285

بطلانه وإنّما تنظر إلى تحريم التصرف الاستهلاكي والانتفاعي في ملك الغير وكونه بعد الفسخ باقياً على ملك الغير أوّل الكلام، ولا يأتي هنا الجواب الذي مضى عن هذه الشبهة في «الناس مسلطون على أموالهم» من أنّ الكلام في نفس الفسخ إذ المفروض هنا أنّ الرواية أجنبية عن نفس الفسخ.

وإنْ حملنا الحلّ في الرواية الاُولى على ما يشمل الحلّ الوضعي وفي الرواية الثانية على الحلّ التكليفي، بدعوى أنّ كلمة التصرف قرينة على ذلك لأنّ التصرف حقيقة في التصرف الاستهلاكي والانتفاعي دون الاعتباري، إذن فالرواية الاُولى تدل على اللزوم والثانية تأتي فيها الشبهة التي شرحناها.

والواقع أنّه حتى إذا فسّرنا الحِلّ بمعنى الحِلّ التكليفي ـ كما هو الظاهر ـ فالرواية بكلتا صيغتيها تدلُّ على اللزوم وذلك لأنّ العرف لا يتعقّل افتراض حرمة التصرف الانتفاعي والاستهلاكي في مال الغير مع صحّة تملّكه بلا رضاه ومن ثَمّ جواز تصرفه فيه بعد التملك لأنّه خرج عن كونه مال الغير، فأيُّ احترام هذا لمال الغير حينما يحرّم التصرف فيه بلا إذنه، لكن يحلّل تملّكه بلا إذنه أوّلا ثم التصرف فيه لأنّه خرج عن كونه مالا له؟ ! !

إذن فدليل حرمة التصرف الاستهلاكي والانتفاعي في مال الغير بلا إذنه يدلُّ بالالتزام العرفي على بطلان تملّكه بلا إذنه، فالفسخ إذن من دون إذن الطرف الآخر للمعاملة غير صحيح حسب الطبع الأوّلي.

 

دلالة السيرة والاستصحاب على اللزوم:

وهنا وجهان آخران لإثبات اللزوم غير الإطلاقات وهما:

أوّلا ـ التمسك بالسيرة، والبحث في ذلك من قبيل بحثنا عن السيرة في إثبات صحة المعاطاة فلا نُعيده.

286

وثانياً ـ الاستصحاب، فالملكية التي حصلت بالعقد قد شككنا في زوالهابالفسخ نتيجة الشك في لزوم العقد وجوازه فنستصحب بقاءه، والملكية التي زالت بالعقد قد شككنا في رجوعها وعدمه نتيجة الشك في لزوم العقد وجوازه فنستصحب عدمها. وعمدة الإشكالات التي قد تورد على هذا الاستصحاب أمور ثلاثة:

الإشكال الأوّل ـ إشكال السيد الخوئي (رحمه الله) وهو عدم حجيّة الاستصحاب لدى الشك في الأحكام الكليّة نتيجة لما يؤمن به من وقوع التعارض بين استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل. وهذا الإشكال بحثه بحث مبنائي بحت راجع إلى علم الاُصول فنحن نحيل هذا البحث إلى محلّه من علم الاُصول، والنتيجة المختارة هناك هي جريان الاستصحاب عند الشك في الحكم الكلّي وعدم قبول التفصيل بين الشبهة الحكميّة والشبهة الموضوعيّة.

والإشكال الثاني ـ إشكال استصحاب الكلّي حيث يُقال: إنّ الملك الحاصل في المقام مردَّدٌ بين الملك الجائز والملك اللازم، والأوّل إن كان فهو مرتفع يقيناً، والثاني مشكوك الحدوث، فهذا من قبيل العلم الإجمالي بوجود حيوان مردّد بين حيوان طويل العُمر وحيوان قصير العمر. وهذا الإشكال يمكن بحثه مبنىً وبناءً:

أمّا بحثه المبنائي، وهو البحث عن حجيّة القسم الثاني من استصحاب الكلّي فنحيله أيضاً إلى محلّه من علم الاُصول والمختار هو حجيته.

وأمّا بحثه البنائي، فهو عبارة عن المنع عن كون الجواز واللزوم مفرّدين للملكيّة ومقوّمين لها أو كاشفين عن مايز مقوّم بينهما. نعم هما يعتبران من أحكام الملكية، فالملكية تارة يحكم عليها بالجواز واُخرى باللّزوم تبعاً لاختلاف

287

أسباب الملكية أو مواردها لا تبعاً لاختلاف حقيقة الملك. إذن فاستصحاب الملكية استصحاب لشخص الملكية لا للجامع بين الفرد الذي لو كان فهو زائل والفرد المشكوك الحدوث.

وتوضيح ذلك: أنّ معنى الملكية الذي انشأه المتعاقدان هو معنى مفهوم لدى العقلاء ومعروف عدم تقوّمه بالجواز أو اللزوم وعدم اختلافه بعنصر مقوّم لأقسام الملكية موجب للاختلاف بينهابالجواز واللّزوم، فليس ما ينشئه المتعاقدان في الهبة اللاّزمة مختلفاً عمّا ينشئآنه في الهبة الجائزة، نعم مصبّ كلامنا إنّما هي الملكية الشرعية لا ما انشأه المتعاقدان. ولكن إذا كان من الواضح أنَّ الجواز واللزوم لا دخل لهما فيما ينشئه المتعاقدان ولا يتبعان فرقاً بين المنشأين قلنا:

إنّ ظاهر أدلة إمضاء العقود عرفاً إنّما هو ترتيب الملكية الشرعية بالنحو المماثل للمعنى الذي قصده المتعاقدان، وذلك إمّا بدعوى أنَّ إمضاء عقد شرعاً يكون ظاهراً ابتداء في إمضاء ما قصده المتعاقدان إلّا ما خرج بالدليل، وإمّا بدعوى أنّ الحكم العقلائي الذي يترتب في ارتكاز العقلاء على العقد إنّما هي الملكية بالمعنى المماثل لما قصده المتعاقدان، والأحكام الشرعية الواردة في موارد الارتكازات العقلائية تحمل بطبعها الأوّلي على ما يطابق تلك المرتكزات إلّا ما خرج بالدليل.

هذا والشيخ الأنصاري (رحمه الله)اختار في المقام ما اخترناه من أنّ الاستصحاب استصحابٌ لشخص الملك لا للجامع بين الملك الجائز والملك اللاّزم، لأنّ الجواز واللزوم من أحكام أسباب الملك وليسا من خصوصيات الملك، وأنّه حتى لو فرض الاستصحاب في المقام استصحاباً للجامع فلا بأس بجريانه، وناقش المحقق الخراساني(رحمه الله) الشيخ في كلا هذين الكلامين:

288

أمّا كلامه الأوّل ـ وهو كون الاستصحاب في المقام استصحاباً لشخص الملك لعدم اختلاف حقيقة الملك في مورد اللزوم عنها في مورد الجواز، فأورد عليه بأنّ هذا لا ينسجم مع فهم الشيخ الأنصاري (رحمه الله)لحقيقة اللزوموالجواز في العقود اللازمة والجائزة فإنْ كان الجواز واللزوم بمعنى إمكان فسخ العقد وعدمه كما في حق الخيار المفسَّر بحق فسخ العقد، صحَّ القول بأنّ اللزوم أو الجواز حكم يختلف باختلاف أسباب الملك، وهي العقود لا باختلاف حقيقة الملك.

