91

نعم، لو فرضنا فرضاً غير واقع أنّ المملّكيّة التي كانت حكماً ارتكازيّاً للعقلاء ـ مثلا ـ لم يكن موضوعها عبارة عن الحيازة الحقيقيّة بل كان موضوعها عبارة عمّا يشمل الحيازة الاعتباريّة بالنسبة لكلّ زمان بحسب ذلك الزمان فعندئذ سيكون اعتبار انتشار النور على الأجسام حيازةً لها خلقاً لمصداق حقيقيّ وتكوينيّ لموضوع الحكم الارتكازيّ، فيثبت الحكم هنا لأنّه رجوع إلى القسم الأوّل.

إذا عرفت ذلك قلنا في المقام: إنّ الملكيّة أو الذمّة أو المعاملة التي يراد إثباتها بالارتكاز هي الحكم، وموضوعها الموجود في زمن المعصوم كان عبارة عن الشخص الحقيقيّ وبعض الشخصيّات الحقوقيّة. وأمـّا مثل شخصيّة الشركة القانونيّة أو الجمعيّة أو المؤسّسة التي لم تكن اعتبرت وقتئذ شخصيّة حقوقيّة ـ إذ لم تكن خاطرة على البال أصلا ـ فاعتبارها في يومنا هذا شخصيّة حقوقيّة يرجع بروحه إلى توسيع جديد لدائرة الحكم والارتكاز.

هذا، مضافاً إلى أنّ هذه الشخصيّات الحقوقيّة ليست عقلائيّة بحتاً، بل فيها عنصر من تشريع المشرّع في رأي أصحاب القانون، وهو الدولة لا العقلاء، فإنّهم يشترطون في الشخصيّات الحقوقيّة مطابقتها لتشريعات الدولة وشروطها التي قد تختلف من دولة إلى اُخرى.

ولو غضضنا النظر عن كلّ ما مضى وافترضنا هذه الشخصيّات الحقوقيّة من الاُمور الارتكازيّة في نظر عامّة العقلاء في يومنا هذا ولم نلتفت إلى الشرح الذي شرحناه من أنّ اعتبار فرد جديد يرجع بروحه إلى توسيع الحكم قلنا في المقام: إنّ دعوى ثبوت هذه الأفراد الجديدة في الارتكاز العقلائيّ في زمن المعصوم كي يثبت إمضاؤها بعدم الردع وإن تأخّر وجودها الخارجيّ إلى زماننا هذا بحاجة إلى دليل، فليس علينا أن نبرهن على عدم ذلك بل على من يدّعيه البرهنة عليه، والطرق التي شرحناها في علم الاُصول لإثبات امتداد السيرة والارتكاز من زماننا إلى زمان المعصوم لا تأتي هنا.

92

ونحن نحتمل أنّ الارتكاز الثابت في هذا اليوم يكون أحد أجزاء العامل المكوّن له تطوّر الحياة وتجدّد الحاجة إلى هذه الشخصيّات، فلنفترض أنّه لو كان هذا التطوّر في الحياة ثابتاً في زمن المعصوم وكانت الحاجات الفعليّة ثابتة وقتئذ لحصل هذا الارتكاز آنذاك، ولكن المفروض أنّ هذا التطوّر وهذه الحاجة لم يكونا وقتئذ، فلا دليل على ثبوت هذا الارتكاز آنذاك.

ونتيجة البحث: أنّ هذا الطريق الأوّل لتصحيح الشخصيّات الحقوقيّة في الفقه الإسلامي وهو التمسّك بالارتكاز العقلائيّ باطل.

ولكن مع هذا قد يقال بإمكان الاستفادة من الارتكاز في المقام في الجملة وتوضيح ذلك: أنّ هناك شخصيّات حقوقيّة كانت موجودة في زمن المعصوم كالدولة المالكة للأنفال، والمسجد المالك لما يوقف عليه، وعنوان الفقير المالك للزكاة ـ مثلا ـ ولكن قد لا نحصل على إطلاقات كافية في النصوص الواصلة إلينا لإثبات كلّ الحقوق المطلوبة لهذه الشخصيّات أو عليها.

فمثلا قد نمتلك دليلا لفظيّاً دلّ على ملكيّة الدولة للأنفال ولكن لا نمتلك دليلا لفظيّاً دلّ على صحّة هبة شيء للدولة، أو على صحّة اقتراض الدولة مالا، أو نحو ذلك، وقد نمتلك دليلا على صحّة الوقف على المسجد ولا نمتلك دليلا على صحّة هبة النقود مثلا لمسجد مّا، أو اقتراض المسجد لمال مّا، وقد نمتلك نصّاً يدلّ على مالكيّة كلّيّ الفقير للزكاة ولا نمتلك نصّاً يدلّ على صحّة اقتراض كلّيّ الفقير أو هبة شيء له، وما إلى ذلك.

فقد يمكن علاج هذا النقص بأن يقال: إنّ الارتكاز العقلائيّ يحكم بأنّ الشخصيّة الحقوقيّة لا تتفكّك، فما يقبل الملك يقبل الاستدانة، وما يقبل الوقف عليه يقبل الهبة، فبإمضاء هذا الارتكاز بعدم الردع تثبت كلّ الأحكام الحقوقيّة للشخصيّات التي كانت في زمن المعصوم وعليها.

بل إنّ هذا البيان لو تمّ لأمكن إثبات جميع الشخصيّات الحقوقيّة به حتى

93

التي لم تكن موجودة في زمن المعصوم، فمثلا الشركة القانونيّة نثبت الشخصيّة الحقوقيّة لها بالبيان التالي: إنـّنا لو لم نعترف بالشخصيّة الحقوقيّة والقانونيّة لهذه الشركة فلا إشكال في أنّ هناك مؤسّسة لها غاياتها، أو قل: شركة عاديّة مملوكة بالاشتراك لأصحابها.

ولا إشكال في أنّ من حقّ أحد أن يوقف شيئاً مّا على هذه المؤسّسة أو الشركة تصرف منافعه في مصالحها إن كان يعتبر ذلك أمراً خيرياً، وذلك تمسّكاً بعمومات الوقف، وهذا يعني إثبات شيء من الشخصيّة الحقوقيّة لهذه الشركة أو المؤسّسة، وهو امتلاك العين الموقوفة بناءً على أنّ الصياغة العقلائيّة لفهم مغزى الوقف على شيء أو جهة هي امتلاك الموقوف عليه للعين الموقوفة التي تحبس وتسبل منفعتها لذاك الشيء أو لتلك الجهة.

فإذا ثبت بدليل الوقف هذا الجزء من الشخصيّة الحقوقيّة لتلك الشركة ضممنا ذلك إلى ما يحكم به الطبع العقلائيّ من ارتكاز عدم إمكان التفكيك بين الحقوق للشخصيّة الحقوقيّة وعليها، وبناءً على أنّ هذا ارتكاز ناشئ من طبع العقلاء فهو ممتدّ إلى زمان المعصوم (عليه السلام)، فبناءً على أنّ عدم الردع يدلّ على إمضاء الارتكاز حتى المقدار غير المترجم بالعمل في زمن المعصوم تثبت صحّة هذا الارتكاز، وبهذا تصحّح كلّ الشخصيّات الحقوقيّة المألوفة في الفقه الغربي في منطق فقهنا الإسلامي.

