51

النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْماً ثُمَّأنْشَأنَاه خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أحْسَنُ الخالِقينَ﴾(1).

وهذه هي الإجابة الوحيدة التي تنسجم مع القضايا الثلاث المتقدّمة، وتستطيع أن تعطي تفسيراً معقولا لعملية النموّ والتكامل في أشكال الوجود على ساحة هذا الكون الرحيب. وإلى هذا الدليل يشير القرآن الكريم في عدد من آياته التي يخاطب بها فطرة الإنسان السليمة وعقله السوي:

﴿أفَرَأيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أأنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ﴾(2).

﴿أفَرَأيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أأنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ﴾(3).

﴿أفَرَأيْتُمُ النَّارَ الَّتي تُورُونَ * أأنْتُمْ أنْشَأتُمْ شَجَرَتَهَا أمْ نَحْنُ المُنْشِئُونَ﴾(4).

﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَاب ثُمَّ إذَا أنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ﴾(5).

صدق الله العلي العظيم.

موقف المادية من هذا الدليل:

ونشير الآن إلى موقف الماديّة من هذا الدليل.

إنّ المادية الميكانيكية غير محرجة في مواجهة هذا الدليل؛ لأنّها كما عرفنا


(1) المؤمنون: 12 ـ 14.
(2) الواقعة: 58 ـ 59.
(3) الواقعة: 63 ـ 64.
(4) الواقعة: 71 ـ 72.
(5) الروم: 20.
52

تفسّر الحياة والإحساس والفكر بأنّها أشكال من التجميع والتوزيع للأجسام والجسيمات لا أكثر، فلا يحدث من خلالها شيء جديد سوى حركة الأجزاء وفقاً لقوى ميكانيكية.

وأمّا المادية الحديثة فهي لإيمانها بالتطوّر النوعي والكيفي للمادة من خلال هذه الأشكال تواجه إحراجاً في هذا الدليل، غير أنّها اختارت اُسلوباً في تفسير هذا التطوّر الكيفي توفّق فيه بين القضية الثانية المتقدّمة ورغبتها في الاكتفاء بالمادة وحدها كتفسير لكلّ تطوّراتها، وهذا الاُسلوب هو: أنّ المادة هي مصدر العطاء، وهي التي تموّن عملية التطوّر الكيفي، ولكن لا كما يموّن الفقير المشاريع الرأسمالية لكي يتعارض مع القضية الثانية المتقدّمة، بل إنّ ذلك يتمّ على أساس أنّ كلّ أشكال التطور ومحتوياته موجودة في المادة منذ البدء، فالدجاجة موجودة في البيضة، والغاز موجود في الماء، وهكذا.

أمّا كيف تكون المادة في وقت واحد بيضةً ودجاجةً، أو ماءً وغازاً ؟ فتجيب المادية الجدلية على ذلك بأنّ هذا تناقض، والتناقض هو قانون الطبيعة العامّ، فكلّ شيء يحتوي على نقيضه ـ ضدّه ـ في أحشائه، وهو في صراع مستمرّ مع هذا النقيض، وبهذا الصراع بين النقيضين ينمو النقيض الداخلي حتى يبرز ويحقّق تحوّلا في المادة، كالبيضة تنفجر في لحظة معينة ويبرز فرخ الدجاجة من داخلها، وعن هذا الطريق تتكامل المادة باستمرار؛ لأنّ النقيض الذي يبرز من خلال الصراع يمثّل المستقبل، أي خطوة إلى الأمام.

ونلاحظ على ذلك ما يلي:

أنّ المادية الحديثة ماذا تقصد بالضبط من أنّ الشيء يحتوي على نقيضه أو ضدّه ؟ وعلى التحديد: أيّ المعاني التالية هو المقصود ؟

1 ـ فهل يراد بذلك أنّ البيضة وفرخ الدجاجة نقيضان أو ضدّان، وأنّ البيضة

53

تصنع الفرخ وتسبغ عليه صفات الحياة، أي أنّ الميّت يلد الحي ويصنع الحياة، وهذا تماماً كالفقير الذي يموّن المشاريع الرأسمالية يتعارض مع البديهية المتقدّمة ؟

2 ـ أو يراد بذلك أنّ البيضة لا تصنع الفرخ، بل تبرزه بعد أن كان كامناً فيها؛ لأنّ كلّ شيء يكمن فيه نقيضه، فالبيضة حينما كانت بيضةً هي في نفس الوقت فرخ دجاجة، كالصورة التي تبدو من جانب بشكل ومن جانب آخر بشكل مختلف ؟

ومن الواضح أنّ البيضة إذا كانت في نفس الوقت فرخ دجاجة فلا توجد هناك أيّ عملية نموّ أو تكامل عندما تصبح البيضة دجاجة؛ لأنّ كلّ ما وجد الآن كان موجوداً منذ البدء تماماً، كالشخص يخرج نقوده من جيبه فلا يزداد بذلك ثراءً؛ لأنّ كلّ ما بيده الآن من نقود كان في جيبه، فلكي تكون هناك عملية نموّ وتكامل ويحدث شيء جديد حقّاً من خلال تحوّل البيضة إلى دجاجة لابدّ أن نقول بأنّ البيضة لم تكن دجاجةً أو فرخ دجاجة، بل كانت مشروع دجاجة، أي شيئاً صالحاً لأنْ يصبح دجاجة، وبهذا تتميّز عن الحجر، فقطعة الحجر لا يمكن أن تكون دجاجة، وأمّا البيضة فبالإمكان أن تكون دجاجةً ضمن شروط وظروف معينة، ومجرّد أنّ الشيء ممكن لا يعني وقوعه، فإذا أصبحت البيضة دجاجةً حقّاً فلا يكفي مجرّد الإمكان تفسيراً لذلك.

