100

الفقيه الذي نسبته الى الاُمّة كنسبة الأب الى أطفاله يجوز له عندما يرى المصلحة في التدخّل أن يتدخّل في تصحيح بعض البيوع أو إبطاله.

أمّا إذا لم يكن الحكم الوضعي مرتبطاً برضا الشخص ومنعه كما في الطهارة والنجاسة فولاية الوليّ على شخص مّا أو على المجتمع لا تعني سيطرته على هذه الأحكام الوضعيّة بالنسبة للمولّى عليه بحيث يطهّر النجس وينجّس الطاهر مثلاً، فإنّ هذا خروج على نظام الشريعة.

إذا عرفت ذلك جئنا الى ما نحن فيه فنقول: إنّ ثبوت شخصيّة حقوقيّة لشركة مّا حكم وضعي ولم يثبت كونه مرتبطاً نفياً وإثباتاً بمجرّد رضا أصحاب الشركة وعدمه أو رضا المجتمع وعدمه، إذن فلعلّ هذا حكم وضعيّ من سنخ الطهارة والنجاسة لا من سنخ صحّة البيع وبطلانه، وعليه فلو كانت الشخصيّة الحقوقيّة للشركة مثلا بحدّ ذاتها غير ثابتة في الشريعة لبطلان الوجه الأوّل والثاني الماضيين لتصحيحها فولاية الفقيه عاجزة عن تصحيحها، فإنّ ولاية الفقيه على المجتمع أو على أصحاب الشركة إنّما تدلّ على أنّه يحلّ محلّهم في التصرّف ويكون أولى بالتصرّف منهم، فلو كان أمر إيجاد الشخصيّة الحقوقيّة بيدهم ثبت بذلك أنّه من حقّه إيجادها بالولاية عليهم. أمّا إذا لم يكن ذلك بيدهم، وكانت الشخصيّة الحقوقيّة في ذاتها منتفية شرعاً فإيجاد الفقيه لها خروج على نظام الإسلام، وهذا غير صحيح، والشكّ في ذلك كاف في عدم الثبوت.

وبهذا بطل آخر وجه من وجوه تصحيح الشخصيّات الحقوقيّة الثابتة في الفقه الغربي بشكل عامّ، وإن كنّا لا ننكر وجود ذلك في الجملة في فقهنا الإسلامي، كما لا ننكر تماميّة الاستفادة من الارتكاز في الجملة بالشكل الذي مضى بيانه ضمن بحثنا عن الطريق الأوّل.

إعمال الولاية بلحاظ الآثار:

وهناك تقريب لإثبات كلّ أو جلّ الآثار العمليّة للشخصيّات الحقوقيّة في

101

فقهنا عن طريق فرض تدخّل الفقيه بإعمال الولاية رغم عدم ثبوت نفس الشخصيّة الحقوقيّة، وذلك بأن يلحظ الفقيه الآثار العمليّة المترتّبة على فرض الشخصيّة الحقوقيّة ويأمر بها إذا رأى المصلحة الاجتماعيّة في ذلك من دون خلق هذه الشخصيّة ابتداءً التي فرضنا أنّها لا تخلق ابتداءً بولاية الفقيه، وذلك بالقدر الذي لا يتنافى مع نظام الإسلام.

فمثلا: كان من جملة الآثار العمليّة للاعتراف بالشخصيّة الحقوقيّة للشركة القانونيّة أنّ مَن أقرض الشركة مالا لم يضرب مع الغرماء الشخصيّين للشركاء لدى التفليس، بل أخذ حصّته من أموال الشركة لو كانت مشتملة على ذاك المقدار من دون مزاحمة الديّان الشخصيّين لهم إيّاه. وهذا يمكن تحقيقه لدى المصلحة بأمر الفقيه بأن يلزم الديّان الشخصيّين للشركاء بأمر كان مباحاً لهم وهو عدم مزاحمتهم لمن أقرضهم لصالح الشركة في أخذ حصّته من المال الموجود في حوزة الشركة.

وكان من جملة الآثار العمليّة للشخصيّة الحقوقيّة أنّه لو كان أحد دائناً للشركاء ومديناً للشركة أو بالعكس لم يقع التهاتر بين الدَينين.

فإن قلنا: إنّ التهاتر بين الدَينين في موارده أمرٌ اختياريّ وليس قهرياً، أي أنّ أحد المدينين بإمكانه أن يوفي دَينه بجعل ما يطلبه من صاحبه بدلا عن دَينه، وأنّ أحد المدينين لو عصى وامتنع عن الأداء كان لصاحبه تملّك ما عليه بالتقاصّ، إذن فمن حقّ الفقيه إلزامهم بما كان مباحاً لهم من عدم اختيار التهاتر.

وإن قلنا: إنّ التهاتر أمرٌ قهريّ فإنّما يكون التهاتر أمراً قهريّاً في نظر العقلاء عند تماثل الوفاءين، ولذا لو حلّ زمان وفاء أحدهما دون الآخر مثلا لم يقع التهاتر ولو كان وفاء أحدهما مقيّداً بنقد من النقود غير ما يوفّي به الآخر لم يقع التهاتر، فمن حقّ الوليّ الفقيه لدى المصلحة أن يقيّد أحد الوفاءين بما كان يجوز لهم تقييده به من خصوص مال الشركة أو خصوص أموال الشركاء الشخصيّة.

102

وكان من جملة الآثار العمليّة للشخصيّة الحقوقيّة تمثّلها بمتولّيها لدى القاضي في المرافعة دون حاجة إلى إحضار الشركاء أو الحكم عليهم بعنوان الحكم على الغائب، وبإمكان الوليّ الفقيه لدى المصلحة أن يحجر الشركاء عن متابعة وضع الأموال الموجودة في الشركة فيما هو متنازع فيه، فيصبحون بذلك قاصرين عن المرافعة ومحتاجين إلى الوليّ، فيجعل متولّي الشركة وليّاً عليهم يتابع المرافعة كمتابعة الأب المرافعة الراجعة إلى طفل صغير.

ولو لم نقبل ما مضى منّا في آخر بحث الطريق الأوّل من ارتكازيّة تمليك الصناديق الخيريّة أو الجهات الاُخرى كان بإمكان الفقيه لدى المصلحة أن يلزم الملاّك، وكذلك ورثتهم بعد موتهم بما كان مباحاً لهم من عدم الاستفادة من تلك الأموال وأن لا تصرف إلّا في مصاريف تلك الجهة.

وإن شئت قلت: إنّ الشخصيّة الحقوقيّة ليست إلّا صياغة عقلائيّة وتكييفاً عقلائيّاً لهذه الأحكام، فلئن لم يكن فرض هذه الأحكام من قِبل الفقيه خروجاً عن نظام الشريعة الإسلاميّة ففرض الشخصيّة الحقوقيّة من قِبل الفقيه لا يُعدّ خروجاً عن هذا النظام، فيكون مشمولا لدليل ولاية الفقيه.

