيّة حسنة»، واحتملنا دخل خصوص قصد الأمر، لم يمكن نفيه بالإطلاق على ما يأتي إن شاء الله.

وأمّا على مسلك صاحب الكفاية والمشهور: من أنّ الأمر التعبّديّ فرقه عن التوصّليّ ـ مع كونهما متعلّقين بذات الفعل ـ هو: أنّ الأمر التعبّديّ نشأ من غرض لا يحصل إلّا مع قصد القربة، فلا يسقط الأمر بمجرّد الإتيان بذات الفعل، فهل

201

يمكن التمسّك بالإطلاق اللفظيّ لنفي التعبّديّة، أو لا؟

هنا ثلاثة اعتراضات رئيسة على التمسّك بالإطلاق:

الاعتراض الأوّل: أنّه لا يمكن أن يستكشف من إطلاق الخطاب وعدم تقييده إطلاق الأمر ثبوتاً؛ لأنّه بعد أن استحال تقييد الأمر ثبوتاً بالتعبّديّة استحال الإطلاق ثبوتاً، ومن هنا ندخل في أنّ استحالة التقييد هل توجب استحالة الإطلاق، أو لا؟ فنقول:

إنّ دعوى: كون استحالة التقييد مستلزمة لاستحالة الإطلاق لها صيغتان:

الصيغة الاُولى: أن يقال: إنّه إذا استحال تقيّد الحكم بقيد من القيود، استحال شمول الحكم لذلك المقيّد بالإطلاق أيضاً، وهذه الكبرى تامّة في بعض ملاكات استحالة التقييد، وغير تامّة في بعضها.

وتوضيح ذلك: أنّ استحالة التقييد لها عدّة ملاكات:

الأوّل: عدم صلاحيّة ذات المقيّد لكونه موضوعاً للحكم، من قبيل تقييد الصلاة بالعاجز، فإنّ ذلك مستحيل، وملاك الاستحالة: أنّ ذات العاجز يستحيل أن يقع موضوعاً للأمر، وهذا الملاك كما يوجب استحالة التقييد يوجب استحالة الإطلاق في عرض استحالة التقييد، أي: أنّ الإطلاق والتقييد مستحيلان بنكتة واحدة، وهي: كون ذات المقيّد غير قابل لثبوت الحكم عليه، فكما لا يمكن ثبوت الحكم عليه بالخصوص كذلك لا يمكن شمول الحكم له بالإطلاق، بأن يحكم مثلا بالصلاة على مطلق المكلّف سواء كان قادراً على الصلاة أو عاجزاً عنها.

الثاني: عدم مقسميّة الطبيعة من قبيل تقييد حرمة شرب الخمر بالخمريّة، فإنّ هذا مستحيل، فإنّ الخمر ليس مقسماً للخمريّة وعدم الخمريّة. وهذا الملاك أيضاً بنفسه يوجب استحالة الإطلاق كما يوجب استحالة التقييد، فلا يمكن أن تكون حرمة شرب الخمر شاملةً لفرض الخمريّة بالإطلاق كما لا يمكن أن تكون مختصّة

202

به بالتقييد، فكما لا يمكن أن يقال: «يحرم شرب الخمر إذا كان خمراً» كذلك لا يمكن أن يقال مثلا: «يحرم شرب الخمر سواء كان خمراً أو لا»، فإنّ الإطلاق والتقييد كليهما فرع كون الطبيعة مقسماً لوجود القيد وعدمه.

الثالث: استحالة نتيجة التقييد، وهي قصر الحكم على المقيّد وحبسه عليه، من قبيل أن يقال مثلا: إنّ الخطاب بالفروع لا يمكن أن يقيّد بخصوص الكفّار؛ لأنّه لو قيّد بذلك لزم قصر الحكم على الكافر. وهذا ينتج لغويّة الخطاب؛ لأنّ الكافر منكر للأساس، فيكون الخطاب مستهجناً.

وهذا الملاك غير موجود في الإطلاق؛ إذ ملاك الاستحالة هو قصر الحكم وحبسه، وهو غير ثابت في الإطلاق، فمثلا لو أوجب الصلاة بنحو يشمل الكافر والمسلم، لم يكن مستهجناً.