ومن ناحية اُخرى: إذا كانت أشكال المادة ناتجةً عن تناقضاتها الداخلية فيجب أن تفسّر تنوّع هذه الأشكال على أساس تنوّع تلك التناقضات الداخلية، فالبيضة لها تناقضاتها الخاصّة التي تختلف عن تناقضات الماء؛ ولهذا تتمخّض تلك التناقضات عن دجاجة، وهذه عن غاز، وهذا افتراض يبدو ميسوراً عندما نتحدّث عن مرحلة متأخّرة من مراحل تنوّع أشكال المادة، ففي المرحلة التي

54

نواجه فيها بيضةً وماءً يمكننا بسهولة أن نفترض الاختلاف بينهما في تناقضاتهما الداخلية.

ولكن ماذا نقول عن تنوّع أشكال المادة على مستوى الجسيمات التي تشكّل الوحدات الأساسية في الكون من بروتونات ونترونات وألكترونات وبروتونات مضادة وألكترونات مضادة وفوتونات ؟

فهل اتّخذ كلّ جسيم شكلا خاصّاً من هذه الأشكال على أساس تناقضاته الداخلية، فكان البروتون موجوداً في أحشاء مادته ثمّ برز من خلال الحركة والصراع كالدجاجة مع البيضة ؟

إذا كنّا نفترض ذلك فكيف نبرّر تنوّع الأشكال التي اتّخذتها تلك الجسيمات ؟ مع أنّ هذا يفترض ـ بمنطق التناقض الداخلي ـ أن تكون تلك الجسيمات متنوّعةً مختلفةً في تناقضاتها الداخلية، أي أنّها مختلفة في كيانها الداخلي، ونحن نعلم أنّ العلم الحديث يتّجه إلى الاعتقاد بوحدة كيان المادة، وأنّ المحتوى الداخلي للمادة واحد، وليست الأشكال التي تتّخذها إلّا حالات متبادلةً على محتوى واحد ثابت، ولهذا كان بالإمكان أن يتحوّل البروتون إلى نترون وبالعكس، أي أن يتغيّر شكل الجُسَيم ـ فضلا عن الذرّة أو الجُزَيء ـ مع وحدة المحتوى وثباته، وهذا يعني أنّ المحتوى واحد في الجميع وإن اختلفت الأشكال، فكيف يمكن أن نفترض أنّ هذه الأشكال نتجت عن تناقضات داخلية مختلفة ؟ !

إنّ مثال البيضة والدجاجة نفسه نافع لتوضيح هذا الموقف، فإنّه لكي تتنوّع الأشكال التي تتّخذها بيضات عديدة من خلال تناقضاتها الداخلية المفترضة لابدّ أن تكون متغايرةً في تركيبها الداخلي، فبيضة الدجاجة وبيضة الطير تنتجان شكلين متغايرين، وهما الدجاجة والطير، وأمّا إذا كانت البيضتان من نوع واحد

55

كبيضتي دجاجة فلا يمكن أن نفترض أن تناقضاتهما الداخلية تؤدّي إلى شكلين مختلفين.

وهكذا نلاحظ أنّ تفسير المادية الحديثة لأشكال المادة على أساس تناقضاتها الداخلية واتّجاه العلم الحديث إلى التأكيد على وحدة المحتوى الداخلي للمادة يسيران في خطّين متغايرين.

3 ـ أو يراد بذلك أنّ البيضة نفسها تعبّر عن ضدّين أو نقيضين مستقلّين لكلّ منهما وجوده الخاصّ، أحدهما يتمثّل في النطفة التي سببها في داخل البيضة اللقاح، والآخر سائر ما تحتويه البيضة من موادّ، وهذان الضدّان وحّدتهما معركة في داخل قشر البيضة، ومن خلال هذا الصراع برز أحد الضدّين، وانتصرت النطفة، فتحوّلت البيضة إلى دجاجة.

وهذا النوع من الصراع بين الأضداد شيء مألوف في حياة الناس، وقديم في تصوراتهم الاعتيادية فضلا عن تصوراتهم الفلسفية.

ولكن لماذا نسمّي هذا التفاعل بين النطفة والمواد الطبيعية المكونة للبيضة تناقضاً ؟ لماذا نسمّي هذا التفاعل بين البذرة والتربة والهواء تناقضاً ؟ لماذا نسمّي التفاعل بين الجنين في رحم اُمّه وما يستمدّه من غذاء تناقضاً ؟

إنّها مجرّد تسمية، وليست بأفضل من أن يقال: إنّ أحدهما يندمج في الآخر، أو يتوحّد فيه.

وهَبْ أ نّا سمّينا ذلك تناقضاً فلن تحلّ المشكلة بذلك ما دمنا نسلّم بأنّ هذا التفاعل الخاصّ بين الضدّين يؤدّي إلى نتيجة أكبر إلى عملية نموّ إلى شيء جديد يزيد على المجموع العدديّ لهما، فمن أين جاءت هذه الزيادة ؟ وهل جاءت من الضدّين المتصارعين الفاقدين معاً لها، مع أنّ فاقد الشيء لا يعطيه بحكم القضية الثانية من القضايا الثلاث المتقدّمة ؟

56

وهل نعرف من الطبيعة مثالا يكون فيه التضاد والصراع بين الأضداد عامل تنمية حقّاً ؟ وكيف يساهم الضدّ في تنمية ضدّه عن طريق الصراع معه، مع أنّ هذا الصراع يعني درجةً من المقاومة والرفض، وكل مقاومة تنقص من طاقة الطرف الآخر على التحرّك والنموّ بدلا من أن تساعده على ذلك ؟ وكلّنا نعرف أنّ السَبّاح إذا تعرّض في سباحته لأمواج مضادّة من الماء فإنّ هذا سوف يعيقه عن التحرّك إلى درجة كبيرة بدلا عن أن يكون سبباً في التحرك.

