46

كانت معلّقة أمامه، وهو يصدر الآهة إثر الآهة، ويجذب الحسرة تلو الحسرة، وبين كلّ لحظة واُخرى تنحدر من عينيه دمعتان كان يكفكفهما بمنديل يحمله بيده، كان يبكي ويتألّم بصمت، وقد لفت نظري كثيراً رغم أنّ كلّ من كانوا في الحفل أغرقتهم فاجعة الذكرى بآلامها وأشجانها، وربّما علا صوت نحيب من هنا أو هناك لبيت شعر من قصيدة شاعر، أو لعبارة من كلمة خطيب تثير في النفوس شجاها، وتحرّك عواطفها وأحاسيسها، إلاّ هذا، فما سمعت منه إلاّ الآهات، والتنهّدات، والأ نّات الخفيّة.

إنّ كلّ الذين كانوا في الحفل أو جلّهم يعرفون الصدر، إمّا عن كثب، أو من خلال جهاده في سبيل إعلاء كلمة الحقّ، إذن لابدّ أن يكون لهذا شأن آخر، هكذا قدّرت، وقد أصاب تقديري، فسألته، وقطعت عليه وجومه، وشرود فكره، وقد جاء سؤالي كمتنفّس له وداع إلى بثّ ما في جنبيه من ألم دفين، وحزن كمين، ويبدو أنّه عرفني، واطمأنّ إلىّ، فراح يحدّثني وبنبرات تقطّعها الآهات والحسرات.

قال بعد تنهُّدة عميقة: إنّ علاقتي بالفقيد علاقة الأخ الكبير بأخيه الصغير الوحيد، كان ذلك في السنوات الأخيرة من الأربعينات يوم كان طالباً في المراحل الاُولى من الدراسة الابتدائيّة، وكنت معلّماً في المدرسة التي كان يتعلّم بها، وهي مدرسة منتدى النشر الدينيّة الابتدائيّة في الكاظميّة، وقد رأيت أنّ هذا التلميذ يوليه المدير عناية خاصّة، ويرعاه رعاية يشوبها الاحترام والتقدير، فعحبت في بادئ

47

الأمر لذلك، وأخيراً اتّضح لي بأنّ هذه العناية لم يكن مبعثها لأنّه ينتمي لعائلة كريمة الحسب عرف كثير من أفرادها، واشتهروا بالعلم، والتقى، والورع، أو لأنّه يتيم فقد أباه وهو بعد صغير لم يبلغ الحلم، ولكنّ عنايته كانت موجهة إليه لأسباب اُخرى. فأحببت أن أتعرّف أكثر على هذا الطفل سيّما وأ نّني حديث عهد بالعلم في المدرسة المذكورة. وشاءت الصدف أن أنفرد بالسيّد المدير، فأستوضح منه عمّا كان يشغل تفكيري بشأن هذا الطفل، فأجابني: أرجو أن ترعاه كما يرعاه زملاؤك من الهيئة التدريسيّة، فقد سبق وأوصيتهم به خيراً؛ لأ نّني أتوسّم فيه أن يكون له مستقبل كبير باعث على التفاخر والاعتزاز بما يقوم به وبالدرجة العلميّة التي أترقّب أنّه سيصلها ويبلغها، فرحت أرقب هذا الطفل عن كثب، فأقرّبه إليّ، وأتحدّث معه كلّما سنحت الفرصة مظهراً إليه حبّي وودّي اللذين نميا مع الأيّام، بل الساعات، فصار محبّاً لي متعلّقاً بي لايفارقني في الصفّ أثناء الدرس أو بعده أثناء فترة الاستراحة.

وقد كان طفلاً يحمل أحلام الرجال، ويتحلّى بوقار الشيوخ، وجدت فيه نبوغاً عجيباً، وذكاءً مفرطاً يدفعانك على الاعتزاز به، ويرغمانك على احترامه وتقديره، كما شهدت كلّ المدرّسين ـ أيضاً ـ يكنّون له هذا الاحترام وهذا التقدير.

لقد كان كلّ ما يُدرَس في هذه المدرسة من كافّة العلوم دون مستواه العقلىّ والفكرىّ، كان شغوفاً بالقراءة، محبّاً لتوسيع دائرة معرفته، ساعياً بجدٍّ إلى تنمية مداركه ومواهبه الفذة، لا تقع عيناه

48

على كتاب إلاّ وقرأه، وفقه ما يحتويه في حين يعزّ فهمه على كثير ممّن أنهوا المرحلة الثانويّة. ما طرق سمعه اسم كتاب في أدب، أو علم، أو اقتصاد، أو تأريخ، إلاّ وسعى إلى طلبه. كان يقرأ كلّ شيء.

وقد حدّثني أحد الزملاء ممّن كان لديهم إلمام بالماركسيّة، واطّلاع على كثير من الكتب التي كتبت فيها قائلاً لي: لقد جاءني يوماً مبدياً رغبته في أن يقرأ بعض الكتب الماركسيّة ونظريّاتها؛ ليطّلع على مكنونات هذه النظريّة، تردّدت في بادئ الأمر عن إرشاده إلى ذلك؛ لأنّه طفل، وخشيت أن تتشبّع أفكاره بالماركسيّة ونظرياتها، وبعد إلحاح منه شديد، ولمّا كنت لااُحبّ ردّ طلبه أرشدته إلى بعض المجلاّت والكتب المبسّطة في كتابتها عن الماركسيّة وفي عرضها لها. وقد أخذت على عاتقي تهيئة ما تيسّر لي من هذه المجلاّت والكتب، وهي نادرة وعزيزة؛ لأنّها كانت آنذاك من الكتب المحرّم بيعها في المكتبات.