ولا يخفى: أنّ الوجه الأوّل من الوجوه الأربعة التي اخترناها لاستحالة أخذ قصد الأمر في متعلّقه راجع إلى استحالة نتيجة التقييد، حيث إنّ الحكم يصبح مقصوراً على فرض وجود الأمر ـ على حدّ تعبير المحقّق النائينيّ ـ أو على فرض وصوله ـ على حدّ تعبيرنا ـ ويتوقّف عليه، وذلك يستلزم الدور مثلا.

الرابع: أن يكون ملاك الاستحالة قائماً بالتقييد بما هو تقييد بقطع النظر عن نتائجه ومقدّماته، كأن يقال: إنّ تقييد الحكم بخصوص العالم به مستحيل بناءً على ما يقال: من أنّ العلم بالحكم لا يعقل أخذه في موضوع ذلك الحكم، فالمحذور ليس في أنّ ثبوت الحكم لذات العالم مستحيل، وإنّما المحذور في نفس التقييد، وعندئذ إن قلنا: إنّ الإطلاق عبارة عن الجمع بين القيود، فقد يقال باستحالة الإطلاق؛ لأنّ الإطلاق هو كلّ التقييدات، ومنها هذا التقييد المستحيل.

وبكلمة اُخرى: إنّ المحال عبارة عن لحاظ القيد الفلانيّ، ولا يختلف الحال في ذلك بين أن يلحظ ذلك القيد وحده أو يلحظ ذلك القيد ويلحظ نقيضه أيضاً، لكن

203

على ما هو الحقّ: من أنّ الإطلاق عبارة عن تعرية الخطاب عن التقييدات، فملاك استحالة التقييد لا يوجب استحالة الإطلاق؛ لأنّ الإطلاق لا يستلزم لحاظ القيد الذي يكون لحاظه مستحيلا. هذا.

وإنّما قلنا: إنّه بناءً على أنّ الإطلاق عبارة عن الجمع بين القيود قد يقال باستحالة الإطلاق، ولم نقل: إنّه بناءً عليه يستحيل الإطلاق حتماً؛ لأنّ في ذلك تفصيلا. توضيحه: أنّ القول بأنّ الإطلاق جمع بين القيود ينبغي أن يكون المقصود منه: أنّه جمع بين القيود في مقام اللحاظ، أي: يلحظ كلّ القيود حتّى ينتج نفي دخل أيّ قيد من القيود، لا أنّه جمع بين القيود في مقام التقييد حقيقة؛ إذ هذا واضح البطلان. وإن شئت فعبّر بأنّ الإطلاق جمع بين القيود تصوّراً ولحاظاً لا تصديقاً، وعندئذ فملاك الاستحالة إن كان قائماً بالتقييد تصوّراً ولحاظاً كما هو الحال في الوجه الثاني من الوجوه التي اخترناها لاستحالة أخذ قصد الأمر في متعلّقه الذي كان عبارة عن لزوم التهافت في اللحاظ، لزم كون الإطلاق أيضاً مستحيلا بنفس الملاك. وإن كان قائماً بالتقييد تصديقاً كما هو الحال في الوجهين الأخيرين من الوجوه المختارة لاستحالة أخذ قصد الأمر في متعلّقه اللذين مرجعهما إلى استحالة المحرّكيّة نحو قصد الأمر، فهذا الملاك لا يسري إلى الإطلاق.

هذا تمام الكلام في كبرى استحالة الإطلاق عند استحالة التقييد بصيغتها الاُولى. هذا.