وإذا كان الصراع بين الأضداد ـ بأي معنىً كان ـ هو الأساس في تنمية البيضة وتطويرها إلى دجاجة فأين التنمية التي يؤدّيها الصراع بين الأضداد في تحوّل الماء إلى غاز ثمّ رجوعه ماءً مرّةً اُخرى ؟

والطبيعة تكشف لنا باستمرار أضداداً يؤدّي التحامها أو اللقاء بينها إلى دمارها معاً بدلا عن التطور والتكامل، فالبروتون الموجب الذي يشكّل الحجر الأساس في نواة الذّرة ويحمل شحنةً موجبةً له بروتون مضادّ سالب، والألكترون السالب الذي يتحرك في مدار الذرة له ألكترون مضاد موجب، وإذا حدث أن التَقى أحد هذين الضدّين بضدّه تحدث عمليات إفناء ذرّية تختفي معها معالم المادة من الوجود، بينما تنطلق طاقات وتنتشر في الفضاء.

نخلص من كلّ ذلك إلى أنّ حركة المادة بدون تموين وإمداد من خارج لا يمكن أن تحدث تنميةً حقيقيةً وتطوّراً إلى شكل أعلى ودرجة أكثر تركيزاً، فلابدّ لكي تنمو المادة وترتفع إلى مستويات عُليا ـ كالحياة والإحساس والتفكير ـ من ربّ يتمتّع بتلك الخصائص ليستطيع أن يمنحها للمادة، وليس دور المادة في عمليات النموّ هذه إلّا دور الصلاحية والتهيّؤ والإمكان، دور الطفل الصالح والمتهيِّئ لتقبّل الدرس من مربّيه، فتبارك الله ربّ العالمين.

57

صِفاتُ الله تعالى

 

حينما نؤمن بالله سبحانه وتعالى خالقاً للكون ومربّياً له ومنظّماً لمسيرته وفق الحكمة والتدبير ينتج عن ذلك طبيعياً أن نتعرّف على صفاته من خلال صنعه وإبداعه، ونقيّم خصائصه بما تشعّ به مصنوعاته من دلالات، تماماً كما نقيّم أيّ مهندس على أساس الصفات التي تميّز إنتاجه الهندسي، ونقيّم المؤلّف على ضوء ما يحويه كتابه من علم ومعرفة، ونحدّد شخصية المربي عن طريق ما أودع في من ربّاهم من شمائل وخصال.

وبهذا نستطيع أن نأخذ لمحةً عمّا يتّصف به الصانع العظيم من علم وحكمة وحياة وقدرة وبصر وسمع؛ لأنّ ما في نظام الكون من دقّة وإبداع يكشف عن العلم والحكمة، وما في أعماقه من طاقات يدلّل على القدرة والسيطرة، وما في أشكاله من ألوان الحياة ودرجات الإدراك العقلي والحسّي يدلّ على ما يتمتّع به الصانع من حياة وإدراك، ووحدة الخطّة والبناء في تصميم هذا الكون والترابط الوثيق بين مختلف جوانبه تشير إلى وحدة الخالق ووحدة الخبرة التي انبثق عنها هذا الكون الكبير.

 

عدله واستقامته:

كلّنا نؤمن بعقلنا الفطري البديهي بقيم عامّة للسلوك، وهي القيم التي تؤكّد

58

أنّ العدل حقّ وخير، والظلم باطل وشرّ، وأنّ من يعدل في سلوكه جدير بالاحترام والمثوبة، ومن يظلم ويعتدي جدير بعكس ذلك، وهذه القيم بحكم الاستقراء والفطرة هي الأساس الذي يوجّه سلوك الإنسان ما لم يكن هناك مايحول دون ذلك من جهل أو ترقّب نفع، فكلّ إنسان إذا واجه خياراً بين الصدق والكذب في حديثه مثلا أو بين الأمانة والخيانة، فإنّه يختار الصدق على الكذب، والأمانة على الخيانة، ما لم يكن هناك دافع شخصي ومصلحة خاصّة قد تغريه بالانحراف في سلوكه عن تلك القيم.

ويعني ذلك أنّ من لاتوجد لديه حاجةٌ إلى شخص أو مصلحةٌ في خداعه أو خيانته أو ظلمه يسلك معه سلوك الصادق الأمين العادل، أي سلوكاً مستقيماً، وهذا بالضبط ماينطبق على الصانع الحكيم سبحانه وتعالى، فإنّه محيط بتلك القيم التي ندركها بعقلنا الفطري. لأنّه هو الذي وهبنا هذا العقل، وهو في نفس الوقت بحكم قدرته الهائلة وسيطرته الشاملة على الكون ليس بحاجة إلى أيّ مساومة أو لفّ ودوران، ومن هنا نؤمن بأنّ الله سبحانه وتعالى عادل لا يظلم أحداً.

عدل الله تعالى يثبت الجزاء:

إنّ القيم التي آمنّا بها تدعو ـ كما عرفنا ـ إلى العدل والاستقامة والأمانة والصدق والوفاء ونحوها من صفات، وتشجب الصفات المضادة لها. وهذه القيم لا تدعو إلى تلك الصفات وتشجب هذه الصفات فقط، بل تطالب بالجزاء المناسب لكلّ منهما، فإنّ العقل الفطريّ السليم يدرك أنّ الظالم والخائن جدير بالمؤاخذة، وأنّ العادل الأمين الذي يضحّي في سبيل العدل والأمانة جدير بالمثوبة، وكل واحد منّا يجد في نفسه دافعاً من تلك القيم إلى مؤاخذة الظالم المنحرف، وتقدير العادل المستقيم، ولا يحول دون تنفيذ هذا الدافع عند أحد إلّا عجزه عن اتخاذ

59

الموقف المناسب، أو تحيّزه الشخصي.

وما دمنا نؤمن بأنّ الله سبحانه وتعالى عادل مستقيم في سلوكه وقادر على الجزاء المناسب ثواباً وعقاباً فلا يوجد مايحول دون تنفيذه عزّ وجلّ لتلك القيم التي تفرض الجزاء العادل وتحدّد المردود المناسب للسلوك الشريف والسلوك الشائن، فمن الطبيعي أن نستنتج من ذلك أنّ الله سبحانه يجازي المحسن على إحسانه، وينتصف للمظلوم من ظالمه.

