184

حدود ولاية الفقيه من ثلاثة جوانب

لابد أن نبحث حدود ولايته من ثلاث جوانب:

أولاً: موارد ولايته.

ثانياً: مدى ما نعيّة العلم بخطأ حكمه ـ حينما نعلم صدفة بذلك ـ عن نفوذ ولايته.

ثالثا: نسبة الفقهاء بعضهم مع البعض في الولاية.

وإليك التفاصيل:.

أولاً: موارد ولاية الفقيه:

إن اطلاق أدلة الولايات ينصرف عادة ـ بالمناسبات العرفية ـ إلى كونها ولاية مجعولة بصدد ملء نقص المولّى عليه وجبران قصوره.

ودليل ولاية الفقيه لا يشذ عن هذه القاعدة، فهو لا يدل على

185

ولاية للفقيه إلا في هذه الحدود(1).

وموارد القصور في المجتمع ـ والتي لابد من ملئها بالولاية ـ عديدة من قبيل:

1 ـ التصرف في أموال القاصرين، سواء كانوا عبارة عن أفراد قاصرين من قبيل الأطفال والمجانين والسفهاء، أو عبارة عن عناوين عامة كعنوان الفقير المالك للزكاة، أو عبارة عن جهات معنوية كمنصب الولاية، أو مادية كالمسجد الذي يملك أموالاً موقوفة عليه. فنحن نعلم من الفقه الاسلامي أنه لا يجوز التصرف في مال أحد الا بإذنه وليه، والقاصر لا يقدر على الاذن أو لا ينفذ إذنه؛ فلو كان فاقداً لولي خاص لم يكن بد من مراجعة ولي الأمر بشأنه، واطلاق دليل ولاية الفقيه يشمل ذلك(2). وتجب على الولي ـ طبعاً ـ



(1) خصوصاً وان الاطلاق في أدلة ولاية الفقيه لم يكن بمحض مقدمات الحكمة، فالأمر بالاطاعة في الآية الكريمة ﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، ورواية أحمد بن اسحاق "فاسمع لهما وأطعهما" إنما يدل على اطلاق وجوب الاطاعة لكل ألوان الحكم الصادر منه بملاك حذف المتعلق عند عدم وجود قدر متيقن في مقام التخاطب، بينما القدر المتيقن في مورد البحث إنما هو في حدود ملء نقص المولّى عليه وجبران قصوره. وقوله في التوقيع "فإنهم حجتي عليكم" إنما دل على الاطلاق بمناسبة ظاهر حال الإمام (عليه السلام) وغيابه ـ كما سبق بيانه منا ـ وتلك المناسبة لا تقتضي أكثر من ذلك.

(2) التوقيع الشريف: "فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا". والرجوع

186

ملاحظة مصالح المولّى عليه في التصرف في أمواله(1)، لما قلنا من أن الولاية جعلت في حدود سد نقص المولّى عليه وجبران



في كل شيء بحسبه؛ فالرجوع إليهم في أوامرهم يكون بالالتزام بها وامتثالها، والرجوع إليهم في أموال القاصرين عبارة عن تنفيذ تصرفاتهم أو التصرف الحاصل برأيهم فيها، أما اطلاق الأمر بالطاعة في الآية الكريمة ورواية أحمد بن اسحاق فقد يقال: انه لا يشمل غير امتثال الأمر فهو لا يدل على أنه يجوز للفقيه أو لولي الأمر أن يتصرف في أموال القاصرين أو على نفوذ التصرف الصادر برأيه.

ولكن العرف حينما يجمع بين دليل حق طاعة الأمر لشخص وأصل ضرورة وجود ولي للقاصر في أمواله، يفهم ثبوت حق التصرف له فيها بعنوان الولاية. فهذا التشكيك في الاطلاق تشكيك عقلي وليس عرفياً.

(1) والظاهر كفاية مراعاة عدم الضرر (وأقصد بالضرر ما يشمل فوات المصلحة)، فإن المفهوم عرفاً من الولاية ـ كما قلنا ـ هو ما يجعل المولّى عليه كأنه غير قاصر وكأنه ملئ نقصه، والإنسان غير القاصر لا يشترط في فعله المصلحة والرجحان على الترك؛ فلو أقدم على الفعل ـ لأي دافع نفسي ـ ولم يكن تركه أفضل لم يكن عمله سفيهاً أو على خلاف موازين المصلحة والمفسدة، رغم أننا نفرض أن الفعل أيضاً لم يكن ذا مصلحة عقلانية.

وأما ما جاء بشأن اليتيم من قوله تعالى: ﴿ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتي هي أحسن. (سورة الأنعام:152) فلعله ـ بمناسبات الحكم والموضوع ـ يعطي معنى لا ينافي ما ذكرناه، لأن النكتة الارتكازية لجعل هذا الحكم هي لحاظ مصلحة اليتيم وحاله، وواضح أن لا مصلحة بلحاظ حال اليتيم في تحريم العمل حينما يساوي تركه، فلو كان دليل الولاية مطلقاً من هذه الناحية لم يمكن تخصيصه بالآية.

