260

والثاني ـ أن يكون المقصود أنّ المطلب الواحد قد يؤدّى بمضامين مختلفة يحلّ حينما يؤدّى ببعضها ويحرم حينما يؤدّى بالآخر، وذلك كالنكاح الذي قد يؤدّى بمضمون زوّجتك نفسي، فيصحّ، وقد يؤدّى بمضمون أحللت لك نفسي، فلا يصحّ. وهذا سنخ ما يحتمل في حديث أبي ربيع ونحوه(1).

والثالث ـ أنّ الكلام الواحد وجوده محلّل وعدمه محرّم، أو بالعكس، أو أنّه محلّل في محلّ ومحرّم في محلّ آخر، وتحتمله روايات المزارعة.

والرابع ـ أنّ المقاولة قبل استيجاب البيع محلّلة وإيجاب البيع محرّم.

وأبطل الشيخ الأنصاري (رحمه الله) الاحتمال الأوّل بأنّه ـ بناءً عليه ـ يلزم تخصيص الأكثر، إذ ما أكثر ما يحلّ أو يحرم بغير الكلام.

إلّا أنّ هذا الإشكال على الاحتمال الأوّل غير صحيح؛ لأنّ المفهوم ـ وفق المناسبات الارتكازية ـ من هذا الكلام إنّما هو حصر التحليل والتحريم بالكلام في باب المعاملات لا في كلّ الاُمور. وما ذكره السيّد الخوئي (رحمه الله) من أنّ هذا لا يتمّ حتّى بلحاظ باب المعاملات؛ لأنّ المعاطاة تفيد الإباحة ـ على الأقلّ ـ بالإجماع(2) غير صحيح، إذ لا إجماع تعبّدي في المقام.

وذكر السيّد الخوئي (رحمه الله): أنّ تفسير (يحلّل الكلام ويحرّم الكلام) بالتفصيل بين الوجود والعدم غير مقبول فإنّ اللفظ إذا اُطلق يكون فانياً في الوجود الواقعي لا في الوجود والعدم(3).


(1) راجع الوسائل 13: 199 ـ 201 الباب 8 من أبواب المزارعة والمساقاة.

(2) راجع المحاضرات 2: 71 و 72، ومصباح الفقاهة 2: 149.

(3) راجع المحاضرات 2: 72، ومصباح الفقاهة 2: 152.

261

وعلى أيّة حال، فهذه الاحتمالات الأربعة في قوله: (إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام) إنّما ذكرها الشيخ (رحمه الله) بقطع النظر عن صدر الحديث. وأمّا بالنظر إلى صدر الحديث فقد ذكر الشيخ (رحمه الله): أنّ الاحتمال الأوّل والثاني يسقطان بعدم مناسبتهما لمورد الحديث فكون النصّ أساساً بصدد حصر المحلّل والمحرّم في الكلام لا يناسب المورد، فإنّ التفصيل المقصود في الحديث بينما إذا كان الأمر بنحو إن شاء ترك وإن شاء أخذ وما إذا كان مجبوراً على الأخذ لا علاقة له بحصر المحلّل والمحرّم في الكلام بداهة أنّ هذا التفصيل يكون وارداً حتّى لو لم يكن الكلام هو المحلّل والمحرّم، أي أنّه حتّى لو كانت المعاطاة صحيحة في نفسها كان يرد التفصيل بين ما إذا كان بالخيار في الأخذ والترك، أو كان مجبوراً على الأخذ، هذا حال الاحتمال الأوّل، وكذلك الحال في الاحتمال الثاني وهو كون المقصود أنّ مطلباً واحداً يبيّن بمضمون وصياغة ويكون محللا، ويبيّن بمضمون وصياغة اُخرى فيكون محرّماً، فإنّ هذا لا يناسب المورد، إذ ليس الكلام فيه في مطلب واحد يكون محلّلا حينما يؤدّى بمضمون ومحرّماً حينما يؤدّى بمضمون آخر، فينحصر الأمر بالاحتمال الثالث والرابع.

وعلى أية حال فببطلان الاحتمال الأوّل يبطل الاستدلال بهذا الحديث على بطلان المعاطاة.

ثمّ ذكر الشيخ الأنصاري (رحمه الله): أنّ بالإمكان التمسّك بالحديث لفساد المعاطاة رغم بطلان الاحتمال الأوّل بعد فرض أنّ المقصود بالكلام إيجاب البيع إذ يُقال عندئذ: إنّه لولا انحصار البيع بالكلام فلماذا حصر المحلّل والمحرّم بالكلام؟! ولو كانت المعاطاة صحيحة لكان الحكم المقصود في هذا المقطع ثابتاً على المعاطاة أيضاً لا على الكلام فقط، قال (رحمه الله): إلّا أن يفرض أنّ السبب في هذا

262

الحصر كان هو عدم إمكان المعاطاة في مورد الحديث، لأنّ الثوب لا زال في يد المالك الأوّل، فليس بإمكان الدلاّل أن يبيعه من المشتري بالمعاطاة.

وأورد عليه السيد الخوئي (رحمه الله) بأنّ ظاهر الحديث هو أن الثوب كان بيد الدلاّل حيث يشير إليه بقوله: «اشتر هذا الثوب» فالمعاطاة ممكن في المقام، وحتّى لو فرضنا عدم وجود الثوب عنده فيكفي في المعاطاة الاعطاء من طرف واحد كالمشتري في المقام(1).

أقول: ولو فرض عدم إمكان المعاطاة في مورد الكلام فهذا لا يبرّر حصر المحلّل والمحرّم في الكلام إلّا إذا فرض كون النصّ ناظراً إلى المورد فحسب.

وأمّا ما ذكره الشيخ (رحمه الله) من إمكانيّة الاستدلال بالحديث على المقصود رغم فرض بطلان الاحتمال الأوّل، وذلك بنكتة أنّه لولا انحصار البيع بالكلام لما انحصر المحلّل والمحرّم في الكلام، فقد أورد عليه السيد الخوئي (رحمه الله):

أوّلا ـ بأنّ ثبوت الكلام مأخوذ في مفروض المورد.