بل النتيجة أوسع بكثير ممّا ألفه الفقه الغربي، فلا فرق عندنا بين الشركة العادية والشركة القانونيّة لإمكان وقف عين على الشركة العادية. وكلّ عنوان من العناوين أو جهة من الجهات أمكن الوقف عليه يأتي فيه هذا البيان، فبما أنّه يصحّ وقف شيء على عنوان العلماء مثلا إذن فللعلماء شخصيّة حقوقيّة، لأنّ هذا العنوان يملك ما يوقف عليه، وبالتالي تثبت له وعليه كلّ الحقوق، وهكذا نسري الفكرة إلى دائرة أوسع بكثير من الدائرة المألوفة في الفقه الغربيّ. نعم، كلّ هذا يختصّ بالاُمور الخيريّة.

94

ولكن الواقع أنّ ثبوت هذا الارتكاز ـ أعني ارتكاز عدم التفكيك في الشخصيّات الحقوقيّة بين الحقوق خاصّة في زمن المعصوم (عليه السلام) ـ غير واضح، إلّا في عنوان طبّق بالفعل على إنسان فأصبح الإنسان مالكاً لما يملكه العنوان كعنوان الدولة أو الإمام المنطبق على شخص الإمام، فملك بذلك ممتلكات الإمام، فهذه الممتلكات وإن كانت لا تنتقل الى وارثه لأنّها ليست ملكاً له بما هو شخص بل هي ملك له بما هو إمام وبما هو متقمّص قميص الدولة لكن هذا الإنسان الذي أصبح يمتلك بعض الممتلكات بوصفه إماماً يستطيع أن يستدين بهذا الوصف، أو أن توهب له أموال بهذا الوصف.

فلو سلّمنا عدم تعقّل العرف والعقلاء التفكيك بين الحقوق له وعليه فى إنسان انطبق عليه عنوان فامتلك ممتلكات ذاك العنوان بوصفه متلبّساً بذاك اللباس لا نسلّم ذلك في مثل الشركات والجمعيّات والمؤسّسات وما شابه ذلك.

إذن فغاية ما يثبت بعمومات الوقف هو جواز امتلاك أيّ جهة خيريّة لشيء مّا بالوقف، أمّا ثبوت كامل الشخصيّة الحقوقيّة لتلك الجهة لكي تثبت كلّ الأحكام الحقوقيّة لها وعليها فلا.

نعم، يمكن التعدّي من الوقف الذي هو تحبيس لعين خاصّة إلى تمليك الماليّة التي يمكن تبديل تجسّدها من عين إلى عين اُخرى فراراً من مشكلة حرمة تبديل العين الموقوفة، فيجوز للمتولّي البيع والتبديل بما يراه صالحاً في أيّ وقت أراد، وذلك تمسّكاً بإطلاق روايات الصدقة الجارية(1) بدعوى أنّ الجريان ليس مصداقه الوحيد عبارةً عن انحباس العين وتوقيفها عن البيع وهو المصداق الرائج في زمن صدور النصّ، بل له مصداق آخر أيضاً وهو أن يكون المحبوس على المشروع الخيري هو ماليّة الشيء التي يمكن تجسيدها ضمن أعيان مختلفة


(1) راجع الوسائل 13: 292 ـ 294، الباب 1 من أبواب الوقف والصدقات.

95

متعاقبة، لا فرداً معيّناً كي يصبح وقفاً لا يجوز تبديله، فقوام الجريان إنّما هو بالتحبيس وليس بكون المحبوس فرداً معيّناً من العين.

وبهذا البيان تصحّح أمثال الصناديق الخيرية أو تمليك مال لحركة أو حزب أو ما شابه ذلك إن كان أمراً خيرياً يتمشّى فيه قصد القربة، ولا يثبت بهذا كل آثار الشخصيّة الحقوقيّة كصحّة إقراضها أو تمثّلها بالمتولّي كأحد المترافعين لدى القاضي.

إلّا أنّ فهم هذا الإطلاق من روايات الصدقة الجارية يتوقّف على أن لا نحتمل كون انحصار مصداق الصدقة الجارية وقتئذ في مرتكز المتشرّعة في الوقف صالحاً للقرينيّة الموجبة لانصراف إطلاق عنوان الصدقة الجارية إلى الوقف(1)، أمّا إذا احتملنا ذلك فقد بطل الإطلاق.

إلّا أنّ حلّ هذا الإشكال عبارة عن الرجوع إلى صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج(2) الصريحة في جواز شرط الواقف حقّ البيع والتبديل، فيرجع واقع المطلب إلى التصدّق بالماليّة، أو قل: وقف الماليّة القابلة للتجسيد في الأعيان المختلفة.


(1) أي الوقف الذي لا يباع ولا يوهب ولا يبدّل.

(2) راجع الوسائل 19: 199 ـ 200 طبعة آل البيت (عليهم السلام)، الباب 10 من أبواب الوقوف والصدقات الحديث 3. وقد ورد في هذا الحديث قوله: «وإن كان دار الحسن غير دار الصّدقة فبدا له أن يبيعها فليبعها إن شاء لا حرج عليه فيه وإن باع فإنه يقسّمها ثلاثة أثلاث فيجعل ثلثاً في سبيل الله ويجعل ثلثاً في بني هاشم وبني المطلب ويجعل ثلثاً في آل المطلّب...»، فإن استظهرنا من هذا الكلام تبديل العين الموقوفة بعين أُخرى بأن يشتري بثمن الأُولى الثانية فهذا يكون ما أسميناه بوقف الماليّة أو تمليكها لما وقف عليه، وإن استظهرنا من هذا الكلام بيع الوقف وصرف ثمنه على الموقوف عليهم قلنا: إذن فصحّة شرط جواز البيع للتبديل أولى من شرط جواز البيع للصرف والاستهلاك، فإذا جاز هذا جاز ذاك، وذلك راجع كما قلنا إلى وقف وتمليك الماليّة القابلة للتبدّل في تجسّدها من عين إلى عين.

96

التمسّك بإطلاقات أدلّة العقود:

الطريق الثاني: التمسّك بمثل إطلاقات ﴿أحَلَّ اللهُ البَيْعَ﴾(1) فيقال مثلا:إنّنا إذا بعنا شيئاً من شركة أو جمعيّة أو مؤسّسة مثلاً أو اشترينا منها شيئاً كان هذا مصداقاً عرفيّاً للبيع والشراء فيدخل في إطلاق ﴿أحَلَّ اللهُ البَيْعَ﴾. وفي بعض الحقوق لهذه الشخصيّة الحقوقيّة أو عليها لو لم نجد إطلاقاً نتمسّك به نرجع الى دعوى عدم احتمال التفكيك والفرق بين الآثار الحقوقيّة، أو الى ما فرضنا في آخر بحثنا عن الطريق الأوّل من ارتكاز عدم التفكيك.