ولكن المستفاد من كلام الشيخ الأنصاري (رحمه الله) في بحث ملزمات المعاطاة هو أنَّ الرجوع في باب المعاملات الجائزة يختلف عنه في باب حق الخيار، فالرجوع في مورد حق الخيار يعني فسخ العقد، وما دام العقد قائماً غير منفسخ لا بدّ من الالتزام بنتائجه وإنّما ترفع نتيجة العقد برفع العقد وفسخه، وأمّا العقود الجائزة فمعنى جوازها إمكانية التراجع عن نتائجها مباشرة من دون فسخ لها، فالواهب ـ هبة جائزة ـ يجوز له إرجاع العين مباشرة بلا حاجة إلى فسخ الهبة والعاقد بالمعاطاة بناء على عدم لزومها يجوز له ترادّ العينين دون توسيط فسخ المعاملة.

فإذا كان هذا هو حقيقة الجواز واللزوم في العقود اللازمة والجائزة مما لا علاقة له بفسخ السبب وهو العقد وعدمه، إذن فاختلاف الملك باللزوم والجواز ليس من أحكام الأسباب وهي العقود كي يختلف باختلافها، وإنّما هو من أحكام المسببات وهي نفس الملك حيث كان معنى الجواز إمكان التراجع عن المسبب مباشرة ومعنى اللزوم عدم إمكانه، ولا إشكال في أنَّ اختلاف حكم الملك يتبع اختلاف خصوصية في الملك كي لا يكون حكم الشارع جزافاً وإن فرض اختلاف الخصوصية في الملك ناتجاً عن اختلاف الأسباب، وهذا يؤدّي إلى

289

رجوع استصحاب الملك في المقام إلى استصحاب الكليّ(1).

أمّا عبارة الشيخ الأنصاري (رحمه الله)التي استفاد منها المحقق الخراساني دعوى الفرق بين الجواز الخياري وجواز العقد ذاتاً، بكون الأوّل راجعاً إلى جواز فسخ المعاملة والثاني راجعاً إلى جواز ترادّ العينين من دون توسيط فسخ المعاملة فهي ما ورد في المكاسب من الاستدلال على مُلزمية مثل تلف العوضين بناء على إفادة المعاطاة الملك بامتناع الترادّ عندئذ قال الشيخ (رحمه الله): (... وأمّا على القول بالملك فلما عرفت من أصالة اللزوم، والمتيقن من مخالفتها جواز ترادّ العينين وحيث ارتفع مورد الترادّ امتنع ولم يثبت قبل التلف جواز المعاملة على نحو جواز البيع الخياري حتى يستصحب بعد التلف لأن ذلك الجواز من عوارض العقد لا العوضين فلا مانع من بقائه بل لا دليل على ارتفاعه بعد تلفهما، بخلاف ما نحن فيه فإنّ الجواز فيه هنا بمعنى جواز الرجوع في العين نظير جواز الرجوع في العين الموهوبة فلا يبقى بعد التلف متعلق الجواز، بل الجواز هنا يتعلق بموضوع الترادّ لا مطلق الرجوع الثابت للهبة)(2).

ولا يخفى أنَّ هذا التعبير لا يدلّ على ما قاله المحقّق الخراساني (رحمه الله) فانّ غاية ما يفيده هذا التعبير أنّ المتيقن من الحكم الثابت في العقد الجائز منحصر في ترادّ العينين ولم يثبت حق فسخ العقد بشكل مطلق ولو بترادّ المثل أو القيمة عند التلف، وأمّا إنّ هذا الترادّ ـ أعني ترادّ العينين في مورد الجواز ـ هل هو ترادّ ابتدائي أو بتوسيط فسخ العقد؟ فهذا مما لم يتعرض له الشيخ (رحمه الله) من قريب أو بعيد.


(1) راجع تعليقة المحقق الخراساني (رحمه الله) على المكاسب: 13 و 14.

(2) المكاسب 1: 91، حسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

290

وعلى أية حال فنحن لا نملك دليلا على الفرق بين الجواز في العقد الجائزوالجواز في مورد الخيار، بكون الأوّل متعلقاً بالعقد وفسخه، والثاني متعلقاً بالترادّ من دون توسيط فسخ العقد، عدا أن يُقال إنّ العقد إذا كان في ذاته لازماً إذن هو مشمول لأدلة وجوب الوفاء به كـ ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ فإذا دخله الخيار لم يجز التراجع عن ثمرة العقد إلّا بعد فسخ العقد لأنّ التراجع عنها مع افتراض العقد قائماً على حاله خلف وجوب الوفاء به، فلا بدّ أوّلا من إعمال حق الخيار بفسخ العقد، فإذا انتهى العقد انتهى موضوع وجوب الوفاء بالعقد فيتمّ الترادّ والتراجع عن الثمرة بتبع فسخ العقد.

وأمّا إذا كان العقد في ذاته جائزاً كالهبة أو المعاطاة على القول بجوازها فمعنى جوازه خروجه تخصيصاً أو تخصصاً من أدلة وجوب الوفاء بالعقود، وعندئذ فلا بأس بالترادّ من دون حاجة إلى توسيط فسخ العقد، لأنّ العقد في ذاته ليس لازماً كي يكون فرض بقائه قائماً على حاله مانع عن الترادّ ومخالفة ما بنوا عليه. إلّا أنّ هذا البيان لا يرجع إلى محصّل، ويرد عليه:

أوّلا ـ أنّنا لو فرضنا أنّ التراد بعد إنهاء العقد بالفسخ لا ينافي وجوب الوفاء بالعقد، قلنا إنّه لا مبرّر لافتراض أنّ الجواز في العقود الجائزة يعني خروجها عن أدلة وجوب الوفاء بالعقد تخصيصاً بل مقتضى إطلاق دليل وجوب الوفاء بالعقد أن نحمل الجواز في العقود الجائزة على جواز التراد بتوسيط فسخ العقد كي لا ينافي ذلك وجوب الوفاء فيكون حاله حال الجواز الخياري، بفرق أنّ الجواز الخياري حقّ قابل للإسقاط والجواز الحكمي ليس حقّاً يقبل الإسقاط، نعم في مثل الوكالة لو قلنا إنّها ليست عقداً فهي خارجة عن دليل الوفاء بالعقد تخصصاً وخارجة عن محل البحث أساساً ولا يتصور فيها هذا النزاع.