ولكنّا نلاحظ في نفس الوقت أنّ هذا الجزاء كثيراً ما لا يتحقّق في هذه الحياة التي نحياها على هذه الأرض على الرغم من أنّه مقدور لله سبحانه وتعالى، وهذا يبرهن ـ بعد ملاحظة المعلومات السابقة ـ على وجود يوم مقبل للجزاء، يجد فيه العامل المجهول الذي ضحّى من أجل هدف كبير ولم يقطف ثمار تضحيته، والظالم الذي أفلت من العقاب العاجل وعاش على دماء المظلومين وحطامهم، يجد هذا وذاك فيه جزاءهما العادل، وهذا هو يوم القيامة، الذي يجسّد كلّ تلك القيم المطلقة للسلوك، وبدونه لا يكون لتلك القيم معنى.

61

موجز في اُصول الدين

2

الرسول

 

 

 

○  تمهيد عن الظاهرة العامّة للنبوّة.

○  إثبات نبوّة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله).

 

 

63

تمهيد عن الظاهرة العامّة للنبوّة

 

كلّ شيء في هذا الكون الواسع يحمل معه قانونه الربّاني الصارم، الذي يوجّهه ويرتفع به مدى ما يتاح له من ارتفاع وتطوّر، فالبذرة يتحكّم فيها قانونها الذي يحوّلها ضمن شروط معينة إلى شجرة، والنطفة يتحكّم فيها قانونها الذي يطوّرها إلى إنسان، وكلّ شيء من الشمس إلى البروتون، ومن الكواكب السيّارة في مدار الشمس إلى الألكترونات السيّارة في مدار البروتون يسير وفق خطّة، ويتطور وفق إمكاناته الخاصّة.

وهذا التنظيم الربّاني الشامل امتدّ ـ بحكم الاستقراء العلمي ـ إلى كلّ جوانب الكون وظواهره.

وقد تكون أهمّ ظاهرة في الكون هي ظاهرة الاختيار لدى الإنسان، فإنّ الإنسان كائن مختار، ويعني ذلك أنّه كائن هادف، أي يعمل من أجل هدف يتوخّى تحقيقه بذلك العمل، فهو يحفر الأرض من أجل أن يستخرج ماءً، ويَطهى الطعام من أجل أن يأكل طعاماً لذيذاً، ويجرّب ظاهرةً طبيعيةً من أجل أن يتعرّف على قانونها، وهكذا، بينما الكائنات الطبيعية البحتة تعمل من أجل أهداف مرسومة من قبل واضع الخطّة، لا من أجل أهداف تعيشها هي وتتوخّى تحقيقها.

فالرئة والمعدة والأعصاب في ممارسة وظائفها الفيسيولوجية تعمل عملا

64

هادفاً، ولكنّ الهدف هنا لا تعيشه هي من خلال نشاطها الطبيعي والفيسيولوجي الخاصّ، وإنّما هو هدف الصانع الخبير؛ ولمّا كان الإنسان كائناً هادفاً ترتبط مواقفه العملية بأهداف يعيها ويتصرّف بموجبها، فهذا يفترض ضمناً أنّ الإنسان في مواقفه العملية هذه ليس مسيّراً وفق قانون طبيعيّ صارم، كما تسقط قطرة المطر في مسار محدّد وفقاً لقانون الجاذبية؛ لأنّه في حالة من هذا القبيل لا يمكن أن يكون هادفاً، أي يعمل من أجل هدف يعيش في داخل نفسه.

فلكي يكون الإنسان هادفاً لابدّ أن يكون حرّاً في التصرّف؛ ليتاح له أن يتصرّف وفقاً لما تنشأ في نفسه من أهداف، فالترابط بين المواقف العملية والأهداف هو القانون الذي ينظّم ظاهرة الاختيار لدى الإنسان.

كما أنّ الهدف بدوره لا يتواجد بصورة عشوائية، فإنّ كلّ إنسان يحدّد أهدافه وفقاً لما تتطلّبه مصلحته وذاته من حاجات، وهذه الحاجات تحدّدها البيئة والظروف الموضوعية التي تحيط بالإنسان، غير أنّ هذه الظروف الموضوعية لا تحرّك الإنسان مباشرةً كما تحرك العاصفة أوراق الشجر؛ لأنّ هذا يعطّل دوره ككائن هادف، فلابدّ للظروف الموضوعية إذن من تحريك الإنسان عن طريق الإثارة والإيحاء بتبنّي أهداف معيّنة، وهذه الإثارة ترتبط بإدراك الإنسان للمصلحة في موقف عمليّ معيّن، ولكن ليست كلّ مصلحة تحقّق إثارةً للفرد، وإنّما تحقّقها تلك المصالح التي يدرك الفرد أنّها مصالح له بالذات.

وذلك أنّ المصالح على قسمين: فهناك مصالح على خطٍّ قصير تعود بالنفع غالباً على الفرد الهادف العامل نفسه، ومصالح على خطّ طويل تعود بالنفع على الجماعة، وكثيراً ما تتعارض مصالح الفرد ومصالح الجماعة، وهكذا نلاحظ من ناحية أنّ الإنسان غالباً لا يتحرك من أجل المصلحة لقيمها الإيجابية، بل بقدر ما تحقّق له من نفع خاصّ، ونلاحظ من ناحية اُخرى أنّ خلق الظروف

65

الموضوعية لضمان تحرك الإنسان وفق مصالح الجماعة شرط ضروري لاستقراءالحياة ونجاحها على الخطّ الطويل، وعلى هذا الأساس واجه الانسان تناقضاً بين ما تفرضه سنّة الحياة واستقرارها من سلوك موضوعيّ واهتمام بمصالح الجماعة، وما تدعو إليه نوازع الفرد واهتمامه بشخصه من سلوك ذاتيّ واهتمام بالمنافع الآنيّة الشخصية.