ويرد عليه: أنّ التمسّك بمثل هذه الإطلاقات عندما يكون الشكّ في التخصيص والتقييد من دون احتمال مخالفة الشرع للعرف في رؤية تشريعيّة تؤثّر في نفي موضوع هذه الإطلاقات صحيح، من قبيل ما لو شككنا في صحّة بيع المصحف من الكافر مثلاً فتمسّكنا بإطلاق ﴿أحَلَّ اللهُ البَيْعَ﴾. أمّا إذا كان الشكّفي الحكم ناتجاً عن احتمال مخالفة الشرع للعرف في رؤية تشريعيّة تقلب موضوع الحكم من قبيل حكم الشرع ببطلان بيع الكلب رغم صحّته عرفاً على أساس اختلاف بين الشرع والعرف في ملكيّة الكلب وعدمها، فالشرع والعرف كلاهما متّفقان على أنّه لا بيع إلّا في ملك، ولكن العرف بما أنّه يرى مملوكيّة الكلب يصحّح بيعه، والشرع بما أنّه يرى عدم قابليّته للملك يبطل البيع، فهذا لا يعدّ تخصيصاً أو تقييداً لـ ﴿أحَلَّ اللهُ البَيْعَ﴾، فإنّ مقصود الشارع من البيع في مثل ﴿أحَلَّ اللهُ البَيْعَ﴾ إنـّما هو ما يكون بيعاً في نظره لا ما يكون بيعاً في نظر العرف وليس بيعاً في نظره، فالتمسّك بالإطلاق في مثل ذلك يكون بحاجة الى إحدى نكتتين:

الاُولى: إثبات الموضوع مسبقاً بالارتكاز مثلاً حتى يتمّ المجال للتمسّك بالإطلاق اللفظي.


(1) البقرة: 275.

97

والثانية: التمسّك بالإطلاق المقامي بدعوى أنّ الشارع لو كان البيع عنده غير البيع عند العرف لكان عليه البيان، لأنّ الإنسان العرفيّ سيطبّق بطبيعته إطلاقات الشارع على ما لديه من مصاديق ما لم يصله الردع.

والأمر فيما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ العرف والشرع متّفقان على أنّ البيع لا يكون إلّا فيما بين طرفين، والخلاف المحتمل في المقام هو أن لا يكون الشرع معترفاً بالشخصيّة المعنويّة للشركة مثلاً كي تصبح طرفاً في البيع مثلاً ويكون العرف معترفاً بذلك، فلو قدّر بطلان هذا البيع في نظر الشرع لم يكن ذلك تخصيصاً أو تقييداً في ﴿أحَلَّ اللهُ البَيْعَ﴾ بل كان ذلك ناشئاً من اختلافهما في رؤية تشريعيّة تؤثّر على موضوع الحكم. وهذا علاجه يكون بأحد أمرين كما مضى:

(الأوّل) تصحيح الشخصيّة المعنويّة للشركة بالارتكاز، وهذا رجوع الى الوجه الأوّل الذي عرفت بطلانه. أو تصحيحها بولاية الفقيه، وهذا رجوع الى الوجه الثالث الذي سيأتي بحثه إن شاء الله.

(والثاني) التمسّك بالإطلاق المقاميّ لإثبات مطابقة نظر الشرع لنظر العرف والعقلاء، وهذا إنـّما يتمّ بلحاظ نظر العرف والعقلاء المعاصر لزمان المعصوم، وهذا رجوع مرةً اُخرى الى إثبات سعة دائرة الارتكاز في زمن الإمام الذي عرفت بطلانه.

هذا، مضافاً الى ما عرفت من أنّ كون البيع من الشركة مثلاً بيعاً ليس أمراً عقلائيّاً بحتاً، بل له جنبة تشريع في نظر الفقه المؤمن بهذه الشخصيّات الحقوقيّة راجعة الى الدولة، كما ذكرناه في الإشكال الثاني على الطريق الأوّل.

التمسّك بولاية الفقيه:

الطريق الثالث: هو التمسّك بمبدأ ولاية الفقيه، بأن يفترض أنّ الوليّ الفقيه إذا رأى من المصلحة إمضاء أمثال هذه الشخصيّة الحقوقيّة أمضاها، وحصلت

98

بذلك الشخصيّة الحقوقيّة. وهذا أقرب الى وجهة نظر الفقه الغربي من الوجهين الأوّلين، لما عرفت من أنّ الفقه الغربي يعطي أمر تشريع القوانين المصحّحة للشخصيّات الحقوقيّة بيد الدولة، ورئيس الدولة في رأينا هو الوليّ الفقيه وهو الذي يكون من حقّه تشريع قوانين معيّنة تتمّ على ضوئها الشخصيّات الحقوقيّة ضمن ضوابط وشروط.

وتنقيح هذا الوجه يتوقّف على الالتفات الى مقدار سعة دائرة ولاية الفقيه، فنقول: إنّ الولاية اُعطيت للفقيه من قِبل الشريعة الإسلاميّة، والمفهوم عرفاً من كلّ ولاية تعطى لأحد أو لفئة من قِبل نظام مّا أنّها ولاية في دائرة ما يكون داخلاً تحت ذاك النظام دون ما يكون خروجاً عليه، وكذلك الحال بالنسبة لولاية الفقيه، فالمفهوم عرفاً ـ من دليل ولاية الفقيه المعطاة له من قبل نظام الإسلام ـ هو الولاية في أمر لا يكون في نفسه خروجاً عن ذاك النظام، خاصّة إذا كان دليلنا مثل قول الحجّة عجّل الله فرجه: «أمـّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله (أو) وأنا حجّة الله عليهم»(1). فالأمر بالرجوع الى الرواة علّل بأنّهم حجّة الإمام (عليه السلام)، فلا يفهم من ذلك الولاية في أمر يكون في ذاته خروجاً عن النظام الذي يؤمن به الإمام (عليه السلام).

وعلى هذا فنقول: إنّ الولاية تارةً تلحظ بلحاظ دائرة الأحكام التكليفيّة، واُخرى تلحظ بلحاظ دائرة الاحكام الوضعيّة.

أمّا إذا لاحظنا دائرة الأحكام التكليفيّة فمقتضى الالتزام بما شرحناه من كون الولاية فيما لا يكون خروجاً على نظام الإسلام هو أن تختصّ الولاية بدائرة


(1) الوسائل 18: 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9، وكتاب إكمال الدين وإتمام النعمة: 484، الباب 45 التوقيعات التوقيع الرابع بحسب طبعة دار الكتب الإسلاميّة بطهران، وكتاب الغيبة للطوسي (رحمه الله): 177 بحسب طبعة مطبعة النعمان في النجف الأشرف.