وثانياً ـ أنّه يلزم عليه القول بعدم ترتّب الأثر على المعاطاة حتّى إباحة التصرّف، وهو خلاف الإجماع(2).

أقول: أمّا الإجماع فليس تعبّديّاً في المقام، ولا يفيدنا شيئاً. وأمّا كون مفروض الحديث هو ثبوت الكلام فلا أعرف كيف اكتشفه السيّد الخوئي (رحمه الله) في المقام.

ولعلّ مقصوده ـ رغم قصور العبارة ـ أن يقال: إنّه لو حملنا الحديث على


(1) راجع المحاضرات 2: 74، ومصباح الفقاهة 2: 153 ـ 154.

(2) راجع المحاضرات 2: 74، ومصباح الفقاهة 2: 153.

263

أيّ احتمال آخر غير الاحتمال الأوّل فهو ليس بصدد البيان بالنسبة لاشتراط الكلام وعدمه، وإنّما هو بصدد بيان حكم آخر وهو الحكم المذكور في ذاك الاحتمال. وعندئذ فقوله: إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام يحتمل حمله على أنّه فرض في مورد الحديث وجود الكلام، ولا يتعيّن حمله على اشتراط الكلام ولا إطلاق في الحديث من هذه الناحية كي يتعيّن به ذلك.

 

المعاطاة في النكاح

وفي خاتمة البحث عن صحّة المعاطاة لا بأس بالكلام عن إشكال نقضي قد يورد في المقام، وهو النقض بالنكاح حيث قد يقال: لئن كانت الإطلاقات في باب البيع تدلّ على صحّة المعاطاة فقسم من تلك الاطلاقات نسبته إلى البيع والنكاح على حدّ سواء. صحيح أنّ النكاح خارج عن موضوع بحثنا، وهو العقد في المعاملات الماليّة لكنّه ـ على أيّ حال ـ عقد، فيشمله مثل (اُوفوا بالعقود) وغيرذلك من عديد من الإطلاقات التي مضى شرحها، فلِمَ لا يقال بصحّة المعاطاة في النكاح؟! فإمّا أن الإطلاقات تامّة فتصحّ المعاطاة في النكاح أو غير تامّة فلا تدلّ على صحّة المعاطاة في البيع.

صحيح أنّ آية التجارة عن تراض ورواية الناس مسلّطون على أموالهم أجنبيتان عن باب النكاح، لكنّ آية ﴿أوفوا بالعقود﴾ تشمل النكاح كما تشمل البيع، وآية ﴿أخذن منكم ميثاقاً غليظاً﴾ واردة في النكاح، وروايـة المؤمنون عند شروطهم تشمل النكاح والبيع. وما يقـوم في النكاح مقـام ﴿أحـلّ الله البيع﴾في البيع كثير كروايات فضل النكاح، كمعتبرة محمّد بن مسلـم عن أبي عبد الله (عليه السلام)عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): تزوّجوا فإنّي مكاثر بكم الاُمم غداً في يوم

264

القيامة(1)... وروايات تحليل الفرج بأسباب ثلاثة(2)، وحديث زرارة التامّ سنداً عن أبي جعفر (عليه السلام) في المتعة: أحلّها الله في كتابه وعلى سنّة نبيّه، فهي حلال إلى يوم القيامة(3)...، وحديث أبي مريم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المتعة نزل بها القرآن وجرت بها السنّة من رسول الله (صلى الله عليه وآله)(4)وقوله ـ تعالى ـ: ﴿واُحلّ لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهنّ فآتوهن اُجورهن﴾(5)، وقوله ـ تعالى ـ: ﴿وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله﴾(6)، وقوله ـ تعالى ـ: ﴿وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة﴾(7).

ولو كنّا نحن ودليل السيرة على المعاطاة فالفرق بين البيع والنكاح بلحاظ هذا الدليل واضح، فإنّ السيرة على المعاطاة قائمة في البيع دون النكاح، ولكن بالنظر إلى كثير من الإطلاقات قد يُقال بعدم الفرق بين البيع والنكاح.

وقبل أن نشرع في الجواب على الإطلاقات لا بأس بذكر رواية قد تستفاد


(1) الوسائل 14: 3، الباب 1 من أبواب مقدّمات النكاح، الحديث 2.

(2) راجع الوسائل 14: 58، الباب 35، من أبواب مقدّمات النكاح، وأحاديث الباب جميعاً غير تامّة سنداً.

(3) الوسائل 14: 437، الباب 1 من أبواب المتعة، الحديث 4.

(4) الوسائل 14: 437، الباب 1 من أبواب المتعة، الحديث 5.

(5) النساء: 24.

(6) النور: 32.

(7) النساء: 3.

265

منها صحّة المعاطاة بالخصوص لا بالإطلاق في باب النكاح، وهي ما روي عنعبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاءت امرأة إلى عمر فقالت: إنّي زنيت فطهّرني فأمر بها أن تُرجم فاُخبر بذلك أمير المؤمنين (عليه السلام)فقال: كيف زنيتِ؟ قالت: مررتُ بالبادية فأصابني عطش شديد فاستقيت أعرابيّاً فأبى أن يسقيني إلّا أن اُمكّنه من نفسي فلمّـا أجهدني العطش وخفت على نفسي سقاني فأمكنته من نفسي، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) تزويج وربّ الكعبة(1). إلّا أنّ سند الحديث ضعيف بعلي بن حسان وبعبد الرحمن بن كثير الذي ضعّف واتّهم بوضع الحديث، ودلالته ضعيفة بأنّ الظاهر أنّه لم يرد في النكاح المعاطاتي، بل مورده مورد الزنا الصريح إذ الظاهر أنّهما لم يقصدا إيجاد علقة الزواج لا الدائميّة ولا الموقّتة بوقت معيّن.