وكان لابدّ من صيغة تحلّ هذا التناقض وتخلق تلك الظروف الموضوعية التي تدعو إلى تحرّك الإنسان وفق مصالح الجماعة.

والنبوّة بوصفها ظاهرةً ربّانيةً في حياة الإنسان هي القانون الذي وضع صيغة الحلّ هذه، بتحويل مصالح الجماعة وكلّ المصالح الكبرى التي تتجاوز الخطّ القصير لحياة الإنسان إلى مصالح للفرد على خطّه الطويل؛ وذلك عن طريق إشعاره بالامتداد بعد الموت، والانتقال إلى ساحة العدل والجزاء التي يحشر الناس فيها لِيُرَوا أعمالهم: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شرّاً يَرَهُ ﴾(1)؛ وبذلك تعود مصالح الجماعة مصالحَ للفرد نفسه على هذا الخطّ الطويل.

وصيغة الحلّ هذه تتأ لّف من نظرية وممارسة تربوية معيّنة للإنسان على أساسها، والنظرية هي المعاد يوم القيامة، والممارسة التربوية على هذه النظرية عملية قيادية ربّانية، ولا يمكن إلّا أن تكون ربانيةً؛ لأنّها عملية تعتمد على اليوم الآخر، أي على الغيب، فلا توجد إلّا بوحي السماء، وهي النبوّة.

ومن هنا كانت النبوّة والمعاد واجهتين لصيغة واحدة، هي الحلّ الوحيد لذلك التناقض الشامل في حياة الإنسان، وتشكّل الشرط الأساسي لتنمية ظاهرة الاختيار وتطويرها في خدمة المصالح الحقيقية للإنسان.

 


(1) الزلزلة: 7 ـ 8 .
66

إثبات نبوّة الرسول الأعظم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)

 

كما ثبت الصانع الحكيم بالدليل الاستقرائي ومناهج الاستدلال العلمي كذلك تثبت نبوّة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدليل العلمي الاستقرائي، وبنفس المناهج التي نستخدمها في الاستدلال على الحقائق المختلفة في حياتنا الاعتيادية وحياتنا العلمية.

ولنمهّد لذلك بأمثلة أيضاً:

إذا تسلّم الإنسان رسالةً من أحد أقاربه، وكان هذا القريب صبيّاً يدرس في مدرسة ابتدائية بأحد الأرياف، فلاحظ الإنسان الذي تسلّم الرسالة أنّها قد كتبت بلغة حديثة وبعبارات مركّزة وبليغة وبقدرة فنيّة فائقة على تنسيق الأفكار وعرضها بصورة مثيرة، إذا تسلّم الإنسان رسالةً من هذا القبيل فسوف يستنتج أنّ شخصاً مثقّفاً واسع الاطّلاع قوي العبارة قد أملى الرسالة على هذا الصبي، أو شيئاً من هذا القبيل. وإذا أردنا أن نحلّل هذا الاستنتاج والاستدلال نجد أنّ بالإمكان تجزئته إلى الخطوات التالية:

الاُولى: أنّ كاتب الرسالة صبي ريفي ويدرس في مدرسة ابتدائية.

الثانية: أنّ الرسالة تتميّز باُسلوب بليغ ودرجة كبيرة من الإجادة الفنّية وقدرة فائقة على تنسيق الأفكار.

الثالثة: أنّ الاستقراء يثبت في الحالات المماثلة أنّ صبيّاً بتلك المواصفات التي تقدّمت في الخطوة الاُولى لا يمكنه أن يصوغ رسالةً بالمواصفات التي لوحظت في الخطوة الثانية.

الرابعة: يُستنتج من ذلك إذن أنّ الرسالة من نتاج شخص آخر استطاع ذلك

67

الصبيّ بشكل وآخر أن يستفيد منه ويسجّله في رسالته.

ومثال آخر للفكرة نفسها من الأدلّة العلمية: وهو الدليل الذي أثبت به العلماء الالكترون، فقد درس بعض العلماء نوعاً معيّناً من الأشعة ولّدها في اُنبوبة مغلقة، ثمّ سلّط على وسط الاُنبوبة قطعة مغناطيس على شكل نعل الفرس، فلاحظ أنّ الأشعّة تميل إلى القطب الموجب من المغناطيس وتبتعد عن القطب السالب منه، وكرّر التجربة في ظروف مختلفة حتى تأكّد من أنّ تلك الأشعّة تنجذب بالمغناطيس، وأنّ القطب الموجب في المغناطيس هو الذي يجذبها.

ولمّا كان هذا العالم يعرف باستقرائه ودراسته للإشعاعات الاُخرى ـ كالضوء الاعتيادي ـ أنّها لا تتأثّر بالمغناطيس ولا تنجذب إليه وأنّ المغناطيس يجذب الأجسام لا الأشعة، أمكنه أن يدرك أنّ انجذاب الأشعة المعيّنة التي كان يجري عليها تجاربه وميلها إلى القطب الموجب من المغناطيس لا يُمكن أن يفسّر على أساس المعلومات المفترضة.

ومن هنا اكتشف عاملا إضافياً وحقيقةً جديدة، وهي أنّ هذه الأشعة تتأ لّف من أجسام دقيقة سالبة موجودة في جميع المواد؛ لأنّها تنبعث من مختلف المواد، وسمّيت هذه الجسيمات بالألكترونات.

وتتلخّص عملية الاستدلال في كلا هذين المثالين ـ مثال الرسالة ومثال الألكترون ـ في أنّه كلّما لوحظت ظاهرة معيّنة ضمن عوامل وظروف محسوسة، ولوحظ استقرائياً أنّ هذه العوامل والظروف المحسوسة في الحالات المماثلة لا تؤدّي إلى نفس الظاهرة، فيدلّ ذلك على وجود عامل آخر غير منظور لابدّ من افتراضه لتفسير تلك الظاهرة.