99

المباحات ـ وأقصد بذلك الإباحة بالمعنى العامّ الشاملة للمستحبّ والمكروه ـ دون الإلزاميّات، إذ لو أمر الوليّ الفقيه بفعل مباح أو نهى عنه لم يكن هذا أمراً بما يكون خروجاً على نظام الإسلام، لأنّ التزام المولّى عليه بهذا الفعل أو بتركه لم يكن في نفسه مخالفاً لنظام الإسلام، لأنّ المفروض إباحة الفعل والترك معاً. وهذا بخلاف أن يأمر بترك الصلاة أو بشرب الخمر مثلاً، فإنّ هذا أمر بما هو خروج على نظام الإسلام ومخالفة للشريعة الإسلاميّة، وهذا غير مفهوم عرفاً من ولاية اُعطيت من قِبل نظام الإسلام والشريعة الإسلاميّة.

نعم، تشخيص الأهمّ والمهمّ في المتزاحمات في باب الأحكام الإلزاميّة يُعطى ـ بحدود المصالح الاجتماعيّة والعامّة ـ بيد الوليّ الفقيه. فمثلاً لو رأى الولي الفقيه أنّ باب الحجّ يجب سدّه في سنة كذا لتزاحمه مع مصلحة قطع الروابط مع الحكومة الجائرة المسيطرة على الحرمين الشريفين وكانت تلك المصلحة أهمّ في نظره من الحجّ فأمر بترك الحجّ وجب على المجتمع اتّباع الوليّ الفقيه في أمره بذلك.

وأمّا إذا لاحظنا دائرة الأحكام الوضعيّة فالمتجّه أيضاً تفصيل يشبه التفصيل الذي ذكرناه بلحاظ الأحكام التكليفيّة، فمتى ما كان الحكم الوضعي كالصحّة والبطلان قد ربط أمره برضا الشخص وعدم رضاه كان معنى ولاية الوليّ على هذا الشخص أنّ رضاه ومنعه أولى بالتحكيم من رضا نفس ذلك الشخص ومنعه، ومتى ما لم يكن كذلك عدّ إعمال الولاية في ذلك خروجاً على نظام الشريعة. فمثلاً صحّة البيع وبطلانه منوطان برضا المالك بالمبادلة وعدمه، وعندئذ يكون من حقّ الوليّ أن يبيع مال المولّى عليه من دون إذنه إذا رأى المصلحة في ذلك فيصحّ البيع، أو أن يمنع عن البيع لمصلحة في ذلك فيبطل البيع رغم رضا المالك، فكما أنّ الأب من حقّه بيع مال الصغير لمصلحته أو المنع عن البيع وإن رغب الطفل في ذلك فتدور صحّة البيع وبطلانه مدار رأي الأب ومنعه كذلك الوليّ

100

الفقيه الذي نسبته الى الاُمّة كنسبة الأب الى أطفاله يجوز له عندما يرى المصلحة في التدخّل أن يتدخّل في تصحيح بعض البيوع أو إبطاله.

أمّا إذا لم يكن الحكم الوضعي مرتبطاً برضا الشخص ومنعه كما في الطهارة والنجاسة فولاية الوليّ على شخص مّا أو على المجتمع لا تعني سيطرته على هذه الأحكام الوضعيّة بالنسبة للمولّى عليه بحيث يطهّر النجس وينجّس الطاهر مثلاً، فإنّ هذا خروج على نظام الشريعة.

إذا عرفت ذلك جئنا الى ما نحن فيه فنقول: إنّ ثبوت شخصيّة حقوقيّة لشركة مّا حكم وضعي ولم يثبت كونه مرتبطاً نفياً وإثباتاً بمجرّد رضا أصحاب الشركة وعدمه أو رضا المجتمع وعدمه، إذن فلعلّ هذا حكم وضعيّ من سنخ الطهارة والنجاسة لا من سنخ صحّة البيع وبطلانه، وعليه فلو كانت الشخصيّة الحقوقيّة للشركة مثلا بحدّ ذاتها غير ثابتة في الشريعة لبطلان الوجه الأوّل والثاني الماضيين لتصحيحها فولاية الفقيه عاجزة عن تصحيحها، فإنّ ولاية الفقيه على المجتمع أو على أصحاب الشركة إنّما تدلّ على أنّه يحلّ محلّهم في التصرّف ويكون أولى بالتصرّف منهم، فلو كان أمر إيجاد الشخصيّة الحقوقيّة بيدهم ثبت بذلك أنّه من حقّه إيجادها بالولاية عليهم. أمّا إذا لم يكن ذلك بيدهم، وكانت الشخصيّة الحقوقيّة في ذاتها منتفية شرعاً فإيجاد الفقيه لها خروج على نظام الإسلام، وهذا غير صحيح، والشكّ في ذلك كاف في عدم الثبوت.

وبهذا بطل آخر وجه من وجوه تصحيح الشخصيّات الحقوقيّة الثابتة في الفقه الغربي بشكل عامّ، وإن كنّا لا ننكر وجود ذلك في الجملة في فقهنا الإسلامي، كما لا ننكر تماميّة الاستفادة من الارتكاز في الجملة بالشكل الذي مضى بيانه ضمن بحثنا عن الطريق الأوّل.

إعمال الولاية بلحاظ الآثار:

وهناك تقريب لإثبات كلّ أو جلّ الآثار العمليّة للشخصيّات الحقوقيّة في

101

فقهنا عن طريق فرض تدخّل الفقيه بإعمال الولاية رغم عدم ثبوت نفس الشخصيّة الحقوقيّة، وذلك بأن يلحظ الفقيه الآثار العمليّة المترتّبة على فرض الشخصيّة الحقوقيّة ويأمر بها إذا رأى المصلحة الاجتماعيّة في ذلك من دون خلق هذه الشخصيّة ابتداءً التي فرضنا أنّها لا تخلق ابتداءً بولاية الفقيه، وذلك بالقدر الذي لا يتنافى مع نظام الإسلام.

فمثلا: كان من جملة الآثار العمليّة للاعتراف بالشخصيّة الحقوقيّة للشركة القانونيّة أنّ مَن أقرض الشركة مالا لم يضرب مع الغرماء الشخصيّين للشركاء لدى التفليس، بل أخذ حصّته من أموال الشركة لو كانت مشتملة على ذاك المقدار من دون مزاحمة الديّان الشخصيّين لهم إيّاه. وهذا يمكن تحقيقه لدى المصلحة بأمر الفقيه بأن يلزم الديّان الشخصيّين للشركاء بأمر كان مباحاً لهم وهو عدم مزاحمتهم لمن أقرضهم لصالح الشركة في أخذ حصّته من المال الموجود في حوزة الشركة.

وكان من جملة الآثار العمليّة للشخصيّة الحقوقيّة أنّه لو كان أحد دائناً للشركاء ومديناً للشركة أو بالعكس لم يقع التهاتر بين الدَينين.