187

قصوره، وليست من قبيل ولاية النبي والإمام التي ثبت بالنص أنها بمعنى كونه أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

والمقياس في تشخيص مصالح ومفاسد المولّى عليه هو نظر الولي وإن أخطأ لا واقع المصلحة والمفسدة، فإن معنى الولاية هو كون نظره ورأيه متبعاً. ومعنى ما قلناه من أنه بولايته يسد نقص المولى عليه أن هذا السفيه مثلاً أو الصغير أصبح بعد هذه الولاية بمنجى عن تأثير سفهه أو صغره في تصرفاته المالية، أما فرض خطأ الولي أحياناً في تشخيص المصلحة والمفسدة فلا يمنع عن نفوذ تصرفه بشأن المولى عليه ولا ينافي ملء نقصه، وجبران قصوره، فإن التورط في الخطأ أحياناً أمر يحصل حتى لنفس المولى عليه لو زال نقصه كما لو أصبح بالغاً رشيداً، فإنه رغم بلوغه ورشده قد يخطئ في بعض التصرفات، وهذا لا يعد نقصاً يحتاج إلى جبرانه بولاية ولي، وإنما نقصه كان عبارة عن سفهه أو صغره وقد تم جبرانه بولاية وليه.

2 ـ ان المجتمع يوجد فيه عصاة لا يعملون وفق الأوامر الالهية أو القوانين التي تضعها الحكومة الاسلامية بحق، فيكون من حق الولي تشكيل القوة التنفيذية والضرب على أيدي العصاة بالقوة ومنع التجاوز على المحرمات واجراء الحدود والتعزيرات. فهذا

188

هو مقتضى اطلاق دليل الولاية(1).

3 ـ وقد يقع في المجتمع نزاع وترافع واختلاف، فلابد من ولي أمر يفصل النزاع بحكمه. والأدلة العامة لولاية الفقيه تشمل هذا المورد بالاطلاق، اضافة إلى ثبوت هذا المنصب ـ أي منصب القضاء ـ بالنص الخاص، كما في مقبولة عمر بن حنظلة.

4 ـ ان أفراد المجتمع ـ على أساس جهل كثير منهم أو عدم اطلاعهم ـ قد لا يستطيعون أن يقدروا المصالح والمفاسد الاجتماعية ويعينوا الموقف بشكل صحيح، كي يعرف مثلاً هل الموقف الصحيح هو الجهاد أو السكوت وغير ذلك من الأمور. فهم بحاجة إلى قائد يقودهم كي يتم بذلك أكبر مقدار ممكن من الخير والصلاح، وهذا أيضاً مشمول لاطلاق الأدلة.

5 ـ ان المصالح الاجتماعية قد تعارض بعض المصالح الفردية



(1) أما اطلاق التوقيع الشريف فواضح، لما مضى من أن الرجوع في كل أمر بحسبه. وأما اطلاق آية اطاعة اولي الأمر ورواية أحمد بن اسحاق الآمر بالطاعة فتأتي هنا الشبهة التي مضت في المورد الأول، فيقال انهما إنما دلّتا على وجوب امتثال الأوامر، ولم تدلاّ على حق الأجبار بالقوة واجراء الحد والتعزير. والجواب نفس الجواب، حيث قال: ان العرف حينما يجمع بين دليل حق الطاعة لشخص وأصل ضرورة قانون الاجبار والحد والتعزير في الاسلام، يفهم من ذلك اطلاق الولاية، فالتشكيك في هذا الاطلاق عقلي وليس عرفياً.

189

أو الأهواء والارادات الشخصية، وبمقتضى العنوان الأولي لا يمكن جبر هذا الفرد على خلاف مصلحته الشخصية أو على خلاف ارادته ورغبته، لأنه لم يخرج في ارادته عن القوانين العامة الأولية؛ ففرض تصرف معين عليه يوافق مصالح المجتمع يحتاج إلى ولي يُعمل ولايته. فمثلاً لو اقتضت المصلحة تحديد الأسعار، فصاحب المتاع بمقتضى العنوان الأولي ليس مجبوراً على البيع بالسعر المعين، وجبره على ذلك يحتاج إلى إعمال حق الولاية. وهذا أيضاً مشمول لاطلاق الدليل.

6 ـ قد تكون المصلحة في نفس توحيد الموقف، كما في تعيين الاهلّة وأوقات الحج والصوم والافطار؛ فحينما تكون هناك حاجة اجتماعية إلى تحديد وقت من هذا القبيل فالظاهر شمول اطلاق الأدلة له(1).

ثانياً: فرض العلم بالخطأ:

إن حكم الحاكم على قسمين:

القسم الأول: ما يكون دور الحاكم في حكمه فيه هو دور طلب تنفيذ الحكم الشرعي من دون الالزام بما لا الزام به قبل الحكم، وذلك من قبيل حكم الحاكم بالهلال، فهو في الحقيقة يخبر عن



(1) راجع الملحق رقم (10).

190

ثبوت الهلال ويطالب بالعمل بما يتطلبه ثبوت الهلال، ومن قبيل فصله للخصومة في المرافعات بتشخيص من له الحق من المترافعين في نظره، ولنصطلح على هذا القسم باسم الحكم الكاشف.

القسم الثاني: ما يكون دور الحاكم فيه هو الالزام بشيء ـ على أساس إعماله لمنصب الولاية ـ حتى على تقدير عدم ثبوت الالزام به شرعاً قبل الحكم، ولنصطلح على هذا القسم باسم الحكم الولايتي(1).