291

وثانياً ـ أنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ دليل وجوب الوفاء بالعقد يمنع عن الترادّ والتراجع عن النتائج من دون رضا صاحبه، سواء كان ذلك بلا فسخ أو بتوسيط الفسخ، فحتى التراجع بتوسيط الفسخ وكسر العقد يعتبر عرفاً خلافاً للوفاء بالعقد الذي كان ثابتاً حتماً قبل الفسخ، ولذا نقول: إنّ دليل الخيار يخصّص دليل وجوب الوفاء بالعقد، إذن فدليل وجوب الوفاء بالعقد لا يمكن أن يكون مؤثراً في إثبات الفرق بين الجواز الخياري والجواز الحكمي بإرجاع الأوّل إلى فسخ العقد بخلاف الثاني.

وثالثاً ـ سواء فرضنا أنّ الترادّ بتوسيط الفسخ ينافي وجوب الوفاء أو لا، لا إشكال في أنّ الترادّ بلا توسيط الفسخ في مثل المعاطاة مما لا يكون خروجه عن أدلّة العقود تخصصاً خلاف الوفاء بالعقد، فإذا ثبت جواز الترادّ بإجماع أو غيره في مثل المعاطاة كان تعيينه في الترادّ بلا حاجة إلى توسيط فسخ العقد، دعوى بلا دليل فلعلّ المقصود هو الترادّ بتوسيط فسخ العقد.

ورابعاً ـ إنَّ أصل افتراض أنَّ الترادّ تارةً يكون بتوسيط فسخ العقد، واُخرى مباشرة ومن دون توسيطه أمر لا نتعقله، لأنّنا لا نفهم فرقاً بين الترادّ بمعنى إبطال ثمرة العقد مباشرة والفسخ بمعنى فسخ العقد، فإنّ العقد شيء قد وقع آناً ما وحقّق الثمرة ولا ينقلب الشيء عمّا وقع عليه، وليس من الاُمور التي لها استمرار إلّا في العقد الّذي ليس شأنه الالتزام بالنتيجة ـ أي من سنخ شرط النتيجة ـ بل يكون شأنه الالتزام بالفعل، فإذا كان هذا الفعل يستوعب فترة من الزمان كان بالإمكان فسخ الالتزام، فإن كان العقد من القسم الأوّل ـ أعني التزاماً بالنتيجة ـ وإنشاءً لها ففسخ العقد يرجع إلى الترادّ وإبطال ثمرة العقد وهي تلك النتيجة، ولا معنى آخر لفسخ العقد فيه لعدم تصور استمرارية لنفس العقد والالتزام في هذا القسم حتى يفسخ،

292

وإن كان العقد من القسم الثاني أعني التزاماً بالفعل وكان ذاك الفعل يستوعب فترة من الزمان، فالتراجع عن الثمرة وهي الفعل عبارة اُخرى عن فسخ الالتزام بالفعل وهو العقد الّذي كان مستمراً، فلم نتعقّل أيضاً شيئين، فسخ العقد تارة، والتراجع عن الثمرة من دون فسخ العقد تارةً اُخرى.

إذن ففي كلا قسمي العقد يكون فسخ العقد والترادّ أو إبطال ثمرة العقد شيئاً واحداً وليسا أمرين نفرّق بهما بين الحق الخياري وجواز عقد المعاطاة أو الهبة. هذا ولو سلّم الفرق بينهما بدعوى أنّ الفسخ في العقد الخياري يتعلق بذات العقد والتراجع في العقد الجائز يتعلق بالثمرة من دون توسيط فسخ العقد، فمجرد ذلك لا يدلّ على أنّ الجواز واللزوم في الأوّل يتبعان خصوصية في العقد وفي الثاني يتبعان خصوصية في ذات الملك دون خصوصية السبب، بخلاف حق الخيار فلعلّ جواز الملك ولزومه نتجا أيضاً عن اختلاف في أسباب الملك أو موارده، رغم كون الملك في مفهومه أمراً واحداً في الموردين، فانّه عندئذ لا يلزم الجزاف في الأحكام وإنّما يلزم الجزاف لو فرضنا كون الفرق بلا فارق نهائياً وليس مجرد كون متعلق التراجع هو النتيجة لا العقد دليلا على كون الفارق كامناً في النتيجة لا في العقد.

وأمّا كلامه الثاني ـ وهو أنّ استصحاب الملك حتى لو فرض استصحاباً للجامع بين الملك اللاّزم والملك الجائز فهو جار في المقام لانّه من استصحاب القسم الثاني من الكليّ الّذي هو حجة، فقد ناقش فيه المحقق الخراساني (رحمه الله) بأنّ الاستصحاب في المقام إذا كان استصحاباً للجامع بين الملكين فهو، وإن كان جارياً على مختارنا ـ يعني مختار المحقق الخراساني (رحمه الله) ـ من حجيّة الاستصحاب في موارد الشك في المقتضي ولكنه لا يجري على مبنى الشيخ من

293

عدم حجيّة الاستصحاب في موارد الشك في المقتضي، لانّ التردد بين قسمي الملك يعني التردد بين الملك الذي يملك مقتضياً للبقاء في ذاته بعد الفسخ وهو الملك اللازم والملك الّذي لا يملك في ذاته مقتضياً للبقاء بعد الفسخ وهو الملك الجائز(1).

أقول: إنَّ هذا الإشكال لو تمّ لم يختص بفرض الاستصحاب استصحاباً للجامع بل حتى لو كان استصحاباً للشخص يرد هذا الإشكال. حيث يقال أيضاً: إنَّ الشك في اللزوم والجواز مرجعه إلى الشك في أنّ السبب، وهو العقد هل يقتضي مثلا الملك حتى بعد الفسخ أو لا يقتضي الملك إلّا بلحاظ ما قبل الفسخ؟

ولا ينبغي الإشكال في أنّ الشيخ الأنصاري (رحمه الله) لا يقصد بقوله بعدم حجيّة الاستصحاب لدى الشك في المقتضي هذا المعنى، وإلّا لزم بطلان كل استصحاب كان منشأ الشك هو الشك في رافعية الموجود وانحصر مورده بفرض الشك في وجود الرافع، فإنَّ هذه الشبهة سيّالة ترد في جميع موارد الشك في رافعية الموجود كما لو شككنا في ناقضية المذي أو الوذي للطهارة فيقال: إنّ هذا الشك مرجعه إلى الشك في أنّ الطهارة هل لها قابلية الدوام بعد الوذي والمذي أوْ لا؟

والواقع أن المقصود بالشك في المقتضي هو احتمال زوال المستصحب بمجرد مرور الزمان وانتهاء قابليته بذلك بقطع النظر عن فرض رافع خارجي، كالسراج الذي شككنا في كميّة القوّة الممدّة له بالنّور ومن المعلوم أنّ ما نحن فيه ليس من هذا القبيل، فإنَّ الملكية لولا طروّ الفسخ كانت باقيةً حتماً فليس الشك في بقائها بعد الفسخ شكاً في المقتضي بل هو شك في رافعية الموجود، وكلام


(1) في تعليقته على المكاسب: 13.

294

الشيخ الأنصاري (رحمه الله)في الرسائل صريح في حجية الاستصحاب في الشك فيالرافع سواء كان شكاً في وجود الرافع أو في رافعية الموجود.