فإن قلنا: إنّ التهاتر بين الدَينين في موارده أمرٌ اختياريّ وليس قهرياً، أي أنّ أحد المدينين بإمكانه أن يوفي دَينه بجعل ما يطلبه من صاحبه بدلا عن دَينه، وأنّ أحد المدينين لو عصى وامتنع عن الأداء كان لصاحبه تملّك ما عليه بالتقاصّ، إذن فمن حقّ الفقيه إلزامهم بما كان مباحاً لهم من عدم اختيار التهاتر.

وإن قلنا: إنّ التهاتر أمرٌ قهريّ فإنّما يكون التهاتر أمراً قهريّاً في نظر العقلاء عند تماثل الوفاءين، ولذا لو حلّ زمان وفاء أحدهما دون الآخر مثلا لم يقع التهاتر ولو كان وفاء أحدهما مقيّداً بنقد من النقود غير ما يوفّي به الآخر لم يقع التهاتر، فمن حقّ الوليّ الفقيه لدى المصلحة أن يقيّد أحد الوفاءين بما كان يجوز لهم تقييده به من خصوص مال الشركة أو خصوص أموال الشركاء الشخصيّة.

102

وكان من جملة الآثار العمليّة للشخصيّة الحقوقيّة تمثّلها بمتولّيها لدى القاضي في المرافعة دون حاجة إلى إحضار الشركاء أو الحكم عليهم بعنوان الحكم على الغائب، وبإمكان الوليّ الفقيه لدى المصلحة أن يحجر الشركاء عن متابعة وضع الأموال الموجودة في الشركة فيما هو متنازع فيه، فيصبحون بذلك قاصرين عن المرافعة ومحتاجين إلى الوليّ، فيجعل متولّي الشركة وليّاً عليهم يتابع المرافعة كمتابعة الأب المرافعة الراجعة إلى طفل صغير.

ولو لم نقبل ما مضى منّا في آخر بحث الطريق الأوّل من ارتكازيّة تمليك الصناديق الخيريّة أو الجهات الاُخرى كان بإمكان الفقيه لدى المصلحة أن يلزم الملاّك، وكذلك ورثتهم بعد موتهم بما كان مباحاً لهم من عدم الاستفادة من تلك الأموال وأن لا تصرف إلّا في مصاريف تلك الجهة.

وإن شئت قلت: إنّ الشخصيّة الحقوقيّة ليست إلّا صياغة عقلائيّة وتكييفاً عقلائيّاً لهذه الأحكام، فلئن لم يكن فرض هذه الأحكام من قِبل الفقيه خروجاً عن نظام الشريعة الإسلاميّة ففرض الشخصيّة الحقوقيّة من قِبل الفقيه لا يُعدّ خروجاً عن هذا النظام، فيكون مشمولا لدليل ولاية الفقيه.

نعم، يبقى الشأن بعد كلّ هذا في إحراز المصلحة الاجتماعيّة في ذلك؛ لأنّ ولاية الفقيه إنّما هي في حدود مصالح المجتمع لا في العمل بالرغبة وهوى النفس.

 

بيع سهام الشركات وشراؤها:

يبقى الكلام في مسألة بيع سهام الشركات وشرائها.

وبيع السهم عبارة عن إيكاله لشخص آخر لقاء ثمن. وملخّص الكلام في ذلك: أنّ الشركة يمكن أن تفترض لها إحدى حالات ثلاث:

الحالة الاُولى: أن نفترض لها شخصيّة حقوقيّة في مقابل الشركاء تملك وتبيع وتشتري وتقترض وتهب وما إلى ذلك، وهي خارجة من ملك الشركاء إطلاقاً وإنّما الشركاء يعتبرون في ما جعلوا فيها من أموال حقيقيّة دائنين لها.

103

الحالة الثانية: أن تفترض أن الشركة ملك للشركاء وفق حصصهم إلّا أن لها شخصيّة معنوية أكبر قيمة من الأموال الحقيقيّة التي جُعلت من قبل الشركاء في الشركة.

الحالة الثالثة: أن تفترض أنّ الأموال الحقيقيّة الموجودة في داخل الشركة هي ملك للشركاء كباقي أموالهم الشخصيّة بفرق أنّ المال الشخصي لكلّ واحد منهم خاصّ به، أ مّا هذا المال فهم فيه شركاء سواء كانت الشركة قهريّة كما لو كان الشركاء إخوة ورثوا المال المشترك من أبيهم، أو عمديّة واختياريّة كما لو اشتركوا عمداً في المبالغ، فالبيع والشراء يقع على أموال حقيقيّة وليست حقوقيّة ولا معنويّة وهذا الاشتراك هو الاشتراك الوارد في فقهنا المألوف.

أ مّا الفرض الأوّل: فلو تمّ وفق مقاييس الفقه الإسلاميّ لم يكن معنى لبيع أو شراء سهم من سهام هذه الشركة حقيقةً؛ لأنّ المشترك ليس إلّا دائناً لهذه الشركة، فكأنّ المقصود من بيع السهم على هذا الفرض إنّما هو بيع دائن الشركة لما يملكه على ذمّة هذه الشركة.

والإشكال الفقهي الوارد على ذلك هو الاستشكال في أصل هذه الشخصيّة الحقوقيّة وثبوت ذمّة لها؛ لأن الأصل الأوّلي يقتضي نفي وجود شخصيّة حقوقيّة من هذا القبيل؛ لأنّ الاستصحاب يقتضي عدمها ومجرّد وجود بعض النماذج للشخصيّة الحقوقيّة في فقهنا ـ والمتيقّن من ذلك منصب الدولة أو منصب الإمامة ـ لا يصلح دليلا لحقّانيّة الشخصيّة الحقوقيّة للشركات، إذن فلابدّ من إيجادها بالولاية في حين أنّه لا دليل على ولاية الفقيه في إيجاد أحكام وضعيّة تكون موضوعاً للأحكام التكليفيّة كالطهارة والنجاسة أو الحدث أو نفيه وما إلى ذلك.

نعم، الأحكام الوضعيّة الانتزاعيّة التي تنتزع من الأحكام التكليفيّة يمكن للفقيه وضعها بوضع منشأ انتزاعها لو كانت تلك الأحكام التكليفيّة داخلة في حيطة تصرّف الوليّ الفقيه.

104

وبكلمة اُخرى: إنّ الفقيه يضع الأحكام الوضعيّة الانتزاعيّة بوضع منشأ انتزاعها في مورد يكون وضع منشأ الانتزاع من صلاحيّات الوليّ الفقيه، أ مّا في مثل المقام فافتراض خلق الشخصيّة الحقوقيّة ابتداءً من قبل الوليّ الفقيه في غاية الإشكال.

