182

واستثمر من أجل إنجاح مهمّته هذه عدّة عوامل وإمكانات متاحة بين يديه، فعلى الصعيد الاجتماعي حاول الإمام(عليه السلام) إيضاح الوضع غير الطبيعي المنحرف الذي أعقب وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله) للاُمّة، وقد استثمر لهذه المهمّة سيدة نساء العالمين بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله)فاطمة الزهراء(عليها السلام) مستعيناً بمنزلتها الاجتماعيّة لاستثارة عواطف المسلمين ومشاعرهم المرتبطة بها شخصيّاً باعتبارها ابنة الرسول الوحيدة الباقية بين المسلمين بعد وفاته(صلى الله عليه وآله)، ولهذا فإنّ الاستعانة بفاطمة الزهراء(عليها السلام) لاستثارة عواطف المسلمين المرتبطة برسول الله كان عملاً اُريد منه بالأساس حشد الجانب العاطفي في إطار التعبئة الفكريّة التي مارسها الإمام على أكثر من صعيد.

وفي هذا الاتجاه ورد أنّ الإمام عليّاً(عليه السلام) غالباً ما كان يصطحب الزهراء(عليها السلام) مع ابنيهما الحسن والحسين(عليهما السلام) ويجوب بهم بيوت الأنصار والمهاجرين، ويُحدّثهم عن المسألة مذكّراً إيّاهم بمنزلتهم(عليهم السلام) عند رسول الله، وبالحقّ الذي اغتصب منهم، ويطالبهم بنصرة الحقّ وعدم السكوت على الظلم الذي لحق بآل بيت الرسول(صلى الله عليه وآله). كما أنّ الإمام(عليه السلام) وعلى صعيد آخر أوعز إلى سيدة نساء العالمين أو أذن لها لكي تخطب في المسلمين حول مسألة فدك، وضرورة استرجاعها. وقد فعلت ذلك في مسجد أبيها(صلى الله عليه وآله) في المدينة، وكان القصد من طرح مسألة فدك هو إيضاح جانب مهمٍّ من الجوانب التي تمّ الاعتداء عليها، يتميّز بمادّيّته ووضوحه لدى المسلمين كافّة، وتوظيف هذه المسألة في هدف عمليّة التعبئة العامّة

183

التي كان الإمام(عليه السلام) حريصاً على تنفيذها بالوسائل المتاحة والمشروعة، وإلّا فمسألة مثل فدك ماذا تعني بالنسبة إلى الإمام مادّيّاً وهو القائل: «بلى كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس قوم آخرين، ونِعمَ الحكم الله، وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانّها في غد جدث، تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها...»(1).

وإذا أمكن تصوّر أنّ الإمام(عليه السلام) كان حريصاً على فدك لأهمّيّتها المادّيّة، ولهذا أوعز لفاطمة الزهراء(عليها السلام) بالمطالبة بها، فإنّ ذلك يعبّر عن حرص تدعيم جانب الحقّ والاستفادة من مردودات فدك المادّيّة ـ فيما لو استرجعاها ـ في سبيل إنجاح المعارضة.

أمّا على الصعيد السياسيّ، فقد عمل الإمام(عليه السلام) ـ وفي إطار التعبئة الفكريّة التي كان يقوم بها ـ على الموازنة بين موقفه المعارض من السلطة، وبين حرصه الشديد على عدم انهيار التجربة الإسلاميّة، وبين تقويم السلطة وتوجيه الإرشادات والنصائح لها بغية وضعها على الطريق الصحيح لتطبيق الإسلام، وكان مقتضى هذه الموازنة المعقّدة بين هذه الأهداف الثلاثة استخدام استراتيجيّة موحّدة في العمل ومواجهة الأحداث ضمن ضوابطها ومحدّداتها.

فعلى صعيد المعارضة يذكر التأريخ: أنّ جمعاً من الصحابة المخلصين استشاروا الإمام(عليه السلام) في أمر إنزال الخليفة الأوّل من على



(1) البحار 33: 474.

184

منبر رسول الله، فنهاهم الإمام(عليه السلام) عن فعل ذلك مشيراً إلى ردود الفعل المضادّة من جهة، وقلّة عددهم من جهة ثانية، وحبّذ لهم الذهاب إلى مسجد النبيّ (صلى الله عليه وآله) واستغلال فرصة وجود الخليفة في المسجد للتحدّث معه ومحاججته ونصحه، وفعل الصحابة ما بدا لهم من نصيحة الإمام عليّ (عليه السلام)، فذهبوا إلى المسجد، وكان الخليفة الأوّل مرتقياً المنبر، فقام كلّ واحد منهم وتكلّم معه بكلام مفصّل وحاججه إلى أن اُفحم الخليفة ولم يستطع الجواب سوى أنّه قال ـ أمام الناس ـ قولته المشهورة: «وليتكم ولست بخيركم أقيلوني أقيلوني»(1)! ونزل الخليفة من على المنبر وطفق هو وصاحبه هامّين بالخروج من المسجد. ويذكر التأريخ أيضاً: أنّهما مكثا في بيتهما ثلاثة أ يّام متواريَين عن الناس، ولم يحضرا المسجد خشيه تكرار مثل ما حدث(2).

أمّا على صعيد تقويم السلطة وتسديدها بالنصح والإرشادات حفاظاً على التجربة الإسلاميّة من الانهيار، فالتأريخ سجّل لنا الكثيرَ من المواقف المهمّة التي وقفها الإمام(عليه السلام) من الخليفتين الأوّل والثاني، وكيف كان حاضراً في أوقات شدّتهما وحرجهما حتّى قال الخليفة الثاني مادحاً الإمام في هذا الصدد: «لا أبقاني الله لمعضلة لم



(1) روي حديث إقالته في المعجم الأوسط 8: 267، ولفظه: «إنّي قد أقلتكم رأيكم إنّي لست بخيركم»، وفي الإمامة والسياسة 1: 31: «لا حاجة لي في بيعتكم أقيلوني بيعتي»، وقد تكرّر النقل بألفاظ قريبة في مواطن اُخرى.

(2) البحار 28: 189 ـ 204.

185

يكن لها أبو الحسن»(1)، وقوله أيضاً: «لولا عليٌّ لَهَلك عمر»(2)!