والسر في الزام الحاكم بشيء ـ حتى على تقدير عدم الالزام الشرعي به قبل حكمه ـ هو أحد أمرين:

1 ـ أن يرى الحاكم ملاكاً ومصلحة فيما تعلق به حكمه، رغم أنه قد لا يكون الفرد ملزماً به شرعاً قبل الحكم، على أساس أن نفس الحكم مؤثر في تحقيق المصلحة. وذلك من قبيل حكم الحاكم بتحديد الأسعار لبعض الأمتعة؛ فقد يكون فرد من المجتمع قد



(1) ولا يشترط في هذا القسم عدم ثبوت الالزام شرعاً قبل الحكم، فقد يكون الالزام به شرعاً ثابتاً قبل الحكم ولكن الحاكم يهدف إلى الالزام به حتى على تقدير عدم ثبوت الالزام قبل حكمه (وإن كان هذا التقدير خلاف الواقع)، وقد يهدف الحاكم الحكم بكلا المعنيين الكاشف والولايتي.

191

أدرك وجود المصلحة الالزامية بالتزام المجتمع بالسعر المحدد لمتاع ما على أساس أنه لولا هذا الالتزام لتدهور الوضع الاقتصادي لقسم من المجتمع المسلم إلى حد نعلم بأن الاسلام ـ الذي يرى أنه من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم ـ لا يرضى بذلك، ولكن رغم هذا لا يجب على هذا الفرد الالتزام بهذا السعر المحدد قبل حكم الحاكم، إذ هو يعلم أنه لولا وجود قائد يقود المجتمع إلى تحديد من هذا القبيل لسعر المتاع لم تترتب أي فائدة الزامية على التزامه هو بهذا السعر، لأن الآخرين الذين لم يدركوا هذه المصلحة الاقتصادية أو لم يهتموا بها سوف لن يلتزموا بذلك، والتزامه هو وحده لا يؤثر أثراً يذكر. إذن فتدخل القائد هنا لقيادة المجتمع بوضعه للسعر المحدد له أثره في تحقيق المصلحة، ولم يكن بإمكان الاسلام أن يحدد في تشريعه مصالح من هذا القبيل من دون فرض اشراف قيادة صالحة تلحظ الظروف والأحوال، فكان هذا من منطقة الفراغ التي تُرك مَلؤها لولي الأمر.

2 ـ أن يرى الحاكم مصلحة ملزمة في نفس تحديد الموقف توحيداً للكلمة ورصاً للصفوف، فيختار موقفاً معيناً يحكم به ويلزم به المجتمع، حتى لو فرض أن هذا الموقف لم يكن في حد ذاته أفضل ـ بدرجة الالزام ـ من سائر البدائل المتصورة له. ولذا لم يكن واجباً على المجتمع قبل حكم الحاكم.

192

أما الحكم الكاشف ـ كما في الحكم بالهلال ـ فلا ينفذ على من يعلم بخطأ الحاكم، وذلك لأن المناسبات العرفية تجعل دليلى حجية الحكم في هذا القسم ظاهراً في كون الحجية على أساس ما في الحكم من أمارية على الواقع وكشف عنه(1)، ومع العلم بالخطأ يفقد الحكم كشفه عن الواقع فيسقط عن الحجية. فهذا القسم من الحكم حاله حال الرواية والفتوى، والأصل في الجميع هو السقوط



(1) ومن هنا يستظهر العرف أن حجية هذا القسم من الحكم هي من سنخ الأحكام الظاهرية.

بخلاف القسم الثاني من الحكم، وهو الحكم الولايتي. هذا، ومقتضى ما ذكرناه سقوط هذا القسم من الحكم عن الحجية عند العلم بخطأ مدركه أيضاً ولو لم يعلم بخطأ نفس الحكم، كما لو علمنا أن الحاكم بالهلال استند إلى بينة غير تامة ولكن احتملنا مطابقة الحكم للواقع صدفة. فهذا الحكم يكون ساقطاً عن الحجية لفقدانه للامارية على الواقع. نعم لو كنا نستظهر كون حجية هذا القسم حكماً ظاهرياً من دون أن نستظهر كونها بنكتة الامارية على الواقع، تم التفصيل بين فرض العلم بخطأ الحكم والعلم بخطأ مدركه، فيسقط عن الحجية في الأول ككل حكم ظاهري علم بخطئه، ولا يسقط في الثاني. ولكن الواقع أنه لولا استظهار كون الحجية بنكتة ما في الحكم من امارية على الواقع وكشف عنه لم تكن هناك نكتة لحمل هذه الحجية على كونها حكماً ظاهرياً.

أما فرض كون أماريّته نوعية بدرجة لا تنافي حتى فرض العلم بالخلاف أو بخطأ المدرك فليس عرفياً.

193

عن الحجية عند العلم بالخطأ.

نستثني من ذلك حجية حكم الحاكم في باب القضاء وفصل الخصومات، فمقبولة عمر بن حنظلة تدل على نفوذ حكم الحاكم في ذلك حتى على من يعلم بالخلاف، بمعنى أنه لا يجوز له العمل على خلاف ما ألزم به الحاكم؛ فالمحكوم عليه مثلاً مع علمه بأنه هو صاحب الحق يجب أن يخضع لحكم الحاكم ذلك، لأن المناسبات العرفية تجعلنا نفهم من الدليل أن منصب القضاء إنما جعل للقاضي أن يفصل في الخصومات، فلو قرر عدم نفوذ حكمه على من يعلم بالخطأ فالمحكوم عليه في أكثر الأحيان يدعي العلم بخطأ القاضي، وهذا ينافي فصل الخصومة.