نعم، يبقى الشأن بعد كلّ هذا في إحراز المصلحة الاجتماعيّة في ذلك؛ لأنّ ولاية الفقيه إنّما هي في حدود مصالح المجتمع لا في العمل بالرغبة وهوى النفس.

 

بيع سهام الشركات وشراؤها:

يبقى الكلام في مسألة بيع سهام الشركات وشرائها.

وبيع السهم عبارة عن إيكاله لشخص آخر لقاء ثمن. وملخّص الكلام في ذلك: أنّ الشركة يمكن أن تفترض لها إحدى حالات ثلاث:

الحالة الاُولى: أن نفترض لها شخصيّة حقوقيّة في مقابل الشركاء تملك وتبيع وتشتري وتقترض وتهب وما إلى ذلك، وهي خارجة من ملك الشركاء إطلاقاً وإنّما الشركاء يعتبرون في ما جعلوا فيها من أموال حقيقيّة دائنين لها.

103

الحالة الثانية: أن تفترض أن الشركة ملك للشركاء وفق حصصهم إلّا أن لها شخصيّة معنوية أكبر قيمة من الأموال الحقيقيّة التي جُعلت من قبل الشركاء في الشركة.

الحالة الثالثة: أن تفترض أنّ الأموال الحقيقيّة الموجودة في داخل الشركة هي ملك للشركاء كباقي أموالهم الشخصيّة بفرق أنّ المال الشخصي لكلّ واحد منهم خاصّ به، أ مّا هذا المال فهم فيه شركاء سواء كانت الشركة قهريّة كما لو كان الشركاء إخوة ورثوا المال المشترك من أبيهم، أو عمديّة واختياريّة كما لو اشتركوا عمداً في المبالغ، فالبيع والشراء يقع على أموال حقيقيّة وليست حقوقيّة ولا معنويّة وهذا الاشتراك هو الاشتراك الوارد في فقهنا المألوف.

أ مّا الفرض الأوّل: فلو تمّ وفق مقاييس الفقه الإسلاميّ لم يكن معنى لبيع أو شراء سهم من سهام هذه الشركة حقيقةً؛ لأنّ المشترك ليس إلّا دائناً لهذه الشركة، فكأنّ المقصود من بيع السهم على هذا الفرض إنّما هو بيع دائن الشركة لما يملكه على ذمّة هذه الشركة.

والإشكال الفقهي الوارد على ذلك هو الاستشكال في أصل هذه الشخصيّة الحقوقيّة وثبوت ذمّة لها؛ لأن الأصل الأوّلي يقتضي نفي وجود شخصيّة حقوقيّة من هذا القبيل؛ لأنّ الاستصحاب يقتضي عدمها ومجرّد وجود بعض النماذج للشخصيّة الحقوقيّة في فقهنا ـ والمتيقّن من ذلك منصب الدولة أو منصب الإمامة ـ لا يصلح دليلا لحقّانيّة الشخصيّة الحقوقيّة للشركات، إذن فلابدّ من إيجادها بالولاية في حين أنّه لا دليل على ولاية الفقيه في إيجاد أحكام وضعيّة تكون موضوعاً للأحكام التكليفيّة كالطهارة والنجاسة أو الحدث أو نفيه وما إلى ذلك.

نعم، الأحكام الوضعيّة الانتزاعيّة التي تنتزع من الأحكام التكليفيّة يمكن للفقيه وضعها بوضع منشأ انتزاعها لو كانت تلك الأحكام التكليفيّة داخلة في حيطة تصرّف الوليّ الفقيه.

104

وبكلمة اُخرى: إنّ الفقيه يضع الأحكام الوضعيّة الانتزاعيّة بوضع منشأ انتزاعها في مورد يكون وضع منشأ الانتزاع من صلاحيّات الوليّ الفقيه، أ مّا في مثل المقام فافتراض خلق الشخصيّة الحقوقيّة ابتداءً من قبل الوليّ الفقيه في غاية الإشكال.

اللهمّ إلّا إذا تجاوزنا إثبات هذه الشخصيّة الحقوقيّة ورجعنا إلى الأحكام التكليفيّة المترتّبة عليها فوجدناها جميعاً داخلة في صلاحيّات الوليّ الفقيه فأوجدها الفقيه ثمّ انتزعنا منها الشخصيّة الحقوقيّة فأصبحت انتزاعيّة وليست أصيلة. ولا شكّ أنّ هذا ليس هو المفهوم عندهم.

وأمّا الفرض الثاني ـ وهو فرض تقمّص مال الشركة شخصيّة معنويّة أكبر قيمة من الأموال الحقيقيّة الموجودة في داخل الشركة ـ: فليس بأفضل حالا من الفرض الأوّل؛ فإنّ خلق تلك الشخصيّة المعنويّة خلاف الأصل، وإعمال ولاية الفقيه ينصدم بنفس المشكلة التي عرضناها في الفرض الأوّل.

وأ مّا الفرض الثالث ـ وهو أنّه لا يوجد في الشركة عدا نفس الأموال التي وضعت فيها وهي ملك للشركاء كأموالهم الشخصيّة، ويقع البيع والشراء عليها ـ: فهذا كما قلنا أقرب الفروض إلى تصوّراتنا الفقهيّة.

وملاحظة مدى شرعيّة هكذا سهم وخلوّه من الإشكال أو خلوّ بيعه وشرائه تعود إلى ملاحظة كلّ واحد من تلك الأموال:

فمثلا إن كانت تلك الأموال مزيجة من الأموال المحلّلة الأكل والمذكّاة أو المطعومات المحلّلة الأُخرى، ومن الأموال المحرّمة كالميتة أو الخمر والخنزير وما إلى ذلك دخل الإشكال في السهام بنسبة القسم المحرّم.

وإن كانت من تلك الأموال حقوق من قبيل حقّ الطبع أو التأليف أو الاختراع أو ما إلى ذلك فشرعيّة السهام بنسبة تلك الحقوق تعود إلى مدى اعتراف الفقيه بتلك الحقوق وعدمه.

105

وإن كانت من تلك الأموال الأعمال فمدى شرعيّة أو عدم شرعيّة السهام بنسبة تلك الأعمال المفترضة تعود إلى مدى اعتراف الفقيه بما يسمّى بشركة الأبدان وعدمه.