هذا وذكر الشيخ الأنصاري (رحمه الله): أنّنا لو شككنا في أنّ الملك هل ينقسم إلى قسمين متباينين أي الملك اللازم والملك الجائز فيكون المستصحب جامعاً بين القسمين؟ أو أنّه ليس الأمر كذلك ويكون الملك في كلا القسمين شيئاً واحداً وقلنا بعدم حجيّة استصحاب الكليّ؟ فنفس الشك واحتمال كون الاستصحاب استصحاباً للشخص ـ لا للجامع بين مقطوع الارتفاع ومشكوك الحدوث ـ كاف في جريان الاستصحاب(1).

وقد نقل السيد الخوئي (رحمه الله) عن المحقق النائيني (رحمه الله) تفسيراً غريباً لهذا الكلام، وهو أنّه بما أنّ المخصص لدليل الاستصحاب المخرج للاستصحاب الكليّ كان لبّياً ولم يكن لفظياً ولهذا جاز التمسك بدليل الاستصحاب لدى الشك في ذلك لانّ التمسك بالعام في الشبهة المصداقية في المخصص اللبيّ جائز(2).

وهذا المطلب موجودٌ في أحد تقريري بحث المحقق النائيني (رحمه الله) وهو كتاب منية الطالب للشيخ الخونساري (رحمه الله)(3) ولكن الموجود في التقرير الآخر وهو كتاب المكاسب والبيع للشيخ الآملي (رحمه الله) عكس ذلك، حيث ركّز إشكال عدم إحراز دخول المورد في دليل الاستصحاب ولم يردّه بدعوى جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية(4).


(1) راجع المكاسب 1: 85، حسب الطبعة التي تشتمل على تعليقة الشهيدي.

(2) على ما ورد في المحاضرات 2: 63، وفي مصباح الفقاهة 2: 131 و 132.

(3) 1: 61.

(4) 1: 168 و 169.

295

وعلى أيّ حال فيرد على هذا الوجه ما أورده عليه السيد الخوئي (رحمه الله) وهوأنّ المورد اجنبيٌّ عن المخصص اللبّي نهائياً والذي يقول بعدم اتحاد متعلق اليقين والشك في موارد القسم الثاني من استصحاب الكليّ، ولذا لا يؤمن بحجية الاستصحاب فيه لا يقول بذلك بعنوان ورود مخصص لبيّ على عموم دليل الاستصحاب، بل هذا يعني أنَّ أصل الموضوع المأخوذ في لسان دليل الاستصحاب غير شامل لذلك فإنّ موضوعه هو فرض يقين وشك متعلق ببقاء نفس ما كان على يقين منه، فبما أنّ وحدة المتعلقين غير ثابتة في المقام لا يجري الاستصحاب.

ووجّه السيد الخوئي (رحمه الله)كلام الشيخ الأعظم (رحمه الله) بتوجيه آخر، وهو أن يكون (رحمه الله)ناظراً إلى الاستشكال في استصحاب القسم الثاني من الكليّ بدعوى حكومة استصحاب عدم الفرد الطويل على استصحاب الجامع لا بدعوى عدم اتحاد متعلق اليقين بالشك، وهذا الإشكال يكفي في اندفاعه في المقام الشك في أنّه هل هو من استصحاب الكليّ أو لا، فإنّ الشك في ذلك يعني الشك في وجود الحاكم والحكومة في المقام ظاهريّة وقوام الحكومة الظاهرية بالوصول فالشك في وجود الحاكم يساوق القطع بعدم الحكومة فيجري استصحاب الملكية بلا إشكال، وهذا التوجيه مذكور في المحاضرات(1) وفي مصباح الفقاهة(2)، على فرق بينهما وهو أنّه استفاد في المحاضرات في المقام من مسألة أنّ الحكومة الظاهرية قوامها بالوصول كما ذكرنا، فإن كان مقصوده بالحكومة الظاهرية الحكومة ـ برفع الشك ـ على دليل يكون موضوعه الشك، فهذا الكلام صحيح إذ


(1) 2: 63.

(2) 2: 131.

296

لو لم يصل الحاكم لم يرتفع الشك لا محالة. وأمّا في مصباح الفقاهة فلم يشر إلىنكتة تقوّم الحكومة الظاهرية بالوصول، وإنّما اكتفى بالقول بأنّه ما لم يُحرز الأصل الحاكم لا مانع من جريان الأصل المحكوم، فإن كان المقصود بذلك: أنّ عدم إحراز الأصل الحاكم يؤدي إلى القطع بعدم الحكومة، رجع إلى ما في المحاضرات، ولا كلام لنا فيه، وإن كان المقصود به ما يُقال حتى في الحكومة الواقعية من أنّ المعارض والمخصص والمقيد والحاكم ما لم تصل يكون الدليل الآخر باقياً على حجيته رغم عدم العلم بانتفاء الحكومة أو التقييد والتخصيص والمعارضة وَرَدَ عليه، انّنا نقطع في المقام بعدم جريان استصحاب الجامع وذلك لعلمنا الإجمالي بانّه إمّا لا جامع في المقام فلا معنى لاستصحابه أو أنّ الجامع موجود ولكن استصحاب عدم الفرد الطويل حاكم على استصحابه فأيضاً لا مورد لاستصحابه.

وذكر السيد الإمام (رحمه الله): أنّ الشك في المقام في كون الملكية الجائزة غير الملكية اللازمة وعدمه يساوق كون استصحاب الملك استصحاباً للكليّ، فبناء على عدم جريانه يكون الشك في المقام في تعدد الملك وعدمه كافياً في عدم جريان الاستصحاب، وذلك لأنّنا مع هذا الشك نمتلك ـ تصوراً ـ مفاهيم ثلاثة: الأوّل الملك المتقوّم بخصوصية الجواز، والثاني الملك المتقوّم بخصوصية اللزوم، والثالث الملك غير المتقوّم بشيء وقد شككنا في أنّ الأملاك في الدّنيا هل هي داخلة جميعاً في المفهوم الثالث؟ أو أنّ بعضها من المفهوم الأوّل وبعضها من المفهوم الثاني ولا وجود للمفهوم الثالث؟ إذن فالقدر المتيقن في المقام هو الجامع بين هذه الاُمور الثلاثة واستصحاب هذا الجامع استصحاب للكليّ لا محالة(1).

والإشكال الثالث إشكال استصحاب بقاء علقة المالك الأوّل فإنّه يعارض


(1) راجع كتاب البيع للسيد الإمام (رحمه الله) 1: 104.

297

أو يحكم استصحاب الملك، والمقياس في كونه معارضاً له أو حاكماً عليه، هو أن نرى أنّ تلك العلقة هل تعني رفع موضوع ملكية المالك الثاني شرعاً؟ أو هي حكم شرعي ينافي تلك الملكية؟ فعلى الأوّل تتم الحكومة، وعلى الثاني يتم التعارض، وإن لم تكن هذا ولا ذاك أو لم تكن هناك علقة أصلا غير مثل علقة الملك المرتفعة بالبيع مثلا لم يكن مجال لاستصحاب بقاء العلقة.

