150

إنّ التفويض له معنيان وشِقّان: فتارةً يُفترض أنّ الله تعالى فوّض العالم إلى عباده وهو كأنّما ترك العالم، وعبادُه يفعلون ما يريدون. واُخرى يفترض: أنّ الله تبارك وتعالى فوّض العالم إلى قسم من عباده فقط وهم المعصومون(عليهم السلام). وهذا التفويض بشقّيه يخالف ظاهر الآيات المباركة التي تسند الاُمور دائماً ومباشرة إلى الله تعالى كما في الآيات التي أشرنا إليها، منها قوله تعالى: ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ﴾، وقوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الاَْنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾، وقوله تعالى: ﴿لن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا﴾، وما شابه ذلك.

كما أنّ هناك آيات اُخرى تقبل الحمل على نفس المعنى الذي ندّعيه، من قبيل قوله تعالى بالنسبة إلى المسيح(عليه السلام): ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي﴾(1)، فالمقطع الأوّل: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي﴾ هو من القسم الذي ذكرناه من أنّ فعل البشر ينسبه إلى الله بالمعنى الذي شرحناه، فقد خلق من الطين كهيئة الطير ـ وكلّ إنسان يستطيع أن يخلق من الطين كهيئة الطير ـ وهو فعل البشر ومع ذلك فإنّ الله تعالى يقول: ﴿بِإِذْنِي﴾، وكلّ ما قام به عيسى (عليه السلام) هو بإذن الله، من إبراء الأكمه والأبرص وإخراج الموتى وغير ذلك. كما أنّ الآية الاُخرى تتحدّث عن لسان



(1) سورة المائدة، الآية: 110.

151

عيسى (عليه السلام): ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾(1).

إنّ كلمة ﴿بِإِذْنِي﴾ أو كلمة ﴿بِإِذْنِ اللّهِ﴾ في هذه الآيات المباركة هي على منوال الآية الاُخرى التي تقول: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْس أَنْ تَمُوتَ إلَّا بِإِذْنِ الله﴾(2) الذي يعني أنّ الموت من قبل الله تعالى، فهو الذي يميت النفس، وهو الذي يميت الإنسان، ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْس أَنْ تَمُوتَ إلَّا بِإِذْنِ الله﴾.

 

بعض روايات إثبات الولاية التكوينيّة للأ ئمّة(عليهم السلام):

 

أمّا الروايات التي قد يُتمسَّك بها لإثبات الولاية التكوينيّة للأئمّة (عليهم السلام)، فهي من قبيل ما ورد في زيارة الجامعة الكبيرة، كقوله(عليه السلام): « بِكُمْ فَتَحَ اللهُ وَبِكُمْ يَخْتِمُ وَبِكُمْ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَبِكُمْ يُمْسِكُ السَمَاءَ أنْ تَقَعَ عَلَى الاْرْضِ إلّا بِإذْنِهِ وَبِكُمْ يُنَفِّسُ الْهَمَّ... ». قد يفترض أنّ هذا يعني الولاية التكوينيّة، أي: أنّ الأئمّة(عليهم السلام) هم الذين يديرون الأرض والسماء والغيث وما شابه، وكذلك الرواية المعروفة أو الحديث القدسي المعروف على الألسن: « لولاك لما