وإن كانت من تلك الأموال مجرّد تقوية السهام بقوّة اعتباريّة من قبيل أنّ تاجراً كبيراً يضمن خسارة السهم لو خسر لقاء أن يكون سهيماً في أرباح هذه الشركة بنسبة معيّنة أو سهيماً في أموال هذه الشركة بنسبة معيّنة، فهنا طبعاً لا يعني بيع سهم هذا الشخص الذي اشترك بقوّته الاعتباريّة بيع هذه القوّة أو هذا الاعتبار؛ فإنّ هذا أمر قائم بنفس هذا الشخص ولا يقبل الانتقال، وإنّما يعني بيع السهم أنّ يبقى هذا الشخص على ما هو عليه من دعمه لهذه الشركة بقوّته وضمانه للخسارة مثلا ويكون بقاؤه على هذا الدعم موجباً لتقوية قيمة السهام فيباع كلّ سهم من تلك السهام بقيمة أكبر من الأموال العينيّة التي جعلت في الشركة وهذا الأمر لا يخلق إشكالا في المقام.

وأخيراً لابدّ من البحث عن بيع سهام البنوك والتي تخلو من أكثر هذه الإشكالات فليست فيها أمتعة محرّمة كالخمر أو لحم الخنزير ولا مشكلة مثل حقّ الطبع أو شركة الأبدان.

ولكن هنا لابدّ من الالتفات إلى ما توجد من الإشكالات الماضية في البنوك أيضاً من ناحية وإلى إشكالات جديدة تخصّ البنوك من ناحية اُخرى.

فأوّلا: لو فرضت لشركة البنك شخصيّة حقوقيّة أو معنويّة جرى في المقام نفس الإشكال السابق.

وثانياً: لو فرضنا شركة البنك شركة عادية مملوكة لأصحابها كباقي أموالهم الشخصيّة فالإشكال السابق لا مورد له، ولكن لو كان البنك ربويّاً ويكون السهم المباع أو المشترى شاملا لما استقرّ لدى البنك من الربا فقد أصبح الجزء الربوي جزءاً محرّماً من قبيل حرمة لحم الخنزير أو الخمر التي مضت الإشارة إليه فيما مضى ورجع ذاك الإشكال.

106

وثالثاً: لو فرضنا البنك خالياً من الربا وهو في نفس الوقت ملك شخصي لأصحابه من دون شخصيّة حقوقيّة ولا معنويّة فجميع الإشكالات الماضية غير وارد في المقام.

ولكن البحث الجديد الذي يوجد هنا يبتني على ما نحن بنينا عليه من أنّ بيع النقود الورقيّة ملحق لدينا ببيع الصرف، فأوّلا: لا يصحّ إلّا البيع بالمساوي. وثانياً: لابدّ من تسليم العوضين وتسلّمهما في نفس مجلس البيع.

فلو التزم بالاحتفاظ بشرط التساوي لم يرد إشكال في المقام من ناحية هذا الشرط.

وأ مّا شرط تسليم العوضين فالظاهر أنّه لا يشكّل إشكالا في المقام؛ لأنّ تسليم العوض من قِبل المشتري للبنك تسليم للشخص السهيم في البنك؛ لأنّ الأشخاص القائمين على البنك وكلاء عنه، وكذلك مجرّد إدخال المبلغ في حساب المشتري يعتبر تسليماً له إيّاه؛ لأنّه قد تسلّمه القائمون على البنك الذين هم وكلاء عن كلّ مَن يدخل المال في حسابه.

هذا تمام الكلام في بحثنا عن الملك. ويأتي بعده البحث عن مفهوم المال المقصود في المقام.

107

 

 

 

ـ 2 ـ

المـراد بالمــال

 

تعريف المال:

مقصودنا بالمال في المقام (ما يرغب في امتلاكه بالعوض ذاتاً امتلاكاً غير محرّم) ولا يشترط في ذلك الرغبة العقلائيّة العامّة، فصورة شخص مّا مثلا قد يرغب ابنه في شرائها ولو بأغلى الأثمان، بينما عامّة الناس لا يقيم لها وزناً. ولو فرضنا دلالة دليل تعبّدي على اشتراط الرغبة العامّة في صحّة البيع أو المبادلة فهذا لا يمنع عن أن نجعل موضوع البحث هنا مطلق المال حتى نبحث بعد ذلك عن شرائط صحّة المبادلة كي نرى هل من شرائطها الرغبة العامّة أوْ لا؟

 

تحديد حدود المال:

والمال كما يصدق على العين كذلك يصدق على العمل والمنفعة ـ وإن كانت ماليّة المنفعة مندكّة في ضمن ماليّة العين ـ بل المنفعة حيثيّة تعليليّة لماليّة العين، وليست ماليّتها مستقلّة عن العين، كما أنّ ملكيّتها لم تكن مستقلّة عن العين. نعم، تظهر ماليّتها بشكل مستقلّ حينما تفصل عن العين، كما في عمل الحرّ في رأي الشريعة التي أسقطت الحرّ عن الماليّة ـ أي حكمت بتحريم امتلاكه ذاتاً

108

والمعاوضة عليه ـ ولم تسقط عمله عن الماليّة. كما مضى أنّه تظهر ملكيّتها بالاستقلال حينما تنفصل عن ملكيّة العين كما في باب الإيجار.

والهدف من ذكر كلمة (ذاتاً) في تعريفنا للمال هو إدخال ما امتنع امتلاكه بالعوض لعارض مّا ضمن تشريع، ولم يكن ذاك التشريع يرى عدم صحّة امتلاكه بالعوض لازماً ذاتياً له، وذلك كالعين الموقوفة التي منع التشريع عن تبادله لعارض وهو تعلّق الوقف بها، وكالعين المرهونة ونحو ذلك. فذاك التشريع معترف بماليّة هذه العين رغم عدم إمكان امتلاكها بالعرض.

والهدف من قيد (الرغبة) إخراج ما لا يرغب في امتلاكه إمّا لفقدانه لجميع المنافع أو لانتشاره وسعته كالهواء.

والهدف من قيد عدم الحرمة إخراج مثل الخمر التي يحرم امتلاكها والمعاوضة عليها شرعاً، فهي ليست مالا شرعاً وإن كانت مالا عرفاً لعدم الحرمة العرفيّة في ذلك.

وقد أخرجنا بهذا التعريف الحقّ، لأنّه لا يصبح طرفاً لإضافة الملك وإنّما هو إضافة في عرض إضافة الملك، وإنّما المال هو ما يتعلّق به الحقّ.

 

آراء اُخرى في تحديد المال:

وقد نقل عن الحنفيّة اختصاص عنوان المال بالعين، فلا يشمل المنفعة(1). وليس مقصودهم بهذا منع التبادل في باب المنافع وتخصيص العقود الماليّة بالأعيان، فإنّ هذا خلاف فتاواهم. إذن فلا يعدو هذا أن يكون اصطلاحاً خاوياً.


(1) راجع الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد 3: الفقرة 71 - 73.