وذكر الشيخ الأعظم (رحمه الله) في أوّل بحث الخيار ما نصّه: «وربّما يقال: إنّ مقتضى الاستصحاب عدم انقطاع علاقة المالك عن العين، فانّ الظاهر من كلماتهم عدم انقطاع علاقة المالك عن العين التي له فيها الرجوع، وهذا الاستصحاب حاكم على الاستصحاب المتقدم ـ يعني به استصحاب بقاء ملك المالك الثاني بعد الفسخ ـ المقتضي للّزوم.

وردّ بانّه إن اُريد بقاء علاقة الملك أو علاقة تتفرّع على الملك فلا ريب في زوالها بزوال الملك. وإن اُريد بها سلطنة إعادة العين في ملكه، فهذه علاقة يستحيل اجتماعها مع الملك وإنّما تحدث بعد زوال الملك لدلالة دليل، فإذا فُقِدَ الدليل فالأصل عدمها وإن اُريد بها العلاقة التي كانت في مجلس البيع فإنّها تستصحب عند الشك فيصير الأصل في البيع بقاء الخيار كما يُقال: الأصل في الهبة بقاء جوازها بعد التصرف في مقابل مَن جعلها لازمة بالتصرف، ففيه مع عدم جريانه فيما لا خيار فيه في المجلس بل مطلقاً بناءً على أنّ الواجب هنا الرجوع في زمان الشك إلى عموم ﴿اُوفوا بالعقود﴾ لا الاستصحاب: انّه لا يجري بعد تواتر الأخبار بانقطاع الخيار مع الافتراق فيبقى ذلك الاستصحاب سليماً عن الحاكم فتأمّل»(1).


(1) مكاسب الشيخ الأنصاري 2: 216، حسب الطبعة المرافقة لتعليقة الشهيدي.

298

ولعلّ أمره بالتأمّل إشارة إلى انّنا حينما نبحث إثبات اللزوم باستصحابالملك نكون قد غضضنا النظر عن الدليل الآخر على اللزوم، وهو ﴿اُوفوا بالعقود﴾أو أيّ دليل لفظي آخر، فلا معنى للجواب على إشكال استصحاب الجواز الثابت في المجلس بانّ المرجع عند الشك في بقاء حكم المخصص هو عموم العام، وهو في المقام ﴿اُوفوا بالعقود﴾ لا استصحاب حكم المخصص، فانّ المفروض غضّ النظر عن كل دليل لفظي دلّ على اللزوم.

وعلى أيّة حال فيكفي في دفع استصحاب الجواز الثابت في المجلس أن يُقال: إنّه إن قُصِدَ به استصحاب الخيار وهو الجواز الحقيّ فالنصوص صريحة بانتفائه بعد انتهاء المجلس، وإن قُصد به استصحاب الجامع بين الجواز الحقيّ والجواز الحكمي فهما عرفاً فردان متباينان، واستصحاب الجامع بينهما استصحاب للقسم الثالث من الكليّ وهو غير جار.

وهنا إشكال آخر على استصحاب هذا الجامع، وهو أنّ استصحاب الجواز في المقام استصحاب تعليقي، لأنّ مرجعه إلى القول بأنّ هذا البيع في زمان المجلس كان بحيث لو فسخ لانفسخ والآن كما كان. وتحقيق مدى صحة هذا الإشكال نوكله إلى علم الاُصول. ولاستصحاب علقة المالك الأوّل تقريبات عديدة، بامكانك الوقوف عليها بمراجعة تعليقة الشيخ الاصفهاني (رحمه الله) على المكاسب وكتاب البيع للسيد الإمام (رحمه الله). ولعلّ أفضلها ما جاء في تعليق الشيخ الاصفهاني (رحمه الله) من أنّ المالك كانت له السلطنة على التصرف الاستهلاكي في ماله والسلطنة على تسليط الغير عليه حدوثاً وبقاءً، وبعد أن باع العين انتفت سلطنته على التصرف وانتهت أيضاً سلطنته على تسليط الغير عليه حدوثاً، إذ قد فعل ذلك ولا يمكن قلب الشيء عمّا وقع عليه وشككنا في زوال سلطنته على تسلّط الغير

299

بقاء، إذ لو كان العقد جائزاً فله السلطنة على تسلّط المشتري على العين بقاء، ولو كان لازماً انتفت هذه السلطنة أيضاً، ومع الشك نستصحب هذه السلطنة، وهذا الاستصحاب حاكم على استصحاب بقاء ملكية المالك الثاني بعد الفسخ(1).

وقد ردّ (رحمه الله) الحكومة بعدم الترتب الشرعي لعدم بقاء المال على ملك المالك الثاني على سلطنة المالك الأوّل. وردّ أصل تقريب استصحاب بقاء تلك السلطنة بأنّ السلطنة على الملك هي القدرة الترخيصية والوضعية على التصرف الاستهلاكي والتصرف الوضعي بإحـداثه. أمّا ردّ المـلك فسلطنة جديدة غير منبعثة من الملك.

أقول: كان مفاد الإشكال: أنّ زمام أمر بقاء المال في ملك المالك الثاني، قبل الحدوث كان بيد المحدث ولو بتبع الحدوث الذي كان بيده والآن قد خرج الأمر من يده حدوثاً، ولكننا لا نجزم بخروجه بقاءً من يده، إذ لو كان العقد جائزاً فلا زال أمر بقاء المال في ملك المالك الثاني بيده فيستصحب بقاء ذلك في يده.

والأولى في الجواب أن يُقال: إنّ السلطنة على تسليط الغير بقاءً بمعنى أنّ له نفيها بنفي الحدوث تغاير عرفاً السلطنة عليه بالردّ وعدمه، فيرجع استصحاب السلطنة في المقام إلى استصحاب القسم الثالث من الكليّ. هذا تمام الكلام في إثبات اللزوم بالاستصحاب.

إثبات اللزوم بالاستصحاب في موارد الشبهة الموضوعية:

ولا بأس بالتطرّق بالمناسبة إلى أنّه لو كانت الشبهة موضوعية فهل يجري هذا الاستصحاب أيضاً أو لا؟ فلو تردد الأمر مثلا بين الصلح والهبة، علماً بأنّ


(1) راجع تعليقة الشيخ الاصفهاني على المكاسب 1: 31.