وأمّا بالنسبة إلى النقطة الثالثة ـ وهي منع الإمام عليّ(عليه السلام) ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة الزهراء(عليها السلام) من الدعاء على الظالمين ـ فقد وردت روايات كثيرة تؤكّد أنّه غير مرّة همّت سيّدة نساء العالمين(عليها السلام) بالدعاء على الخلفاء، لكنّ الإمام عليّاً(عليه السلام) كان يتدارك الموقف ويمنعها من الدعاء لأسباب إنسانيّة بحتة؛ ذلك لأنّ دعاء فاطمة(عليها السلام) وشكاية أمرها إلى الله تعالى لن تمرَّ دون استجابة، وهي التي قال لها أبوها(صلى الله عليه وآله): «يا فاطمة، إنّ الله تبارك وتعالى لَيغضب لغضبك ويرضى لرضاك»(3)، وقال(صلى الله عليه وآله) عنها: «فاطمة بضعة منّي من آذاها فقد آذاني...»(4)، وبهذا فإنّ هذا الموقف يندرج في ضمن خطّة الإمام عليّ(عليه السلام) العامّة والرامية إلى إصلاح الاُمور ومعالجتها على نحو موضوعي من غير اضطرار لاتّخاذ مواقف اُخرى قد تنأى بالعمليّة التغييريّة إلى غير أهدافها ومقاصدها.

ومن الروايات الدالّة على هذه النقطة أنّه: «أخرجوا عليّاً(عليه السلام)ملبَّباً، فخرجت فاطمة(عليها السلام) فقالت:... أتريد أن ترمّلني من زوجي؟ والله لئن لم تكفَّ عنه لأنشرنّ شعري، ولأشقّنّ جيبي، ولآتينّ قبر أبي، ولأصيحنّ إلى ربّي. فأخذت بيد الحسن والحسين(عليهما السلام)وخرجت تريد قبر النبيّ(صلى الله عليه وآله)، فقال عليّ(عليه السلام) لسلمان: أدرك ابنة



(1) البحار 76: 53.

(2) البحار 10: 231.

(3) البحار 43: 22، الحديث 12.

(4) البحار 27: 62.

186

محمّد، فإنّي أرى جنبتَي المدينة تكفآن، والله إن نشرت شعرها وشقّت جيبها وأتت قبر أبيها وصاحت إلى ربّها، لا يناظر بالمدينة أن يُخسف بها وبمن فيها. فأدركها سلمان(رضي الله عنه) فقال: يابنت محمّد، إنّ الله بعث أباكِ رحمةً، فارجعي. فقالت: ياسلمان، يريدون قتل عليّ، ما عليّ صبر، فدعني حتّى آتي قبر أبي، فأنشر شعري، وأشقّ جيبي، وأصيح إلى ربّي. فقال سلمان: إنّي أخاف أن يخسف بالمدينة وعليّ بعثني إليك يأمرك أن ترجعي له إلى بيتك وتنصرفي. فقالت: إذن أرجع وأصبر وأسمع له واُطيع»(1).

وأمّا بالنسبة إلى النقطتين الرابعة والخامسة ـ وهما إرشاد المسلمين وتعريفهم الإسلام الصحيح، ومبايعته الوضع الذي نتج عن السقيفة ـ فإنّ الإمام(عليه السلام) ومن واقع مسؤوليّته الشرعيّة استمرّ يعمل بنهجه في إرشاد الاُمّة وتعريفها الإسلام الذي نأت تجربة التطبيق الجديدة عن أحكامه وقواعده، وكان الإمام بحكم الوضع الذي نتج عن أحداث السقيفة مقصىً عن الإدارة السياسيّة المباشرة لاُمور الاُمّة، الأمر الذي جعل المجتمع الإسلاميّ يعيش بعمق خطرين فادحين: خطر تنحية الرجال الاُمناء على الرسالة عن الإشراف عليها، وخطر تسلّم زمام الاُمور رجال غير مؤهّلين لقيادة التجربة الإسلاميّه، وكان الوضع ينذر ـ وبكلّ المقاييس ـ بتصدّع المجتمع الإسلاميّ وانهياره. ولهذا فإنّ الإمام(عليه السلام) سارع إلى إعلان البيعة



(1) البحار 28: 227 ـ 228 الحديث 14.

187

للوضع السياسيّ الجديد الذي حلّ بعد السقيفة درءاً للشقاق والاختلاف والتشتّت، ومنعاً من حصول المفاسد التي قد تنجم عن ذلك، والتي ليس في المجتمع من مقوّمات استيعابها أو هضمها. كما أنّه(عليه السلام) وعلى صعيد العمل مع الاُمّة استمرّ يدافع عن الرسالة، ويدعو إلى سبيل ربّه، ويرشد الناس، ويقضي بينهم، ويمارس جميع وظائفه وصلاحيّاته باعتباره وصيّاً لرسول الله(صلى الله عليه وآله) وأميناً على الرسالة، وهو الذي عبّر عن ذلك بقوله صلوات الله وسلامه عليه: «والله لا أدخل (المسجد) إلّا لزيارة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، أو لقضيّة أقضيها، فإنّه لا يجوز لحُجّة أقامه رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يترك الناس في حيرة »(1).

ولم يستثنِ الإمام(عليه السلام) في هذا الأمر حتّى الخلفاء الذين اغتصبوا حقّه وتنكّروا له؛ إذ غالباً ما كان يشير عليهم في أوقات حرجهم وحيرتهم بكلّ أمر مستحسن وصحيح وشرعي، بل ويقف منهم المواقف المشرّفة التي لا تليق إلّا بأمثاله، وقد ذكر التأريخ الكثير من هذه المواقف والتي ليس أوّلها تلك الإشارة التي أشار بها على الخليفة الثاني بعدم ترك المدينة والخروج منها في واحدة من الحروب خشية انفلات الأوضاع وتضرّر الوضع العامّ، ولم يكن آخر مواقفه إيعازه لابنه الإمام الحسن(عليه السلام) بمرافقة الجيش الإسلاميّ ومناصرته في إحدى الغزوات.

 



(1) المصدر السابق: 202 ـ 203، الحديث 12.