والرواية معارضة برواية اُخرى مثلها في كون السند ضعيفاً، وهي رواية محمّد بن عمرو بن سعيد عن بعض أصحابنا في قصّة تشبه هذه القصة، ولكن لم يرد في آخرها: (سقاني فامكنته من نفسي) بل ورد فيها: (سقاني ووقع عليّ). وكان جواب أمير المؤمنين (عليه السلام): «هذه التي قال الله ـ عزّ وجلّ ـ ﴿فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد﴾ هذه غير باغية ولا عادية، فخلّ سبيلها...»(2) فهذه الرواية ظاهرة في كون ما حدث زنا إلّا أنّها معذورة بالاضطرار. فبناءً على كونهما ناظرتين إلى قصّة واحدة يقع التعارض بينهما. نعم لو فرض أنّهما ناظرتان إلى قصّتين، وأنّ المفروض في الاُولى أنّها هي مكّنته من نفسها ففرض هذا تزويجاً ولو بالمعاطاة، وفي الثانية أنّه هو وقع عليها قهراً فكان زنا فلا تعارض بينهما.


(1) الوسائل 14: 472، الباب 21 من أبواب المتعة، الحديث 8.

(2) الوسائل 18: 384، الباب 18 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 7.

266

أمّا الإطلاقات فيمكن الجواب عليها بأجوبة ثلاثة:

الجواب الأوّل ـ مختصّ بالإطلاقات الخاصّة بباب النكاح، ولا يرد في مثل أوفوا بالعقود ممّـا كان يشمل البيع والنكاح وهو أنّها لم ترد مورد بيـان أصل حلّيّة النكاح، بل حلّيّة النكاح كأنّها مفروغ عنها(1) في المرتبة السابقة بشروطها المفروضة، وتكون هذه الأدلّة بصدد بيان حكم آخر من الترغيب في هذا النكاح المشروع وبيان استحبابه وفضله أو كونه منقسماً إلى أقسام ثلاثة، أو جواز جعله على شكل العقد الموقّت خلافاً للعامّة، أو تمييز النساء المحلّلات من المحرّمات، أو حلّ مشكلة الأيامى والصالحين، أو بيان جواز التعدّد، أو بيان الوظيفة عند احتمال عدم العدل وفي خصوص قوله ـ تعالى ـ: ﴿اُحلّ لكم ما وراء ذلكم﴾توجد قرينة واضحة في أنّها ليست بصدد بيان شرائط النكاح، وإنّما هي بصدد بيان تمييز النساء المحلّلات من المحرّمات، وهي قوله ـ تعالى ـ: ﴿محصنين غير مسافحين﴾فكلّما شككنا في اشتراطه شككنا في أنّه مع عدمه هل يقع الاحصان أو السفاح.

الجواب الثاني ـ يشمل حتّى مثل ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ وهو أنّ الإطلاقات لا تنفي الشروط العقلائيّة، وذلك إمّا بنكتة كونها اسماً للصحيح ومحمولا على الصحيح العقلائي بالإطلاق المقامي، أو بسبب أنّ حمله على الصحيح الشرعي يجعله قضيّة بشرط المحمول، وإمّا بنكتة أنّ الارتكاز العقلائي يكون كالمتّصل الذي يمنع عن انعقاد الإطلاق، والعقد اللفظي في النكاح في بيئة النصوص من الشروط العقلائيّة بخلاف البيع، ويكفينا احتمال ذلك.


(1) لا يبعد القول بأنّ دليل الترغيب بنفسه دليل للحلّ وليس الحلّ مأخوذاً مفروغاً عنه.

267

الجواب الثالث ـ يشمل أيضاً جميع الإطلاقات وهو دعوى تخصيصها ببعضالمخصّصات من قبيل.

1 ـ ما قد يستفاد منه شرط التلفّظ بالكلام في المتعة (بعد العلم بعدم الفرق من هذه الناحية بين المتعة والعقد الدائم) كحديث ثعلبة قال: تقول: أتزوّجك متعة...(1) إلّا أنّه غير منته إلى المعصوم، وحديث أبان بن تغلب، قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام)كيف أقولُ لها إذا خلوتُ بها؟ قال: تقول: أتزوّجُكِ متعة...(2) إلّا أنّه غير تامّ سنداً، على أنّه في الدلالةِ أيضاً ضعيف لأنّ مفروض السائل هو العقد اللفظي وسأل الإمام عن كيفيّته فأجابه ببيان كيفية معيّنة وهذا لا يدلّ على أصل اشتراط العقد اللفظي دلالة أقوى من مجرّد الإشعار.

ونحوه في الضعف سنداً ودلالةً حديث هشام ابن سالم:

قال: قلتُ كيف يتزوّج المتعة؟

قال: يقول: أتزوّجك...(3).

وبسند آخر ضعيف أيضاً عن هشام بن سالم الجواليقي عن أبي عبدالله (عليه السلام)، نحوه(4) ولعلّهما حديثٌ واحد.

وورد أيضاً عن الأحول قال: سألتُ أبا عبد الله(عليه السلام)، قلتُ: ما أدنى ما يتزوّج الرجل به المتعة؟ قال: كفٌّ من برٍّ يقول لها: زوّجيني...(5).

وهذا امتيازه عمّـا قبله أنّه لم يكن المفروض في لسان السائل وجود العقد اللفظي فدلالته أقوى ممّـا قبله، ولكن يوجد في أحد سنديه جبير أبو سعيد المكفوف وفي الآخر محمّد بن علي ماجيلويه.


(1) الوسائل 14: 466 و 467، الباب 18 من أبواب المتعة، الحديث 2.

(2) (3) (4) (5) الوسائل 14: 466 ـ 467، الباب 18 من أبواب المتعة، الحديث 1 و 3 و 6 و 5.

268

2 ـ روايات شرط اللفظ في الطلاق بل وشرط لفظ مخصوص...(1) فبناءًعلى عدم احتمال الفرق في شرط اللفظ بين الطلاق والنكاح يُتعدّى إليه. ولكن الإنصاف أنّ احتمال الفرق وارد فكما أنّ الطلاق اختصّ باشتراط الشهود بخلاف النكاح فكذلك لو اشترط فيه اللفظ لم يكن يعني هذا شرط اللفظ في النكاح.

3 ـ روايات اشتراط ذِكر شروط المتعة في متن العقد(2) حيث تدلّ ضمناً على شرط العقد اللفظي وبعدم الفرق يُتَعدى إلى النكاح الدائم. والاستدلال بهذه الروايات يتوقّف على أن لا نحتمل أنّ السبب في حاجة المتعة إلى العقد اللفظي إنّما هو أنَّ شروط المتعة يجب أن تذكر في متن العقد فلا بُدَّ من العقد اللفظي لكي تُذكر تلكَ الشروط في متنه، أمّا إذا احتملنا ذلك كان هذا بنفسه هو الفارق بين المتعة والعقد الدائم.