اللهمّ إلّا إذا تجاوزنا إثبات هذه الشخصيّة الحقوقيّة ورجعنا إلى الأحكام التكليفيّة المترتّبة عليها فوجدناها جميعاً داخلة في صلاحيّات الوليّ الفقيه فأوجدها الفقيه ثمّ انتزعنا منها الشخصيّة الحقوقيّة فأصبحت انتزاعيّة وليست أصيلة. ولا شكّ أنّ هذا ليس هو المفهوم عندهم.

وأمّا الفرض الثاني ـ وهو فرض تقمّص مال الشركة شخصيّة معنويّة أكبر قيمة من الأموال الحقيقيّة الموجودة في داخل الشركة ـ: فليس بأفضل حالا من الفرض الأوّل؛ فإنّ خلق تلك الشخصيّة المعنويّة خلاف الأصل، وإعمال ولاية الفقيه ينصدم بنفس المشكلة التي عرضناها في الفرض الأوّل.

وأ مّا الفرض الثالث ـ وهو أنّه لا يوجد في الشركة عدا نفس الأموال التي وضعت فيها وهي ملك للشركاء كأموالهم الشخصيّة، ويقع البيع والشراء عليها ـ: فهذا كما قلنا أقرب الفروض إلى تصوّراتنا الفقهيّة.

وملاحظة مدى شرعيّة هكذا سهم وخلوّه من الإشكال أو خلوّ بيعه وشرائه تعود إلى ملاحظة كلّ واحد من تلك الأموال:

فمثلا إن كانت تلك الأموال مزيجة من الأموال المحلّلة الأكل والمذكّاة أو المطعومات المحلّلة الأُخرى، ومن الأموال المحرّمة كالميتة أو الخمر والخنزير وما إلى ذلك دخل الإشكال في السهام بنسبة القسم المحرّم.

وإن كانت من تلك الأموال حقوق من قبيل حقّ الطبع أو التأليف أو الاختراع أو ما إلى ذلك فشرعيّة السهام بنسبة تلك الحقوق تعود إلى مدى اعتراف الفقيه بتلك الحقوق وعدمه.

105

وإن كانت من تلك الأموال الأعمال فمدى شرعيّة أو عدم شرعيّة السهام بنسبة تلك الأعمال المفترضة تعود إلى مدى اعتراف الفقيه بما يسمّى بشركة الأبدان وعدمه.

وإن كانت من تلك الأموال مجرّد تقوية السهام بقوّة اعتباريّة من قبيل أنّ تاجراً كبيراً يضمن خسارة السهم لو خسر لقاء أن يكون سهيماً في أرباح هذه الشركة بنسبة معيّنة أو سهيماً في أموال هذه الشركة بنسبة معيّنة، فهنا طبعاً لا يعني بيع سهم هذا الشخص الذي اشترك بقوّته الاعتباريّة بيع هذه القوّة أو هذا الاعتبار؛ فإنّ هذا أمر قائم بنفس هذا الشخص ولا يقبل الانتقال، وإنّما يعني بيع السهم أنّ يبقى هذا الشخص على ما هو عليه من دعمه لهذه الشركة بقوّته وضمانه للخسارة مثلا ويكون بقاؤه على هذا الدعم موجباً لتقوية قيمة السهام فيباع كلّ سهم من تلك السهام بقيمة أكبر من الأموال العينيّة التي جعلت في الشركة وهذا الأمر لا يخلق إشكالا في المقام.

وأخيراً لابدّ من البحث عن بيع سهام البنوك والتي تخلو من أكثر هذه الإشكالات فليست فيها أمتعة محرّمة كالخمر أو لحم الخنزير ولا مشكلة مثل حقّ الطبع أو شركة الأبدان.

ولكن هنا لابدّ من الالتفات إلى ما توجد من الإشكالات الماضية في البنوك أيضاً من ناحية وإلى إشكالات جديدة تخصّ البنوك من ناحية اُخرى.

فأوّلا: لو فرضت لشركة البنك شخصيّة حقوقيّة أو معنويّة جرى في المقام نفس الإشكال السابق.

وثانياً: لو فرضنا شركة البنك شركة عادية مملوكة لأصحابها كباقي أموالهم الشخصيّة فالإشكال السابق لا مورد له، ولكن لو كان البنك ربويّاً ويكون السهم المباع أو المشترى شاملا لما استقرّ لدى البنك من الربا فقد أصبح الجزء الربوي جزءاً محرّماً من قبيل حرمة لحم الخنزير أو الخمر التي مضت الإشارة إليه فيما مضى ورجع ذاك الإشكال.

106

وثالثاً: لو فرضنا البنك خالياً من الربا وهو في نفس الوقت ملك شخصي لأصحابه من دون شخصيّة حقوقيّة ولا معنويّة فجميع الإشكالات الماضية غير وارد في المقام.

ولكن البحث الجديد الذي يوجد هنا يبتني على ما نحن بنينا عليه من أنّ بيع النقود الورقيّة ملحق لدينا ببيع الصرف، فأوّلا: لا يصحّ إلّا البيع بالمساوي. وثانياً: لابدّ من تسليم العوضين وتسلّمهما في نفس مجلس البيع.

فلو التزم بالاحتفاظ بشرط التساوي لم يرد إشكال في المقام من ناحية هذا الشرط.

وأ مّا شرط تسليم العوضين فالظاهر أنّه لا يشكّل إشكالا في المقام؛ لأنّ تسليم العوض من قِبل المشتري للبنك تسليم للشخص السهيم في البنك؛ لأنّ الأشخاص القائمين على البنك وكلاء عنه، وكذلك مجرّد إدخال المبلغ في حساب المشتري يعتبر تسليماً له إيّاه؛ لأنّه قد تسلّمه القائمون على البنك الذين هم وكلاء عن كلّ مَن يدخل المال في حسابه.

هذا تمام الكلام في بحثنا عن الملك. ويأتي بعده البحث عن مفهوم المال المقصود في المقام.

107

 

 

 

ـ 2 ـ

المـراد بالمــال

 

تعريف المال:

مقصودنا بالمال في المقام (ما يرغب في امتلاكه بالعوض ذاتاً امتلاكاً غير محرّم) ولا يشترط في ذلك الرغبة العقلائيّة العامّة، فصورة شخص مّا مثلا قد يرغب ابنه في شرائها ولو بأغلى الأثمان، بينما عامّة الناس لا يقيم لها وزناً. ولو فرضنا دلالة دليل تعبّدي على اشتراط الرغبة العامّة في صحّة البيع أو المبادلة فهذا لا يمنع عن أن نجعل موضوع البحث هنا مطلق المال حتى نبحث بعد ذلك عن شرائط صحّة المبادلة كي نرى هل من شرائطها الرغبة العامّة أوْ لا؟

 

تحديد حدود المال:

والمال كما يصدق على العين كذلك يصدق على العمل والمنفعة ـ وإن كانت ماليّة المنفعة مندكّة في ضمن ماليّة العين ـ بل المنفعة حيثيّة تعليليّة لماليّة العين، وليست ماليّتها مستقلّة عن العين، كما أنّ ملكيّتها لم تكن مستقلّة عن العين. نعم، تظهر ماليّتها بشكل مستقلّ حينما تفصل عن العين، كما في عمل الحرّ في رأي الشريعة التي أسقطت الحرّ عن الماليّة ـ أي حكمت بتحريم امتلاكه ذاتاً

108

والمعاوضة عليه ـ ولم تسقط عمله عن الماليّة. كما مضى أنّه تظهر ملكيّتها بالاستقلال حينما تنفصل عن ملكيّة العين كما في باب الإيجار.