وبكلمة اُخرى: أنّ النتيجة إذا جاءت أكبر من الظروف والعوامل المحسوسة ـ بحكم الاستقراء للحالات المماثلة ـ كشفت عن وجود شيء

68

غير منظور وراء تلك الظروف والعوامل المحسوسة.

وهذا ما يصدق تماماً على نبوّة الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله) والرسالة التي أعلنها على العالم باسم السماء؛ وذلك ضمن الخطوات التالية:

الاُولى: أنّ هذا الشخص الذي أعلن رسالته على العالم باسم السماء ينتسب إلى شبه الجزيرة العربية، التي كانت من أشدّ أجزاء الأرض تخلّفاً في ذلك الحين من الناحية الحضارية والفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وينتمي إلى الحجاز بالذات من أقطار تلك الجزيرة، وهو قطر لم يمرّ حتى تأريخياً بمثل الحضارات التي نشأت قبل ذلك بمئات السنين في مواضع اُخرى محدّدة من تلك الجزيرة، ولم يعرف أيّ تجربة إجتماعية متكاملة.

ولم ينلْ هذا القطر من ثقافة عصره ـ على الرغم من انخفاضها عموماً ـ شيئاً يذكر، ولم ينعكس على أدبه وشعره شيء ملحوظ من أفكار العالم وتيّاراته الثقافية وقتئذ، وكان منغمساً من الناحية العقائدية في فوضى الشرك والوثنية، ومفكّكاً اجتماعياً تسيطر عليه عقلية العشيرة، وتلعب فيه الانتماءات إلى هذه العشيرة أو تلك الدور الأساسي في أكثر أوجه النشاط بكلّ ما يؤدّي إليه ذلك من التناقضات وألوان الغزو والصراع الرخيص.

ولم يكن البلد الذي نشأ فيه هذا الرسول قد عرف أيّ شكل من أشكال الحكم سوى ما يفرضه الولاء للقبيلة من مواضعات.

ولم يكن وضع القوى المنتجة والظروف الاقتصادية في ذلك الجزء من العالم يتميّز عن أكثر بقاع العالم المتخلّف حينذاك.

وحتى القراءة والكتابة ـ بوصفها أبسط أشكال الثقافة ـ كانت حالةً نادرةً نسبياً في تلك البيئة، إذ كان المجتمع اُميّاً على العموم: ﴿ هُوَ الَّذي بَعَثَ في الاُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإنْ

69

كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلال مُبِين﴾(1).

وكان شخص النبي (صلى الله عليه وآله) يمثّل الحالة الاعتيادية من هذه الناحية، فلم يكن قبل البعثة يقرأ ويكتب، ولم يتلقّ أيّ تعليم منظّم أو غير منظّم: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَاب وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذاً لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾(2).

وهذا النصّ القرآني دليل واضح على مستوى ثقافة الرسول قبل البعثة، وهو دليل حاسم حتى في حقّ من لا يؤمن بربّانية القرآن؛ لأنّه ـ على أيّ حال ـ نصّ أعلنه النبّي (صلى الله عليه وآله) على بني قومه، وتحدّث به إلى أعرف الناس بحياته وتأريخه، فلم يعترض أحد على ما قال، ولم يُنِكر أحد ما ادّعى.

بل نلاحظ أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) لم يساهم قبل البعثة حتى في ألوان النشاط الثقافي الذي كان شائعاً في قومه من شعر وخطابة، ولم يؤثَر عنه أيّ تميّز عن أبناء قومه، إلّا في التزاماته الخُلُقية وأمانته ونزاهته وصدقه وعفّته.

وقد عاش أربعين سنةً قبل البعثة في قومه دون ان يحسّ الناس من حوله بأيّ شيء يميّزه عنهم سوى ذلك السلوك النظيف، ودون أن تبرز في حياته أيّ بذور عملية أو اتّجاهات جادّة نحو عملية التغيير الكبرى التي طلع بها على العالم فجأةً بعد أربعين عاماً من عمره الشريف: ﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾(3).

وكان النبي (صلى الله عليه وآله) قد ولد في مكّة، وظلّ فيها طيلة الفترة التي سبقت البعثة، ولم يغادرها إلى خارج الجزيرة العربية إلّا في سفرتين قصيرتين: إحداهما مع


(1) الجمعة: 2.
(2) العنكبوت: 48.
(3) يونس: 16.
70

عمّه أبي طالب وهو صبي في أوائل العقد الثاني، والاُخرى بأموال خديجة وهو في أواسط العقد الثالث.

ولم يتيسّر له ـ بحكم عدم تعلّمه للقراءة والكتابة ـ أن يقرأ شيئاً من النصوص الدينية لليهودية أو المسيحية، كما لم يتسرّب إليه أيّ شيء ملحوظ من تلك النصوص عن طريق البيئة؛ لأنّ مكّة كانت وثنيةً في أفكارها وعاداتها، ولم يتسرّب إليها الفكر المسيحي أو اليهودي، ولم يدخل الدير إلى حياتها بشكل من الأشكال، وحتى اُولئك الحنفاء الذين رفضوا عبادة الأصنام من عرب مكّة لم يكونوا قد تأثّروا باليهودية أو المسيحية، ولم ينعكس شيء من الأفكار اليهودية والمسيحية على ما خلّفه قسّ بن ساعدة أو غيره من تراث أدبيّ وشعري.

ولو كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد بذل أيّ جهد للاطّلاع على مصادر الفكر اليهودي والمسيحي للوحظ ذلك؛ إذ في بيئة ساذجة ومنقطعة الصلة بمصادر الفكر اليهودي والمسيحي ومعقدة ضدّها لا يمكن أن تمرّ محاولة من هذا القبيل دون أن تلفت الأنظار، ودون أن تترك بصماتها على كثير من التحرّكات والعلاقات.