وفي ختام البحث عن المعاطاة في النكاح اُشير إلى نكتتين في الفرق بين مثل المعاطاة في البيع والمعاطاة في النكاح:

الاُولى ـ لو قلنا: إنّ المعاطاة في البيع لا تدلّ عرفاً على إنشاء التمليك


(1) راجع الوسائل 15: 290 ـ 296، الأبواب 14 و 15 و 16 من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه.

(2) راجع الوسائل 14: 468 و 469، الباب 19 من أبواب المتعة، و: 492 ـ 493 الباب 39 منها، والجزء 18: 412، الباب 42 من أبواب حدّ الزنا، والحديث في هذين البابين تارةً يُروى بصيغة «أنسى أن يشترط» واُخرى بصيغة «ثمّ نسي حتّى واقعها» الظاهر في نسيان العقد والإنصاف قوّةُ دلالة هذه الأحاديث، على الخصوص الحديث الأخير بصيغته الظاهرة في نسيان العقد على بطلان المعاطاة. واحتمال اختصاص ذلك بالمتعة لأجل التمكّن من ذكر الشروط في لفظ العقد بعيد جدّاً.

269

والتملّك وإنّما يرجع واقعها إلى أنّ كلّ واحد منهما يسمح لصاحبه التملّك بالحيازة، ولكن في مقابل تملّك الآخر لا مجّاناً، فالفرق بين المعاطاة في البيع والمعاطاة في النكاح الموجب لعدم نفوذ الثانية، بخلاف الاُولى حسب الارتكاز العقلائي يصبح واضحاً فإنّ الحيازة إنّما تكون مملّكة في باب الأموال، ومالكية الشخص السابق تمنع عن تأثير الحيازة، وسماحه بذلك يرفع المانع أمّا في باب النكاح فلا يوجب شيء يحلّ محلّ الحيازة في الأموال.

والثانية ـ لو قلنا: إنّ المعاطاة في البيع إنشاء للتمليك والتملّك فالنكتة في أنّ المعاطاة في النكاح لا تعتبر عرفاً إنشاءً للزوجية بلحاظ مدرسة لا تسمح بالارتباط الجنسي غير القائم على أساس الزوجية هو أنّ نفس المعاطاة في النكاح مصداق للسفاح أو الحرام لأنّ هذا المصداق لم يكن عملا ناشئاً عن زوجية فكان حراماً، وهذا بخلاف المعاطاة في البيع فإنّ القبض أو الإقباض الأوّل وإن لم يكن ناشئاً عن الملكية الجديدة لكنّه لم يكن حراماً، لأنّ التصرف العملي في مال الغير برضاه جائز، وليس التصرّف العملي الجنسي بمجرّد رضا الرجل والمرأة جائزاً لدى عرف يحرّم الارتباط الجنسي غير القائم على أساس الزوجية، إذن فهذا التصرف مصداق لما يناقض النكاح، أي للسفاح أو الحرام فلا يساعد العرف على إنشاء النكاح به في دين يحرّم ذاك الارتباط.

 

271

 

 

 

ـ 2 ـ

العقود المستحدثة

 

الجهة الثانية: أنّ العقود المشروعة ليست منحصرةً في العقود المسمّـاة في النصوص أو في كتبنا الفقهيّة القديمة، بل كلّ عقد جديد اُستحدث في زمان متأخّر كعقود التأمين أو السرقفليّة أو يستحدث في المستقبل ما دام لا يعارض الشرائط العامة ولم يرد دليل على خلافه، نحكم بصحته وذلك تمسكاً بجملة من الإطلاقات الماضية كـ ﴿أوفوا بالعقود﴾ وآية ﴿أخذن منكم ميثاقاً غليظاً﴾، وكذلك آية ﴿تجارة عن تراض﴾ إن كان العقد الجديد تجارة وكذلك قوله «المؤمنون عند شروطهم». نعم، لو كان الشك في مشروعية المتعلق لم يتم التمسك بهذه الإطلاقات، إمّا لأنّ هذه الإطلاقات حيثية أي أنّها إنّما تبيّن احترام العقد من حيث أنّه عقد أو لأنّها أحكام ثانويّة في إطار الأحكام الأوّليّة.

ولا فرق في ما ذكرناه في التمسك بالإطلاقات لتصحيح العقود الجديدة بين عقد يكون من سنخ شرط الفعل أو عقد يكون من سنخ شرط النتيجة ولا يتوهم عدم تمامية الإطلاق بالنسبة للثاني، فأوفوا بالعقود لو خصصناه بما يكون من سنخ شرط الفعل لما شمل مثل البيع الذي هو في فقهنا إنشاء للنتيجة مباشرة من التمليك والتملّك، فلو كان ﴿أوفوا بالعقود﴾ شاملا للبيع فهو شامل للعقود

272

الجديدة التي تُنشئ النتيجة، وأمّا آية ﴿ميثاقاً غليظاً﴾ فموردها ما كان من قبيل شرط النتيجة وهو ملكيّتها للمهر وكذلك آية التجارة القدر المتيقّن منها البيع الذي يُنشئ مباشرة النتيجة وأمّا قوله: «المؤمنونَ عند شروطهم» فإن لم نقبل دلالته في فهمنا على إمضاء شرط النتيجة كفانا تطبيقه من قِبَل الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)على شرط النتيجة في حديث علي بن رئاب عنه...(1).

نعم في شرط النتيجة أو إيجاد النتيجة بالعقد لا بدّ أيضاً من الفراغ مسبقاً عن مشروعية تلك النتيجة، بمعنى صحةِ إيجادها في ذاتها بقطع النظر عن هذا العقد، فمثلا لو تعاقدا على أن يصبح أحدهما عبداً للآخر لم تدلّ المطلقات على صحة هذا العقد لعدم مشروعية النتيجة، وكذلك لو تعاقدا على أن تكون حيازة أحدهما للآخر مقابل تمكينه من استعمال وسائل الحيازة أو مقابل أي ثمن من الأثمان بحيث تصبح الحيازة مملّكة للمال المحاز إيّاه دون المُـحيز، فهذا غير واضح الصحّة، لأنّ أصل تمليك الحيازة لشخص بمعنى أن تصبح مملّكة للمال المحاز إ يّاه غير معلوم الصحة عقلائياً أو شرعاً.