109

وقد نقل عن علماء القانون الحديث شمول عنوان المال للحقوق المتعارف تداولها والاعتياض عنها(1).

وما ذكرناه أولى لما قلناه من أنّ الحقّ كالملك، وهما يتعلّقان بالمال، وكما لا يكون الملك مالا آخر غير متعلّقه كذلك الحقّ.

وأغرب ما رأيته في المقام ما نقل عن القانون المدنيّ العراقيّ من تعريف المال بأنّه كلّ حقّ له قيمة مادّيّة(2)، فقصر مفهوم المال على الحقوق بما فيها حقّ الملكيّة، وأخرج بذلك الأعيان عن حيّز المال، نظراً إلى أنّ ماليّة الأعيان إنّما هي باعتبار ما فيها من حقوق لأصحابها، فتدخل في زمرة الحقوق.


(1) راجع الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد 3: الفقرة 75.

(2) راجع نفس المصدر، الفقرة 76.

111

 

 

 

ـ 3 ـ

تحليل حقيقة الحقّ

 

يقع البحث عن الحقّ، والفرق بينه وبين الملك والحكم.

 

تفسير الحقّ في الفقه الإسلامي:

ذكر المحقّق النائينيّ (رحمه الله): أنّ الحقّ سلطنة ضعيفة على المال، والسلطنة على المنفعة أقوى منها، والأقوى منهما السلطنة على العين، فالجامع بين الملك والحقّ هو الإضافة الحاصلة من جعل المالك الحقيقي لذي الإضافة المعبّر عنها بالواجديّة، وكون زمام أمر الشيء بيد من جعل له وكونه ذا سلطنة وقدرة. وهذه الإضافة لو كانت من حيث نفسها ومن حيث متعلّقها تامّة بأن تكون قابلة لأنحاء التقلّبات تسمّى ملكاً. ولو كانت ضعيفة ـ إمّا لقصور نفس الإضافة كحقّ المرتهن بالنسبة للعين المرهونة، وإمّا لقصور في متعلّقه كحقّ التحجير وحقّ الخيار بناءً على تعلّقه بالعقد غير القابل لما عدا الفسخ والإجازة وحقّ الاختصاص بالنسبة إلى الأشياء غير المتموّلة كالخمر القابل للتخليل ـ تسمّى حقّاً(1).

وقد جاء في تقرير الشيخ الآمليّ لبحث المحقّق النائينيّ (رحمه الله) نقلا عن بعض


(1) منية الطالب للشيخ موسى النجفي 1: 41.

112

الاساطين التعبير عن الحقّ بـ (ملكيّت نارسيده) أي الملكيّة غير الناضجة(1).

وبحث المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله)(2) في المقام تفاسير ثلاثة للحقّ:

التفسير الأوّل: ما نسبه إلى المشهور، وهو أنّ الحقّ بمعنى السلطنة، ورأى أنّ هذا غير الملك؛ لأنّه يرى الملك عبارة عن الإحاطة والاحتواء دون السلطنة. وذكر (رحمه الله): أنّه ليكن المراد بالسلطنة السلطنة الاعتباريّة لا السلطنة التكليفيّة ليورد على ذلك أنّ الجواز التكليفي من أحكام الحقّ لا نفسه، أو أنّه لا سلطنة للقاصر على التصرّفات مع كونه ذا حقّ شرعاً. وذكر أيضاً: أنّ المرادبالسلطنة الاعتباريّة اعتبار السلطنة لا السلطنة الانتزاعيّة لما يرد على ذلك ما أوردناه على انتزاعيّة الملك.

التفسير الثاني: أن يقال: إنّ الحقّ هو الملك، ولذا عُبّر عن حقّ الخيار بملك الفسخ والإمضاء.

وذكر (رحمه الله) على هذا التفسير إشكالين:

الأوّل: أنّ الملك يستلزم السلطنة المطلقة مع أنّ الحقّ سلطنة خاصّة على تصرّف خاصّ.

وأجاب على ذلك: بأنّ سعة المملوك وضيقه لا ربط له بسعة الوجدان وضيقه.

والثاني: أنّ الحرّ لا يملك عمل نفسه بالمعنى الذي يملك به أمواله، بينما الحقّ قد يتعلّق بعمل من أعمال ذي الحقّ كحقّ الفسخ والإمضاء، فإنّ الفسخ أو الإمضاء عمل لنفس ذي الحقّ.


(1) المكاسب والبيع للشيخ محمد تقي الآملي (رحمه الله) 1: 92.

(2) في تعليقته على المكاسب (فائدة في تحقيق حقيقة الحقّ): 10 و 11.

113

وأجاب على ذلك بأنّ عمل الحرّ يصبح مملوكاً له في حالتين:

(الاُولى) ما يتوقّف تحقّقه على اعتبار ملكه إيّاه وسلطنته عليه كالفسخ والإمضاء والتملّك، فهنا يعتبر ملكه لذاك العمل كي يصبح قادراً عليه. أمّا العمل الذي يقال عنه أنّه لا يملكه نفس العامل فهو ما يكون من قبيل الأكل والشرب والكتابة والخياطة ونحو ذلك ممّا لا يتوقّف تمكّنه منه من اعتبار الملك فيلغو اعتبار الملك.

(والثانية) العمل الذي يكون الإنسان قادراً عليه بلا حاجة إلى اعتبار ملكه إيّاه كالأكل ولكن كان له مساس بملك الغير، فمن حيث انتسابه إلى ملك الغير عدّ من منافع ملك الغير ومملوكاً للغير تبعاً، فيصحّ تمليك الغير إيّاه لنفس العامل أو جعل الشارع له إيّاه كحقّ المارّة.

وأورد (رحمه الله) على هذا الوجه ـ أعني تفسير الحقّ بالملك ـ بأنّه ربّما يضاف الحقّ إلى شيء لم يكن له اعتبار الملك شرعاً كحقّ الاختصاص بالخمر التي كانت خلاًّ قبل ذلك، وكحقّ الأولويّة في الأرض المحجّرة التي لا تملك إلّا بالإحياء على المشهور، فالحقّ ليس بمعنى الملك إمّا مطلقاً أو في أمثال هذه الموارد.

قال (رحمه الله): نعم، تفسيره بمعنى السلطنة الوضعيّة ـ يعني التفسير الأوّل ـ ممّن يجعل الملك غير السلطنة لا مانع منه. وأمّا من يرى أنّ الملك بمعنى السلطنة فالإيراد متوجّه إليه أيضاً.