الثانية: أنّ الرسالة التي طلع بها النبي (صلى الله عليه وآله) على العالم متمثّلةً في القرآن الكريم والشريعة الإسلامية تميّزت بخصائص كثيرة:

منها: أنّها جاءت بنمط فريد من الثقافة الإلهية عن الله سبحانه وتعالى وصفاته وعلمه وقدرته، ونوع العلاقات بينه وبين الإنسان، ودور الأنبياء في هداية البشرية ووحدة رسالتهم، وما تميّزوا به من قيم ومثل، وسنن الله تعالى مع أنبيائه، والصراع المستمرّ بين الحقّ والباطل، والعدل والظلم، والارتباط الوثيق المستمرّ لرسالات السماء بالمظلومين والمضطهدين، وتناقضها المستمرّ مع أصحاب المصالح والامتيازات غير المشروعة.

وهذه الثقافة الإلهية لم تكن أكبر من الوضع الفكري والديني لمجتمع وثني

71

منغمس في عبادة الأصنام فحسب، بل كانت أكبر من كلّ الثقافات الدينية التي عرفها العالم يومئذ، حتى إنّ أيّ مقارنة تبرز بوضوح أنّها جاءت لتصحّح ما في تلك الثقافات من أخطاء، وتعدّل ما أصابها من انحراف وتعيدها إلى حكم الفطرة والعقل السليم.

وقد جاء كلّ ذلك على يد إنسان اُمّي في مجتمع وثنيّ شبه معزول، لا يعرف من ثقافة عصره وكتبه الدينية شيئاً يذكر، فضلا عن أن يكون بمستوى القيمومة والتصحيح والتطوير.

ومنها: أنّها جاءت بقيم ومفاهيم عن الحياة والإنسان، والعمل والعلاقات الاجتماعية، وجسّدت تلك القيم والمفاهيم في تشريعات وأحكام. وكانت تلك القيم والمفاهيم وهذه التشريعات والأحكام ـ حتى من وجهة نظر من لا يؤمن بربانيتها ـ من أنفس ومن أروع ما عرفه تأريخ الإنسان من قيم حضارية وتشريعات اجتماعية.

فابنُ مجتمع القبيلة ظهر على مسرح العالم والتاريخ فجأةً لينادي بوحدة البشرية ككلّ، وابن البيئة التي كرّست ألواناً من التمييز والتفضيل على أساس العرق والنسب والوضع الاجتماعي ظهر ليحطّم كلّ تلك الألوان، ويعلن أنّ الناس سواسية كأسنان المشط، و ﴿ إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ﴾(1)، وليحوّل هذا الإعلان إلى حقيقة يعيشها الناس أنفسهم، ويرفع المرأة الموءودة إلى مركزها الكريم كإنسان تكافئ الرجل في الإنسانية والكرامة.

وابنُ الصحراء التي لم تكن تفكّر إلّا في همومها الصغيرة وسدّ جوعتها والتفاخر بين أبنائها ضمن تقسيمها العشائري، ظهر ليقودها إلى حمل أكبر الهموم،


(1) الحجرات: 13.
72

ويوحّدها في معركة تحرير العالم وإنقاذ المظلومين في شرق الدنيا وغربها من استبداد كسرى وقيصر.

وابن ذلك الفراغ الشامل سياسياً واقتصادياً بكلّ ما يضجّ به من تناقضات الربا والاحتكار والاستغلال، ظهر فجأةً ليملأ ذلك الفراغ ويجعل من ذلك المجتمع الفارغ مجتمعاً ممتلئاً، له نظامه في الحكم، وشريعته في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، ويقضي على الربا والاحتكار والاستغلال، ويعيد توزيع الثروة على أساس أن لا تكون دولة بين الأغنياء، ويعلن مبادئ التكافل الاجتماعي والضمان الاجتماعي التي لم تنادِ بها التجربة الاجتماعية البشرية إلّا بعد ذلك بمئات السنين.

وكلّ هذه التحوّلات الكبيرة تمّت في مدّة قصيرة جدّاً نسبياً في حساب التحوّلات الاجتماعية.

ومنها: أنّ الرسالة في نصوص قرآنية كثيرة تحدّثت عن تاريخ الأنبياء واُممهم، وما مرّت بهم من وقائع وأحداث بتفاصيل لم تكن بيئة النبي العربي (صلى الله عليه وآله)ـ الوثنية والاُمّية ـ تعرف شيئاً عنها، وقد تحدّى علماء الكتاب ـ علماء اليهود والنصارى ـ النبي (صلى الله عليه وآله) أكثر من مرّة، وطالبوه بالحديث عن تاريخ تراثهم الديني، فواجه التحدّي بكلّ شجاعة، وجاء القرآن بما طلبوا دون أن تكون هناك أيّ وسيلة اعتيادية لتفسير اطّلاع النبي شخصياً على تلك التفاصيل: ﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الغَرْبيِّ إذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً في أهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُـنّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً

73

مَا أتَاهُمْ مِنْ نَذِير مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾(1).

وممّا يبهر الملاحظ أنّ القصص الحقّ في القرآن لا يمكن أن تكون مجرّد استنساخ لما جاء في كتب العهدين، حتى لو افترضنا أن أفكار هذه الكتب كانت شائعةً ومنتشرةً في الوسط الذي ظهر فيه النبي؛ لأنّ الاستنساخ يمثّل دوراً سلبياً فقط، دور الأخذ والعطاء، بينما دور القرآن في عرض القصّة إيجابي، فإنّه يصحّح ويعدّل ويفصّل القصة عمّا اُلصقت بها من ملابسات لا تتّفق مع فطرة التوحيد والعقل المستنير والرؤية الدينية السليمة.

ومنها: أنّ القرآن بلغ في روعة بيانه وبلاغته وتجديده في أساليب البيان إلى درجة جعلت منه ـ حتى من وجهة نظر غير المؤمنين بربّانيته ـ حدّاً فاصلا بين مرحلتين من تاريخ اللغة العربية، وأساساً لتحوّل هائل في هذه اللغة وأساليبها.