وبعد أن تسلّمها منّي تهلّل وجهه فرحاً، ثُمَّ أعادها إلىّ بعد أن قرأها مكرّراً طلبه أن أجد له كتباً أكثر موضوعيّة، وأعمق شرحاً وعرضاً لآراء الماركسيّة، فهيّأت له ما طلب، وكنت أظنّ أنّه سوف لايفقه منها شيئاً؛ لأ نّني أنا نفسي رغم مطالعاتي الكثيرة في هذا الموضوع أجد أحياناً صعوبة في فهمها. وبعد مدّة اُسبوع واحد أعادها إلىّ، وطلب غيرها، وأضاف المدرّس قائلاً: أحببت أن أعرف ما الذي استفاده هذا الطفل من قراءته لهذه الكتب، وإذا به يدخل في شرح الماركسيّة طولاً وعرضاً، فأخذت عن شرحه لها كلّ ما غمض علىّ معناه عند قراءتي لها، فعجبت لهذا الطفل المعجزة،

49

وهو لمّا يزل في المرحلة الثالثة من الدراسة الابتدائيّة. وقد زاد في اطمئناني عند ما راح يشرح لي أنّه كان يأتي على مناقشة كلّ رأي على حدة مناقشة العالم المتبحِّر في العلم، فاطمأننت بأنّه لم يتأثّر بالماركسيّة مطلقاً، وأنّه كان يقرؤها كناقد لاكدارس لها.

وحدّثني عنه مدرّس اللّغة فقال: والله لو لاالأنظمة والقوانين ولو كانت هناك حكومة تقدّر النبوغ والكفاءة، لمنحته الشهادة الثانويّة بأعلى الدرجات، وفتحت له أبواب الكلّيات، ليختار منها ما يشاء، وكفيته أمر الذهاب إلى المدرسة والعودة منها إلى البيت. إنّ إلمامه بعلوم اللّغة العربيّة يفوق حدّ التصوّر لطفل في سنّه، وكم من مرّة جعلني أقف أمامه محرجاً لاأحير جواباً، فأضطر أن اُؤجّل الجواب على سؤاله إلى يوم آخر؛ لئلاّ أكون في موضع العاجز عن الجواب أمام تلامذتي. وقال هذا الشيء عينه مدرّس الدين وأضاف: أنّه يصلح أن يكون مدرّساً للدين واُصوله.

وقال كذلك مدرّسو العلوم الاُخرى، مُبدِين دهشتهم وحيرتهم في نبوغ هذا الطفل ومستواه خائفين أن يقتله ذكاؤه.

كان(رحمه الله) أوّل من يدخل الصفّ، وآخر من يخرج منه، وكان كلّه إصغاءً وانتباهاً إلى ما يقوله المدرّس، وكأنّ ما يتلى شيء جديد بالنسبة له، وكأنّه لم يحفظ في ذاكرته أضعاف ما يتلى عليه في الصفّ. وما وجدته يوماً وقد ركبه الغرور، أو طغى عليه العجب بنفسه، أو تعالى على زملائه التلاميذ ممّا عنده من علم ومعرفة. كان مؤدّباً جدّاً يحترم معلّميه وزملاءه، ويفرض احترامه على الجميع، وكثيراً ما كنّا نفتقده متغيّباً لشهر أو حواليه من المدرسة، ثُمَّ إذا به

50

يحضر عند الامتحان، فيؤدّيه، فينال الدرجة العليا، ولو كانت هناك درجة أعلى، لاستحقها بجدارة. وكنّا عند تغيّبه نستفهم من الإدارة عن السبب، فيكون الجواب الذي اعتدناه: أنّه يحضر دروساً خاصّة تشغله عن حضور المدرسة. كنّا نختاره وخاصّةً مدرّس الدروس الدينيّة في درس الصلاة إماماً يؤمّ زملاءه في الصلاة، فكان واللّهِ جديراً بها يؤدّيها بخشوع العابد الزاهد المتوجّه إلى ربّه العليّ الكريم. وكان يختار من بين طلاّب كلّ المدرسة؛ لإلقاء القصائد والكلمات في الصحن الكاظميّ الشريف منذ كان في الصفّ الثاني الابتدائيّ، وذلك في موكب العزاء الذي اعتادت المدرسة أن تنظّمه كلّ عام.

وليس عجيباً على مثل هذا الطفل أن يستظهر قصيدة تضمّ ثلاثين بيتاً أو أكثر، أو كلمة عن ظهر قلب خلال ربع ساعة بعدها يتلوها علينا بكلّ فصاحة متجنّباً اللّحن حتّى إذا قرئت له ملحونة.

كان شعلة ذكاء، وقدوة أدب، ومثال خلق قويم، ونفس مستقيمة. ما فاه والله بحياته في المدرسة بكلمة إلاّ وبعثت في نفس سامعها النشوة والحُبُور، وما التقت عيناه لفرط خجله مرّة عيني أحد مدرّسيه، فهو لايحدّث إلاّ ورأسه منحن، وعيناه مسبلتان. أحببته طفلاً صغيراً بريئاً، وأجللت فيه شيخاً كبيراً، لما ألمّ به من علم ومعرفة، حتّى إنّني قلت له ذات يوم: إنّني أتوقّع أن يأتي يوم ننهل فيه من علمك ومعرفتك، ونهتدي بأفكارك وآرائك، فكان جوابه بكلّ أدب واحترام، وقد علت وجهه حمرة الخجل: عفواً اُستاذ، فأنا لاأزال وسأبقى تلميذكم وتلميذ كلّ من أدّبني وعلّمني في هذه

51

المدرسة، وسأبقى تلميذكم المَدين إليكم بتعليمي وتثقيفي.

ثُمَّ ختم الرجل حديثه بقوله: أتريدني بعد كلّ هذا أن لاأحزن عليه حزن الثاكل. ولكنّ الذي يبعث لنا السلوى، ويمكّننا من الصبر، ويسري عن نفوسنا أنّه ترك لنا أسفاراً يحدّثنا فيها. فهو اليوم في كلّ بيت من بيوتنا مقيم بين صفحات كتبه ومؤلّفاته نحدّثه ويحدّثنا عن آرائه وأفكاره العلميّة الخالدة وصوره المطبوعة في قلوبنا. فرحمه الله، ويا ليتنا كنّا أو سنكون بركبه سائرين. وأنهى الحديث بآهة ودمعة انحدرت من عينيه».

الآن حان لنا أن نمضي مع حياة هذا الطالب؛ كي نرى ماذا جرى بعد خروجه من المدرسة الابتدائيّة.