أمّا الجواب على مثل النقض بحقّ الاختصاص في الخمر التي لا تملك شرعاً وحقّ الأولويّة في الأرض المحجّرة على رأي المشهور القائل بعدم ملكها بأنّنا نفترض الحقّ مرتبة ضعيفة من الملك، والملك المنفيّ في الخمر وفي الأرض المحجّرة هي الملكيّة التامّة، فلم يرتضه المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله)، واعترض على

114

التفريق بين الملك والحقّ باختلاف الدرجة بأنّ حقيقة الملك سواء كانت من مقولة الإضافة أو مقولة الجدة ليست لها مراتب مختلفة. أمّا الإضافة فهي تتبع المقولة التي تعرضها، فإن كانت من مقولة تقبل الشدّة والضعف كالكيف قبلت الشدّة والضعف كعنوان الأحرّ العارض على الحرارة، وإلّا فلا. وأمّا الجدة فلا تتّصف بالشدّة والضعف، وإنّما تتّصف بالزيادة والنقص، حيث إنّ الهيئة الحاصلة للرأس من العمامة مثلا أنقص من الهيئة الحاصلة للبدن من القميص.

التفسير الثالث: ما ذكره بعنوان (يمكن أن يقال) قائلا: «وإن لم أجد من وافق عليه صريحاً» وهو أن يقال: إنّ الحقّ ليس له معنىً واحد في كلّ الموارد، ففي جملة من الموارد توجد هناك اعتبارات خاصّة لها آثارها الخاصّة، ولتكن تلك الاعتبارات هي الحقّ بلا حاجة إلى افتراض اعتبار آخر و هو اعتبار سلطنة أو ملك لترتيب تلك الآثار عليه.

فحقّ الولاية مثلا ليس إلّا اعتبار ولاية الحاكم والأب والجدّ، ومن أحكام نفس هذا الاعتبار جواز تصرّفه في مال المولّى عليه تكليفاً أو وضعاً، ولا حاجة إلى اعتبار آخر اسمه السلطنة أو الملك مثلا، وإضافة الحقّ إلى الولاية إضافة بيانيّة. وكذلك حقّ التولية وحقّ النظارة. وكذلك حقّ الرهانة، فإنّه ليس إلّا اعتبار كون العين وثيقة شرعاً، وأثره جواز الاستيفاء ببيعه عند الامتناع عن الوفاء. وكذلك حقّ التحجير، أي الحقّ المسبّب عن التحجير، فهو ليس إلّا اعتبار كونه أولى بالأرض من دون لزوم اعتبار آخر. وحقّ الاختصاص في الخمر ليس إلّا نفس اعتبار اختصاصه به في قبال الآخرين من دون اعتبار ملك أو سلطنة له، وأثر الأولويّة والاختصاص عدم جواز مزاحمة الغير له.

وخلاصة هذا الكلام: أنّه لا داعي لاعتبار السلطنة في جملة من الحقوق.

115

قال(رحمه الله): نعم، لا بأس بتفسير الحقّ بالسلطنة عندما يكون مفهوم السلطنة مأخوذاً في لسان الدليل كحقّ القصاص، حيث قال الله تعالى بشأنه: ﴿فقد جعلنا لوليّه سلطاناً﴾(1) وكذلك عندما لا يكون هناك معنىً اعتباريّ آخر مناسب للمقام. ولو فرض عدم ذكر عنوان السلطنة في لسان الدليل ـ وذلك كما في حقّ الشفعة ـ فإنّه ليس معناه اعتبار نفس الشفعة أي ضمّ حصّة الشريك إلى حصّته، وإلّا للزم انتقال حصّة الشريك إليه بمجرّد ثبوت الحقّ، بينما ليس كذلك. فحقّ الشفعة يعني السلطنة على ضمّ حصّة الشريك إلى حصته. وكذلك حقّ الخيار يعني السلطنة على اختيار الفسخ أو الإمضاء لا اعتبار اختيار أحدهما بالفعل بأن يكون بالفعل فاسخاً أو ممضياً، إذ لا فسخ ولا إمضاء بمجرّد جعل الحقّ.

قال (رحمه الله): نعم، ليس حقّ الخيار ملك الفسخ والإمضاء معاً أو السلطنة عليهما معاً، وإلّا نفذ إمضاؤه وفسخه معاً، ولا أحد الأمرين من الفسخ والإمضاء، فإنّ أحدهما المردّد لا ثبوت له حتى يقوّم به الملك أو السلطنة، بل الملك أو السلطنة يتعلّق بترجيح أحد الأمرين على الآخر.

وقال (رحمه الله): ويمكن أن يقال: إنّ المعنى الاعتباريّ المعقول هنا غير السلطنة، والمناسب للخيار جعله مفوّضاً، فاعتبار كونه مفوّضاً يترتّب عليه جواز الفسخ والإمضاء تكليفاً ووضعاً من دون لزوم اعتبار آخر.

أقول: إنّ هذا الكلام المفصّل للمحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) فيه مجال واسع للملاحظة:

فأوّلا: أنّنا لا نظنّ بمن يعتبر الحقّ مرتبة ضعيفة من الملك كالمحقّق النائيني


(1) الاسراء: 33.

116

(رحمه الله)أنّه يقصد بذلك الشدّة والضعف بالمعنى الفلسفيّ الذي شرح المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله)عدم تصوّره في الملك، وإنّما المقصود التعبير العرفيّ عن كون السلطنة على الشيء أحياناً بلحاظ تمام الجهات، واُخرى بلحاظ بعض الجهات.

وثانياً: ما ذكره جواباً على أنّ الحقّ قد يتعلّق بعمل الإنسان فلا يمكن أن يفسّر بالملك من أنّ عمل الإنسان يمكن تصوير امتلاك صاحبه له في موردين.

يرد عليه: أنّ نكتة عدم تصوير العقلاء للملكيّة بالنسبة لعمل الإنسان بالقياس إلى نفس العامل هي أنّ العقلاء إنّما اعتبروا الملكيّة لتكون علاقة اعتباريّة بين الإنسان والأموال المنفصلة عنه من أعيان أو منافع أو أعمال الآخرين كي يرتّبوا عليها أحكام الاختصاص والأولويّة للإنسان بالنسبة لتلك الاُمور المنفصلة عنه. أمّا بالنسبة لأعماله هو فلم يروا حاجة إلى خلق علاقة اعتباريّة بينه وبينها بعد ما كانت العلاقة التكوينيّة والسلطنة الحقيقيّة موجودة بينه وبينها، فلم يبق إلّا الحكم التكليفيّ من حلّيّة وحرمة شرعيّتين، أو حُسن وقبح عقليّين، أو النفوذ وعدم النفوذ كنفوذ الفسخ وعدمه، فمتى ما جاز ذلك أو نفذ لا حاجة إلى خلق علاقة اعتباريّة لوجود العلاقة التكوينيّة، ومتى ما لم يجز أو لم ينفذ لسبب مّا انفصلت تلك العلاقة التكوينيّة عمّا يرتّب عليها من الأولويّة لمانع.