188

 

الإمام عليّ(عليه السلام) وموقفه من معاوية:

حينما بُويع الإمام عليّ(عليه السلام) على تولّي الخلافة بعد مقتل عثمان بن عفّان قبلها مكرهاً، وقال قولته الشهيرة: «دَعوني والتَمِسوا غيري... واعلَموا أ نّي إن أجبتكم ركبتُ بكُم ما أعلم، ولم اُصغِ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلّي أسمَعُكُم وأطوَعُكُم لمن ولَّيتُموه أمرَكُم، وأنا لكم وزيراً خيرٌ لَكُم منّي أميراً»(1). وكان معنى هذا القول فيما يستبطنه من معاني: أنّ الإمام(عليه السلام) يطلب البيعة من الناس على المنهج والخطّ، وليس على الخلافة والإمارة والسلطة بعدما استطاعت التجربة المنحرفة والمتعاقبة على تزييف معنى الخلافة وقيادة المسلمين؛ إذ أمست الخلافة في وجدان القطّاع العريض من المسلمين تشير إلى المنصب، ولا ترى في الرجال الذين يتعاقبون عليه ميزة في منهج أو شيء آخر، لاسيّما وأنّ الانحراف في قيادة التجربة الإسلاميّة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) تحوّل بمرور الزمن إلى نظريّة وقواعد في الحكم استقرت بشكلها الأكثر انحرافاً في أ يّام خلافة عثمان، فكان الإمام عليّ (عليه السلام) يمثّل الاتجاه الآخر والصحيح، وقد برز هذا الأمر جليّاً أ يّام خلافة عثمان عندما دخل الإمام (عليه السلام) في صراع مكشوف وعلني معه؛ ليثبت للاُمّة محتوى واُسس وأخلاقيّات نظريّته في


(1) نهج البلاغة، الخطبة 92: 136.
189

الحكم الإسلاميّ وقيادة التجربة، وكانت الاُمّة مهيّئة أكثر من أيّ وقت مضى للإحساس بحقيقة الاُمور وحقيقة الاختلاف بين منهج الخلفاء ومنهج الإمام عليّ(عليه السلام) في رؤية الإسلام ووعيه وقيادة تجربته في الحكم والخلافة، لكنّ هذا التهيّؤ من قِبَل الاُمّة كان بحاجة إلى كثير من الصقل والتدريب؛ لكي يتحوّل من مجرّد معرفة ونظر إلى موقف عملي ونفسي لتحمّل أعباء ذلك الوعي فيما يتطلّبه من مواقف وحزم وصبر على المشاقّ، سواء في جانب التصدّي للانحراف وتحمّل النتائج، أم في جانب الصبر على التطبيق الجديد للإسلام فيما يقرّره هذا المنهج من زهد في الدنيا وعدالة في التوزيع والحكم والمجتمع قد لا تصبر عليها النفوس التي درجت واُشربت اتّباع المنهج السابق الذي كرّسه الخلفاء وتحوّل إلى ميوعة مطلقة في التعامل مع الحدود والأخلاق الإسلاميّة زمن خلافة عثمان، ولهذا قال الإمام مخاطباً الاُمّة: «أنا لكم وزيراً خير منّي لكم أميراً...»، أي: أن أكون بعيداً عن القرار «وزيراً» خير وأفضل من أن أكون في موقع القرار والمسؤوليّة «أميراً»؛ إذ إنّ الموقع الثاني يستبطن إصدار الأوامر والقرارات الصعبة التي تتطلّب قاعدة بشريّة واعية ومطيعة قد وطّنت نفسها على خوض غمار الصعوبات، وعلى هذا الأساس فإنّ بيعتكم لي يجب أن تكون بيعة قد أخذت في حسابها جميع هذه الاُمور، وإلّا «فأنا لكم وزيراً خير منّي لكم أميراً».

وقد قبلت الاُمّة شروط الإمام بعد أن بلغ الإصرار أشدّه على

190

الإمام في قبول الخلافة، وكان مقتضى هذا القبول هو قبول المنهج الجديد في العمل السياسيّ والاجتماعي والإداري، وكانت خلافته بداية عهد جديد ونقطة تحوّل في الخطّ الذي وجد بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله)، كما عبّر عن ذلك اُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره): إنّ اُولى وأكبر العقبات التي واجهت الإمام عليّاً(عليه السلام) فور تسلّمه زمام الاُمور هو انشقاق معاوية وتخلّف الشام عن الانضمام إلى بيعته(1) بعد رفض الإمام(عليه السلام)إقراره في منصبه، وبهذا امتطى الإمام(عليه السلام) أوّل صعوبة وخطا أوّل خطوة في إقامة منهجه الخاصّ بالحكم والإدارة خلافاً للمنهج السابق الذي درج عليه الخلفاء في إقرار معاوية في منصبه وصلاحيّاته في الشام.

وعلى الرغم من أنّ هناك من أشار على الإمام(عليه السلام) إقرار معاوية في إمارته على الشام أمداً معيّناً ريثما تستتبّ له الاُمور ثُمّ يتّخذ قراره بعزله عن منصبه، نرى أنّ الإمام لم يستجب لهذا الرأي؛ لوضوح الموقف عنده إزاء هذه المسألة، ولتوافر المبرّرات التي لا تسمح ـ بأيِّ حال من الأحوال ـ باتخاذ منهج آخر مسالم، وهذه المبرّرات ليست مبرّرات سياسيّة بحتاً لكي يستوي فيها الإمام عليّ(عليه السلام) مع غيره فيما لو كان غيره خليفة للمسلمين، وإنّما هي مبرّرات أخلاقيّة لا تصدر إلّا عن الإمام، ولا تكون مقدّسة ومحترمة إلّا لأمثاله الذين يضحّون من أجل المبادئ، ولن يكون غيره الذي لا يشابهه في سيرته ومبدئيّته بمستعدّ لفعل ما فعله الإمام، ولهذا قال الأغيار الذين لا يشابهونه: إنّ إقرار معاوية في منصبه حيناً ريثما



(1) أهل البيت تنوّع أدوار ووحدة هدف: 104.