(1) سورة آل عمران، الآية: 49.
(2) سورة آل عمران، الآية: 145.
152

خلقت الأفلاك »(1)، ومنها الروايات الواردة بعنوان: لولا الحجّة لساخت الأرض بأهلها، فيقال: إنّ حياة العالم مرتبطة بحياة الإمام والحجّة المعصوم، ولولاه لفنى وانتهى العالم، ومنها ما روي عن أبي حمزة: « قال: قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): تبقى الأرض بغير إمام؟ قال: لا، لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت »(2)، ورواية اُخرى، وهي التوقيع الشريف المعروف عن الإمام صاحب الزمان(عليه السلام) الذي أجاب فيه عن عدّة أسئلة من جملتها قوله(عليه السلام): « وأمّا وجه الانتفاع بي في غيبتي، فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبها عن الأبصار السحاب، وإنّي لأمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء »(3)، وعن الإمام الباقر(عليه السلام) يقول: « لو بقيت الأرض يوماً بلا إمام منّا، لساخت بأهلها، ولعذّبهم الله بأشدّ عذابه، إنّ الله تبارك وتعالى جعلنا حجّة في أرضه، وأماناً في الأرض لأهل الأرض، لن يزالوا في أمان من أن تسيخ بهم الأرض ما دمنا بين أظهرهم، وإذا أراد الله أن يهلكهم ولا يمهلهم ولا يُنظِرهم، ذهب بنا من بينهم ورفعنا الله، ثُمّ يفعل الله ما يشاء وأحبَّ »(4)، وأمثال هذه الروايات كثيرة وهي شبه متواترة كلّها تدلّ على هذا المضمون، وعلى أنّ قوام العالم بالإمام المعصوم وبدونه ينتهي العالم.

 



(1) البحار 16: 406، الحديث 1.

(2) البحار 23: 28، الحديث 40.

(3) البحار 52: 92، الحديث 7.

(4) البحار 23: 37، الحديث 64.

153

فمجموع هذه الروايات لا شكّ في أنّها تعطي معنى مسلّماً عند أتباع مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)، وهو أنّ قيام العالم ووجود العالم وسبب الحياة في العالم كلّه مرتبط بالإمام المعصوم، ولولاه لما كان شيء من هذا القبيل، إلّا أنّ هذا لا يعني ما يسمّى بالولاية التكوينيّة، فافتراض أنّهم ـ سلام الله عليهم ـ هم الذين يباشرون العمل الذي يفترض مباشرته من قبل الله تبارك وتعالى شيء، وافتراض أنّ الله تعالى هو الذي يديم العالم ويدير الاُمور ببركتهم ـ سلام الله عليهم ـ شيء آخر، وهذه الروايات إنّما دلّت على المفهوم الثاني ولم تدلّ على المفهوم الأوّل، فالاستدلال بها على مبدأ الولاية التكوينيّة بالمعنى الأوّل خلط بين المفهومين.

155

الفصل الخامس

 

 

قيادة الأئمّة (عليهم السلام)للمجتمع

 

 

○   الإمام(عليه السلام)والاُمّة.

○   تنوّع الأدوار القياديّة للأ ئمّة (عليهم السلام).

 

 

157

 

 

 

 

نبحث الآن في كيفيّة قيادة الأئمّة(عليهم السلام) للمجتمع، وما هي العناصر الثابتة والمتغيّرة في قيادتهم؟ وكيف واجه الأئمّة متغيّرات عصورهم؟ وما هو موقفهم(عليهم السلام) من السلطات الوقتيّة الظالمة؟ وكيف تعاملوا معها ومع المعارضة الشيعيّة ضدّها؟ وسوف نتناول مراحل عمل الأئمّة(عليهم السلام) في ضوء المخطَّط العامّ للإمامة في قيادة المجتمع وهدايته وتحصينه ضدّ الانحرافات، وصيانة التجربة الإسلاميّة ـ التي تعرّضت بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) للاهتزاز والزيغ ـ من السقوط والزوال. وسنعرض دور أربعة أئمّة كنماذج للدراسة، هم: الإمام عليّ(عليه السلام)، والإمامان الحسن والحسين(عليهما السلام)، والإمام عليّ بن الحسين(عليه السلام).