نعم، ان حكم القاضي لا يجوّز الحرام لمن يعلم بالحرمة؛ فالمحكوم له مثلاً لو كان يعلم بأن الحق لصاحبه يجب عليه أن يسلم الحق إليه، وليس حكم الحاكم بما هو في صالحه مسوغاً له لبقائه مصراً على الباطل.

وأما الحكم الولايتي فالواقع أنه لا معنى لحصول العلم بخطئه، فإن الحاكم هنا هو منشئ للحكم بغض النظر عن وجود حكم من هذا القبيل في الشريعة قبل حكمه هو(1). نعم قد



(1) وبتعبير آخر: أن حجية هذا الحكم حكم واقعي وليست حكماً ظاهرياً يعقل مخالفته للواقع.

194

يدعي شخص العلم بخطأ هذا الحاكم في تقديره للموقف وأنه كان الأصلح أن لا يحكم بذلك أو أن يحكم بخلاف ذلك. الا أن هذا لا يسقط الحكم عن النفوذ والحجية؛ فان معنى ولاية الحاكم أنه هو الذي يقدر الموقف لا الفرد المولّى عليه، ومقتضى اطلاق دليل ولايته هو نفوذ حكمه حتى لو علم الفرد بخطأ الحاكم في تقديره للموقف.

نعم لو اعتقد الشخص بحرمة ما حكم به الحاكم واقعاً لم ينفذ عليه الحكم ـ وإن جاز على الحاكم اجباره لو رأى المصلحة الاجتماعية في ذلك ـ والسبب في عدم نفوذ الحكم وعدم حجيته هنا واضح، لأن ولاية الحاكم إنما هي في حدود عدم الخروج عن الالزامات الشرعية، فليس للفقيه تحليل الحرام أو اسقاط الواجب، فإن هذا خارج عن الاطلاقات بالارتكاز والمناسبات العرفية، فإن المستفاد عرفاً من تولية صاحب الشريعة شخصاً ما على المجتمع أنه يوليه في حدود ودائرة ما له من شريعة وأحكام(1).

ثالثاً: ولاية الفقيه بالقياس لسائر الفقهاء:

ونشرح الكلام هنا ضمن الأمور التالية:



(1) راجع الملحق رقم (11).

195

1 ـ تصرف الحاكم في أموال القاصرين نافذ حتى بشأن الفقهاء الآخرين. ولو فرض اعتقاد

أحدهم بخطأ الحاكم في تشخيص مصلحة القاصر، ذلك لأن تصرف الولي بحكم تصرف المالك وخطأه في تقدير الموقف ليس الا كخطأ المالك أحياناً في تقدير الموقف، ودليل صحة البيع مثلاً بإذن الولي يثبت ترتيب آثار البيع الصحيح عليه بشأن كل أحد.

2 ـ حكم القاضي في باب المرافعة نافذ حتى بشأن الفقيه؛ ففي مقبولة عمر بن حنظلة لم يشترط أن لا يكون أحد المتنازعين فقيهاً جامعاً للشرائط. ومقتضى المناسبات العرفية المؤثرة في فهم الألفاظ أيضاً عدم الاشتراط، فإن النزاع بحاجة إلى فصل، وليس المتنازعان دائماً من غير الفقهاء الجامعين للشرائط، وكذلك مقتضى المناسبات في فصل الخصومة هو نفوذ حكم القاضي حتى بالنسبة لغير المتنازعين من الناس بما فيهم الفقهاء.

3 ـ حكم الحاكم الكاشف ـ وفي غير باب القضاء كما في الحكم بالهلال ـ نافذ على الفقيه غير المطلع على حال مدرك الحكم، فإن هذا هو مقتضى اطلاق دليل ولاية الحاكم على المجتمع والتي جعلت لملء نقص المجتمع، والنقص الموجود عند سائر أفراد المجتمع من عدم الاطلاع على حال مدرك هذا الحكم موجود ـ حسب الفرض ـ في هذا الفقيه خصوصاً. وإن رواية أحمد بن

196

اسحاق قد دلت على ارجاع الإمام (عليه السلام) له إلى العمري باعتباره راوياً ثقةً مأموناً، بينما أحمد بن اسحاق نفسه أيضاً من الرواة الثقات الكبار.

4 ـ حكم الحاكم الولايتي في غير موارد التصرف في أموال القاصرين ـ لو قسناه إلى فقيه آخر جامع للشرائط ـ لا يخلو أمره من عدة حالات:

الأولى: أن لا يكون هذا الفقيه مطلعاً على مدى صحة الموقف الذي اتخذه الحاكم، وهنا ينفذ عليه حكم الحاكم باطلاق الدليل، خصوصاً بالنظر إلى ما قلناه من أن أحمد بن اسحاق الذي أرجعه الإمام العمري باعتباره راوياً ثقةً مأموناً كان نفسه أيضاً من الرواة الثقات الكبار.