ونعود هنا مرّة اُخرى إلى ما استفدناه من رسالة المرحوم السيّد عبدالغني الأردبيليّ(قدس سره):

قرأ(رحمه الله) في الحادية عشرة من عمره المنطق، وكتب رسالة في المنطق يعترض فيها باعتراضات على بعض الكتب المنطقيّة.

وقد قرأ أكثر الأبحاث المسمّـاة بالسطح العالي بلا اُستاذ.

وفي أوائل الثانية عشرة من عمره درس معالم الاُصول على يد أخيه المرحوم السيّد إسماعيل(رحمه الله)، وكان من شدّة ذكائه يعترض على صاحب المعالم بإيرادات وردت في الكفاية.

منها: أنّه ورد في بحث الضد في كتاب المعالم الاستدلال على حرمة الضدّ بأنّ ترك أحدهما مقدّمة للآخر، فاعترض عليه شهيدنا الصدر(قدس سره) بقوله: «إذن يلزم الدور».

فقال له المرحوم السيّد إسماعيل: هذا ما اعترض به صاحب

52

الكفاية على صاحب المعالم.

هاجر الاُستاذ الشهيد(قدس سره) في سنة (1365 هـ ) من الكاظميّة إلى النجف الأشرف وتتلمذ على يدي علمين من أعلام النجف:

1 ـ آية الله الشيخ محمّدرضا آل ياسين(قدس سره).

2 ـ آية الله السيّد أبو القاسم الخوئي الذي مازال يعيش الآن في النجف الأشرف.

وكان يحضر معه درس المرحوم آل ياسين ثلّة من العلماء الأكابر أمثال:

1 ـ آية الله الشيخ صدرا البادكوبيّ.

2 ـ وآية الله الشيخ عباس الرميثيّ.

3 ـ وآية الله الشيخ طاهر آل راضي.

4 ـ وحجّة الإسلام والمسلمين السيّد عبدالكريم علي خان.

5 ـ وحجّة الإسلام والمسلمين السيّد محمّدباقر الشخص.

6 ـ وحجّة الإسلام والمسلمين السيّد إسماعيل الصدر.

وآخرين من أهل الفضل والعلم.

وقد انتهى بحث الشيخ آل ياسين يوماً إلى مسألة أنّ الحيوان هل يتنجّس بعين النجس، ويطهر بزوال العين، أو لايتنجّس بعين النجس؟ فذكر الشيخ آل ياسين(رحمه الله): أنّ الشيخ الأنصاريّ(قدس سره) ذكر في كتاب الطهارة: أنّ هنا ثمرةً في الفرق بين القولين تظهر بالتأمّل. وقال الشيخ آل ياسين(رحمه الله): إنّ اُستاذنا المرحوم السيّد إسماعيل الصدر حينما انتهى بحثه إلى هذه المسألة، طلب من تلاميذه أن يبيّنوا ثمرة الفرق بين القولين، فبيّنّا له ثمرة في ذلك. وأنا الآن أطلب منكم أن

53

تأتوا إليّ غداً بعد التفكير والتأمّل بثمرة القولين.

فحضر شهيدنا الصدر(قدس سره) في اليوم التالي قبل الآخرين لدى اُستاذه، وقال: إنّي جئت بثمرة للقولين، فتعجّب الشيخ آل ياسين من ذلك؛ لأنّ صغر سنّه ـ وقتئذ ـ كان يوحي إلى الشيخ آل ياسين أنّ حضوره مجلس الدرس ليس حضوراً اكتسابيّاً بالمعنى الحقيقي للكلمة، وإنّما هو حضور ترفيهيّ. فذكر شهيدنا الصدر(رحمه الله) ما لديه من الثمرة ممّا أدهش الاُستاذ آل ياسين؛ لفرط ذكاء هذا التلميذ الصغير، ونبوغه، وقال له: أعد بيان الثمرة لدى حضور باقي الطلاّب.

وحينما حضر الطلاّب الآخرون، طالبهم الشيخ الاُستاذ بالثمرة، فلم يتكلّم منهم أحد، فقال الشيخ: إنّ السيّد محمّدباقر الصدر أتى بثمرة للخلاف غير الثمرة التي نحن أتينا بها إلى اُستاذنا. وهنا يبيّن شهيدنا الصدر ما لديه من الثمرة، ويثير إعجاب الحاضرين، ويعرف من ذلك الحين لدى أكابر الحوزة العلميّة بالذكاء، والنبوغ العلميّ.

قال أخوه المرحوم السيّد إسماعيل الصدر(رحمه الله): «سيّدنا الأخ بلغ ما بلغ في أوان بلوغه».

وفي سنة (1370 هـ ) تُوفّي الشيخ آل ياسين(رحمه الله). وعلّق المرحوم الشيخ عبّاس الرميثيّ بتعليقته على رسالة الشيخ آل ياسين المسمّـاة ببلغة الراغبين؛ ولفرط اعتقاده، وشدّة إيمانه بذكاء شهيدنا الصدر ونبوغه طلب منه أن يحضر مجلس التحشية، فلبّى الشهيد دعوة اُستاذه، واشترك في مجلس التحشية. وقد كتب شهيدنا الصدر ـ وقتئذ ـ تعليقة على بلغة الراغبين أيضاً. وكان يقول له الشيخ عبّاس الرميثيّ في ذاك التأريخ: إنّ التقليد عليك حرام.

54

وقد حضر شهيدنا الغالي من سنة (1365 هـ ) درس اُستاذه آية الله الخوئيّ فقهاً واُصولاً، وأنهى تحصيلاته الاُصوليّة في سنة (1378 هـ )، والفقهيّة في سنة (1379 هـ ).

وكانت مدّة تحصيلاته العلميّة من البداية إلى النهاية نحو سبع عشرة سنة، أو ثماني عشرة سنة. ولكنّ هذه المدّة على رغم قصرها زمناً كانت في واقعها مدّة واسعة؛ إذ إنّ شهيدنا الصدر(رحمه الله) كان يستثمر من كلّ يوم ست عشرة ساعة؛ لتحصيل العلم، فمن حين استيقاظه من النوم في اليوم السابق إلى ساعة النوم في اليوم اللاّحق كان يلاحق المطالعة والتفكير عند قيامه وقعوده ومشيه.