أمّا لو مكّنه من استعمال وسائل الحيازة أو ملّكه مالا في مقابل تمليكه إ يّاه للمال الذي سيحوزه بنحو شرط الفعل أو النتيجة لا في مقابل مملّكية الحيازة للمال إيّاه فهذا لا ينصدم بالإشكال الذي عرفت، إذ لا إشكال في مشروعية تمليك مال مّا لشخص. ولكن هذا قد ينصدم بإشكال عدم معلومية العِوض إذا كان لا يُعلم بما ستدخل في الحيازة خاصّة إذا كانت أصل مالية ما سيدخل في الحيازة


(1) الوسائل 15: 49، الباب 4 من أبواب المهور، الحديث 2. ولا يخفى أنّه مضى منّا في الهامش في ذيل البحث عن آية ﴿ اُوفوا بالعقود ﴾ نقاش في الاستدلال بأمثال هذه الإطلاقات.

273

غير معلومة، أو ينصدم بإشكال بيع ما لا يُملك الذي ورد النصّ الخاص على بطلانه، إلّا أنّ هذه الإشكالات غير مرتبطة بالمقام. ولو باعه شيئاً في الذمة ثم ملّكه بالحيازة فوفّى به ما ثبت على ذمّته فهذا صحيح بلا أي انصدام بإشكال من هذه الإشكالات كما هو واضح.

275

 

 

 

ـ 3 ـ

أصالة اللزوم في العقود

 

الجهة الثالثة ـ هل إنّ إطلاقات العقود تفيد أنّ العقود بحسب الطبع الأوّلي لها لازمة أو لا؟

نتكلّم هنا أوّلا عن الإطلاقات المفيدة للّزوم ثم نلحق بهذا البحث ما إذا كان لدينا دليل آخر على اللزوم كالسيرة والاستصحاب وبعد ذلك نبحث إن شاء الله عمّـا قد يُدّعى في خصوص المعاطاة من الإجماع على عدم اللزوم أو عدم الملك ثم نبحث إن شاء الله عن أنّ العقود غير اللازمة كالوكالة والعارية والوديعة هل هي خارجة تخصّصاً أو تخصيصاً؟

 

الإطلاقات الدالّة على اللزوم:

أمّا الإطلاقات الدالّة على اللّزوم فهي جملة من الإطلاقات الماضية زائداً حديث عدم حِلّ مال المسلم إلّا بطيب نفسه.

فمن تلك الإطلاقات حديث «الناس مسلّطونَ على أموالهم» بقطع النظر عمّـا مضى من ضعفه سنداً، وأوّل إشكال دِلالي يخطر بالبال في المقام هو أنّه بعد الفسخ يشكّ في كون المال باقياً على ملك المالك السابق فالتمسّك بحديث «الناس مسلّطون على أموالهم» لصالح المالك السابق تمسّك بالعام في الشُبهة

276

المصداقية لنفس العام. ويُجاب على هذا الإشكال، بأنّنا نتمسّك بهذا الحديث بلحاظ نفس الفسخ ففسخ المعاملة من قِبَلِ أحد الطرفين رغماً على الطرف الآخر ينافي سلطنته على ماله. وقد يُعمّق الإشكال ببيان لا يكفي في إبطاله هذا الجواب، وهو ما قد يُقال من أنّ السلطنة حكمٌ موضوعه المال المنتسب إلى الشخص فإنّ هذا هو المستفاد من إضافة المال في الحديث إلى الضمير وهذا يعني أنّ موضوع السلطنة هو الشيء المملوك ولا بدّ من حفظ الموضوع في الرتبة السابقة على الحكم فنفس الحكم لا يدلّ على ثبوت الموضوع أو نفيه وعليه فما معنى التمسّك بهذا الحديث لإبطال الفسخ؟

فإن كان معناه أنَّ إفناء الموضوع، وهو ملكية المشتري مثلا بفسخ البايع غير نافذ بدليل السلطنة، كان هذا خُلف ما ذكرناه من أنّ الحكم لا يدلّ على حفظ موضوعه، وإن كان معناه إثبات السلطنة على المملوك بعد الفسخ ورغم الفسخ فهذا أوضحُ بطلاناً، لأنّنا نحتمل أن يكون الفسخ قد أنهى الملكية.

وقد يُضاف إلى هذا التقريب بيان أنّ حديث السلطنة إنّما نطق بثبوت السلطنة على نفس المال ولم ينطق بثبوت السلطنة على نفس السلطنة، وسلطنة المشتري مثلا على المنع عن الفسخ تعني السلطنة على إبقاء سلطنته على المال ولا تعني السلطنة على نفس المال.

وأيّ واحد من هذين البيانين لو تمَّ يرد في مسألة الإعراض أيضاً وهي أنّ إعراض المالك عن ملكيّة ماله هل يُخرجه عن ملكيّته أو لا؟

حيث قد يُقال: إنّ دليل السلطنة يدلّ على مخرجيّة الإعراض لأنّ قدرة الإنسان على إخراج ماله من ملكه نوع من السلطنة على ماله، فيُجاب على ذلك تارةً بأنّ الحكم لا يحفظ ولا يزيل موضوع نفسه، وإنّما يُؤخذ الموضوع مفروغ

277

الوجود في الرتبة السابقة على الحكم، إذن فالسلطنة على الملك لا تدلّ على إمكان إزالة الملكية بالإعراض، واُخرى بأنّ حديث السلطنة إنّما ورد في السلطنة على نفس المال لا على السلطنة، والسلطنة على الاعراض وإنهاء الملكية إنّما هي سلطنة على نفس السلطنة لا على المال.

وينبغي أن يكون المقصود بالسلطنة على السلطنة، السلطنة على إبقاء الملكية وإزالتها لا السلطنة على السلطنة التي هي حكم للملكية والتي هي بمعنى جواز التصرفات وصحّتها.