الثانية: أن يكون مطلعاً على صحة الموقف الذي اتخذه الحاكم على أساس مصلحة ملزمة يراها في هذا الموقف بالذات، فهنا يجب عليه العمل بحكم الحاكم على أساس رأيه هو لا على أساس نفوذ حكم الحاكم عليه، ذلك لأن كون نسبة دليل الولاية إلى الحاكم وإلى هذا الفقيه على حد سواء، مقترناً بعدم ابتلاء هذا الفقيه بالنقص المبتلى به الآخرون من عدم الالتفات إلى تقدير الموقف، يوجب عرفاً انصراف اطلاق دليل ولاية الحاكم عن هذا المورد.

الثالثة: أن يكون مطلعاً على صحة الموقف الذي اتخذه الحاكم

197

دون إيمان منه بمصلحة ملزمة في هذا الموقف بالذات، كما لو رأى ان هناك موقفاً آخر بديلاً لهذا الموقف كان من الصحيح أيضاً اتخاذه، فليس هذا الموقف الذي اتخذه الحاكم بأفضل من الموقف الآخر بدرجة ملزمة وإن كان موقفاً صحيحاً على أي حال. وهنا في الغالب يجب عليه اتباع حكم الحاكم توحيداً للموقف ورصاً للصف.

الرابعة: أن يكون مطلعاً على خطأ موقف الحاكم ولكنه يرى المصلحة الملزمة في اتباعه ـ رغم خطئه ـ توحيداً للموقف ورصاً لصفوف المسلمين. فيجب عليه الاتباع على أساس رأيه هو لا على أساس نفوذ حكم الحاكم، وذلك لما مضى من انصراف الاطلاق.

الخامسة: نفس الفرض الرابع من دون أن يرى مصلحة ملزمة في اتباعه هو، ولكنه يرى المصلحة الملزمة في عدم الاعلان عن نقض حكمه كي لا يوقع الخلاف والشقاق بين صفوف المسلمين فلا يجب عليه ـ حينئذ ـ الاتباع ولكن يحرم عليه نقض الحكم.

السادسة: نفس الفرض الرابع من دون أن يرى مصلحة ملزمة في اتباعه ولا في السكوت عنه، كما لو رأى أن مفسدة السكوت عن خطئه أشد من مصلحة توحيد الصفوف، وهنا يجوز له نقض الحكم.

مقارنة بين الشورى وولاية الفقيه

اتضح من البحث أن نظام الحكومة الاسلامية مؤسس على

198

أساس ولاية الفقيه العادل الكفوء، وأن الشورى ـ بمعنى الاستضاءة بأفكار الآخرين خصوصاً الاخصائيين في كل شعبة من شعب مرافق الحياة ـ واجبة في الحالات الاعتيادية، لتوقف مصلحة الأمة عليها ووجوب مراعاة مصلحتهم على ولي الأمر.

أما جزئيات وتفاصيل شكل الحكومة في أيام الغيبة فلم تذكر في الكتاب أو السنة.

فمثلاً: هل يوضع في رئاسة الدولة فقيه واحد أو توضع مجموعة فقهاء؟

وهي ينتخب من قبل الأمة مجلس واحد للتقنين والتنفيذ أو مجلسان أو أكثر؟

أو هل أن انتخاب المجلس سيكون من قبل الفقيه أو الفقهاء لا الأمة أم لا؟

وعند اختلاف آراء الفقهاء أو الأمة في الانتخاب، فهل يرجح بالكم أو بالكيف؟

وهل تؤخذ آراء الناس الاعتياديين بعين الاعتبار وتحصى وتجعل ذات أثر في القوانين التي يجعلها الفقيه في منطقة الفراغ في اطار أحكام الشريعة، وإلى أي مدى، وبأي شروط، أو لا؟

وفي أي دائرة من دوائر الناس تطرح الأمور للمشورة، وهل تعزم الحكومة بعد المشورة على ما ترتئيه أو تتبع آراء المستشارين

199

على أي حال؟ وإلى أي مدى يكون هذا الاتباع؟

إلى غير ذلك من الأسئلة.

فالجواب عليها جميعاً هو: أنه لم يحدد في الاسلام أي لون خاص من هذا القبيل، ويختلف الأمر باختلاف الزمان والمكان والظروف. وولي الأمر هو الذي يحدد في أي زمان أو مكان الشكل المناسب للبنود والنظم التي تعمل بها الحكومة، وعدم التحديد هذا من قبل الاسلام ليس نقصاً للاسلام، بل حسنة جليلة له، وتعبير عن مرونة الاسلام التي تجعله صالحاً لكل زمان ومكان.

ولا تأتي هنا المناقشة التي أوردناها على ما ذكره بعض كتّاب السنة من تأسيس الدولة على أساس الشورى، حيث جعل عدم تحديد شكل الشورى وشروطها وحدودها من قبل الاسلام حسنة جليلة امتاز بها الاسلام ومرونة له تجعله صالحاً للانطباق على كل زمان ومكان.

فقد أوردنا على هذا الكلام أن الاسلام لو كان قد أعطى قاعدة مرنة لا تختلف في كل زمان ومكان الا في المصاديق والتطبيقات، فهي رغم اختلافها في المصاديق محددة من ناحية كبروية وعامة، وليس هناك في جانبها العام أي غموض، كانت هذه حسنة جليلة للاسلام، ولكن نظام الشورى لم يعط بهذا الشكل، فهو مبتلى بغموض كبير وترد حوله تساؤلات كثيرة ـ مضى بعضها ـ لم يعرف جوابها من الاسلام،

200

فهذا نقص فاحش لا حسنة جليلة. فمثلاً: لم نعرف أن الولاية هل هي للقسم الأكثر عدداً أو القسم الأفضل كيفاً؟ إلى غير ذلك.