والهدف من ذكر كلمة (ذاتاً) في تعريفنا للمال هو إدخال ما امتنع امتلاكه بالعوض لعارض مّا ضمن تشريع، ولم يكن ذاك التشريع يرى عدم صحّة امتلاكه بالعوض لازماً ذاتياً له، وذلك كالعين الموقوفة التي منع التشريع عن تبادله لعارض وهو تعلّق الوقف بها، وكالعين المرهونة ونحو ذلك. فذاك التشريع معترف بماليّة هذه العين رغم عدم إمكان امتلاكها بالعرض.

والهدف من قيد (الرغبة) إخراج ما لا يرغب في امتلاكه إمّا لفقدانه لجميع المنافع أو لانتشاره وسعته كالهواء.

والهدف من قيد عدم الحرمة إخراج مثل الخمر التي يحرم امتلاكها والمعاوضة عليها شرعاً، فهي ليست مالا شرعاً وإن كانت مالا عرفاً لعدم الحرمة العرفيّة في ذلك.

وقد أخرجنا بهذا التعريف الحقّ، لأنّه لا يصبح طرفاً لإضافة الملك وإنّما هو إضافة في عرض إضافة الملك، وإنّما المال هو ما يتعلّق به الحقّ.

 

آراء اُخرى في تحديد المال:

وقد نقل عن الحنفيّة اختصاص عنوان المال بالعين، فلا يشمل المنفعة(1). وليس مقصودهم بهذا منع التبادل في باب المنافع وتخصيص العقود الماليّة بالأعيان، فإنّ هذا خلاف فتاواهم. إذن فلا يعدو هذا أن يكون اصطلاحاً خاوياً.


(1) راجع الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد 3: الفقرة 71 - 73.

109

وقد نقل عن علماء القانون الحديث شمول عنوان المال للحقوق المتعارف تداولها والاعتياض عنها(1).

وما ذكرناه أولى لما قلناه من أنّ الحقّ كالملك، وهما يتعلّقان بالمال، وكما لا يكون الملك مالا آخر غير متعلّقه كذلك الحقّ.

وأغرب ما رأيته في المقام ما نقل عن القانون المدنيّ العراقيّ من تعريف المال بأنّه كلّ حقّ له قيمة مادّيّة(2)، فقصر مفهوم المال على الحقوق بما فيها حقّ الملكيّة، وأخرج بذلك الأعيان عن حيّز المال، نظراً إلى أنّ ماليّة الأعيان إنّما هي باعتبار ما فيها من حقوق لأصحابها، فتدخل في زمرة الحقوق.


(1) راجع الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد 3: الفقرة 75.

(2) راجع نفس المصدر، الفقرة 76.

111

 

 

 

ـ 3 ـ

تحليل حقيقة الحقّ

 

يقع البحث عن الحقّ، والفرق بينه وبين الملك والحكم.

 

تفسير الحقّ في الفقه الإسلامي:

ذكر المحقّق النائينيّ (رحمه الله): أنّ الحقّ سلطنة ضعيفة على المال، والسلطنة على المنفعة أقوى منها، والأقوى منهما السلطنة على العين، فالجامع بين الملك والحقّ هو الإضافة الحاصلة من جعل المالك الحقيقي لذي الإضافة المعبّر عنها بالواجديّة، وكون زمام أمر الشيء بيد من جعل له وكونه ذا سلطنة وقدرة. وهذه الإضافة لو كانت من حيث نفسها ومن حيث متعلّقها تامّة بأن تكون قابلة لأنحاء التقلّبات تسمّى ملكاً. ولو كانت ضعيفة ـ إمّا لقصور نفس الإضافة كحقّ المرتهن بالنسبة للعين المرهونة، وإمّا لقصور في متعلّقه كحقّ التحجير وحقّ الخيار بناءً على تعلّقه بالعقد غير القابل لما عدا الفسخ والإجازة وحقّ الاختصاص بالنسبة إلى الأشياء غير المتموّلة كالخمر القابل للتخليل ـ تسمّى حقّاً(1).

وقد جاء في تقرير الشيخ الآمليّ لبحث المحقّق النائينيّ (رحمه الله) نقلا عن بعض


(1) منية الطالب للشيخ موسى النجفي 1: 41.

112

الاساطين التعبير عن الحقّ بـ (ملكيّت نارسيده) أي الملكيّة غير الناضجة(1).

وبحث المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله)(2) في المقام تفاسير ثلاثة للحقّ:

التفسير الأوّل: ما نسبه إلى المشهور، وهو أنّ الحقّ بمعنى السلطنة، ورأى أنّ هذا غير الملك؛ لأنّه يرى الملك عبارة عن الإحاطة والاحتواء دون السلطنة. وذكر (رحمه الله): أنّه ليكن المراد بالسلطنة السلطنة الاعتباريّة لا السلطنة التكليفيّة ليورد على ذلك أنّ الجواز التكليفي من أحكام الحقّ لا نفسه، أو أنّه لا سلطنة للقاصر على التصرّفات مع كونه ذا حقّ شرعاً. وذكر أيضاً: أنّ المرادبالسلطنة الاعتباريّة اعتبار السلطنة لا السلطنة الانتزاعيّة لما يرد على ذلك ما أوردناه على انتزاعيّة الملك.

التفسير الثاني: أن يقال: إنّ الحقّ هو الملك، ولذا عُبّر عن حقّ الخيار بملك الفسخ والإمضاء.

وذكر (رحمه الله) على هذا التفسير إشكالين:

الأوّل: أنّ الملك يستلزم السلطنة المطلقة مع أنّ الحقّ سلطنة خاصّة على تصرّف خاصّ.

وأجاب على ذلك: بأنّ سعة المملوك وضيقه لا ربط له بسعة الوجدان وضيقه.

والثاني: أنّ الحرّ لا يملك عمل نفسه بالمعنى الذي يملك به أمواله، بينما الحقّ قد يتعلّق بعمل من أعمال ذي الحقّ كحقّ الفسخ والإمضاء، فإنّ الفسخ أو الإمضاء عمل لنفس ذي الحقّ.


(1) المكاسب والبيع للشيخ محمد تقي الآملي (رحمه الله) 1: 92.

(2) في تعليقته على المكاسب (فائدة في تحقيق حقيقة الحقّ): 10 و 11.