بدأ شهيدنا الصدر(قدس سره) بتدريس خارج الاُصول في سنة (1378 في يوم الثلاثاء 12 / جمادى الآخرة)، وأنهى الدورة الاُولى في يوم الثلاثاء (12 / ربيع الآخر / 1391 هـ)، وكانت آخر كلماته في البحث ما يلي:

«وبهذا انتهى الكلام في هذا التنبيه، وبه انتهى الكلام في مبحث التعادل والتراجيح، وبه انتهت هذه الدورة من علم الاُصول».

وبدأ الشهيد بتدريس خارج الفقه على نهج العروة الوثقى في سنة (1381 هـ ).

إلى هنا انتهى ما استفدناه من رسالة المرحوم السيّد عبدالغني الأردبيليّ(رحمه الله).

 

 

55

 

 

 

ذكريات

 

عن حياة شهيدنا الصدر(قدس سره)

 

 

 

 

 

 

57

 

 

 

 

1 ـ حدّثني(رحمه الله) ذات يوم: أنّه حينما كتب كتاب (فلسفتنا) أراد طبعه باسم جماعة العلماء في النجف الأشرف بعد عرضه عليهم متنازلاً عن حقّه في وضع اسمه الشريف على هذا الكتاب، إلاّ أنّ الذي منعه عن ذلك أنّ جماعة العلماء أرادوا إجراء بعض التعديلات في الكتاب، وكانت تلك التعديلات غير صحيحة في رأي اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، ولم يكن يقبل بإجرائها فيه، فاضطرّ أن يطبعه باسمه. قال(رحمه الله): إنّي حينما طبعت هذا الكتاب لم أكن أعرف أنّه سيكون له هذا الصيت العظيم في العالم، والدوىّ الكبير في المجتمعات البشريّة ممّا يؤدّي إلى اشتهار من ينسب إليه الكتاب. وها أنا ذا اُفكّر فيما إذا كنت مطّلعاً على ذلك، وعلى مدى تأثيره في إعلاء شأن مؤلّفه لدى الناس، فهل كنت مستعدّاً لطبعه باسم جماعة العلماء، وليس باسمي ـ كما كنت مستعدّاً لذلك ـ أو لا؟ وأكاد أبكي خشية أ نّي لو كنت مطّلعاً على ذلك لم أكن أستعدّ لطبعه بغير اسمي.

رحمك الله يا أبا جعفر، وهنيئاً لك على هذه الروح الطاهرة، والمعنويّات العالية العظيمة، في حين كنت تعيش في مجتمع يتكالب أكثر أبنائه على سفاسف الدنيا، أو زعاماتها، أو كسب مديح الناس وثنائهم، أو جمع ما يمكنهم من حطام الدنيا ونعيمها من حلال أو حرام.

58

2 ـ انفصل أحد طلاّبه عن درسه، وعن خطه الفكريّ الإسلاميّ، ثُمَّ بدأ يشتمه، وينال منه في غيابه إزاء الناس، وكان كثير من كلماته تصل إلى مسامع اُستاذنا العظيم(قدس سره)، وكنت ذات يوم جالساً بحضرته الشريفة، فجرى الكلام عن هذا الطالب الذي ذكرناه، فقال(رحمه الله): أنا ما زلت أعتقد بعدالة هذا الشخص، وأنّ ما يصدر عنه ناتج من خطاً في اعتقاده، وليس ناتجاً من عدم مبالاته بالدين.

3 ـ ذكر(رحمه الله) ذات يوم لصفوة طلاّبه: أنّ ما تعارفت عليه الحوزة من الاقتصار على الفقه والاُصول غير صحيح، ويجب عليكم أن تتثقّفوا بمختلف الدراسات الإسلاميّة، وأمرهم بمباحثة كتاب (فلسفتنا) فيما بينهم، فعقدوا بحثاً في بيتي الواقع ـ وقتئذ ـ في النجف الأشرف في الشارع الثاني ممّا كان يسمى بــ (الجُديدة). وفي أوّل يوم شرعوا في المباحثة وجدنا طارقاً يطرق الباب، ففتحت له الباب وإذا باُستاذنا الشهيد(رحمه الله) قد دخل، وحضر المجلس، وقال: إنّني إنّما حضرت الآن هذا المجلس؛ لأ نّي أعتقد أنّه لايوجد الآن مجلس أفضل عند الله من مجلسكم هذا الذي تتباحثون فيه في المعارف الإسلاميّة، فأحببت أن أحضر هذا المجلس الذي هو أفضل المجالس عند الله.

هكذا كان يشوّق طلاّبه، ويرغِّبهم في تكميل أنفسهم في فهم المعارف الإسلاميّة، وهو الأب الرؤوف والعطوف الحنون على طلاّبه. فوالله إنّنا قد اُيتمنا بفقد هذا الأب الكبير، فلعن الله من أيتمنا، وفجع الاُمّة الإسلاميّة بقتل هذا الرجل العظيم. اللّهمّ، مزّق الذين

59

شاركوا في دمه الطاهر تمزيقاً، واجعلهم طرائق قدداً، وأرِنا ذلَّهم في الدنيا قبل الآخرة، وزدهم عذاباً فوق العذاب، إنّك أنت السميع المجيب.

4 ـ حضرت بحثه في أوائل أيّام تعرّفي به في بحث الترتّب، ولم يكن ذلك منّي بنيّة الاستمرار، وبعد إنهائه لبحث الترتّب صمّمت على ترك الحضور؛ لبعض المشاكل الحياتيّة والصحّيّة التي كانت تمنعني من الاستمرار. فاطّلع (رضوان الله عليه) على تصميمي هذا، فطلب منّي(رحمه الله) أن أعدل عن هذا التصميم، وأستمرّ في الحضور في بحثه الشريف، وقال: أنا أضمن لك أنّك لو بقيت مستمرّاً في هذا البحث مدّة خمس سنين ستكون مجتهداً، فشرحت له بعض المشاكل التي كانت تحيط بي، والتي تمنعني عن الحضور. فتركت الحضور برهةً من الزمن إلى أن انتهت تلك المشاكل المانعة، فاستأنفت مرّةً اُخرى الحضور في بحثه الشريف، وحينما مضى على حضوري في بحثه الشريف خمس سنين أو أكثر تشرّفت بالحضور لدى الاُستاذ ذات يوم، وقلت له: أنت وعدتني بأ نّي لو حضرت البحث خمس سنين سأكون مجتهداً، وها هو الحضور بهذا المقدار قد حصل، ولم يحصل الاجتهاد؟ فأجابني (رضوان الله عليه) بأنّ مفهوم الاجتهاد قد تغيّر عندك، فالاجتهاد بالمستوى المتعارف عليه في الحوزة العلميّة قد حصل، ولكنّك تريد الاجتهاد على مستوى هذا البحث. وبقيت مستمرّاً في بحثه الشريف إلى أن قدّر الله لي الهجرة إلى إيران.