191

تستتبّ الاُمور للإمام عليّ(عليه السلام) يعدّ من الحكمة السياسيّة(1)، وإنّ استتباب الاُمور له هو الأهمّ فيما يكون عزل معاوية أمراً مهمّاً، والأهمّ متقدّم على المهمّ في حالة التزاحم. فلِمَ كان الأهمّ عند الإمام هو عزل معاوية، ولِمَ وحّد الإمام بين عزل معاوية وإقامة الدولة ولم يَر فيهما أمرين منفصل أحدهما عن الآخر لكي تأتي هنا «قاعدة التزاحم»؟

لقد أفاد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في الجواب عن هذا التساؤلوكتفسير لفعل إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام) عدّة مبرّرات(2)، ومن جملتها ما يلي:

1 ـ لقد كان الإمام(عليه السلام) لدى تسلّمه منصب الخلافة يهدف ويخطّط لإيجاد وصنع قاعدة شعبيّة مبدئيّة له في العراق، وأنّ من ضروريّات هذا الهدف التمسّك بالمبادئ ورفض المساومات وأنصاف الحلول مع المنحرفين، لكي يكون قدوة في سلوكه، ولكي تشعر الاُمّة بالمائز العملي بين التطبيق الصحيح للإسلام والتطبيق المنحرف الذي لم ترَ الاُمّة في العراق سواه في طول عهدها مع الإسلام بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله).

2 ـ لقد جاء الإمام(عليه السلام) في أعقاب المشاعر الثوريّة التي تأ لّبت ضدّ عثمان بن عفّان والتي نتج عنها مقتله، والمسلمون وقتئذ كانوا



(1) قد ورد نقل هذا الكلام عن البعض في كتاب أهل البيت تنوّع أدوار ووحدة هدف: 6.

(2) راجع أهل البيت تنوّع أدوار ووحدة هدف: 8 ـ 31.

192

في مرحلة تصاعد المعنويات وارتفاعها، وفي لحظة زخم ثوري سليم باتجاه القضاء على الانحراف ومحاولة بناء تجربة إسلاميّة صحيحة، وكان الإمام عليّ (عليه السلام) بصدد استثمار هذه الحالة وتوظيفها في بناء المجتمع الجديد. فالمهمّات التي كانت أمام الإمام تحتاج إلى هذا النوع من الطاقة الحراريّة والوعي، وبدونهما لا يمكن خوض غمار الجهاد لإعادة بناء المجتمع والدولة، الأمر الذي لا يسمح بمهادنة معاوية وإبقاء الباطل ولو مؤقّتاً؛ لأنّ مهادنته تعني قتل هذه الروح لما تؤدّيه من الشكّ في حقّانيّة الإمام(عليه السلام) ومبدئيّته.

3 ـ لقد جاء الإمام(عليه السلام) وهو بصدد القضاء على مظاهر الفساد الحكومي والإداري الذي خلّفه معاوية في الدولة والمجتمع الإسلاميّ، واجتثاثه مع جميع تأثيراته وجهازه الإداري الفاسد، ولم يكن بالإمكان ـ حتّى في منطق السياسة ـ إقرار معاوية ومهادنته؛ لأنّ من شأن هذا الإقرار توطيد سلطته وإسباغ الشرعيّة على نظامه الحكومي والإداري، وهذا يتناقض مع ما كان يستهدفه الإمام من إضعاف موقف معاوية وصولاً إلى إزالته من الشام، كما أنّه يتناقض مع ما كان يستهدفه الإمام من إفهام الناس حقيقة المعركة بينه وبين معاوية.

4 ـ لم يكن الإمام(عليه السلام) ضعيفاً حين تسلّم منصب الخلافة، وكانت جميع المؤشّرات تؤكّد انتصار الإمام على خصمه المنكفئ في الشام الحريص على إبقائها تحت سلطته، متشبّثاً بشعار المطالبة بدم الخليفة الثالث، وملمِّحاً إلى اتّهام الإمام عليّ(عليه السلام) في ذلك، وعلى

193

أساس خلفيّة هذا الأمر انشقّ معاوية من الانضمام إلى بيعة الإمام وحاول تعبئة الناس ضدّه، وكان هذا كلّ ما يملكه من سلاح ضدّ الإمام. أمّا الإمام فقد كان يمتلك جميع عناصر القوّة التي تمكّنه من دحر عدوّه، وقد تمكّن منه فعلاً لولا خدعة عمرو بن العاص التي قلبت مقاييس القوّة بين الإمام ومعاوية. وهذه الحقيقة بذاتها لا تدع مجالاً للمصالحة أو المساومة مع العدوّ، بل تدفع لمحاربته بغية اجتثاث جذوره، وهذا ما فعله الإمام(عليه السلام) استناداً إلى ثقته بعناصر القوّة التي يمتلكها، وضعف خصمه وعدوّه.

 

موقف الإمام(عليه السلام) من قضيّة الحَكَمين والخوارج:

إنّ محنة الإمام وحرجه من قضيّة الحَكَمين وقضيّة الخوارج جليّة ولا تحتاج إلى بيان؛ إذ رضخ الإمام لتحكيم الحَكَمين برغم عدم إيمانه بهما، ثُمّ ابتلى بعد ذلك باُولئك الذين رفضوا التحكيم وهم الخوارج، وكان موقف الإمام من كلتا المسألتين حرجاً؛ لأنّه ـ بطبيعة الحال ـ موقف من كلا طرفَي النقيض، أو من النقيضين المرفوضين لديه، وللاختصار وبيان مدى حرج الإمام في هاتين المسألتين نورد القصّة المعروفة التي وردت في واحدة من روايات أهل البيت(عليهم السلام)، وهي: محادثة جرت بين رأس اليهود والإمام حيث سأل رأس اليهود الإمام عليّاً(عليه السلام) عن الامتحانات التي امتحن بها محتجّاً عليه بما ورد في الكتب القديمة من أنّ الوصي يُمتحن بأربعة عشر امتحاناً: سبعة في زمن الرسول، وسبعة بعد الرسول، ويقول

194

للإمام: كم امتحنك الله يا عليّ؟(1).