وعلى أيّة حال فالواقع أنّ كلا هذين التقريبين غيرُ تام.

فأوّلا ـ يرد عليهما النقض بمثل البيع إذ لا شك في أنّ قوله: «النّاس مسلّطون على أموالهم» يدلُ على كون المالك أولى ببيع ماله من غيره، كما يدلّ على كونه أولى بالتصرّف الاستهلاكي فيه من غيره، مع أنّه بناءً على هذين التقريبين يجب أن تختص السلطنة في الحديث بالتصرفات الاستهلاكيّة دون التصرفات الاعتباريّة كالبيع وذلك لأنّ البيع إخراج للمال عن ملك صاحبه وسلطنته والمفروض أنّ الملكية موضوع للسلطنة ولا بدّ أن تنحفظ في الرتبة السابقة عليها، ولا يدلّ الحكم على إزالة موضوع نفسه أو قل إنّ الحديث إنّما دلّ على السلطنة على نفس المال لا على الملكية أو السلطنة والقدرة على البيع تكون سلطنةً على الملكيّة أو السلطنة لا على نفس المال.

وثانياً ـ الحلّ بالإجابة على كلا التقريبين، أمّا التقريب الثاني فبأنّ السلطنة على إبقاء الملك وإزالته تُعتبر سلطنة على المال وليس المفهوم عرفاً من السلطنة على المال خصوص السلطنة على التصرّفات الاستهلاكيّة. وأمّا التقريب الأوّل فجوابه: أنّ المفهوم عُرفاً بمناسبات الحكمِ والموضوع هو أنّ موضوع السلطنة

278

على التصرّف إنّما هي الملكية الثابتة للمال بقطع النظر عن التصرّف، وإن كان نفس ذاك التصرّف مُخرجاً للمال عن الملكية استهلاكاً أو اعتباراً.

وقد اتّضح بكلّ ما ذكرناه أنّ قوله: «الناس مسلّطون على أموالهم» يدلّ على أنّ الطبع الأوّلي للعقود هو اللزوم لأنّ نفوذ الفسخ من قِبَل أحد الطرفين رغماً على الطرف الآخر خلاف سلطنته على ماله.

وهذا لا يستلزم القول بأنَّ الإعراض عن الملكية يُخرِجُ المالَ عن الملكِ تمسّكاً بـ «الناس مسلطون على أموالهم» وذلك لما مضى من أنّ قوله: النّاس مسلّطون على أموالهم إنّما يدلّ على أنّ كلّ تصرّف سائغ أو صحيح ونافذ في نفسه يكون المالك أولى به من غيره، وصحّة الإعراض ونفوذه أوّلُ الكلام، وهذا بخلاف ما نحن فيه فإنّ إبقاء المال في ملك مالكه وعدم الفسخ مشروع في ذاته بلا إشكال فيكون المالك مسلّطاً على ذلك، وإعطاء الفسخ بيد أحد الطرفين خُلف سلطنة الآخر على المال فلا بدّ أن يكون برضاهما معاً كي لا يكون خلاف سلطنة أيّ واحد منهما على ماله وعندئذ يكون مشروعاً وهو المسمّى بالإقالة.

ولا يُقال: إنّ مسألة اللزوم في المقام ومسألة نفوذ الإعراض متلازمتان، لأنّ إحداهما تعني السلطنة على إبقاء الملكية، والاُخرى تعني السلطنة على إزالتها، ومن الواضح أنّ نسبة السلطنة إلى الإبقاء والإزالة على حدٍّ سواء، فالسلطنة على الإبقاء وحده أو الإزالة وحده ليست سلطنة، بل هي عبارة عن ضرورة البقاء أو ضرورة الزوال، وهذا سنخ ما يُقال في القدرة التكوينية من أنّ نسبتها إلى الوجود والعدم على حدٍّ سواء، ولا تُعقل القدرةُ على الوجود فقط أو على العدمِ فقط فإنّ ذلك يعود إلى الوجوب أو الامتناع وهما غير القدرة.

فإنّه يقال: صحيح إنّ السلطنة الشرعية كالقدرة التكوينية نسبتها إلى الإبقاء

279

والإزالة على حدٍّ سواء لكننا لو فصّلنا بين مسألة الإعراض ومسألة اللّزوم فهذاليس تفصيلا بين طرفي النقيض في مورد واحد حتى يُقال إنّ هذا يُنافي معنى السلطنة وإنّما هذا تفصيل بين الأسباب، فالفسخ الذي أراده الطرف الآخر سبب لإزالة الملك، ويكون المالك مسلّطاً عليه نفياً وإثباتاً والإعراض سبب آخر لإزالة الملك قد لا يكون المالك مسلّطاً عليه نفياً وإثباتاً.

ومنها حديث «المؤمنون عند شروطهم» فبعد فرض شمول الشرط للعقد يصبح كـ ﴿أوفوا بالعقود﴾ ويأتي فيه ما سيأتي إن شاء الله تعالى في ﴿أوفوا بالعقود﴾ وقد يُقال: إنّ رواية منصور بزرج صريحة في اللّزوم(1) حيث جاء فيها: بئس ما صنع وما كان يدريه ما يقع في قلبه بالليل والنّهار، قُلْ له فليفِ للمرأةِ بشرطها فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: المؤمنون عند شروطهم(2). إلّا أنّ افتراض خصوصية وامتياز لهذه الرواية على باقي روايات الشرط في الدلالة على اللزوم غريب، فإنَّ هذا الرجل لم يكن فرضه فرض التراجع عن الشرط مع مشروطه وإنّما كان فرضه فرض التراجع عن الشرط فحسب، وهذا ممّـا لا شكّ في عدم جوازه على جميع روايات الوفاء بالشرط، ولو جاز ذلك لم يبق معنى لوجوب الوفاء بالشرط المذكور في الروايات، وإنّما الكلام في أنّ أدلّة الوفاء هل تنفي بالإطلاق فسخ الالتزامين المتقابلين أيضاً أوْ لا؟ أمّا نفي فسخ أحد الالتزامين وحده فواضح بلا كلام.