60

5 ـ رأيت ذات ليلة في عالم الرؤيا أنّ نبيّاً من الأنبياء(عليهم السلام) قد حضر بحث اُستاذنا(قدس سره)، وتشرّفت بعد هذا ذات يوم بلقاء اُستاذنا الشهيد في بيته الذي كان واقعاً ـ وقتئذ ـ في شارع الخَوَرنق، وحكيت له الرؤيا، فقال(رحمه الله)لي: إنّ تعبير هذه الرؤيا هو أ نّني لن اُوفّق لتطبيق رسالتي التي نذرت نفسي لأجلها، وسيأتي تلميذ من تلاميذي يكمل الشوط من بعدي. ذكر (رضوان الله عليه) هذا الكلام في وقت لم يكن يخطر بالبال أنّه ستأتي ظروف تؤدّي إلى استشهاده.

6 ـ كان يقول (رضوان الله عليه): إنّني في أيّام طلبي للعلم كنت أعمل في ذلك كلّ يوم بقدر عمل خمسة أشخاص مجدّين.

7 ـ وقال ـ أيضاً(رحمه الله) ـ: إنّني كنت أعيش في منتهى الفقر والفاقة، ولكنّني كنت أشتغل منذ استيقاظي من النوم في كلّ يوم بطلب العلم، ناسياً كلّ شيء، وكلّ حاجة معيشيّة إلى أن كنت اُفاجأ من قبل العائلة بمطالبتي بغذاء يقتاتون به فأحتار ـ عندئذ ـ في أمري.

8 ـ أدركت الاُستاذ الشهيد(رحمه الله) فيما بعد أيّام فقره وفاقته حينما كان مدرّساً معروفاً في الحوزة العلميّة في النجف الأشرف، ومع ذلك كان يعاني الضيق المالي، وكان يدرّسنا في مقبرة آل ياسين في حرِّ الصيف، ولم تكن وسيلة تبريد في تلك المقبرة، ولم يمتلكها في بيته أيضاً. وكان المتعارف ـ وقتئذ ـ في النجف الأشرف عدم وجود عطلة صيفيّة لطلاّب الحوزة العلميّة، فالطلبة كانوا يدرسون حتّى في قلب الحرّ الشديد.

61

ولا أنسى أنّ المرحوم السيّد عبدالغنيّ الأردبيليّ(رحمه الله) تشرّف ذات يوم بخدمته في بيته الواقع في محلّة العمارة فيما بعد الزقاق المسمّى بــ (عقد الإسلام)، وقال له: إنّ الحرّ شديد، وطلاّبك يعانون الحرّ في ساعة الدرس في مقبرة آل ياسين، فأذن لنا بشراء مبرّدة نضعها في المقبرة؛ لتبريد الجوّ، ولي صديق من التركمان في شمال العراق من بيّاعي المبرّدات، وهو مستعد لتزويدكم بمبرّدة بسعر التكْلِفَة، وهو سعر يسير، ويقسّط السعر عليكم أشهراً عديدة، ولايأخذ منكم في كلّ شهر عدا دينارين، فسكت اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)خجلاً وحياءً من أن يقول: إنّ وضعي الاقتصاديّ لايسمح بهذا. ولكن المرحوم السيّد عبدالغنيّ اعتقد أنّ السكوت من الرضا، فاستورد مبرّدة، ووضعها في المقبرة، ثُمَّ أخبر اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)بما فعل، فرأيت وجه اُستاذنا قد تغيّر حيرة في كيفية دفع هذا المبلغ اليسير، إلاّ أنّ المرحوم السيّد عبدالغنيّ(رحمه الله) لم ينتبه إلى ذلك، وعلى أىّ حال، فقد التزم اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)بدفع المبلغ. ولاأعرف كيف كان يؤمّن ما عليه، إلاّ أ نّني كنت أعلم أنّه كان يدفع كلّ شهر دينارين إلى السيّد عبدالغنيّ(رحمه الله)؛ كي يدفعهما إلى صاحبه أداءً للدين.

9 ـ تربيته لأطفاله، كان يقول(رحمه الله): إنّ تربية الطفل بحاجة إلى شيء من الحزم والخشونة من ناحية، وإلى اللين والنعومة وإبراز العواطف من ناحية اُخرى. وقد تعارف عندنا في العوائل أنّ الأب يقوم بالدور الأوّل، والاُمّ تقوم بالدور الثاني. قال(رحمه الله): ولكنّني اتّفقت مع (اُمِّ مرام) على عكس ذلك، فطلبت منها أن تقوم بدور الحزم

62

والخشونة مع الأطفال لدى الحاجة؛ كي أتمحّض أنا معهم في اُسلوب العواطف، واللّين، وإبراز الحبّ والحنان؛ والسبب في ذلك أنّه كان يرى نفسه أقدر على تربية أطفاله على العادات والمفاهيم الإسلاميّة، فكان يريد للأطفال أن لايروا فيه عدا ظاهرة الحبّ والحنان؛ كي يقوى تأثير ما يبثّه في نفوسهم من القيم والأفكار، فلابدّ للتربية من خشونة وصلابة عن طريق الاُمّ حيث تقتضي ذلك.

كان يقول(رحمه الله): إنّي نفثت في نفس ابنتي مرام ـ وكانت وقتئذ طفلة صغيرة ـ الحقد على الصهاينة، قال: قد صادف أن حدّثتها ذات يوم عن ظلمهم للمسلمين من قتل، أو قصف، فبان عليها انكسار الخاطر، وتكدّر العيش، فأردفت ذلك بذكر قِصّة اُخرى من حكايات قصف المسلمين لإسرائيل، فاهتزّت فرحاً، وضحكت، واستبشرت لتلك القِصّة.