ومن أثبت استحالة تقييد متعلّق الأمر بقصد القربة لا يمكنه أن يستفيد بذلك من هذه الكبرى، أي: كبرى أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة شمول الحكم لذات المقيّد بالإطلاق لإثبات عدم إمكان نفي التعبّديّة بالإطلاق؛ فإنّه لو فرضنا: أنّ ملاك استحالة التقييد في المقام هو أحد الملاكين الأوّلين المقتضيين لاستحالة

204

شمول الحكم لذات المقيّد بالإطلاق، وغضضنا النظر عن أنّ ملاك استحالة التقييد بكلّ براهينها الماضية إنّما يرجع إلى أحد الملاكين الأخيرين غير المقتضيين لاستحالة الإطلاق، قلنا: إنّ هذا لا يفيد لإثبات المدّعى من عدم إمكان نفي التعبّديّة بالإطلاق، فإنّ استحالة التقيّد بالتعبّد تنتج بناءً على هذه الصيغة استحالة شمول الحكم للحصّة التعبّديّة، بينما المقصود: إنّما هو إثبات استحالة نفي التعبّديّة بالإطلاق، وأنت ترى أنّ شمول الحكم للحصّة التعبّديّة غير نفي التعبّديّة بالإطلاق.

نعم، كان بالإمكان الاستفادة من هذه الكبرى لإثبات المدّعى عن غير طريق إثبات استحالة تقييد الأمر بالتعبّديّة، وذلك بأن يقال: إنّ تقييد الأمر بعدم صدور الفعل بالداعي القربيّ مستحيل؛ إذ يلزم منه لغويّة الأمر، إذن فشمول الأمر بالإطلاق لهذا المقيّد وهو العمل غير القربيّ مستحيل، وعليه، فلا يمكن إثبات التوصّليّة ونفي التعبّديّة بالإطلاق، وبهذا يتوصّل إلى النتيجة من دون إتعاب النفس في سبيل إثبات استحالة تقييد متعلّق الأمر بقصد القربة، إلّا أنّ ملاك الاستحالة إنّما هو أحد الملاكين الأخيرين دون الأوّلين، فلا تثبت بذلك استحالة الإطلاق.

الصيغة الثانية: هي الصيغة التي طرحها المحقّق النائينيّ (رحمه الله)(1)، وهي: أنّ استحالة التقييد بشيء تستلزم استحالة الإطلاق النافي لخصوصيّة ذلك القيد الموجب لشمول نقيضه، وهذا غير استحالة الإطلاق بمعنى شمول ذات المقيّد التي هي الصيغة الاُولى كما هو واضح، وهذه الصيغة لو تمّت كبراها تثبت المدّعى في



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 105 ـ 110، وص 113 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 146 ـ 152، وص 155 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

205

المقام بعد فرض استحالة التقييد بالقربة، وهو عدم إمكان نفي القربيّة بالإطلاق؛ لأنّ التقييد بالقربيّة مستحيل، فنفي هذا القيد وشمول الحصّة التوصّليّة أيضاً مستحيل، وهو المطلوب.

أمّا لماذا تستلزم استحالة التقييد بالقربة استحالة الإطلاق بهذا المعنى، فهذا ما يمكن بيانه بعدّة بيانات:

البيان الأوّل: أن يقال: إنّ استحالة التقييد توجب استحالة الإطلاق، لا من باب: أنّ نفس ملاك استحالة التقييد يوجب استحالة الإطلاق أيضاً في عرض استحالة التقييد كما كنّا نقوله في الصيغة الاُولى، ونقوله في البيانين التاليين، بل بنكتة تكون عبارة المحقّق النائينيّ (رحمه الله) نصّاً فيها، وهي: أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة، فالإطلاق هو عبارة عن عدم التقييد في موضع قابل للتقييد، فإذا استحال التقييد، استحال الإطلاق.

البيان الثاني: ما يستلمح من كلمات المحقّق النائينيّ (رحمه الله) أيضاً وإن لم يكن كلامه نصّاً فيه، وهو أن يقال: إنّ التقييد بشيء وكذلك الإطلاق بمعنى رفض ذلك القيد فرع مقسميّة الطبيعة لواجد القيد وفاقده، فإن لم تكن مقسماً لذلك، استحال أخذ القيد، واستحال رفضه، والطبيعة لا تقبل الانقسام إلى ما يؤتى بها بقصد الأمر وما يؤتى بها لا بقصد الأمر إلّا في طول الأمر، وفي المرتبة السابقة على الأمر لا تكون الطبيعة مقسماً لذلك حتّى يعقل تعلّق الأمر بها مقيّدة بقصد الأمر أو مطلقة، والانقسامات التي تكون من هذا القبيل تسمّى بالانقسامات المتأخّرة في مقابل مثل انقسام الصلاة إلى الصلاة في البيت والصلاة في المسجد أو في مكان آخر الذي يتصوّر بغضّ النظر عن الأمر.