وهذا بخلاف ما تبنيناه من ولاية الفقيه، فإن كبرى الولاية ثابتة بحدودها المحددة للفقيه الجامع لمواصفات معينة، والولي هو الذي يعمل صلاحيته في أي زمان أو مكان، وهو يحدد بولايته البنود التفصيلية لنظام الحكم والنظم التي ترتب عليها الأمور، ويعين أنه كيف وبأي مقدار يعتمد على الشورى أو على آراء الناس أو الانتخاب أو المجلس أو غير ذلك، وفق ما يراه من المصلحة التي تختلف باختلاف الظروف والازمنة. فالاسلام وإن كان لم يحدد هذه الأمور لكنه حدد من نرجع إليه في كل زمان ومكان لتحديدها، وهو الفقيه الجامع لشرائط الولاية.

وقد يقال: لم تكن حاجة إلى المرونة وترك التفاصيل إلى ولي الأمر في هذه المسألة، بل كان الأفضل هو ذكر التفاصيل؛ وذلك لأن علاقة الإنسان بالإنسان وما تحتاجه من أمور ثابتة، وليست كعلاقة الإنسان بالطبيعة التي تختلف بمر الزمن باختلاف مدى سيطرة الإنسان على القوى الطبيعية وتنامي وسائل الانتاج، ولهذا كان من الطبيعي في الأحكام الاقتصادية أن يترك الاسلام منطقة فارغة فيها تملأ بقرارات من ولي الأمر، ولكن ليس من الطبيعي أن يترك فراغاً في نظام الدولة يملأه ولي الأمر، إذ مع عدم تطور الحال فيما تحتاجه علاقات الناس

201

في ما بينهم لا يختلف الشكل المفضل لنظام الدولة بمرور الزمان كي تقع الحاجة إلى فرض منطقة فارغة يملؤها الولي.

ولكن الواقع، أن نظام الدولة قد يؤثر فيه أمران:

أولاً: أن الدولة الاسلامية لها علاقات ومواقف خاصة بلحاظ وجود سائر الدول ذات القوانين الوضعية، وهي بحكم وضعيتها ـ على الأقل ـ متطورة على مر الزمن، وهذا قد يؤثر في تطور بعض مواقف الدولة الاسلامية في تنظيم نفسها بنحو منسجم مع ما يتطلبه وضعها الاستراتيجي فيما بين نظم العالم.

وثانياً: أن متطلبات علاقات الناس بعضهم ببعض على مستوى نظام الدولة(1) تختلف باختلاف الزمن والمجتمعات والإمكانيات وقلة الأفراد وكثرتها وازدياد التعقيدات الاجتماعية بمرور الزمن ومقدار سعة رقعة الدولة وشمولها لمجتمعات أكثر تختلف ظروفها وما إلى ذلك، وقد يختلف الأمر من مجتمع إلى مجتمع في زمان واحد. فمثلاً: شكل الشورى أو الانتخاب ـ حينما يرى ولي الأمر المصلحة في ذلك ـ أو حدود الدائرة التي يجري فيها التصويت يختلف من زمان لآخر ومن مجتمع لآخر حسب كمية أفراد



(1) بل وأحياناً حتى على ما دون هذا المستوى؛ فمثلاً تعدد الزوجات قد يختلف في مدى مطابقته للمصالح من زمن حربي يقتل فيه الرجال إلى زمان آخر.

202

المجتمعات ودرجة التعقيد المجتمعي والحالات النفسية للمجتمع وما إلى ذلك.

إذن فكان لابد من المرونة، وكان لابد من تعيين من يرجع إليه في كل زمان أو مكان لملء ما تستبطنه المرونة من فراغ، فعين الاسلام الفقيه الجامع للشرائط لذلك.

وهذا يختلف تمام الاختلاف عن المرونة التي فرضت في نظام الشورى من دون أن يتعين مرجع نرجع إليه في ملء الفراغ.

ولكن رغم كل هذا، يمكن أن يورد على ولاية الفقيه بما يشبه ـ ولو إلى حد ما ـ الاشكال الذي أوردناه على نظام الشورى، ويمكن تقريب الإيراد بعدة وجوه:

الوجه الأول: ان اثبات ولاية الفقيه وتحديد حدودها وشروطها ـ على ما يتضح بمراجعة الابحاث السابقة ـ لم يكن بذلك الأمر الهين، بل كل هذه الأمور تحتاج إلى البحث عن النفي والاثبات. إذن فالاسلام لم يوضح ما هو أهم الأمور في الشريعة، إذ الدولة الاسلامية بها تحفظ الحدود وتطبق الأحكام، فما معنى عدم توضيحها في الاسلام وعدم ورود نصوص مفصلة شارحة لقوانين ونظم الدولة الاسلامية؟! إلّا أن يفترض أنه ثبت في علم الله انه سوف لن يتمكن المؤمنون من اقامة دولة اسلامية صحيحة في أيام الغيبة.