وكثيراً ما كان يصل إليه(رحمه الله) من الحقوق الشرعيّة ما يصل عادة إلى يد المراجع، ولكنّه(رحمه الله)قال: إنّي فهّمت ابنتي مرام أنّ هذه الأموال الموجودة لدينا ليست ملكاً لنا، فكانت هذه الطفلة البريئة تقول أحياناً: إنّ لدى والدي الأموال الكثيرة، ولكنّها ليست له؛ ذلك لكي لاتتربّى على توقّع الصرف الكثير في البيت، بل تتربّى على القناعة، وعدم النظر إلى هذه الأموال كأملاك شخصيّة.

10 ـ في الفترة التي عيّنت حكومة البعث الغاشم ستّة أيّام لتسفير الإيرانيين بما فيهم طلاّب الحوزة العلميّة من النجف إلى إيران رأيت أحد طلبة العلوم الدينيّة في النجف الأشرف مودّعاً لاُستاذنا

63

الشهيد(قدس سره)، فرأيت الاُستاذ يبكي في حالة وداعه إيّاه بكاء الثكلى على رغم من أنّه كان يعرف أن هذا الرجل يعدّ في صفوف المناوئين له.

11 ـ وبعد تلك الأيّام حدّثني الاُستاذ(رحمه الله) ذات يوم، فقال: إنّني أتصوّر أنّ الاُمّة مبتلاة اليوم بالمرض الذي كانت مبتلاة به في زمن الحسين(عليه السلام)، وهو مرض فقدان الإرادة، فالاُمّة تعرف حزب البعث والرجال الحاكمين في العراق، ولاتشكّ في فسقهم، وفجورهم، وطغيانهم، وكفرهم، وظلمهم للعباد، ولكنّها فقدت قوّة الإرادة التي بها يجب أن تصول وتجاهد في سبيل الله إلى أن تسقط هذه الزمرة الكافرة عن منصب الحكم، وترفع جاثوم هذا الظلم عن نفسها. وعلينا أن نعالج هذا المرض؛ كي تدبَّ حياة الإرادة في عروق هذه الاُمّة الميّتة؛ وذلك بما عالج به الإمام الحسين(عليه السلام) مرض فقدان الإرادة في نفوس الاُمّة وقتئذ، وهو التضحية الكبيرة التي هزّ بها المشاعر، وأعاد بها الحياة إلى الاُمّة إلى أن انتهى الأمر بهذا السبب إلى سقوط دولة بني اُميّة.

فعلينا أن نضحّي بنفوسنا في سبيل الله، ونبذل دماءنا بكلّ سخاء في سبيل نصرة الدين الحنيف، والخطّة التي أرى ضرورة تطبيقها اليوم هي: أن أجمع ثلّة من طلاّبي ومن صفوة أصحابي الذين يؤمنون بما أقول، ويستعدّون للفداء، ونذهب جميعاً إلى الصحن الشريف متحالفين فيما بيننا على أن لانخرج من الصحن أحياء، وأنا أقوم خطيباً فيما بينهم ضدّ الحكم القائم، ويدعمني الثلّة الطيّبة الملتفّة حولي، ونثور بوجه الظلم والطغيان، فسيجابهنا جمع من

64

الزمرة الطاغية، ونحن نعارضهم (ولعلّه قال: ونحمل السلاح) إلى أن يضطرّوا إلى قتلنا جميعاً في الصحن الشريف. وسأستثني ثلّة من أصحابي عن الاشتراك في هذه المعركة؛ كي يبقوا أحياءً من بعدي، ويستثمروا الجوّ الذي سيحصل نتيجة هذه التضحية والفداء.

قال(رحمه الله): إنّ هذا العمل مشروط في رأيي بشرطين:

الشرط الأوّل: أن يوجد في الحوزة العلميّة مستوىً من التقبّل لعمل من هذا القبيل. أمّا لو أطبقت الحوزة العلميّة على بطلان هذا العمل، وكونه عملاً جنونيّاً، أو مخالفاً لتقيّة واجبة، فسوف يفقد هذا العمل أثره في نفوس الاُمّة، ولايعطي ثماره المطلوبة.

والشرط الثاني: أن يوافق أحد المراجع الكبار مسبقاً على هذا العمل؛ كي يكتسب العمل في ذهن الاُمّة الشرعيّة الكاملة.

فلابدّ من الفحص عن مدى تواجد هذين الشرطين:

أمّا عن الشرط الأوّل، فصمَّم الاُستاذ(رحمه الله) على أن يبعث رسولاً إلى أحد علماء الحوزة العلميّة؛ لجسّ النبض، ليعرض عليه هذه الفكرة، ويستفسره عن مدى صحّتها، وبهذا الاُسلوب سيعرف رأي عالم من العلماء كنموذج لرأي يوجد في الحوزة العلميّة. وقد اختار(رحمه الله) بهذا الصدد إرسال سماحة الشيخ محمّد مهدي الآصفي (حفظه الله) إلى أحد العلماء، وأرسله بالفعل إلى أحدهم؛ كي يعرض الفكرة عليه، ويعرف رأيه، ثُمَّ عاد الشيخ إلى بيت اُستاذنا الشهيد، وأخبر الاُستاذ بأنّه ذهب إلى ذاك العالم في مجلسه، ولكنّه لم يعرض عليه الفكرة؛ وكان السبب في ذلك أنّه حينما دخل المجلس رأى أنّ هذا الشخص

65

مع الملتفّين حوله قد سادهم جوّ من الرعب والانهيار الكامل نتيجة قيام الحكومة البعثيّة بتسفير طلبة الحوزة العلميّة، ولاتوجد أرضيّة لعرض مثل هذه الفكرة عليه إطلاقاً.