فيجيب الإمام عليّ(عليه السلام) عن هذا السؤال بالتفصيل، وهنا نذكر محلّ الشاهد فقط، وهما: الامتحانان السادس والسابع كما ورد في الرواية. فعن الامتحان السادس يذكر الإمام قضيّة رفع المصاحف والحَكَمين، فيقول: «... فرَفَع المصاحف يدعو إلى ما فيها بزعمه، فمالت إلى المصاحف قلوب من بقي من أصحابي بعد فناء خيارهم وجهدهم في جهاد أعداء الله وأعدائهم على بصائرهم، فظنّوا أنّ ابن آكلة الأكباد له الوفاء بما دعا إليه، فأصغوا إلى دعوته، وأقبلوا بأجمعهم في إجابته، فأعلمتهم أنّ ذلك منه مكر، ومن ابن العاص معه، وأنّهما إلى النكث أقرب منهما إلى الوفاء، فلم يقبلوا قولي، ولم يطيعوا أمري، وأبوا إلّا إجابته، كرهت أم هويت، شئت أو أبيت، حتّى أخذ بعضهم يقول لبعض: إن لم يفعل فألحِقوه بابن عفّان، وادفعوه إلى ابن هند برمّته، فجهدت علم الله جهدي، ولم أدع علّة في نفسي إلّا بلّغتها في أن يخلّوني ورأيي، فلم يفعلوا، وراودتهم على الصبر على مقدار فواق الناقة (بمعنى الفاصل بين حلبتين) أو ركضة الفرس، فلم يجيبوا ما خلا هذا الشيخ ـ وأومأ بيده إلى الأشتر ـ وعصبة من أهل بيتي، فو الله ما منعني أن أمضي على بصيرتي إلّا مخافة أن يقتل هذان ـ وأومأ بيده إلى الحسن والحسين(عليهما السلام) ـ فينقطع نسل رسول الله وذرّيته من اُمّته، ومخافة أن يُقتل هذا وهذا ـ وأومأ بيده إلى عبد الله



(1) البحار 38: 167 ـ 168، الحديث 1.

195

بن جعفر، ومحمّد بن الحنفيّة رضي الله عنهما ـ فإنّي أعلم لولا مكاني...»(1).

ويذكر الإمام كيف أنّه أراد أن يعيّن ابن عباس لموضوع الحكمين إلّا أنّهم أبوا عليه إلّا أن يعيّن أبا موسى الأشعري، وهكذا قبل الإمام الحكمين تحت تأثير الضغوط التي واجهها والتي على رأسها انفضاض أتباعه وقلّة ناصريه.

أمّا الموقف الحَرِج الآخر الذي واجهه الإمام، فهو موقف الخوارج الذين خرجوا عليه يطالبونه بنقض موقفه من الحكمين بعد أن كانوا من السبّاقين في تأييد الحكمين وتوجيه الضغوط على الإمام لقبول فكرة الحكمين وللرضوخ لمطاليبهما، هؤلاء الذين كانوا يوصفون بالزهد والورع والتهجّد في تلاوة القرآن حتّى وصف تهجّدهم بالقرآن بأنّ لهم دويّاً كدويّ النحل. يقول الإمام(عليه السلام) لرأس اليهود واصفاً اُولئك الخوارج: «إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان عهد إليّ أن اُقاتل في آخر الزمان من أيّامي قوماً من أصحابي يصومون النهار ويقومون الليل ويتلون الكتاب، يمرقون بخلافهم عَلَيَّ ومحاربتهم إيّاي من الدين مروق السهم من الرميّة»(2)!!

وكان هؤلاء الخوارج قد جاؤوا الإمام عليّاً(عليه السلام) وقالوا: «قد كنّا زللنا حين رضينا بالحكمين، وقد بان لنا زللنا وخطؤنا، فرجعنا إلى



(1) المصدر السابق: 181 ـ 182.

(2) البحار 33: 382 ـ 383، الحديث 613.

196

الله وتبنا، فارجع أنتَ يا عليّ كما رجعنا، وتب إلى الله كما تبنا وإلّا برئنا منك»(1)!

لكنّ الإمام لم يوافق هؤلاء الخوارج في مسألة الرجوع عن تحكيم الحكمين. فلماذا لم يتراجع الإمام عن موقفه ذاك ويستجيب لدعوة الخوارج؟ ألم يكن من المناسب إرضاء الخوارج وكسب ودّهم بغية الاستفادة منهم في حربه ضدّ معاوية، لاسيّما وأنّ مسألة التحكيم قد التقى عندها عدم رضا الطرفين بفارق أنّ الإمام عليّاً(عليه السلام)قد اُكره على تأييد الحكمين، وأنّ الخوارج عدلوا عن رأيهم بعد سبق التأييد والموافقة منهم... ؟!

وللإجابة عن هذا التساؤل نذكر نقطتين:

النقطة الاُولى: معرفة الإمام(عليه السلام) بالظروف التي آلت إلى رجحان كفّة معاوية على كفّته في الحرب، وأنّها ـ أي الظروف ـ لم تزل ماثلة لم يطرأ عليها أيّ تغيير يصبّ في مصلحة الإمام، فالوهن الذي أصاب أصحاب الإمام نتيجة لرفع المصاحف ولغير ذلك لم يزل ثابتاً، الأمر الذي يعني أنّ أ يّة مواجهة جديدة مع معاوية محكوم عليها سلفاً بالفشل. هذا من جهة، ومن جهة ثانية أنّ الاعتماد على الخوارج في هذا الأمر لا يعدّ أمراً حصيفاً؛ لأنّ هؤلاء ليسوا ممّن يعتمد عليهم في مثل هذه الاُمور، لاسيّما وأنّهم هم الذين قد


(1) البحار 32: 545.
197

تناقضوا في مواقفهم وسبّبوا الحرج تلو الحرج للإمام(عليه السلام)، فهل يمكن بعد ذلك استعادة الثقة بهم والاعتماد عليهم في المسائل الحسّاسة والخطرة؟!

النقطة الثانية: هي أنّ أخلاق الإمام(عليه السلام) لا تسمح بنقض العهد الذي أبرمه في مسألة تحكيم الحكمين، وكما هو معلوم فإنّ الإسلام يحثّ المؤمنين على التزام عهودهم حتّى ولو كانت مع المشركين. قال الله تعالى: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾(1). وقال تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾(2)، ومعنى هذه الآية الأخيرة هو: أنّه لو أخذ مشرك الأمان بغرض المجيء وسماع كلمة الحقّ، لكنّه بعد ذلك لم يذعن للحقّ، ولم يؤمن به، وأراد الرجوع من حيث أتى، فلا يجوز حينئذ الغدر به وقتله بدعوى استمراره على الضلالة، بل الواجب إبلاغه إلى مأمنه سالماً.