والجواب: ان اكتناف أساس الحكومة الاسلامية في زمان

203

الغيبة بشيء من الغموض مما جعله بحاجة إلى نفض الغبار عنه عن طريق البحث العلمي ليس نقصاً في الاسلام، ولا دليل على أن الاسلام لم يأت بأطروحة لذلك علماً منه ـ مثلاً ـ بعجز المؤمنين عن تشكيل الحكومة الاسلامية في أيام الغيبة، فمن الطبيعي وجود غموض من هذا القبيل في الدليل بعد مضي مئات السنين على عصر النصوص، خصوصاً في موضوع لم تسنح الظروف في عصر النص ولا بعده لتطبيقه كي يتركز في الأذهان. وكلنا نعلم مدى تأثير مضي الزمان على ضياع النصوص وغموض الأسانيد، بل وأحياناً غموض الدلالات.

الوجه الثاني: أن الولاية لم تثبت في الشريعة الاسلامية لفقيه معين بل لجميع الفقهاء الجامعين للشرائط. وهذا من ناحية يشتمل على حكمة بالغة، لأن الفقيه الجامع للشرائط ليس معصوماً كالإمام (عليه السلام) كي يعطي بيده الأمر وحده، بل بالإمكان أن يتورط أحياناً في خطأ كبير يؤدي إلى حلول أخطار جسيمة بالمجتمع الاسلامي. فلابد أن لا تكون الولاية لفقيه معين بل لجميع الفقهاء الجامعين للشرائط، كي يتدخل البعض في الأمور التي يتناولها البعض الآخر ويعصم بعضهم البعض عن الخطأ وينقض حكمه حينما تقتضي المصلحةُ النقضَ ـ على ما مضى منا من جواز نقض حكم الحاكم من قبل حاكم آخر في بعض الفروض ـ ولا يستبد فقيه

204

واحد غير معصوم بأمور المسلمين.

ولكنه من ناحية أخرى يوجب نقصاً فاحشاً في شكل الدولة الاسلامية، وبذلك تتدهور أمور المسلمين ويبطل نظامهم ويقعون في الهاوية؛ ذلك لأنه إذا تعددت الرؤوس فسدت الأمة، فمع تعدد الفقهاء وكون كل واحد منهم ولياً للأمر يريد أن يقوم بأعباء المسؤولية وهم مختلفون في الآراء والأفهام والتصورات، لا يمكن انتظام دولة اسلامية تستطيع ان تقف على قدميها. وكيف نأمن الهرج والمرج وعدم نقض كل واحد منهم لحكم الآخر بحجة أنه رأى من المصلحة ذلك؟! وإلى غير ذلك من المفاسد التي لا يبقى معها أي شكل قابل للقبول للدولة.

والجواب: اننا تارة نركز على الشريعة الاسلامية لنرى مدى امكانية ورود نقص فيها يوجب فساد النظام واضطراب الأمور، وأخرى نضيف إلى الاسلام فرضية عدم اخلاص الفقهاء ـ لا سمح الله ـ أو عدم وعيهم، فنرى أن هذا يؤدي إلى التشويش وعدم انتظام الأمر.

والثاني طبعاً لا ينبغي أن يعد نقصاً في برنامج الاسلام، ان لم يكن بالإمكان وضع برنامج صالح ناجح، حتى مع عدم اخلاص الفقهاء أو عدم وعيهم.

وتوضيح المقصود: أنه لو فرض أن الفقهاء الذين قاموا بالأمر كانوا جميعاً أو الأغلبية الساحقة منهم واعين مخلصين، فعادةً تنتظم

205

الأمور وتقوم دولة كاملة الجهات، ذلك لأنهم يعلمون أن ولايتهم إنما هي في حدود مصالح الأمة الاسلامية واصلاح حالها لا افسادها، ويعلمون ما يترتب على الشقاق وعدم وحدة الكلمة من مفاسد وأخطار وانحطاط أمر المسلمين. فيتشاورون فيما بينهم ويوحدون كلمتهم، لا بمعنى أن يتوحد رأيهم في كل الأمور ودائماً، فإن هذا في كثير من الأحيان غير عملي، بل بمعنى أن يتوحد رأيهم أحياناً ويرفع بعضهم اليد عن رأيه ـ رغم إيمانه بصحته ـ أحياناً أخرى تفضيلاً لمصلحة وحدة الكلمة على مصلحة رأيه، أو أن يعينوا فيما بينهم نظاماً يتبعونه تفادياً للخلاف، من قبيل نظام الأكثرية، أو من قبيل أنهم متى ما اختلفوا أخذوا برأي فلان مثلاً الذي هو أفضلهم أو أذكاهم باتفاق الكل، أو يعين لكل واحد منهم حقل معين ويكون رأيه بعد المشورة هو المتبع في ذلك الحقل، أو يعين أحدهم رئيساً للدولة يجب على الباقين اتباع رأيه ما لم تر الأكثرية أو الاجماع خطأه، او نحو ذلك من القرارات.

ولو وجد فقيه واعٍ مخلص خارج عن دائرة أولئك القائمين بالأمر وكان تدخله بنقض حكم من أحكام رئيس الدولة أو الهيئة المشرفة يوجب الاختلاف في صفوف المسلمين وتترتب عليه مفاسد غالبة على مصلحة نقضه للحكم، لم يجز له ذلك وكان عليه السكوت والتسليم.