وأمّا عن الشرط الثاني، فرأى اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) أنّ المرجع الوحيد الذي يترقّب بشأنه أن يوافق على فكرة من هذا القبيل هو الإمام الخمينيّ ـ دام ظلّه ـ الذي كان يعيش ـ وقتئذ ـ في النجف الأشرف، فلايصحّ أن يكون هذا العمل من دون استشارته، فذهب هو(رحمه الله) إلى بيت السيّد الإمام، وعرض عليه الفكرة مستفسراً عن مدى صحّتها، فبدا على وجه الإمام ـ دام ظلّه ـ التألّم، وأجاب عن السؤال بكلمة (لا أدري). وكانت هذه الكلمة تعني: أنّ السيّد الإمام ـ دام ظلّه ـ كان يحتمل أن تكون الخسارة التي ستوجّه إلى الاُمّة من جرّاء فَقْدِ هذا الوجود العظيم أكبر ممّا قد يترتّب على هذا العمل من فائدة.

وبهذا وذاك تبيّن أنّ الشرطين مفقودان، فعدل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)عن فكرته، وكان تأريخ هذه القِصّة بحدود سنة (1390 أو 1391 هـ ).

12 ـ كان الاُستاذ الشهيد(رحمه الله) يصلّي في الحسينيّة الشوشتريّة صلاة الجماعة إماماً، فاتّفق ذات يوم أنّه غاب عن صلاة الجماعة؛ لعذر له، فطلب جمع من المؤمنين من السيّد محمّد الصدر ابن المرحوم السيّد محمّد صادق الصدر أن يؤمّ الناس في ذاك اليوم بدلاً عن الاُستاذ، فاستجاب السيّد محمّد الصدر لطلب المؤمنين (وهو من حفدة عمّ الشهيد الصدر(رحمه الله) ومن تلامذته، وكان معروفاً بالزهد، والورع، والتقوى)، فصلّى الناس خلفه جماعة، ثُمَّ اطّلع اُستاذنا

66

الشهيد(رحمه الله) على ذلك، فبان عليه الأذى، ومنع السيّد محمّد الصدر عن أن يتكرّر منه هذا العمل. وكان السبب في ذلك ـ على رغم علمه بأنّ حفيد عمّه أهلٌ، ومحلّ لإمامة الجماعة ـ أنّه تعارف لدى قسم من أئمّة الجماعة الاستعانة في غيابهم بنائب عنهم يختار من أقربائهم أو أصحابهم، لالنكتة موضوعيّة، بل لأنّه من أقربائه أو أصحابه، فقد يُحمل ما وقع من صلاة حفيد العمّ في نظر الناس غير المطّلعين على حقيقة الأمر على هذا المحمل، في حين أنّه لابدّ من كسر هذه العادة، وحصر إمامة الجماعة في إطار موضوعىّ صحيح، وتحت مقياس دقيق تلحظ فيه مصالح الإسلام والمسلمين، زائداً على الشرائط الأوّليّة الفقهيّة لإمامة الجماعة، فلهذا منع حفيد العمّ عن هذا العمل مادام قابلاً في نظر الناس لتفسير غير صحيح على رغم علمه بتحقيق الشرائط والمصالح فيه.

13 ـ حدّثني الاُستاذ(رحمه الله) أنّه كان في فترة من الزمن أيّام طلبه للعلم يتشرّف بالذهاب يوميّاً ساعة في اليوم إلى الحرم الشريف بغرض أن يفكّر في تلك الساعة في المطالب العلميّة، ويستلهم من بركات الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، ثُمَّ قطع هذه العادة، ولم يكن أحد مطّلعاً عليها، وإذا بامرأة في بيت الاُستاذ، ولعلّها والدته الكريمة ـ والشكّ والترديد منّي، وليس من الاُستاذ(رحمه الله) ـ رأت في عالم الرؤيا أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول لها ما مضمونه: قولي لباقر: لماذا ترك درسه الذي كان يتتلمذ به لدينا؟!

14 ـ رأى أحد طلاّبه ذات يوم في عالم الرؤيا أنّه يمشي هو

67

وزميل آخر له من طلاّب السيّد الشهيد بخدمة الاُستاذ في طريقهم إلى مقصد ما، وإذا بحيوانات مفترسة هجمت على السيّد الشهيد كي تفترسه، ففرّ الزميلان من بين يديه، وجاء ناس آخرون التفّوا حول الاُستاذ؛ كي يحموه من تلك السباع. فحدّث هذا الطالب بعد ذلك اُستاذنا الشهيد برؤياه، فقال له الاُستاذ(رحمه الله): إنّ تعبير رؤياك أنّكما ستنفصلان، وتبتعدان عنّي، ويأتي ناس آخرون يلتفّون حولي، ويكونون رفاقي في الطريق. وكان هذا الكلام غريباً على مسامع ذاك الطالب؛ لأنّه وزميله كانا آنذاك من أشدّ المعتقدين بالاُستاذ وأكثر صحبة له، ولكن ما مضت الأيّام والليالي إلاّ وابتعدا عن الاُستاذ: (أحدهما بالسفر، والآخر بترك الدرس على رغم وجوده في النجف).

15 ـ سألت الاُستاذ(رحمه الله) ذات يوم عن أنّه هل قلّد في حياته عالماً من العلماء، أو لا؟ فأجاب (رضوان الله عليه) بأ نّي قلّدت قبل بلوغي سنّ التكليف المرحوم الشيخ محمّدرضا آل ياسين، أمّا من حين البلوغ فلم اُقلّد أحداً. ولاأذكر أنّه قال: كنت من حين البلوغ أعمل برأيي، أو قال: كنت بين العمل بالاحتياط والعمل بالرأي.

16 ـ حدّثني (رضوان الله عليه) بعد رجوع المرحوم آية الله العظمى السيّد الحكيم(قدس سره)من لندن، إذ كان ذاهباً إلى لندن في أواخر حياته للعلاج: أنّه رأى ذات يوم آية الله الحكيم قبل مرضه في حرم الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، فاُلهِم اُستاذُنا(رحمه الله)أنّ هذه آخر رؤية له للسيّد الحكيم، ولن يتوفّق لرؤيته مرّة اُخرى إلى أن يُتوفّى السيّد

68

الحكيم(قدس سره). وبعد ذلك بأيّام قلائل تمرّض السيّد(رحمه الله)، واستمرّ به المرض إلى أن ذهبوا به إلى لندن للعلاج، ولم يشف من مرضه، وحينما رجع السيّد من لندن إلى مطار بغداد، وفي أثناء نزوله من سلّم الطائرة حاول اُستاذنا(رحمه الله) أن يلقي نظرةً على السيّد الحكيم؛ ليثبت بذلك أنّ ما اُلهم به كان وهماً لاقيمة له، فيأمل أن يشفى السيّد من مرضه، ويعيش صحيحاً سالماً، إلاّ أنّه لم يوفّق الاُستاذ لرؤية السيّد إلى أن توفّي بنفس المرض، قدّس الله روحه الزكيّة.