وبهذا فإنّ الإمام لم يجد بُدّاً من الاستمرار على العهد الذي اُبرم معه في مسأله الهدنة مع معاوية وتحكيم الحكمين، ولم تكن المبرّرات متوافرة وقتئذ لاعتبار العهد لاغياً أو منقوضاً. لقد كان للإمام عليٍّ(عليه السلام) في ذلك اُسوة حسنة برسول الله(صلى الله عليه وآله) في تعاهده على الصلح مع المشركين في الصلح الذي عُرف بصلح الحديبيّة.

 


(1) سورة التوبة، الآية: 4.
(2) سورة التوبة، الآية: 6.
198

 

الإمام الحسن(عليه السلام)

 

حينما نتناول حياة الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام) السياسيّة يتمّ التركيز على قضيّة الصلح الذي اُبرم فيما بينه وبين معاوية بن أبي سفيان، وتُثار في هذا الإطار تساؤلات عن الأسباب التي دعت الإمام الحسن(عليه السلام) لمصالحة معاوية، وعن النتائج التي آل إليها الصلح، وعن جدوى المصالحة مع شخص مثل معاوية، وبالتالي يثار السؤال الرئيسي عن المنهج الذي انتهجه الإمام الحسن(عليه السلام) في هذه المسألة، واختلافه عن منهج أبيه وأخيه من بعده(عليهما السلام)؛ إذ كان منهجهما قائماً على الثورة وعدم مهادنة الظالمين.

ويبدو أنّ الكثير من هذه التساؤلات وأمثالها قد انطلقت على خلفيّة تصوّر غير ناضج ومفتقد للعلميّة ومنهج التفسير التأريخي الصحيح، فتصوّر أنّ الأئمّة(عليهم السلام) يمارسون قيادتهم للمجتمع ومواجهة الانحراف بنسق وطريقة واحدة تصوّرٌ خاطئ؛ لسبب بسيط هو: أنّ كلّ إمام منهم يواجه ظروفاً مختلفة تحكم بالضرورة لانتهاج ما يراه مناسباً لظرفه الخاصّ في إطار الهدف الأساسي الذي يسعى لتحقيقه جميع الأئمّة(عليهم السلام)، وبالتالي فإنّ هدف الأئمّة هو هدف واحد، ومنهجهم في العمل السياسيّ والاجتماعي أيضاً واحد، غاية الأمر أنّ منهج هذا الإمام المعصوم قد يظهر بصورة تبدو للوهلة الاُولى مختلفة عن الصورة التي تظهر في منهج الإمام اللاحق أو الآخر،

199

ومردّ هذا التصوّر الزائف هو استعجال النظرة وفقدانها للرؤية الاستراتيجيّة الكلّيّة لعمل وجهاد جميع الأئمّة(عليهم السلام). فصلح الإمام الحسن(عليه السلام) مع معاوية كان في حقيقة الأمر حرباً على معاوية ولكنّها كانت حرباً باردة؛ لأنّها كشفت زيف معاوية أمام الاُمّة، وأبطلت حججه واُسطورته في أذهان الكثيرين من المغفّلين به، وهذا الكشف حينما يوضع في إطار المعركة الشاملة التي قادها الأئمّة(عليهم السلام) مع الانحراف ومظاهره في المجتمع الإسلاميّ تكتمل الصورة؛ إذ يتناسق الموقف بصيغته اللاحقة مع ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) على يزيد بن معاوية، وهكذا إلى أن يتبلور الموقف النهائي للأئمّة(عليهم السلام) في إحكام الخطّ الإسلاميّ الصحيح في المجتمع، وتحصين وحفظ شيعتهم من الذوبان في الاتجاهات الاُخرى المنحرفة.

 

تفسير صلح الإمام الحسن(عليه السلام) مع معاوية:

لا بُدّ من تفسير الصلح لمعرفة دواعيه وغاياته والنتائج التي تمخّضت عنه، وفي الحقيقة هناك تفسيران يفسِّران إقدام الإمام(عليه السلام)على إبرام الصلح مع معاوية: أحدهما خاصّ والآخر عامّ:

أمّا التفسير الخاصّ، فهو ما بيّنه اُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره) حول المرض الذي كانت الاُمّة مبتلاة به، وهو مرض الشكّ؛ إذ كانت الاُمّة تشكّ في طبيعة الصراع الذي كان ناشباً بين الإمام الحسن(عليه السلام)ومعاوية، وتتصوّره صراعاً من أجل حيازة السلطة، وليس صراعاً بين الحقّ ممثّلاً بالإمام الحسن(عليه السلام) وبين الباطل ممثّلاً بمعاوية بن

200

أبي سفيان، وإنّما هو صراع بين سلطانين. ولم يكن أمام الإمام الحسن(عليه السلام) من سبيل لمعالجة هذا المرض إلّا بمصالحة معاوية؛ لأنّ الصلح وحده هو القادر على كشف حقيقة معاوية، وإذا ما كشفت الاُمّة حقيقة معاوية سوف تدرك أنّ حربه على الإمام الحسن(عليه السلام)إنّما هي حرب ظالمة، وأنّ الإمام الحسن(عليه السلام) إنّما يدافع عن الحقّ وعن الرسالة، وليس عن السلطان والجاه والرئاسة، وبالتالي فإنّه سوف يصار إلى تعرية بني اُميّة وكشف زيفهم وبطلانهم، وبهذا يُزال مرض الشكّ الذي كانت الاُمّة مبتلاة به، فلا تشكّ بعدئذ بحقّانيّة الأئمّة(عليهم السلام) في دفاعهم عن الرسالة، ولا تصدّق بشعارات بني اُميّة الكاذبة الزائفة.