وهذا بيان ثان لا يتوقّف على دعوى: أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة.

206

البيان الثالث: مبنيّ على أمرين:

1 ـ إنّ الإطلاق عبارة عن الجمع بين القيود في عالم التصوّر واللحاظ، بمعنى: أنّه عبارة عن إسراء الحكم إلى تمام الحالات من قبيل العموم، بحيث إنّ الحالات بما هي حالات منظور إليها في المرتبة السابقة على الحكم كما في «أكرم كلّ عالم»، حيث تلحظ فيه الحصص والأفراد أوّلا، ثُمّ يجرى عليها الحكم ثانياً.

2 ـ إنّ المحذور في أخذ قصد القربة قيداً في متعلّق الأمر هو محذور لحاظيّ، وهو: أنّ المولى يستحيل أن يلحظ قصد القربة في مرتبة معروض الأمر؛ لأنّ قصد الأمر يرى في طول الأمر، فلا يمكنه لحاظه في مرتبة سابقة عليه؛ للزوم التهافت في اللحاظ، إذن فالتقييد مستحيل للزوم التهافت في اللحاظ، والإطلاق أيضاً مستحيل؛ لأنّه عبارة عن الجمع بين القيود، فأيضاً يلزم لحاظ قصد الأمر قبل الأمر الذي قد فرضنا استحالته.

وهذه التقريبات كلّها باطلة:

أمّا التقريب الثالث: فلبنائه على مقدّمة غير صحيحة(1)، وهي: كون الإطلاق



(1) هذه مناقشة في المقدّمة الاُولى، وأمّا المناقشة في المقدّمة الثانية بمنع كون المحذور هو المحذور اللحاظيّ؛ لافتراض: أنّ العبادة إنّما تحتاج إلى قصد مطلق الأمر لا قصد خصوص شخص الأمر، أو لافتراض: أنّ العبادة إنّما تحتاج إلى جامع القصود القربيّة مثلا، فيمكن غضّ النظر عنها هنا؛ لأنّه ليس المقصود هنا التكلّم في أصل مبنى استحالة أخذ قيد القربة في المقام، وأنّ هذه الاستحالة بأيّ ملاك هي.

بل بالإمكان أن يقال: إنّه مع فرض الإطلاق عبارة عن الجمع بين القيود في اللحاظ كما هو مقتضى المقدّمة الاُولى لا ينفع في مقام دفع المحذور افتراض: أنّ قصد القربة هو جامع قصد الأمر، أو جامع القصود القربيّة لا خصوص قصد شخص هذا الأمر؛ فإنّ هذا بنفسه إطلاق بلحاظ أقسام قصد الأمر، أو قصد القربة التي منها قصد شخص هذا الأمر، والمفروض: أنّ الإطلاق جمع بين القيود في اللحاظ، فيرجع المحذور؛ لأنّه لزم بالتالي لحاظ قصد شخص الأمر.

207

جمعاً بين القيود، بل الإطلاق قصر النظر على الطبيعة من دون ملاحظة أمر زائد، وقد ذكرنا في بحث المطلق والمقيّد الفرق بين العموم والإطلاق، وأنّه في الأوّل يلحظ الحصص، وفي الثاني يلحظ ذات الطبيعة مع رفض القيود.

وأمّا التقريب الثاني: وهو عدم مقسميّة الطبيعة قبل الأمر للعمل بقصد الأمر والعمل بلا قصد الأمر، فيرد عليه: أنّه لو كان برهان استحالة أخذ قصد الأمر قيداً في متعلّق الأمر عدم المقسميّة، لصحّ أن يقال: إنّه لا يتمّ الإطلاق أيضاً في مقابل التقييد بقصد الأمر، ولكن لو قبلنا استحالة التقييد، فإنّما هو بأحد البراهين الأربعة الماضية.