17 ـ زار (زيد حيدر) عضو القيادة القوميّة في حزب البعث السيّد الشهيد(رحمه الله)ذات يوم بصحبة (عبدالرزّاق الحبّوبيّ)(1)، وتكلّم الاُستاذ الشهيد(رحمه الله) معه في جملة من المؤاخذات على الدولة بالقدر الذي كانت الظروف تسمح بالكلام معه فيها، وكان يعتبر هذا في تلك الأحوال موقفاً جريئاً من الاُستاذ(قدس سره)، وقد حضر المجلس ثلّة من طلاّب السيّد الشهيد وأصحابه، وكنت أنا أحد الحضّار، ولكن بما أنّ طول الزمان أنساني أكثر مضامين ما دار في تلك الجلسة أكتب هنا ما كتبه أبو محمّد(الشيخ عبد الحليم) حفظه الله، ولم يكن ـ وقتئذ ـ حاضراً في المجلس، ولكنّ الاُستاذ الشهيد(رحمه الله) قصّ عليه القِصّة. قال الشيخ عبد الحليم:

«تحدّث السيّد الشهيد قبالي عن طبيعة الحديث الذي دار بينه وبين زيد حيدر وكان الحبّوبيّ حاضراً، قال(رحمه الله): دخلت الغرفة وكان


(1)كان عبدالرزّاق الحبّوبىّ ـ وقتئذ ـ محافظ كربلاء، أو قائمّقام النجف.

69

فيها زيد حيدر، وبعد دقائق دخل الحبّوبيّ الغرفة، فسلّم علىّ، وابتسم كأنّه كان مستحياً؛ لأنّه كان يصلّي في الغرفة الثانية، ويتظاهر بالخجل من تأخيرها إلى ذلك الوقت عصراً. وبدأت الحديث مع زيد بحضور الحبّوبيّ، وشرحت دور الحوزة العلميّة والعلماء في تحريك الاُمّة، وفي تربية الاُمّة، فعلماء الدين الشيعة يختلفون عن علماء المسيحيّة مثلاً؛ إذ إنّ الاُمّة مرتبطة بالعالم الشيعيّ، وبدأتُ بسرد الأحداث التأريخيّة التي تدلّ على دور العلماء، فثورة العشرين اختلط فيها دم العالم بدم العامل والفلاّح ودم الاُمّة والشعب حيث قاد العلماء الثورة. والسيّد شرف الدين(رحمه الله)قاوم الاستعمار الفرنسيّ في لبنان، وبعد ذلك تعرّض لحرق مكتبته وكتبه المخطوطة وغيرها، وكانت عصارة جهده، وعصارة حياته، وأعزّ شيء عنده (وكذلك على ما أتذكر أنّه ذكر قِصّة التنباك)، ثُمَّ عرَّجت على دور الحوزة العلميّة في الوقت الحاضر، وذكرت له أنّ كثيراً من أبناء الشعب يراجعونني في جواز أو حرمة التأخّر عن الدوام الرسمىّ، فإذا أفتيت لهم بالجواز أو الحرمة، فإنّه يؤثّر بالدولة، وكذلك يسألني الكثير من المقلّدين في مسألة جواز سرقة أموال الدولة؟ فإذا أفتيت بالجواز، فسوف يؤثّر بالدولة، و... ثُمَّ بيّنت أنّ الدولة حاليّاً لا تتعاون مع العلماء حتّى في المسائل الشرعيّة؛ فإنّ مذبحاً كبيراً في بغداد غير موجّه إلى القبلة، وماذا يضرّ الدولة إذا كان المذبح على القبلة؟! في حين أنّه إذا كان الذبح غير شرعيّ فلن يشترى كثيرٌ من اللحوم.

70

يقول الشهيد(رحمه الله): وفي هذا المقطع من الحديث التفت الحبّوبيّ قائلاً: إنّي أتعجّب أن يكون الذبح هنا غير شرعيّ! علماً بأ نّي عند ما اُسافر إلى الخارج اُحاول الحصول على لحم مذبوح على الطريقة الإسلاميّة، فكيف يكون ذبح العراق غير شرعيّ؟! وبعد ذلك تحدّثت عن محاولة الدولة لشقّ طريق يقتضي بموجبه أو اقتضى تهديم مقام عليّ بن محمّد السمريّ أحد نواب الإمام المهدي(عليه السلام)، وللشيعة ارتباط تأريخي بهذا المكان، والآن بعض أجزاء مقامه محلاّت ودكاكين.

هذا مضمون ما أتذكّر، والله العالم».

انتهى ما كتبه الشيخ عبدالحليم (حفظه الله) مع تغيير يسير في العبارة.

ومن جملة ما قاله الاُستاذ الشهيد(رحمه الله) في حديثه مع زيد حيدر: إنّ الدولة لو أرادت أن تعرف آراء الشعب ونظريّاته، يجب أن تراجع العلماء؛ فإنّهم هم معدن أسرار الاُمّة، ومحطّ ثقتهم، وهم لسان الاُمّة.

وفي نهاية المجلس خاطب الحبّوبيّ زيد حيدر، وقال له: انظر إلى هذا الرجل (يشير إلى السيّد الشهيد الصدر(رحمه الله)) كيف يتكلّم بكلام لطيف، فلنجعله عالماً للبعثيّين. وهنا ضحك الحضّار، فقال لهم الحبّوبيّ: لماذا تضحكون؟ فقال الاُستاذ الشهيد(رحمه الله): أنا عالم المسلمين، ولست عالم البعثيّين.