300

الأوّل لازم والثاني جائز فهل يجري استصحاب الملك بعد الفسخ أو لا؟ ونحن نستبعد عن بحثنا فرض ابتلاء هذا الاستصحاب صدفة باستصحاب آخر ينفي أثراً من آثار العقد اللازم، كما لو تردد الأمر بين البيع والهبة وأصبح استصحاب بقاء العين في ملك الثاني بعد الفسخ معارضاً لاستصحاب عدم انشغال ذمّته بالثمن للعلم الإجمالي، بأنّه إمّا يجب عليه دفع الثمن أو يجب عليه ردّ العين بسبب الفسخ ولا يسوغ له التنصّل من الأمرين معاً في وقت واحد. ونركّز بحثنا على استصحاب بقاء الملك فقط وعندئذ نقول:

إ نّه بناءً على جريان استصحاب الكليّ من القسم الثاني لا شك في جريان الاستصحاب في المقام حتى مع فرض تغاير الملك الحاصل بالهبة عن الملك الحاصل بالصلح مثلا. وأمّا بناء على عدم جريان استصحاب الكليّ من القسم الثاني وأنّنا إنّما أجرينا استصحاب بقاء الملك في مورد الشبهة الحكمية في اللزوم والتزلزل لإيماننا بأنّ اللزوم والتزلزل ليسا مقوّمين للملك ولا مترتبين على خصوصية ذاتية في الملك، وإنّما هما حكمان يترتبان على الملك الذي ليس له عدا معنى واحد. فهنا قد يستشكل في الاستصحاب، وذلك بدعوى أن استصحاب الملك وإن كان في مورد الشبهة الحكمية صحيحاً ولكنه في مورد الشبهة الموضوعية ليس صحيحاً، لانّ الملك الذي يكون موضوعه الشرعي هو الصلح غير الملك الذي يكون موضوعه الشرعي هو الهبة، فاستصحاب الملك في المقام هو استصحاب للجامع بين فردي الملك، وقد افترضنا عدم الإيمان باستصحاب الكليّ. نعم لو أنكرنا ولو عرفا تعدد الملك بتعدد سببه أو موضوعه انتفى الإشكال في المقام.

ولا يُقال: إ نّه حتى لو انكرنا تعدد الملك في المقام لم نتخلص من إشكال

301

شبيه بإشكال حكومة استصحاب عدم الفرد الطويل في استصحاب الكليّ، وذلك لانه يجري في المقام استصحاب عدم الصلح وهو يحكم على استصحاب بقاء الملك.

فإنّه يُقال: إنّنا لو انتقلنا إلى الأصل الموضوعي في المقام فلا ترجيح لاستصحاب عدم الصلح على استصحاب عدم الهبة، فإنّ العقليّة التي تغفل اشتراط الترتّب الشرعي في الحكومة وتقول بأنّ الشكّ في بقاء الجامع مسبّبٌ عن الشكّ في حدوث الفرد الطويل نسبتها إلى استصحاب عدم الصلح وإلى استصحاب عدم الهبة في المقام واحدة، فإنّ شكّنا في بقاء الملك وعدمه نشأ من شكّنا في الصلح والهبة.

والصحيح أنّه لو انتقلنا في المقام إلى الأصل الموضوعي فالأصل الجاري في المقام إنّما هو استصحاب عدم كون العقد الواقع هبة لأنّ العمومات دلّت على لزوم كلّ عقد والمخصّص أخرجَ منها الهبة والعام يتعنون بعد التخصيص بنقيض عنوان الخاص. فأصبح موضوع الملك اللازم مركباً من العقد وأن لا يكون هبة، والعقد ثابت بالوجدان وأن لا يكون هبة ثابت بالاستصحاب، واستصحاب عدم الصلح غير جار لأنّه مثبت في المقام، لأنّ الأثر يترتّب كما عرفت على العقد وعلى عدم الهبة لا على الصلح.

وقد يُقال: إنّنا لا ننتقل في المقام إلى الأصل الموضوعي وذلك لأنّنا لو أردنا أن ننتقل إليه فإمّا أن نجري استصحاب عدم الهبة بنحو مفاد «ليس» الناقصة كما هو المستفاد من ظاهر عبارة المحاضرات(1) أو نجري استصحاب عدم كون


(1) المحاضرات 2: 65.

302

العقد الواقع هبة بنحو مفاد «ليس» الناقصة وعلى أساس استصحاب العدم الأزلي كما هو المستفاد من مصباح الفقاهة(1)، وكلاهما باطل:

أمّا الأوّل فلأنّ موضوع لزوم هذا العقد كما عرفت هو عدم كونه هبة بنحو مفاد «ليس» الناقصة وإثبات ذلك باستصحاب عدم الهبة تعويل على الأصل المثبت.

وأمّا الثاني فلأنّ كون هذا العقد هبة أو عدم كونه هبة أمر داخل في هويّة العقد وحقيقته وليس كقرشية المرأة التي هي من عوارض الوجود حتى يمكن نفي ذلك باستصحاب العدم الأزلي.

وتحقيق حال الاستصحاب في نفي ما يكون داخلا في هوية الموضوع موكولٌ إلى علم الاُصول والظاهر أنّ الصحيح جريانه.

هذا تمام الكلام في أدلّة كون الأصل في العقود هو اللزوم إلّا ما خرج بالدليل.

 

أدلّة اللزوم في خصوص البيع:

وأمّا ما قد يتمسّك به لإثبات اللزوم بلحاظ عقد خاص من قبيل روايات: «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا فإذا افترقا وجب البيع»(2) فبحثه خارج عن عهدة مقامنا لانّنا عقدنا البحث في كلّي العقود، إلّا انّنا مع ذلك نتعرض لخصوص ما ورد في باب البيع وهو ما أشرنا إليه من روايات: «البيّعان بالخيار» نظراً لكون البيع أهمّ العقود المالية. وقد عقد السيد الإمام الخميني (رحمه الله) في كتاب البيع بحثاً مفصّلا في


(1) مصباح الفقاهة 2: 134.

(2) راجع الوسائل 12: 345 ـ 347، الباب 1 و 2 من أبواب الخيار.

303

المقام حول مدى صحة التمسك بهذه الروايات(1) وذكر: أنّ مورد الاستدلال بهذه الروايات أحد بنود ثلاثة:

1 ـ «البيّعان بالخيار» باعتبار أنّ الخيار مختص بالعقد اللازم.

2 ـ «ما لم يفترقا» باعتبار أنّ الغاية تفيد نفي الحكم وهو الجواز عند حصول الغاية وهذا يعني أنّ البيع يصبح بعد الافتراق لازماً.

3 ـ «فإذا افترقا وجب البيع» فهذا تصريح بمفهوم الغاية وباللزوم.

أمّا البند الأوّل ـ وهو قوله: «البيّعان بالخيار» ـ فقد أفاد السيد الإمام (رحمه الله): أنّ الاستدلال به يتوقف على أنّ الخيار لا يكون عقلا أو عقلائياً في العقد المتزلزل فإثبات الخيار في البيع دليل عقلا أو عقلائياً على لزومه الذاتي أما لو قلنا بإمكان اجتماع الخيار مع الجواز الذاتي كالجمع بين خيارين فلا مورد للاستدلال بهذا البند.

أقول: لو سلّم عدم تصوّر الخيار في العقد الذي يكون جائزاً ذاتاً فغاية ما يدل عليه هذا البند هو عدم الجواز الذاتي لعقد البيع، ولكن مدّعانا في المقام أكثر من ذلك فانّنا نريد أن ندّعي أصالة اللزوم ونقصد باللزوم نفي الجواز الذاتي ونفي الجواز الحقيّ أو الخيار في وقت واحد لا خصوص نفي الجواز الذاتي. نعم هذا النقاش لا يرد على كلام السيّد الإمام (رحمه الله) لانّ مصبّ كلامه ليس ـ كمصبّ كلامنا ـ عبارةً عن إثبات أصالة اللزوم في العقد بشكل عام، وإنّما مصبّ كلامه خصوص المعاطاة، فهمّه هو إثبات كون المعاطاة كالعقد اللفظي في اللزوم، والتقريب الماضي يفي بهذا المقدار، فانّ احتمال الفرق بين المعاطاة والعقد اللفظي إنّما هو


(1) راجع كتاب البيع للسيد الإمام (رحمه الله) 1: 120 ـ 125.