وقد أحسّ العرب الذين حدّثهم النبي (صلى الله عليه وآله) بالقرآن بأنّه لا يشبه إطلاقاً ما ألِفوه من أساليب البيان، وما نشأوا عليه وأتقنوه من طرائق التعبير، حتى قال قائلهم حين استمع إلى القرآن: « والله لقد سمعت كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجنّ، وإنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وإنّه ليعلو وما يُعلى، وإنّه ليحطم ما تحته »(2).

وكانوا لا يسمحون لأنفسهم بالاستماع إلى القرآن؛ إحساساً منهم بأثره الهائل، وخوفاً من قدرته الفائقة على تغيير نفوسهم، وهذا دليل على التميّز الهائل للبيان القرآني، وعدم كونه استمراراً متطوّراً لِمَا ألِفوه.

 


(1) القصص: 44 ـ 46.(2) القائل هو الوليد بن المغيرة. اُنظر أسباب النزول: 295 في سورة المدّثّر، وإعلام الورى 1: 42. (لجنة التحقيق).
74

وقد استسلموا أمام التحدّي المستمرّ والمتصاعد الذي واجههم النبي به، إذ أعلن: تارةً عجزهم مجتمعين عن الإتيان بمثله.

وأكّد اُخرى عجزهم مجتمعين عن الإتيان بعشر سور مفَتَريَات من مثله.

وشدّد ثالثةً على عجزهم عن الإتيان بما يناظر سورةً واحدةً من القرآن الكريم(1).

أعلن النبي (صلى الله عليه وآله) ذلك وكرّره على مجتمع لم يعرف صناعةً كما عرف صناعة الكلام، ولم يتقن فنّاً كما أتقن فنّ الحديث، ولم يتعوّد على شيء كما تعوّد على مجابهة التحدّي والتغنّي بالأمجاد، ولم يحرص على أمر كما حرص على إطفاء نور الرسالة الجديدة وتطويقها، ومع ذلك كلّه لم يشأ هذا المجتمع الذي واجه تلك التحدّيات الكبيرة أن يجرّب نفسه، ولم يحاول أن يعارض القرآن بشيء إيماناً منه بأنّ الأدب القرآني فوق قدرته اللغوية والفنيّة.

والطريف أنّ الذي كان يحمل إليهم هذا الزاد الأدبي الجديد على حياتهم إنسان مكث فيهم أربعين سنةً، فلم يعهدوا له مشاركةً في حلبة أدبية، ولا تميّزاً في أيّ فنّ من فنون القول.

هذا عدد من خصائص الرسالة التي أعلنها النبي (صلى الله عليه وآله) على العالم.

 


(1) ﴿قُل لَئِن اجتَمَعت الإنسُ والجِنُّ على أن يأتوا بمثلِ هذا القرآنِ لا يأتُونَ بِمثلِهِ ولو كَانَ بَعضُهُم لِبَعض ظَهِيراً ﴾. الإسراء: 88 .
﴿أم يَقُولُونَ افتَراهُ قُلْ فأتُوا بِعشرِ سُوَر مِثلِهِ مُفترَيات وادعُوا مَن استَطَعتُم من دُونِ اللهِ إن كُنتُم صادقين ﴾ هود: 13.
﴿وإن كُنتُم في رَيب ممّا نَزَّلنا على عَبدِنا فأتُوا بِسُورة مِن مِثلِهِ وادعُوا شُهَدَاءَكم مِن دُونِ اللهِ إن كُنتُم صَادِقِين ﴾ البقرة: 23.
75

وهنا يأتي دور الخطوة الثالثة لتؤكّد على أساس الاستقراء العلمي في تاريخ المجتمعات أنّ هذه الرسالة بتلك الخصائص التي درسناها في الخطوة الثانية هي أكبر بدرجة هائلة من الظروف والعوامل التي مرّ استعراضها في الخطوة الاُولى، فإنّ تاريخ المجتمعات وإن كان قد شهد في حالات كثيرة إنساناً يبرز على صعيد مجتمعه فيقوده ويسير به خطوةً إلى الامام غير أنّنا هنا لا نواجه حالةً من تلك الحالات؛ لوجود فوارق كبيرة.

فمن ناحية نحن نواجه هنا طفرةً هائلةً وتطوّراً شاملا في كلّ جوانب الحياة، وانقلاباً في القيم والمفاهيم التي تتّصل بمختلف مجالات الحياة إلى الأفضل، بدلا عن مجرّد خطوة إلى الأمام.

إنّ مجتمع القبيلة طفر رأساً على يد النبي إلى الإيمان بفكرة المجتمع العالمي الواحد. وإنّ المجتمع الوثني طفر رأساً إلى دين التوحيد الخالص، الذي صحّح كلّ أديان التوحيد الاُخرى، وأزال عنها ماعلق بها من زيف وأساطير. وإنّ المجتمع الفارغ تماماً تحوّل إلى مجتمع ممتلئ تماماً، بل إلى مجتمع قائد يشكّل الطليعة لحضارة أنارت الدنيا كلّها.

ومن ناحية اُخرى أنّ أيّ تطوّر شامل في مجتمع إذا كان وليد الظروف والمؤثّرات المحسوسة فلا يمكن أن يكون مرتجلا ومفاجئاً ومنقطع الصلة عن مراحل تمهّد له، وعن تيار يسبقه ويظلّ ينمو ويمتدّ فكرياً وروحياً حتى تنضج في داخله القيادة الكفوءة لتزعّمه، وللعمل من أجل تطوير المجتمع على أساسه.

إنّ دراسةً مقارنةً لتاريخ عمليات التطوّر في مختلف المجتمعات يوضّح أنّ كلّ مجتمع يبدأ فيه هذا التطوّر فكرياً على شكل بذور متفرّقة في أرضية ذلك المجتمع، وتتلاقى هذه البذور فتكوّن تياراً فكرياً، وتتحدّد بالتدريج معالم هذا التيار، وتنضج في داخله القيادة التي تتزعّمه؛ حتّى يبرز على المسرح كواجهة