وهذه النكتة نسبتها إلى كلّ الأعمال على حدّ سواء، ولا استثناء فيها، فحتّى فسخه للعقد بمقدار ما هو عمل له ـ أعني إنشاء الفسخ وأكله لثمرة الأشجار التي مرّ بها ـ توجد بينه وبينهما العلاقة التكوينيّة والسلطنة الحقيقيّة، فان نفذ الفسخ وجاز الأكل لم تكن حاجة إلى فرض علاقة اعتباريّة بينه وبينهما، وإن لم ينفذ الفسخ ولم يجز الأكل لارتباط ذلك بمال الغير أو لأيّ سبب آخر، لم نحتج أيضاً إلى فرض علاقة اعتباريّة بينه وبينهما.

117

وكان الأولى به (رحمه الله) أن يدفع الإشكال ببيان أعمق وهو أن يتجاوز الأعمال في معرفة مصبّ الحقّ إلى الأموال التي تتعلّق بها تلك الأعمال، ويقول: إنّ مصبّ حقّ الفسخ هي العين المباعة، ومصبّ حقّ المارّة هي الثمرة التي تؤكل. إذن فكلّ الحقوق في واقعها تتعلّق بالأموال كالملك، وإن صحّ أحياناً التعبير العرفيّ عن ذلك بمثل تعلّق الحقّ بالفسخ أو بالأكل.

وثالثاً: أنّ تفسيره للخيار بحقّ الفسخ والإمضاء غير صحيح، وإنّما الخيار هو حقّ الفسخ. وأمّا الإمضاء فهو إسقاط للخيار، وإسقاط الخيار غير الخيار. نعم، قد يقال بالنسبة لصاحب المال الذي باعه الفضوليّ: إنّ له حقّ الإمضاء والردّ.

ورابعاً: أنّ قوله: إنّ حقّ الخيار ليس هو حقّ الفسخ والإمضاء معاً لعدم إمكان الجمع بينهما ولا حقّ أحدهما، لأنّ أحدهما المردّد لا ثبوت له، ثمّ حلّه للإشكال بأنّ حقّ الفسخ هو حقّ ترجيح أحد الأمرين على الآخر.

أقول: هذا الكلام من أطرف ما جاء في بحثه (رحمه الله)، ولا أدري لماذا لم يكرّر السؤال على نفسه من أنّ ما اُضيف إليه (الترجيح) في فرض تعلّق الحقّ بترجيح أحد الأمرين هل هو كلا الأمرين معاً أو أحدهما المردّد؟ والأوّل مستحيل، لعدم إمكان الجمع بينهما. والثاني باطل، لأنّ أحدهما المردّد لا ثبوت له. والواقع أنّ الخيار إذا كان بمعنى حقّ الفسخ والإمضاء إذن هو متعلّق بالفسخ والإمضاء معاً، ولكن كلمة (معاً) هنا ليست بمعنى المجموع، بل بمعنى الجميع، فله حقّ الفسخ وله حقّ الإمضاء، وهو تكويناً عاجز عن الجمع في إعمال الحقّ بين الأمرين، وهذا ما يصاغ عرفاً بصياغة (تعلّق الحقّ بأحدهما). فعنوان أحدهما قالب ذهنيّ يصوغه الذهن لصبّ بعض أحكامه عليه في عالَمه، والاستفادة منه خارجاً سيتجسّد في فرد معيّن لا في فرد مردّد.

118

وخامساً: أنّ الفارق بين الأمثلة التي ذكرها غير واضح، فلماذا يكون الحقّ في الخيار والشفعة سلطنة ولا يكون في الولاية والتولية والنظارة والاختصاص في الخمر سلطنة؟! وصحيح أنّ إضافة الحقّ إليها بيانيّة، فحقّ الولاية مثلا لا يعني حقّ السلطنة على الولاية، وإنّما يعني (حقّاً هي الولاية)، ولكن لِمَ لا نفسّر نفس الولاية بالسلطنة على أموال المولّى عليه والاُمور التي يجوز له التدخّل فيها بالنسبة لمولّى عليه؟ والتفسير الأخير الذي ذكره للخيار وهو جعله مفوّضاً لِمَ لا يذكر في الشفعة؟ فيقال أيضاً: إنّ حقّ الشفعة عبارة عن جعله مفوّضاً في ضمّ حصّة شريكه إلى حصّته ثمّ كيف الطريق لمعرفة أنّ التفويض غير التسليط؟ كلّ هذا غامض لم يوضّحه المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) في كلامه.

ومن الغريب ما استفاده من كلمة (السلطان) فى قوله تعالى ﴿جعلنا لوليّه سلطاناً﴾ من أنّ حقّ القصاص يكون بمعنى اعتبار السلطنة، بينما من الطبيعيّ العرفيّ التعبير عن الحقّ بالسلطنة حتى لو لم يكن فى تحليله الدقيق الفلسفيّ عبارة عن السلطنة، ولِمَ لا نحتمل أنّ السلطان في هذه الآية المباركة عبارة عن السلطنة التكليفيّة ولا علاقة لها بالسلطنة الاعتباريّة؟ !

وذكر الإمام الخمينيّ(1) (رحمه الله) في المقام: أنّ الحقّ بحسب المفهوم العرفيّ والمرتكز العقلائي له معنىً واحد وهو اعتبار خاصّ يختلف عن اعتبار الملك أو السلطنة، وجعل (رحمه الله) الحقوق التي عدّها المحقّق الإصفهانيّ بعنوان حقيقة اُخرى غير السلطنة خارجة عن الحقوق، فذكر: أنّ مثل الولاية أمر اعتباريّ لدى العقلاء مجعول بذاته غير الحقّ والملك والسلطنة.


(1) راجع كتاب البيع 1: 22 - 25.

119

واستشهد على كون الحقّ اعتباراً خاصّاً مغايراً للملك والسلطنة ـ إضافة إلى دعوى الفهم العرفيّ والارتكاز ـ باُمور:

1 ـ صدق الحقّ في موارد لا يعتبر فيها الملك ولا السلطنة، فحقّ الأولويّة الذي قال به المشهور في مَن سبق إلى المسجد أو الأمكنة الاُخرى الموقوفة وكذلك حقّ أولويّة الإحياء في مورد التحجير قد انفصل عن الملك لعدم الملك فى هذه الموارد بلا ريب ولو بمرتبة ضعيفة لو سلّمنا تصوّر الشدّة والضعف في الملك.

والحقوق الثابتة للصغير أو السفيه المحجور عليهما منفصلة عن السلطنة، فإنّ السلطنة فيها للولي لا للمحجور عليه. وما يقال من أنّ سلطنتهم سلطنة القاصر ليس بشيء، لأنّ القاصر مسلوب السلطنة لا مفوّضها.