وأمّا التفسير العامّ، فهو الذي يفسّر نهوض الأئمّة(عليهم السلام) بالأمر على أساس الأمر الواقع، فالإمام(عليه السلام) لا ينهض بالأمر إلّا عندما تتوافر لديه قوّة ومقدرة تكفي لإنجاح مهمّته وفق المقاييس المعقولة، ولا يشترط في هذه القوّة أن تكون أكبر من قوّة العدوّ من الناحية المادّيّة، بل يكفي أن تكون متوافرة على شروط القوّة المعنويّة التي قد تفوق على القوّة المادّيّة، والإمام الحسن(عليه السلام) لم يحصل على هذه القوّة حتّى بالحدّ الأدنى الذي يمكن أن تستمرّ بواسطته المجابهة، ولهذا اضطرّ إلى إيقاع الصلح مع معاوية.

وهناك نصوص وروايات تؤكّد هذه الحقيقة، حقيقة عدم امتلاك الإمام الحسن(عليه السلام) القوّة التي تمكّنه من الاستمرار في مواجهة معاوية، واضطراره لمصالحته، نختار منها نصّين:

 

201

أحدهما: خطاب له(عليه السلام) يخاطب به أصحابه ويبيّن فيه هذه المسألة: «أما والله ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلّة ولا قلّة، ولكن كنّا نقاتلهم بالسلامة والصبر، فشيب السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم تتوجّهون معنا ودينكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم، وكُنّا لكم وكُنتم لنا، وقد صرتم اليوم علينا، ثُمّ أصبحتم تصدّون قتيلين: قتيلاً بصفّين تبكون عليهم، وقتيلاً بالنهروان تطلبون بثأرهم، فأمّا الباكي فخاذل، وأمّا الطالب فثائر، وإنّ معاوية قد دعا إلى أمر ليس فيه عزّ ولا نَصَفَة، فإن أردتم الحياة قبلناه منه وأغضضنا على القذى، وإن أردتم الموت بذلناه في ذات الله وحاكمناه إلى الله، فنادى القوم بأجمعهم بل البقيّة والحياة»(1)!!

والنصّ الآخر رواية مرويّة عن زيد بن وهب الجهنيّ، قال: «لمّا طُعن الحسن بن عليّ(عليه السلام) بالمدائن أتيته وهو متوجّع، فقلت: ما ترى يا ابن رسول الله، فإنّ الناس متحيّرون؟ فقال: أرى والله معاوية خيراً لي من هؤلاء، يزعمون أنّهم لي شيعة، ابتغوا قتلي، وانتهبوا ثقلي، وأخذوا مالي، والله لئن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي وآمن به في أهلي خير من أن يقتلوني، فتضيع أهل بيتي وأهلي، والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتّى يدفعوني إليه سِلماً، فو الله لئن اُسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسيره، أو يمنّ عليّ فتكون سبّة على بني هاشم إلى آخر الدهر ومعاوية لا يزال يمنّ بها وعقبه



(1) البحار 44: 21 ـ 22، الحديث 5.

202

على الحيِّ منّا والميت»(1).

إنّ هذا النصّ وما قَبله يعطياننا فكرة واضحة عن مدى الصعوبات التي كانت تواجه الإمام الحسن(عليه السلام) والتي لم تترك أمامه خياراً سوى المصالحة مع خصمه اللدود، ليس اضطراراً فحسب، وإنّما دفعاً لخصمه نحو الزاوية الحرجة التي يضيق بها فكره وسلوكه أيضاً، فما لبث معاوية بعد حين إلّا ونقض الصلح وقد تهكّم عليه معلناً عن حقيقته، فكان هذا الأمر كاشفاً عن سياسة معاوية وبطلانه، ومؤكّداً حقّانيّة الإمام(عليه السلام) واستقامته وحكمته، وبذلك انتهى دور الإمام الحسن(عليه السلام) عند هذه المهمّة العظيمة التي مهّد بها السبيل لأخيهالإمام الحسين(عليه السلام).

 

الإمام الحسين(عليه السلام)

 

لقد توّج الإمام الحسين(عليه السلام) حياته السياسيّة بصنع حدث كبير هزّ الضمائر، وآل إلى تحولات عظيمة على صعيدَي الفكر والواقع الاجتماعي، فكانت الثورة هي ذلك الحدث الذي انطلق لمواجهة الانحراف الحكومي المتمثّل وقتئذ بيزيد بن معاوية، في وقت كانت الاُمّة قد بلغت حدّاً من النضج جعلها تدرك تلك الأوضاع، وتدرك ضرورة تغييرها، وتتأهّب للمواجهة لإعادة الاُمور إلى مجاريها


(1) المصدر السابق: 20، الحديث 4.
203

الصحيحة التي تعرفها أيضاً، فجاء الإمام الحسين(عليه السلام) لينقل هذا الوعي إلى ذروة المواجهة، وليعلن الثورة على الظالمين، مستعيداً سيرة جدّه رسول الله(صلى الله عليه وآله)، طالباً للإصلاح في اُمّته، ضارباً أروع الأمثلة للتضحية من أجل المبادئ، وبذلك أسّس الإمام الحسين وعياً سياسيّاً جديداً يأبى المصالحة مع الحاكم المنحرف، ويأبى السكوت على انحرافه، أو الركون إليه مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾(1).

 

آراء المفسّرين:

لقد دارت حول ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) آراء عديدة لتفسيرها ربّما تتناقض فيما بينها ويؤدّي بعضها إلى القول بأقوال غريبة أو غير معقولة، وقد تساهم في تشويه الهدف الذي نهض وثار من أجله الإمام(عليه السلام)، ولهذا سوف نستعرض نماذجَ مهمّةً من هذه الآراء لمناقشتها ونفي الفاسد منها وإثبات الصالح الموافق لطبيعة الثورة وأهدافها وغاياتها:

هناك رأيان أساسيّان يهيمنان على حدث الثورة لاستكناه أسبابها ودواعيها وغاياتها في الواقع الشيعي: الأوّل غير هادف، والثاني هادف، وينقسم الرأي الثاني بدوره إلى قسمين في تحقيق مصداقيّة الهدف من خلال تفاصيل حدث الثورة ونتائجها، وسوف


(1) سورة هود، الآية: 113.
204

نستعرض ذلك تباعاً:

أمّا بالنسبة إلى الرأي غير الهادف والذي أنتجه العقل الشيعيّ الجمعيّ لعدد من سواد الناس، والفاقد للدليل والبرهان، فمفاده: أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) إنّما خرج وأعلن ثورته على يزيد بن معاوية لا لشيء إلّا ليُقتَل ويستشهد على أيدي الظالمين من أجل أن يصبح موضوعاً للتأسّي والألم والبكاء من قبل شيعته ومحبّيه، ولكي يكون ذلك سبباً لغفران ذنوبهم وتخليصهم من عقاب الآخرة وإدخالهم الجنّة.