113

وأجاب على ذلك بأنّ عمل الحرّ يصبح مملوكاً له في حالتين:

(الاُولى) ما يتوقّف تحقّقه على اعتبار ملكه إيّاه وسلطنته عليه كالفسخ والإمضاء والتملّك، فهنا يعتبر ملكه لذاك العمل كي يصبح قادراً عليه. أمّا العمل الذي يقال عنه أنّه لا يملكه نفس العامل فهو ما يكون من قبيل الأكل والشرب والكتابة والخياطة ونحو ذلك ممّا لا يتوقّف تمكّنه منه من اعتبار الملك فيلغو اعتبار الملك.

(والثانية) العمل الذي يكون الإنسان قادراً عليه بلا حاجة إلى اعتبار ملكه إيّاه كالأكل ولكن كان له مساس بملك الغير، فمن حيث انتسابه إلى ملك الغير عدّ من منافع ملك الغير ومملوكاً للغير تبعاً، فيصحّ تمليك الغير إيّاه لنفس العامل أو جعل الشارع له إيّاه كحقّ المارّة.

وأورد (رحمه الله) على هذا الوجه ـ أعني تفسير الحقّ بالملك ـ بأنّه ربّما يضاف الحقّ إلى شيء لم يكن له اعتبار الملك شرعاً كحقّ الاختصاص بالخمر التي كانت خلاًّ قبل ذلك، وكحقّ الأولويّة في الأرض المحجّرة التي لا تملك إلّا بالإحياء على المشهور، فالحقّ ليس بمعنى الملك إمّا مطلقاً أو في أمثال هذه الموارد.

قال (رحمه الله): نعم، تفسيره بمعنى السلطنة الوضعيّة ـ يعني التفسير الأوّل ـ ممّن يجعل الملك غير السلطنة لا مانع منه. وأمّا من يرى أنّ الملك بمعنى السلطنة فالإيراد متوجّه إليه أيضاً.

أمّا الجواب على مثل النقض بحقّ الاختصاص في الخمر التي لا تملك شرعاً وحقّ الأولويّة في الأرض المحجّرة على رأي المشهور القائل بعدم ملكها بأنّنا نفترض الحقّ مرتبة ضعيفة من الملك، والملك المنفيّ في الخمر وفي الأرض المحجّرة هي الملكيّة التامّة، فلم يرتضه المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله)، واعترض على

114

التفريق بين الملك والحقّ باختلاف الدرجة بأنّ حقيقة الملك سواء كانت من مقولة الإضافة أو مقولة الجدة ليست لها مراتب مختلفة. أمّا الإضافة فهي تتبع المقولة التي تعرضها، فإن كانت من مقولة تقبل الشدّة والضعف كالكيف قبلت الشدّة والضعف كعنوان الأحرّ العارض على الحرارة، وإلّا فلا. وأمّا الجدة فلا تتّصف بالشدّة والضعف، وإنّما تتّصف بالزيادة والنقص، حيث إنّ الهيئة الحاصلة للرأس من العمامة مثلا أنقص من الهيئة الحاصلة للبدن من القميص.

التفسير الثالث: ما ذكره بعنوان (يمكن أن يقال) قائلا: «وإن لم أجد من وافق عليه صريحاً» وهو أن يقال: إنّ الحقّ ليس له معنىً واحد في كلّ الموارد، ففي جملة من الموارد توجد هناك اعتبارات خاصّة لها آثارها الخاصّة، ولتكن تلك الاعتبارات هي الحقّ بلا حاجة إلى افتراض اعتبار آخر و هو اعتبار سلطنة أو ملك لترتيب تلك الآثار عليه.

فحقّ الولاية مثلا ليس إلّا اعتبار ولاية الحاكم والأب والجدّ، ومن أحكام نفس هذا الاعتبار جواز تصرّفه في مال المولّى عليه تكليفاً أو وضعاً، ولا حاجة إلى اعتبار آخر اسمه السلطنة أو الملك مثلا، وإضافة الحقّ إلى الولاية إضافة بيانيّة. وكذلك حقّ التولية وحقّ النظارة. وكذلك حقّ الرهانة، فإنّه ليس إلّا اعتبار كون العين وثيقة شرعاً، وأثره جواز الاستيفاء ببيعه عند الامتناع عن الوفاء. وكذلك حقّ التحجير، أي الحقّ المسبّب عن التحجير، فهو ليس إلّا اعتبار كونه أولى بالأرض من دون لزوم اعتبار آخر. وحقّ الاختصاص في الخمر ليس إلّا نفس اعتبار اختصاصه به في قبال الآخرين من دون اعتبار ملك أو سلطنة له، وأثر الأولويّة والاختصاص عدم جواز مزاحمة الغير له.

وخلاصة هذا الكلام: أنّه لا داعي لاعتبار السلطنة في جملة من الحقوق.

115

قال(رحمه الله): نعم، لا بأس بتفسير الحقّ بالسلطنة عندما يكون مفهوم السلطنة مأخوذاً في لسان الدليل كحقّ القصاص، حيث قال الله تعالى بشأنه: ﴿فقد جعلنا لوليّه سلطاناً﴾(1) وكذلك عندما لا يكون هناك معنىً اعتباريّ آخر مناسب للمقام. ولو فرض عدم ذكر عنوان السلطنة في لسان الدليل ـ وذلك كما في حقّ الشفعة ـ فإنّه ليس معناه اعتبار نفس الشفعة أي ضمّ حصّة الشريك إلى حصّته، وإلّا للزم انتقال حصّة الشريك إليه بمجرّد ثبوت الحقّ، بينما ليس كذلك. فحقّ الشفعة يعني السلطنة على ضمّ حصّة الشريك إلى حصته. وكذلك حقّ الخيار يعني السلطنة على اختيار الفسخ أو الإمضاء لا اعتبار اختيار أحدهما بالفعل بأن يكون بالفعل فاسخاً أو ممضياً، إذ لا فسخ ولا إمضاء بمجرّد جعل الحقّ.

قال (رحمه الله): نعم، ليس حقّ الخيار ملك الفسخ والإمضاء معاً أو السلطنة عليهما معاً، وإلّا نفذ إمضاؤه وفسخه معاً، ولا أحد الأمرين من الفسخ والإمضاء، فإنّ أحدهما المردّد لا ثبوت له حتى يقوّم به الملك أو السلطنة، بل الملك أو السلطنة يتعلّق بترجيح أحد الأمرين على الآخر.

وقال (رحمه الله): ويمكن أن يقال: إنّ المعنى الاعتباريّ المعقول هنا غير السلطنة، والمناسب للخيار جعله مفوّضاً، فاعتبار كونه مفوّضاً يترتّب عليه جواز الفسخ والإمضاء تكليفاً ووضعاً من دون لزوم اعتبار آخر.

أقول: إنّ هذا الكلام المفصّل للمحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) فيه مجال واسع للملاحظة:

فأوّلا: أنّنا لا نظنّ بمن يعتبر الحقّ مرتبة ضعيفة من الملك كالمحقّق النائيني


(1) الاسراء: 33.