2 ـ أنّه قد تثبت السلطنة ولا يثبت الملك ولا الحقّ، فهذا دليل على أنّ الحقّ غير السلطنة، وذلك من قبيل سلطنة الناس على نفوسهم، فإنّها عقلائيّة، ولهم أن يتصرّفوا في أنفسهم بأيّ نحو شاؤوا لولا المنع القانونيّ لدى العقلاء والشرعي لدى المتشرّعة، مع أنّهم لا يملكون أنفسهم ولا لهم الحقّ على أنفسهم.

3 ـ أنّ الملك في جميع الموارد إضافة بين المالك والمملوك، ولا يتقوّم بطرف ثالث اسمه المملوك عليه حتى في باب الدَين، فإنّ حال الذمّة فى الدَين حال المحفظة الخارجيّة في الأموال العينيّة التي جعلت فيها لا دخل لها فى اعتبار الملكيّة، بينما الحقّ كثيراً مّا يعتبر بين ذي الحقّ ومَن عليه الحقّ، كما في حقّ الاستحلاف للمدّعي على المدّعى عليه، فهذا دليل على أنّ الحقّ غير الملك.

4 ـ وذكر هذا الوجه بعنوان التأييد، وهو أنّ الحقّ حينما يكون على شخص يعتبر فيه الأداء، فيقال مثلا: أدّى حقّه، كما يقال في الدين: أدّى دينه، بينما لا يقال: أدّى سلطنته أو أدّى ملكه، فهذا يؤيّد تغاير الحقّ للملك والسلطنة.

120

5 ـ أنّهم قالوا: إنّ للمطيع على الله تعالى حقّ الثواب، بينما لا تعتبر الملكيّة ولا السلطنة في ذلك بالضرورة.

أقول: إنّ هذه الشواهد التي ذكرها (رحمه الله) كلّها قابلة للنقاش:

أمّا عدم تصوير الملكيّة الضعيفة في حقّ الأولويّة لمن سبق في الوقف كالمسجد ونحوه فليس بأوضح من أصل دعوى دلالة الارتكاز العقلائيّ على مغايرة الحقّ للملك، ومن ينكر ذلك لا يمكن إفحامه بهذا الشاهد، والقدر المسلّم بين الجميع عدم الملك بمعناه المقابل للحقّ، وهو الملك التامّ في المقام في رأي من يفترض الشدّة والضعف في الملك، وقد مضى أنّ المقصود بالشدّة والضعف قد لا يكون معناهما الفلسفيّ الواضح بطلانه في المقام، فبالإمكان أن يقال: إنّ من سبق إلى إشغال مكان في الوقف كانت له سلطنة محدودة على ذاك المكان في مقابل من يريد إزاحته كي يجلس هو مكانه، وبناءً على أنّ السلطنة هي الملك رجع الأمر إلى الملك بلحاظ بعض الجهات، ولا نعني بالملكيّة الضعيفة إلّا هذا.

وأمّا ثبوت سلطنة الناس على أنفسهم من دون ملك أو حقّ فهذه هي سلطنة تكليفيّة أو عنوان منتزع عنها، وهي أجنبيّة عن السلطنة الاعتباريّة التي يتكلّم السيّد الإمام (رحمه الله) عنها، والعقلاء لم يروا ملاكاً في اعتبار السلطنة للإنسان على نفسه أو جوارحه بعد أن كانت السلطنة التكوينيّة الموجودة في المقام تكفي في نظرهم لترتيب السلطنة التكليفيّة عليها، بلا حاجة إلى افتراض سلطنة اعتباريّة يترتّب عليها الحكم التكليفيّ.

وأمّا كون الحقّ متقوّماً أحياناً بمن عليه الحقّ بخلاف الملك فالواقع أنّ الحقّ دائماً متقوّم بمن عليه الحقّ حتى في الحقوق المتعلّقة بالأعيان الخارجيّة من قبيل حقّ التحجير، فحقّ التحجير يعني أنّ المحجّر له على الناس حقّ عدم

121

مزاحمتهم إيّاه في إحياء الأرض... وهكذا. والملك في مورد الدَين أيضاً متقوّم بالمملوك عليه، وفرق الذمّة عن المحفظة إضافتها إلى الإنسان وعدم امتلاكها الاستقلاليّة التي تمتلكها المحفظة، بل الملك في غير الدَين أيضاً قد فرض في حيثيّته التعليليّة وجود المملوك عليه. فلو لم يكن في العالم إلّا شخص واحد يتصرّف في كلّ الأموال كما يشاء لم تكن نكتة لفرض مالكيّته لها، وإنّما يملك الشخص الأموال باعتبار وجود آخرين معه في العالم فيقال: إنّ المال الفلاني ملك لزيد، أي أنّه مختصّ به في مقابل باقي الناس.

نعم، هناك فارق لغويّ بين الحقّ والملك، وهو أنّ الحقّ لوحظ في مفهومه لغةً فرض مَن عليه الحقّ، ولكن الملك لم يلحظ في مفهومه لغةً فرض مَن عليه الحقّ، فكأنّما يُرى أنّ الملك متقوّم بالمالك والمملوك فحسب، بخلاف الحقّ الذي هو بحاجة إلى من عليه الحقّ، وهذا فارق لغويّ بين الكلمتين، وليس فارقاً ماهويّاً بين السلطنتين.

وبما ذكرناه اتّضح الجواب على الشاهد الرابع، فإنّما يتعلّق الأداء بالحقّ وبالدَين فيقال: أدّى حقّه، أو أدّى دَينه، لأنّ (كلمتي الحقّ) والدَين قد اُشرِبتا لغويّاً معنى الإضافة إلى مَن عليه الحقّ أو الدَين، ولا يتعلّق الأداء بالملك، فلا يقال: أدّى ملكه، لعدم وجود إشراب من هذا القبيل لكلمة (الملك) فالفارق لغويّ لا علاقة له بهويّة السلطنتين.

وأمّا استحقاق العبد للثواب على الله تعالى فإنّما هو حقّ عقليّ بمنطق العقل العمليّ، وليس حقّاً وضعيّاً اعتباريّاً بالمعنى الذي نبحثه في المقام.