ومنها آية ﴿أوْفوا بِالعُقودِ﴾(3) حيث يُقال:


(1) راجع كتاب البيع للسيّد الإمام (رحمه الله) 1: 144.

(2) الوسائل 15: 30، الباب 20 من أبواب المهور، الحديث 4.

(3) المائدة: 1.

280

إنَّ الفسخ من طرف واحد يُعدّ خلافاً للوفاء وهذا بخلاف التقايل فإنّه وإنكان مخالفة للعقد لكنّه لا يُعدّ عرفاً خلاف الوفاء والشبهة التي مضت في «الناس مسلّطون على أموالهم» من أنّه بعد الفسخ يُشكّ في كونه ماله فالتمسّك به تمسّكٌ بالعام في الشبهة المصداقية للعام لو تمّت هناك لا تأتي هنا، لوضوح أنّ موضوع الوفاء بالعقد ليس هو القرار المستمر بل بمجرّد أن حدث قرار مرتبط بقرار تمَّ موضوع أوفوا بالعقود، ولو عَدَلَ بعد ذلك أحدهما عن قراره اشتهاءً وكذلك لو نسيه مثلا فزال من قلبه فإنّه مهما تذكّره لا تجوز له مخالفته، فلا تأتي شبهة أنَّ الفسخ قد ينهي العقد كما ينهي الملكية فنبتلي بمشكلة التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للعام. والفسخ من طرف واحدرغم الآخر عين عدم الوفاء بالعقد بلا شكّ.

وقد اتّضح بكل ما ذكرناه أنّه لا مجال لما قد يُقال من: أنّ العقد أمرٌ عرفي عقلائي وهو مستمر إلى حين الفسخ وينتهي بالفسخ أو يُقال: إنّ هذا الوجود العرفي العقلائي وإن كان لا ينتهي بكل فسخ ولكنه ينتهي بالفسخ إذا كان تزلزل العقد أو الخيار عقلائياً فإذا شككنا في عقلائية الخيار أو تزلزل العقد أو كان نفس العقلاء شاكّين في الخيار أو التزلزل كان التمسّك بدليل أوفوا بالعقود المنصرف إلى العقد العرفي العقلائي تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقية أو يُقال: أنّه حتى لو ثبت عدم عقلائية الخيار أو التزلزل ولكن شككنا في اللزوم الشرعي لم يمكن إثبات اللزوم بـ ﴿أوفوا بالعقود﴾ لأنّ العقد وإن كان باقياً عقلائياً بعد الفسخ لعدم تأثير الفسخ في نظر العقلاء حسب الفرض لكنّ الشارع إنّما يأمرنا بالوفاء بالعقد الشرعي والمفروض أنّنا نحتمل اختلاف نظر الشرع عن نظر العقلاء فنحتمل عدم موافقة الشارع، إمّا بمعنى تخطئتهم أو بمعنى كون جعل الشارع واعتباره مختلفاً عن جعلهم واعتبارهم.

281

إذن فالتمسّك بـ ﴿أوفوا بالعقود﴾ تمسّك بالعام في الشبهة المصداقية، وقد يُقال: إنّ التمسك بأوفوا بالعقود في مورد يعتبر العقلاء عدم تأثير الفسخ صحيح ببركة الإطلاق المقامي ولكنّ الإطلاق المقامي لا يتمّ فيما إذا لم يحرز اللزوم عقلائياً، وهو القرار المرتبط بقرار أو الالتزامان المتقابلان وهذا يكفي فيه الوجود الآني ولا معنى لفرض زواله بالفسخ. وعلى أيّةِ حال فدلالة ﴿أوفوا بالعقود﴾على اللزوم يمكن أن تتصوّر بأحد شكلين:

الأوّل ـ أن تطبَّق الآية على نفس الملك الذي حقّق بالعقد فيُقال: إنّ معنى الوفاء بالعقد هو أن يبقى صاحبه وفيّاً بما أحدثه من الملك والنقل وبناء على هذا فالأمر بالوفاء أمرٌ وضعي بمعنى عدم نفوذ الفسخ إذ لا نحتمل حرمة الفسخ تكليفاً فالآية تدلّ بالمطابقة على اللزوم. إلّا أنّ هذا الوجه خلافُ الظاهر لأنّ الآية لا تختصّ بالعقود المحققة للملك بنحو شرط النتيجة بل تشمل العقود التي هي في واقعها التزام مرتبط بالالتزام. والأمر بالوفاء بتلك العقود محمول على ظاهره وهو الأمر التكليفي، وافتراض كونه بلحاظ بعض العقود أمراً تكليفياً وبلحاظ بعضها أمراً وضعياً يشبه فرض استعمال اللفظ في معنيين.

الثاني ـ أن تطبَّق الآية على ترتيب آثار الملك والنقل من التسليم إلى المالك الجديد وعدم مزاحمته في الاستفادة من المتاع ونحو ذلك، ويحمل الأمر على ظاهره من الأمر التكليفي ويُقال: إنَّ الالتزام بتلك الآثار المترتّبة على الملك الذي حصل بالعقد يعتبر عرفاً وفاء بالعقد ووجوب هذا الوفاء لازمه عدم تأثير النسخ، إمّا ببيان أنّ إطلاق هذا الحكم يشمل ما بعد النسخ وهذا يعني عدم تأثير الفسخ لعلمنا بأنّه لو أ ثّر الفسخ لما بقى وجوب الوفاء بالعقد ثابتاً، وإمّا ببيان أنّ وجوب الوفاء بالعقد مع الترخيص في الفسخ يُعتبر عرفاً لغواً وأمراً غير معقول.

282

والخلاصة إنّ الآية تدلُ بالمطابقة على وجوب الوفاء وبالملازمة على اللزوم. فإن قلت: إنّ لازم ذلك أنّ البايع مثلا لو خالف التكليف الشرعي وغصب العين المبيعة يشتدُّ عقابُه لأنّه فعل حرامين، أحدهما الغصب والثاني ترك الوفاء بالعقد، مع أنّه لا إشكال في عدم الفرق بينه وبين أيّ إنسان آخر أجنبيّ عن هذه المعاملة يأتي ويغتصب هذه العين.