ومن الواضح أنّ هذا التفسير يلغي هدفيّة الإمام الحسين بالشكل الذي يمكن للعاملين الهادفين الاقتداء به، ويجعل ذلك عملاً قائماً على أساس تعبّد بحت خاصٍّ به(عليه السلام)؛ لأنّنا لو كنّا وظاهر ما بأيدينا من نُظُم الشريعة، لقلنا بترتّب الإشكال الشرعي على التضحية التي قام بها الإمام؛ إذ إنّ السبب المذكور آنفاً يفتقد الملاك الشرعي الذي بموجبه يجوز إراقة الدم وتعريض النفس للهلاك.

ويرد على هذا الوجه: أنّ الأهداف التي أعلنها الإمام في خطبه وبياناته صادعة بأنّ للإمام هدفاً رئيسيّاً هو طلب الإصلاح في اُمّة جدّه رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وأنّ الروايات التي وردت تبشّر بالثواب الجزيل لمن يبكي على مصاب الإمام(عليه السلام)، لا يمكن أن يُقبل في تفسيرها أكثر من التأكيد على حصول الثواب، ولا يمكن قبول فرضيّة أنّ الحسين(عليه السلام) قُتل لكي تبكي عليه الشيعة ويوجب ذلك دخولهم الجنّة وغفران ذنوبهم مهما عظُم إجرامهم، فإنّ الاعتقاد

205

بمثل هذا الرأي يبطل الأهداف التغييريّة التي جاء بها الإسلام وعمل بها الرسول(صلى الله عليه وآله) والأئمّة(عليهم السلام) من بعده، فالتغيير لا يحصل إلّا باتِّباع جميع مقرّرات الشريعة ومن خلال العمل الصالح والإيمان واليقين.

أمّا بالنسبة إلى الرأي الهادف في تفسير ثورة الإمام الحسين(عليه السلام)، فهو الرأي الذي يتحرّك على أساس هدفيّة الإمام الحسين في إعلانه المعارضة على حكم يزيد والثورة عليه والتصدّي للظالمين. وفي دائرة هذا الرأي ثمّة اتجاهان يفسّران عمل الإمام الحسين:

الاتجاه الأوّل: هو الاتجاه الذي يذهب إلى أنّ هدف الإمام الحسين كان إقامة الحكومة الإسلاميّة، ولم يكن هدفه الاستشهاد، وإنّما شاءت الأقدار فاستشهد، فكانت شهادته خسارة عظيمة للإسلام ولم يكن فيها نفع، وقد يكون لهذا الرأي دعاته ومتبنّوه، ولكنّنا نختار نموذجاً واحداً هو صالحي نجف آبادي في كتابه (شهيد جاويد)، وهذا الكتاب فارسي.

الاتجاه الثاني: ـ ويمثّله اُستاذنا الشهيد(قدس سره) ـ أنّ الإمام الحسين(عليه السلام)خرج وهو يقصد الشهادة ويطلبها وكانت هي غايته النهائيّة، وكان الهدف منها هو إحداث هزّة عنيفة في نفوس وضمائر المسلمين، اُولئك الذين كانوا مبتلين بمرض «ضعف الإرادة» كما أسماه السيّد الشهيد(قدس سره)، فالاُمّة آنذاك وفي زمن الإمام الحسين(عليه السلام) بالذات كانت تعرف الحقّ وأهله وتعرف الباطل وأهله، تعرف انحراف يزيد وظلمه وعدم شرعيّته، وتعرف الإمام الحسين(عليه السلام) واستقامته وشرعيّته، ولكنّها كانت ضعيفة الإرادة خائفة لا تقدر أن تترجم

206

أحاسيسها ووعيها إلى أعمال ومواقف، ولهذا وجد الإمام الحسين(عليه السلام) أنّ أيّ عمل سيصبح عديم الجدوى مع اُمّة تعاني من وطأة هذا المرض الوبيل، وسوف لن يكون بمقدور أيّة حركة تصحيحيّة أن تجني ثمارها الواقعيّة بسبب ركود القاعدة وتصلّبها، كما أنّ استمرار هذا المرض وتفشّيه في الاُمّة سوف يؤدّي إلى موتها، وبالتالي انهيار كيانها وانعدام أيّة فرصة ضئيلة ممكنة لاستنهاضها في المستقبل، ولهذا وجد الإمام الحسين (عليه السلام) أنّ علاج وضع كهذا لن يكون إلّا بإحداث هزّة عنيفة تهزّ وجدان وضمائر الاُمّة وتبعث فيها الحيويّة والإقدام، وأنّ هذه الهزّة العظيمة لا تحدث إلّا بتضحية عظيمة، وقد رأى أن يكون هو(عليه السلام) الضحيّة التي سوف تهزّ الضمائر، ولم يكن أحد في الاُمّة مرشَّحاً لهذه المنزلة سواه، فأقدم على الشهادة، فكانت شهادته منعطفاً بارزاً وقويّاً في وعي الاُمّة وحياتها، وكان أثرها في النفوس عظيماً؛ إذ تحركت الحياة في الضمائر المريضة، وحدثت الانتفاضات والثورات من بعده إلى أن تقوّض حكم بني اُميّة، وظلّ دم الإمام الحسين(عليه السلام) منذ استشهاده وإلى اليوم محرِّكاً للثوار وملهماً لشيعة آل البيت في كلّ حين.

إنّ الكاتب (صالحي نجف آبادي) استدلّ على رأيه بالتصريحات والشعارات التي أطلقها الإمام الحسين كقوله(عليه السلام): «إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي(صلى الله عليه وآله)»(1). وكذلك استدلّ بالرسائل والكتب



(1) البحار 44: 329.