206

الوجه الثالث: أن يقال: ان اختلاف الفتاوى بين الفقهاء يوجب تشويش الأمر وعدم امكانية اقامة الدولة على نظام متسق.

ذلك: ان اختلاف الفقهاء في الفتوى تارة يكون في أحكام شخصية، من قبيل وجوب التسبيحات في الصلاة مرة واحدة أو ثلاث مرات، فهذا لا يوجب مشكلة في المقام، إذ كل فقيه يعمل برأيه وكل مقلد يعمل برأي من يقلده، ولا يترتب محذور اجتماعي على اختلاف الناس في عدد ما يقرأونه من التسبيحات في الصلاة مثلاً. وأخرى يكون في أحكام مرتبطة بنظام المجتمع العام، وهذا هو الذي قد يورث المشكلة في المقام. فمثلاً: نفترض أن الدولة الاسلامية بقيادة فقيه جامع للشرائط فرضت قانوناً اقتصادياً على المجتمع الإسلامي ورأت المصلحة في تنفيذ ذاك القانون على الكل، بينما الأمة مختلفة في التقليد: فمنهم من يقلد فقيهاً يرى صحة ذاك القانون، ومنهم من يقلد فقيهاً يرى خطأه؛ كما لو افترضنا أن الدولة فرضت الخمس على أموال اختلف الفقهاء في تعلق الخمس بها، فماذا نصنع في المقام؟!

الا أن هذه المشاكل تنحل عادة بمسألة نفوذ حكم الحاكم، فإن حاكم الدولة الاسلامية حينما يحكم بحكم من هذا القبيل فهو عادة لا يحكم بما يعتقد البعض حرمته كي لا ينفذ حكمه. وعليه فينفذ حكمه على الأمة، وحتى من لا يرى وجوب تخميس ماله

207

الفلاني مثلاً يجب عليه تخميسه، إذ ليس التخميس أمراً محرماً. كما أنه يجوز للآخرين أن يصبحوا طرفاً للمعاملة مع مال أخذ عن هذا الطريق، لأنه وإن فرض أخذه عن كره ـ بأن لا يرضى صاحب المال بذلك حتى بعد حكم الحاكم فيؤخذ منه اجباراً ـ ولكن هذا اكراه بحق صدر من ولي الاكراه.

بل الذي أقترحه في نظام حكومة اسلامية من هذا القبيل: هو أن تنظم جميع القوانين المدنية والأحوال الشخصية ونظم العبادات وسائر الأحكام في رسالة عملية موحدة تصدر من قبل هيئة من نخبة الفقهاء يتشاورون ويبحثون فيما بينهم في الفتوى ويستعينون في تشخيص الموضوعات وفي فهم المصالح التي يجب أن تلحظ عند ملء منطقة الفراغ في الشريعة الاسلامية بالخبراء الفنيين وذوي الاختصاص في كل شعبة من الشعب. وإذا وقع الاختلاف في الفتوى في مورد من الموارد ولم يرتفع حتى بعد المشورة والتفاهم، فبإمكانهم عادةً الأخذ بالاحتياط أو الأخذ برأي الأعلم، لو كان فيهم من يعترف كلهم بأعلميته بنحو تصبح فتواه هي الحجة على الأمة دون فتوى غيره، أو أن يقدم أحدهم لاصدار حكم ولايتي ـ بمقتضى كونه ولي الأمر ـ وذلك على طبق فتواه كي ينفذ حكمه على كل قطاعات الأمة. وبالتالي تصدر رسالة عملية واحدة يجب على الأمة جميعاً العمل بها.

208

ولاية الفقيه تسعد المجتمع

إن نفوذ الكلمة في الحكومات الوضعية ـ وحتى الانتخابية ـ لا يخلو من أن يكون بيد فرد واحد أو بيد أكثر من فرد كاثنين أو ثلاثة، وهكذا بقدر ما تنتخبه الأمة مثلاً؛ فإن كان بيد فرد واحد تمتع الحكم بالمركزية والقوة والسيطرة الكاملة، وهي مفيدة في تنظيم الدولة لكنه قد يبتلى بالاستبداد والعمل على إغفال الأمة. وكلما اتسعت دائرة من بيدهم الأمر ابتعد الحكم بذاك المقدار عن معرضيته للوقوع في الاستبداد، في حين ضعف تمتعه بتلك الدرجة من القوة والسيطرة والتنظيم.

أما الشكل الذي جاء به الاسلام لعصر غيبة الإمام المعصوم، وفق ما تنقح في بحثنا عن ولاية الفقيه، فهو شكل ثالث؛ إذ هو لم يجعل الولاية ـ في زمن الغيبة الكبرى ـ بيد شخص واحد مما يقرب النظام إلى الاستبداد، ولا بيد مجموع الفقهاء بأن يشغل كل واحد منهم جزءاً من منصب الولاية مما يؤدي إلى ضعف المركزية، بل جعلها بيد كل واحد من الفقهاء الجاميعن للشرائط، فكل واحد منهم حاكم مستقل. الا أنه إذا تقدم بعضهم للحكم والتنظيم لم يجز للآخرين شق صفوف المسلمين ويجب عليهم التسليم ما لم ينحرف الأول، ولم يتورط في أخطاء أشد من مفاسد شق الصفوف.