قلتُ: إن ثبت بمثل ضرورة فقهية أو وضوح لا يقبل الشك أو بظهور عرفي ناشئ من المناسبات أنّهما سيّان عرفنا أنّ السببين وهما الغصب وترك الوفاء بالعقد يتداخلان عند الاجتماع ويوجبان حكماً واحداً ليس بأشدّ وآكد من واحد من الحكمين كما هو الحال في كلِّ حكمين بين موضوعهما عموم من وجه، لو علمنا من الخارج بعدم التأكّد في مادة الاجتماع فلو ورد أكرم العالم وأكرم الهاشمي وعلمنا بعدم تأكّد الحكم في العالم الهاشمي ثبت عليه حكم واحد غير آكد من وجوب الإكرام في مادة الافتراق.

ومنها ـ آية ﴿لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلّا أن تكون تجارة عن تراض﴾(1) وهي تدلّ على المقصود سواء حُمِلت على النهي الوضعي عن التملّك أو على النهي التكليفي عن التصرف الاستهلاكي الدال بالملازمة على نفي التملّك فعلى كلِّ حال نقول: إنّ الفسخ رغماً على أنف الطرف المقابل ليس تجارة عن تراض فهو غير مملّك للفاسخ، كما أنّه لا فرق في الاستدلال بهذه الآية بين تفسير الباطل بمعنى الباطل العرفي وجعل الاستثناء منقطعاً، أو تفسيره بمعنى حكم الشارع بالبطلان وجعل الاستثناء متصلا، فيكون المعنى لا تأكلوا أموالكم بينكم


(1) النساء: 29.

283

بكل سبب فإنّه باطل إلّا أن تكون تجارة عن تراض فعلى كلا التقديرين يثبتالمقصود إذ على الثاني يكون مقتضى الحصر بطلان الفسخ لأنّه ليس تجارة عن تراض، وعلى الأوّل يكون الفسخ في الحالات الاعتيادية التي يُعتبر فيها باطلا في نظر العرف داخلا في جملة المستثنى منه وهي النهي عن الأكل بالباطل فيبطل.

ومنها ـ آية ﴿أخذن منكم ميثاقاً غليظاً﴾(1) بناء على استفادة معنى الوفاء بالعقد منها فيما سبق وعندئذ يكون حال الاستدلال بها في المقام كحال الاستدلال بـ ﴿أوفوا بالعقود﴾.

وقد يتمسّك في المقام بجملة المستثنى في آية التجارة أو بآية ﴿أحلَّ الله البيع﴾ لإثبات اللزوم بدعوى إنّ إطلاق مثل ذلك يشمل ما بعد الفسخ فمن تملّك شيئاً بالبيع وبالتجارة عن تراض جازت له الاستفادة منه حتى بعد الفسخ تمسّكاً بإطلاق ﴿تجارة عن تراض﴾ أو بإطلاق ﴿أحلّ الله البيع﴾ وبه يثبت عدم نفوذ الفسخ.

ويردُ عليه: أنّه إن كان المقصود بـ ﴿تجارة عن تراض﴾ أو ﴿أحلّ الله البيع﴾ كون التجارة عن تراض أو البيع مملّكاً فهي إنّما دلّت على حصول الملك، أمّا بقاءه وعدم بقائه بعد الفسخ فغير مفهوم من الآيتين، وإن كان المقصود بهما حلّية التصرّف تكليفاً فأدلّة الإباحة دائماً حيثيّة، فلو ورد دليل على حلّية الجبن لم يمكن التمسّك بإطلاقه لما إذا كان الجبن مغصوباً أو نجساً مثلا، وإنّما الدليل دلَّ على أنّ الجبن ـ من حيث هو جبن ـ حلال، وكذلك في المقام إنّما دلَّ الدليل على أنّ التجارة عن تراض أو البيع يترتّب عليهما ـ بحدِّ ذاتهما ـ حِلّ التصرّف. أمّا طرو الحرمة مرة اُخرى بالفسخ وعدمه فهو غير مستفاد من هذا الدليل.


(1) النساء: 21.

284

والنكتة في حمل العرف لأدلّة الإباحة على الحكم الحيثيّ هي أنّ الإباحة يكفي فيها عدم الاقتضاء للزوم واللااقتضاء لا يزاحم المقتضي.

وأمّا حديث عدم حِلّ مال المسلم بغير رضاه فقد ورد في صيغتين:

الاُولى ـ حديث سُماعة وزيد الشحّام عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن الرسول (صلى الله عليه وآله): مَنْ كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى مَن ائتمنه عليها فإنّه لا يحلّ دم امرء مسلم ولا ماله إلّا بطيبة نفس منه(1).

والثانية ـ التوقيع عن الإمام صاحب الزمان ـ عجّل الله فرجه ـ: وأمّا ما سألت عنه من أمر الضياع التي لناحيتنا هل يجوز القيام بعمارتها وأداء الخراج منها وصرف ما يفضل من دخلها إلى الناحية احتساباً للأجر، وتقرّباً إليكم؟ فلا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه، فكيف يحل ذلك في مالنا؟ !(2).

فإن حملنا الحِلّ في الروايتين على ما يشمل الحِلّ الوضعيّ، وحملنا التصرّف في الرواية الثانية على ما يشمل التصرّف الاعتباري دلّت الروايتان على بطلان فسخ أحد المتعاملين من دون رضا الآخر، لأنّه تصرف اعتباري في ماله فهو غير حلال بمعنى أنّه باطل.

أمّا إذا حملنا الحِلّ على الحلّ التكليفي فحسب بدعوى كونه حقيقة فيه دون الحِلّ الوضعي فقد يُدَّعى أنّ الرواية بكلتا صيغتيها تصبح أجنبية عن أدلة اللزوم، لأنّ التمسك بها بعد الفسخ تمسّك بالعام في الشبهة المصداقية للعام، فأنّها حسب الفرض لم تشمل الحلّ الوضعي والتصرف الاعتباري كي تشمل الفسخ وتدلّ على


(1) الوسائل 3: 424، الباب 3 من أبواب مكان المصلي، الحديث 1 و 19: 3، الباب 1 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 3.

(2) الوسائل 6: 377، الباب 3 من أبواب الأنفال، الحديث 6.