وتحقيق الكلام في المقام: أنّنا إذا اعتبرنا الحقّ عبارة عن أمر اعتباريّ يعتبره العقلاء كعلاقة بين صاحب الحقّ ومتعلّق الحقّ كي تترتّب عليه الأحكام فلا

122

ينبغي الشكّ في أنّ هذا الأمر الاعتباريّ هو من سنخ نفس الأمر الاعتباريّ الذي يعتبره العقلاء باسم الملك، فإنّ الدافع العقلائيّ لكلا الاعتبارين واحد، وهو إيجاد ربط بين الإنسان وما هو منفصل عنه من عين أو عمل أو منفعة يحلّ محلّ الربط التكوينيّ الموجود بين الإنسان وما هو متّصل به من جوارحه وأعماله، ويكون استنساخاً لتلك العلقة التكوينيّة التي إن شئت فسمّها بالسلطنة، و إن شئت فسمّها بالإحاطة، أو بأيّ اسم آخر، وهذا الخلق والاعتبار من قِبل العقلاء ـ سواء كان بملاك تنظيم الأحكام المترتّبة عليه أو بملاك صعوبة تصوّرهم لترتّب تلك الأحكام على ما هو منفصل عن الإنسان من دون فرض ربط وعلقة بينه وبين الانسان ـ من سنخ العلقة والربط الموجود بين الإنسان وجوارحه وأعماله، والتي كانت تترتّب على الجوارح والأعمال بنكتة تلك العلقة. ولا معنى لافتراضه في باب الملك شيئاً وفي باب الحقّ شيئاً آخر، فهو في كليهما استنساخ عن العلقة التكوينيّة الثابتة بين الإنسان وجوارحه، أو الإنسان وأعماله، وهي السلطنة، وإنّما الفرق يكون في سعة وضيق الأحكام التي تترتّب على هذه السلطنة الاعتباريّة، أو شدّة الأهمّية وضعفها، فالأحكام المترتّبة في باب الملك واسعة أو مهمّة، وفي الحقّ تكون في دائرة ضيّقة أو أقلّ أهمّية، وهذا يعني صحّة ما ذكره المحقّق النائيني (رحمه الله) من أنّ الحقّ هو المرتبة الضعيفة من الملك، وذلك لا بالمعنى الفلسفيّ للشدّة والضعف الذي أورد عليه المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) بعدم معقوليّة ذلك في مفهوم الملك، بل بمعنىً عرفيّ يقصد به كون اعتبار السلطنة بلحاظ دائرة واسعة من التصرّفات أو دائرة أهمّ تارةً، وبلحاظ دائرة ضيّقة أو أقلّ أهمّيّة تارةً اُخرى. والمقصود هو السعة والضيق أو الأهمّية وعدم الأهمّية بلحاظ الطبيعة الأوّليّة للاُمور، وبقطع النظر عن الطوارئ والموانع. فلا يرد على ذلك النقض بأنّ

123

الآثار المترتّبة على الملك من جواز التصرّف أو نفوذه قد تضيق أو تنعدم نهائيّاً بالنسبة للمالك كما في حالات الحجر.

وعلى هذا، فالحقّ عبارة عن سلطنة ضعيفة من سنخ السلطنة الموجودة بمرتبة أقوى في الملك، ولا اُريد أن أنكر بهذا الفارق اللغويّ الموجود بين الملك والحقّ وهو أنّ الحقّ لوحظ فيه لغويّاً فرض النظر إلى المحقوق عليه، بينما لم تشرّب كلمة (الملك) بفرض المملوك عليه، فالملك رابطة بين المالك والمملوك بلا حاجة إلى المملوك عليه وإن كان وجود المملوك عليه ضروريّاً من الناحية التعليليّة في الملك كما في الحقّ تماماً، أي أنّه لو لم يكن في العالم إلّا شخص واحد يتصرّف فيه كما يشاء لم تكن حاجة إلى اعتبار الملكيّة وفرض السلطنة الاعتباريّة له، وإنّما وقعت الحاجة إلى ذلك بلحاظ وجود الآخرين، فيفترض عندئذ كلّ شخص مالكاً لشي كي لا تجوز للآخرين مزاحمته في ملكه، فالملك أيضاً في واقعه حقّ على الآخرين ولكن لم ينظر إلى ذلك في مفهوم الملك لغويّاً، بينما نظر إليه في مفهوم الحقّ، وهذا لا يعدو أن يكون فارقاً لغويّاً بين المفهومين لا فارقاً ماهويّاً بين السلطنتين.

والخلاصة: أنّه بناءً على افتراض الحقّ اعتباراً عقلائيّاً يربط بين ذي الحقّ ومتعلّق الحقّ يكون الصحيح ما قاله المحقّق النائينيّ (رحمه الله) من أنّه درجة خفيفة من الملك.

 

تفسير الحقّ في الفقه الوضعي:

والمعروف في الفقه الغربيّ عدم التمييز بين الملك والحقّ، واعتبار الملك مصداقاً من مصاديق الحقّ.

والحقّ بهذا المعنى قد يكون صادقاً في بعض الحقوق كحقّ الولاية، ولكنّه

124

لا يصدق حتماً في جميع الحقوق كحقّ الأولويّة في مَن سبق في إشغال مكان فيالأوقاف العامّة. فمن الواضح أنّ العقلاء لا يوجدون بالخلق والاعتبار رابطة بين هذا الإنسان والمكان الذي أشغله، ولا يوجد هنا عدا الحكم التكليفيّ من جواز بقائه في المكان واستمراره في الاستفادة منه، وعدم جواز مزاحمة الآخرين له وإزاحتهم إيّاه إلى أن ينتقل هو من المكان، وما ينتزع من ذلك وهو عنوان اختصاصه بهذا المكان، فهذا المعنى الأوّل للحقّ وهي السلطنة الاعتباريّة قد يكون صحيحاً في الجملة.

ولكن يوجد في المقام منحىً ثان لتفسير الحقّ بما هو أوسع مصداقاً وأعمّ تطبيقاً من المعنى الأوّل، وهو تفسيره بأمر انتزاعيّ ينتزع من الأحكام التكليفيّة من الجواز وعدمه، والوضعيّة من النفوذ وعدمه، لا بأمر اعتباريّ جعل موضوعاً لتلك الأحكام، وذلك الأمر الانتزاعيّ عبارة عن عنوان اختصاص متعلّق الحقّ بذي الحقّ.

وقد فسّر الاُستاذ مصطفى أحمد الزرقاء الحقّ بذلك حيث قال: «الحقّ هو اختصاص يقرّر به الشرع سلطةً أو تكليفاً»(1)، وبكلمة (الاختصاص) تخرج العلاقة التي لا اختصاص فيها كإباحة الاصطياد والاحتطاب من البراري وحيازة المباحات وحقّ الانتخاب وما إلى ذلك.

وهذا المنحى في تعريف الحقّ يشمل مثل حقّ الولاية، ومثل حقّ الأولويّة في مَن سبق إلى مكان في الوقف العامّ، وسائر الحقوق الاُخرى.

ويقصد بكلمة (السلطة) في التعريف ما يرجع إلى تصرّف نفس الولىّ كما في حقّ الولاية على النفس، حيث يمارس الوليّ فيه سلطته على القاصر تأديباً


(1) الفقه الإسلاميّ في ثوبه الجديد 3: 11 الفقرة 3.