304

في الجواز واللزوم الذاتيين لا في الخيار، فهذا البند يدل على أنّه متى ما كان العقد اللفظي لازماً لعدم الخيار فيه كانت المعاطاة في ذاك المورد أيضاً كذلك، لأنّ دخول خيار المجلس فيها بحكم إطلاق الحديث دليل على عدم جوازه الذاتي، فإذا لم تكن المعاطاة جائزة أي متزلزلة ذاتاً والمفروض عدم الخيار فقد أصبحت لازمة.

وعلى أيّة حال فمسألة إمكان اجتماع خيارين وعدمه أو اجتماع الخيار مع الجواز الذاتي وعدمه في رأينا لا يصح طرحها كبحث ثبوتي في إمكان الاجتماع واستحالته بقدر ما يصح طرحها كبحث إثباتي في أنّ دليل الخيار هل ينظر إلى الحق حيثياً أو ينظر إلى ذات الحق؟ فعلى الأوّل لا يكون دليل خيار الحيوان مثلا نافياً لثبوت الحق بحيثية اُخرى أيضاً، وهي حيثية المجلس وكذلك من يسقط الخيار هل يسقط حقّه من حيثية معينة أو يسقط أصل الحق الذي لا يقبل التعدد؟ فعلى الأوّل لو اُسقط خيار الحيوان لم يسقط خياره من حيث المجلس وبالعكس. وبما أنّ الظاهر من أدلّة الخيارات هو النظر إلى الخيار من حيث الجهة المثبتة للخيار فالصحيح: أنّ قوله: «البيّعان بالخيار» لا يدل على اللزوم الذاتي للمعاطاة، إذ لا يدل على أكثر من أنّ البيع من حيثية المجلس يوجب الخيار وهذا يجتمع مع الجواز الذاتي.

هذا، وقال السيّد الإمام (رحمه الله): انّنا حتى لو قلنا بعدم إمكان اجتماع الخيار مع الجواز الذاتي فقوله: «البيعان بالخيار» لا يدل على لزوم المعاطاة ذاتياً، وذلك لأنّ معنى عدم إمكان اجتماع الخيار مع الجواز الذاتي هو خروج الجائز الذاتي من إطلاق قوله «البيعان بالخيار» بالتخصيص اللّبي، فان فرضنا في المقام انّ هذا المخصص كالمتصل لم يمكن التمسك هنا بالعام، لانّه تمسك بالعام في الشبهة

305

المصداقية للعام. وإن قلنا: إنّه كالمنفصل فمن يجوّز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصّص اللبّي يجوز على مبناه التمسك هنا بالعام لإثبات الخيار في المعاطاة وبالتالي إثبات لزومها الذاتي، ولكننا لا نجوّز ذلك فبالتالي لا يجوز التمسك بالعام في المقام لكونه تمسّكاً به في الشبهة المصداقية للمخصص إلّا أن يُقال: أنّ الشك في أصل التخصيص لعدم إحراز مصداق للعنوان العقلي. ويمكن أن يقال: إنّ تحقق فرد متيقن من العنوان الخارج وعدمه لا دخل له في الحساب.

أقول: نعم التخصيص لو كان فانّما هو بنحو القضية الحقيقية وليس تخصيصاً إفرادياً بنحو القضية الخارجية حتى يُقال: انّه مع عدم إحراز فرد خارج بالتخصيص يكون أصل التخصيص مشكوكاً ولو كان التخصيص بنحو القضية الخارجية، لجاز التمسك بالعام في الفرد المشكوك خروجه حتى مع فرض القطع بخروج فرد آخر، لانّ خروج كل فرد إذا كان التخصيص إفرادياً يكون تخصيصاً مستقلا لا علاقة له بالآخر. وعلى أيّة حال فالمسألة عندنا ليست مسألة انفصال المخصص اللبّي واتصاله، وإنّما هي مسألة كون القيد اللبّي إحرازه بيد المولى وعدمه، فمتى ما كان إحرازه بيد المولى جاز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية على ما نقّح عندنا في علم الاُصول وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ الذي يشخّص الجواز الذاتي وعدمه للعقد شرعاً انّما هو المولى. وعلى أيّة حال فقد عرفت عدم تمامية التمسك بالبند الأوّل في المقام لِما قلناه من ظهور دليل الخيار في النظر إلى الجانب الحيثي فلا ينافي ثبوت الخيار من حيثية اُخرى أو الجواز الذاتي.

وأمّا البند الثاني ـ وهو قوله «ما لم يفترقا» فقد أجاب السيّد الإمام (رحمه الله)على الاستدلال به بأنّ مفهوم الغاية نفي الخيار لا نفي الجواز الذاتي.

أقول: وجه الاستدلال بالبند الثاني هو حمل الخيار في الحديث على معناه

306

اللغوي الشامل لمورد الجواز الذاتي وإن كنّا نحن نعلم أنّ مصداقه الذي ينتفي بالافتراق هو الخيار الحقّي. والصحيح حمل الخيار في هذا الحديث على الخيار الحقّي لما مضى منّا في بحث الحق والحكم من انّه إذا نسب الخيار إلى البيِّع وهو في صالح البيِّع فهم منه الحق، وإذا نسب الجواز إلى العقد فهم منه الحكم، فالاستدلال بهذا البند أيضاً غير صحيح. هذا لو آمنّا أساساً بمفهوم الغاية أمّا لو قلنا: إنّ الغاية لا تدل على أكثر من انتهاء شخص الحكم بحصول الغاية فلا مجال للاستدلال بهذا البند أصلا.

وأمّا البند الثالث ـ وهو قوله: (فإذا افترقا وجب البيع) فوجه الاستدلال به أنّ وجوب البيع عبارة عن لزومه ومقتضى إطلاق النّص شموله لكل بيع من معاطاة وغيرها فيكون هذا أصلا لفظياً للزوم يرجع إليه في موارد الشك. وقد ذكر السيد الإمام (رحمه الله) في مقام المناقشة للاستدلال بهذا البند: أنّه لا إشكال بمقتضى وحدة السياق في وحدة الموضوع في الصدر والذيل وهو البيع إطلاقاً وتقييداً ففرض كونه مطلقاً في احدهما ومقيداً في الآخر خلاف الظاهر وعندئذ: فان قلنا: أنّ الخيار لا يجتمع مع الجواز الذاتي فلا بدّ من تقييد الصدر بالبيع اللازم، وبالتالي لا بدّ من تقييد الذيل أيضاً بالبيع اللازم حفاظاً على وحدة السياق، وعندئذ جاء إشكال التمسك بالعام في الشبهة المصداقية الذي مضى ذكره في البند الأوّل، وبهذا يبطل التمسك بالذيل كما بطل التمسك بالصدر.