وأمّا القول بأنّ الطبيعة في المرتبة السابقة ليست مقسماً لقصد الأمر وعدمه، وإنّما التقسيم في طول الأمر، فغير صحيح، فإنّ ما في طول الأمر إمكان وقوع القسمين خارجاً لا المقسميّة المفهوميّة، فالطبيعة في المرتبة السابقة عن عروض الأمر عليها ـ وبغضّ النظر عن الأمر ـ لا يمكن وجود حصّتين منها خارجاً: إحداهما بقصد الأمر، والاُخرى لا بقصد الأمر؛ إذ المفروض عدم الأمر، وإنّما يمكن ذلك بعد الأمر. وأمّا انقسام الطبيعة مفهوميّاً بمعنى مصداقيّة كلّ من الحصّتين للطبيعة، لا بمعنى الوجود خارجاً، فهذا ثابت قبل الأمر؛ فإنّ الحصّة المأتيّ بها بقصد الأمر صلاة على أيّ حال، والحصّة المأتيّ بها لا بقصد الأمر أيضاً صلاة على أيّ حال، ومصداقيّة كلّ من الحصّتين للطبيعة مفهوماً ذاتيّة لها وليست في طول الأمر، ومناط المقسميّة هو مصداقيّة الحصّتين للطبيعة مفهوماً وذاتاً، لا إمكان الوجود خارجاً.

وأمّا التقريب الأوّل: وهو دعوى استحالة الإطلاق باستحالة التقييد؛ لكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة، فيمكن الاعتراض عليه بعدّة إشكالات، أهمّها إشكالان:

208

الإشكال الأوّل: الجواب الحلّيّ، وهو: أنّنا ننكر كون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة.

وتوضيح ذلك: أنّه في الواقع ليست المسألة مسألة لغويّة كما في شرح مدلول كلمة «الأعمى» لغةً لنرجع إلى اللغة أو العرف لنرى: هل معنى الإطلاق عدم التقييد مطلقاً، أو عدمه في مورد قابل للتقييد، وإنّما المسألة مسألة واقعيّة، وهي: أنّه ما هي تلك النكتة التي بها يحصل سريان الطبيعة إلى تمام الأفراد؟ وهي التي نسمّيها بالإطلاق، وقد مضى: أنّ في ذلك مسلكين:

أحدهما: أنّ القابليّة الشأنيّة للطبيعة للانطباق هي المقتضية للسريان، إلّا أنّها قد تقترن بمانع، وهو لحاظ القيد، ومع عدم المانع يؤثّر المقتضي أثره. إذن فالمقتضي للسريان دائماً محفوظ، فإنّه ذاتيّ للطبيعة لا يمكن سلخه عنها، فيكفي في حصول الإطلاق عدم المانع، أي: عدم لحاظ القيد الذي هو نقيض لحاظ القيد من دون فرق بين إمكان التقييد وعدمه، فالتقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب، لا تقابل العدم والملكة، ومع استحالة التقييد ثبوتاً يتعيّن الإطلاق ثبوتاً.

وثانيهما: أنّ قابليّتها الذاتيّة للانطباق لا تقتضي الانطباق، بل لابدّ من لحاظ التطبيق الفعليّ حتّى تسري بالفعل، وعليه فالتقابل بينهما تقابل التضادّ، لا تقابل العدم والملكة؛ فإنّ التقييد عبارة عن لحاظ القيد، والإطلاق عبارة عن لحاظ عدم القيد ورفضه، فهو أمر وجوديّ في مقابل التقييد، ولا نتصوّر فرضاً ثالثاً للنكتة بحيث يكون التقابل معها تقابل العدم والملكة.

والإشكال الثاني: اعتراض نقضيّ، وحاصله: أنّه لو سلّم: أنّ استحالة التقييد توجب استحالة الإطلاق، ففي محلّ الكلام يوجد تقييدان متقابلان، وفي مقابل كلّ منهما إطلاق: أحدهما تقييد الصلاة بقصد الأمر، والثاني تقييدها بدواع اُخرى. وفي مقابل الأوّل رفض أخذ قصد الأمر، وفي مقابل الثاني رفض أخذ الداعي