وإن قلنا: بعدم المنافاة بين الخيار والجواز الذاتي وقع التعارض بين إطلاق الصدر وإطلاق الذيل، لان إطلاق الصدر يشمل البيع اللازم ذاتاً والبيع الجائز ذاتاً، بينما إطلاق الذيل يقتضي لزوم كل بيع حسب الفرض، فإذا وقع التعارض بين الإطلاقين:

307

فإمّا أن نرفع اليد عن إطلاق الذيل بتفسير الوجوب بالوجوب الحيثي فمعنى وجب البيع هو وجوبه من حيث زوال خيار المجلس لا الوجوب الفعلي، وبهذا يبطل الاستدلال بالحديث لعدم دلالته عندئذ على اللزوم وهو الوجوب الفعلي.

وإمّا أن نرفع اليد عن إطلاق الذيل لا بحمل الوجوب على الوجوب الحيثي بل نحمله على الوجوب الفعلي ولكن بإخراج البيع غير اللازم عن الإطلاق بالتخصيص، وهنا يعود إشكال التمسك بالعام في الشبهة المصداقية وبه يبطل الاستدلال بالحديث على المدّعى.

وإمّا أن نرفع اليد عن إطلاق الصدر وعندئذ يبطل إطلاق الذيل أيضاً تبعاً للصدر بوحدة السياق، ويصبح التمسك به أيضاً تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية.

أقول: مع غضّ النظر عن جوابنا على مشكلة التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة الذي مضت الإشارة إليه. أنّه تارة نفترض التنافي بين الخيار والجواز الذاتي. ونجيب على إشكال لزوم تقييد الصدر وبالتالي تقييد الذيل بجواب متوقف على أن لا نجد في الشريعة بيعاً نحرز له الجواز الذاتي. والجواب هو انّنا حفاظاً على إطلاق الذيل نفترض أنّ العنوان الذي كان المفروض أن يكون قيداً لبيّاً في الصدر وهو عدم الجواز الذاتي لم يؤخذ في مصبّ الجعل وذلك لأنّ كل قيد دخيل في الملاك لو علم المولى بتحققه دائماً جاز له أن لا يأخذه في مصب الجعل فلعلّ المولى علم بأنّ البيع دائماً هو لازم ذاتاً ولا يوجد لدينا بيع متزلزل بالذات، فاستغنى عن أخذ قيد اللزوم في متعلق الحكم، ولعلّ هذا هو المراد اللبّي للمحقق النائيني المفصّل في التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص اللبّي

308

بين أن يكون القيد قيداً في الموضوع أو قيداً في الملاك بجواز التمسك بالعام في الثاني دون الأوّل.

واُخرى نفترض عدم التنافي بين الخيار والجواز الذاتي ونجيب على إشكال التعارض بين إطلاقي الصدر والذيل، بأنّ إطلاق الصدر إنّما يدل على أنّ البيع حتى لو كان جائزاً ذاتاً يدخله الخيار ولا يدل على وجود بيع جائز بالذات فعلا كي تنافيه دلالة الذيل على وجوب كل بيع، فدعوى التنافي بين الإطلاقين غريب.

والواقع أنّ تمامية الاستدلال بقوله: «وجب البيع» على لزوم كل بيع وعدمها تتفرّع على ان نستظهر من الوجوب الوجوب الفعلي أو الوجوب الحيثي أي من حيثية انتهاء خيار المجلس. فعلى الثاني لا يتم الاستدلال وعلى الأوّل يتم الاستدلال، واعتقد أنّه لا مبرر لحمله على الوجوب الحيثي، والظاهر الأوّلي لكل عنوان هو وجودة الفعلي، فالصحيح تمامية الاستدلال بالبند الثالث على المقصود.

ثم استأنف السيد الإمام (رحمه الله) مرة اُخرى ذكر مناقشات تعود إلى الاستدلال بالبند الثاني أو إلى الاستدلال بالبند الثالث، ولا علاقة لها بالبند الأوّل، وحاصل ما ذكره (رحمه الله) في المقام اُمور:

1 ـ أنّ التمسّك بمفهوم الغاية المذكورة في البند الثاني ـ بقطع النظر عمّـا سبق من الإشكال ـ يتوقّف على كون المقصود بالخيار في قوله: البيّعان بالخيار ماهية الخيار المطلقة كي تكون الغاية غاية لماهية الخيار ونحن نعلم أنّ المقصود به في المقام إنّما هو خيار المجلس، وأنّ الافتراق إنّما هو غاية لخصوص خيار المجلس فحسب، وحمل الحديث على فرض الافتراق غاية لماهية الخيار مع خروج جميع الخيارات على كثرتها ما عدا خيار المجلس يستلزم تخصيص الأكثر المستهجن.

309

أقول: إنّ هذا الكلام غريب، فإنّ الموضوع في الحديث هو البيّعان،والخيار الغالب وجوده في البيع إنّما هو خيار المجلس، امّا فرض ثبوت شيء من باقي الخيارات لو قسناه إلى فرض عدم ثبوتها فهي حالة نادرة، فاستثناؤها من فرض لزوم البيع ليس تخصيصا مستهجناً، والمفروض في معرفة لزوم تخصيص الأكثر المستهجن وعدمه في المقام هو أن نقيس موارد الخيارات بموارد عدمها لا أن نقيس سائر الخيارات بخيار المجلس لنقول: قد خرج من الإطلاق أكثر الخيارات فلزم تخصيص الأكثر المستهجن؟ !

2 ـ قال السيد الإمام (رحمه الله): ومما ذكرنا ظهر الجواب على الاستدلال بذيل صحيحة فضيل: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال، قلت: ما الشرط في الحيوان؟ فقال لي: ثلاثة أيام للمشتري، قلت وما الشرط في غير الحيوان؟ قال: البيّعان بالخيار ما لم يفترقا، فإذا افترقا فلا خيار بعد الرضا منهما(1). فالبند الثالث في هذا الحديث إنّما جاء بتعبير: «لا خيار بعد الرضا منهما» والمفروض هو أن نحمل الخيار في هذا الذيل على نفس المعنى المقصود به في الصدر، وقد عرفت أنّ المقصود به في الصدر هو خصوص خيار المجلس، فلو سلّمنا أنّ نفي مطلق الخيار يدل على اللزوم المدّعى في المقام، فهذا التعبير ليس نفياً لمطلق الخيار، وإنّما هو نفي لخيار المجلس بعد الافتراق، على انّنا لو حملنا قوله: (لا خيار بعد الرضا منهما) على نفي ماهية الخيار لزم تخصيص الأكثر المستهجن، لعلمنا بأنّ جميع الخيارات ما عدا خيار المجلس على كثرتها لا تنتفي بالافتراق.

أقول: قد اتضح التعليق على هذا الكلام مما مضى.


(1) الوسائل 12: 349، الباب 3 من أبواب الخيار، الحديث 5 فيه صدر الحديث وذيله في الصفحة 346، الباب 1 من تلك الأبواب، الحديث 3.