 

الإمام (عليه السلام) والاُمّة

 

العلاقة التي تربط الإمام بالاُمّة والاُمّة بالإمام ترتكز على محور الإمامة، فالإمام قائد ديني، وقائد اجتماعي، ولازم قيادته في كلا الأمرين عمله على هداية الاُمّة وبيان الأحكام الإلهيّة لها، وصيانة الرسالة من الانحراف، بالإضافة إلى كون الإمام قدوةً للاُمّة في أخلاقه وسلوكه، هذا من جهة. ومن جهة اُخرى إنّ الإمام قائد

158

للمجتمع يعمل على إدارته وحلّ مشاكله، وإنجاح الاُطروحة الإسلاميّة، خصوصاً إذا كان الإمام مبسوط اليد وله قدرة سياسيّة مؤثّرة. أمّا إذا لم يكن الإمام مبسوط اليد وليست بيده قدرته، فحقّ الاُمّة عليه ـ الذي لا ينفكّ عن منصب إمامته ـ هو هداية المجتمع وبيان الأحكام الشرعيّة له، فهو حقّ ثابت في جميع الظروف والأحوال.

أمّا بالنسبة إلى الاُمّة في علاقتها مع الإمام، فالحقّ الثابت عليها هو اتّباع الإمام والاقتداء به وعدم الخروج عن طاعته.

يقول الإمام عليّ (عليه السلام) موضّحاً دوره الديني والاجتماعي بعد إقصائه عن منصب السلطة السياسيّة: «والله لا دخلت المسجد ( أي مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) ) إلّا كما دخل أخواي موسى وهارون إذ قال له أصحابه: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾، واللهِ لا أدخل إلّا لزيارة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، أو لقضيّة أقضيها، فإنّه لا يجوز لحجّة أقامه رسول الله(صلى الله عليه وآله) أن يترك الناس في حيرة»(1).

فالإمام عليّ(عليه السلام) برغم إقصائه من السلطة والخلافة لم يترك إرشاد الاُمّة وهدايتها؛ لأنّه «لا يجوز لحُجّة أقامه رسول الله(صلى الله عليه وآله) أن يترك الناس في حيرة».

والقاعدة هذه تنطبق على جميع الأئمّة(عليهم السلام)، حيث مارسوا مهمّة قيادة الاُمّة وهدايتها دون أن يكترثوا لضغوط الواقع وقمع السلطات



(1) البحار 28: 202 ـ 203.

159

الظالمة. وعلى الرغم من أنّ بعض الكتّاب المنحرفين طعنوا بسيرة الأئمّة (عليهم السلام)وميّزوا بينهم في العمل الاجتماعي متّهمِين بعضهم بعدم ممارسة وظيفتهم في قيادة المجتمع، لكنّ حقائق السيرة المطهّرة للأئمّة الأطهار(عليهم السلام) تؤكّد عكس ذلك، وإنّ أبرز دليل على تصدّي الأئمّة(عليهم السلام) لقيادة المجتمع ومنع الانحراف فيه هو موقف الطواغيت المعادي للأئمّة(عليهم السلام)، والذي كانت تعبّر عنه: المضايقات، والعيون المبثوثة حول الإمام، والسجون، ووسائل القتل المتنوّعة، فالأئمّة(عليهم السلام) قضوا إمّا مسمومين أو مقتولين بحدّ السيف.

فلماذا سلك الطواغيت هذا السلوك الظالم مع الأئمّة لولا أنّهم ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ كانوا من الناشطين في قيادة المجتمع والمعارضين للسلطات الطاغوتيّة في أزمانهم؟!

فالإمام الحسن(عليه السلام) أوقع الصلح مع معاوية بن أبي سفيان، وعلى الرغم من ذلك عاد هذا الأخير للفتك بالإمام والتخلّص منه بدسّ السمّ إليه. ألا يدلّ هذا الفعل الشنيع على توجّس وخيفة من الإمام(عليه السلام)؟! فلو كان الإمام قاعداً ومنصرفاً عن القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة، فلا حاجة لمعاوية عندئذ بقتل الإمام.

والإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) الذي قضى عمره مسجوناً في طوامير هارون الرشيد دُسّ له السمّ أيضاً، فقضى مسموماً مقتولاً، فلماذا دسّ هارون السمّ للإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)؟

إنّ السبب الذي جعل هارون الرشيد يعتقل الإمام(عليه السلام) هو نفسه الذي جعله يقدم على قتله، وهو عمق وسِعة الولاء الشعبي للإمام،

160

وقد خشي هارون الرشيد من مغبّة تفجّره، لاسيّما وأنّ محاولات هارون في استمالة الإمام إلى جانبه باءت بالفشل جميعاً خصوصاً الطلب الذي تقدّم به إلى الإمام من زيارته(عليه السلام) إيّاه مقابل إطلاق سراحه من السجن.

وقصّة سليمان عمّ هارون الرشيد معروفة، وهو الذي أمر أن يُنادى ـ بعد أن أخرج جثمان الإمام أربعة حمّالين يحملونه ـ: «ألا من أراد الطيّب ابن الطيّب موسى بن جعفر فليخرج»(1)، فحدثت تلك الضجّة المعروفة، وشيّع الإمام تشييعاً عظيماً.

فلماذا فعل سليمان هذا الفعل وأمر بتشييع الإمام بتلك الصورة؟ هل كان مخلصاً للإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)؟!

كلاّ لم يكن سليمان موالياً للإمام فضلاً عن كونه مخلصاً، بل كان من أنصار هارون الرشيد، ومن السائرين بركب الظالمين، ولكنّه فعل هذا الأمر لأنّه عرف بأنّ تشييع الإمام بهذه الطريقة يحمله أربعة من الحمّالين ليس في صالح هارون الرشيد، فأراد أن يمتصّ الغضب الشعبي بهذه الطريقة. وفي هذه القصّة دلالة على عمق وسعة الولاء الشعبي للإمام، وهو الذي خشي منه هارون الرشيد فارتكب تلك الحماقة فقتل الإمام(عليه السلام).

وكذلك الأمر بالنسبة إلى أ ئمّتنا المتأخّرين كالإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام)، وبالأخصّ الإمام العسكريّ(عليه السلام)، فعلى الرغم من



(1) البحار 48: 227، الحديث 29.

161

أنّهما كانا محتجبين عن قواعدهما الشعبيّة (الشيعيّة) نسبيّاً؛ لأنّهما كانا يهيّـئان الشيعة لاستقبال الغيبة، إلّا أنّهما لم يتخلّصا من رقابة السلطات وعيونها المبثوثة التي تترصّد المولود المنتظر ابن الإمام العسكريّ(عليه السلام).

ولهذا عمد الإمام العسكري لإخفاء المولود ( الإمام صاحب الزمان عجّل الله فرجه ) والتعتيم عليه، وحتّى إخفاء اسمه حفاظاً عليه من بطش السلطة الظالمة.

وبكلمة واحدة نقول: إنّ أقلّ دليل يمكن أن نستدلّ به على الموقع القيادي والمؤثّر للأئمّة(عليهم السلام) في المجتمع هو توجّس السلطات خيفة منهم، ومطاردتهم والفتك بهم جميعاً(عليهم السلام)، باستثناء الإمام الحجّة المنتظر ـ عجّل الله فرجه ـ الذي هو غائب عن الأبصار.

والإمام الحجّة ـ عجّل الله فرجه ـ هو الآخر ليس بعيداً عن التدخّل في القضايا الاجتماعيّة، ولكن على نحو غير اعتيادي أو طبيعي بسبب ظروف الغيبة. والدليل على ذلك قوله ـ عجّل الله فرجه ـ في التوقيع المروي: «أمّا وجه الانتفاع بي في غيبتي، فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبها عن الأبصار السحاب، وإنّي لأمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء»(1). فالإمام ينتفع به كما ينتفع بالشمس المغيّبة بالسحاب. وقد تحمل الرواية بقرينة ذيلها: «إنّي لأمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء»



(1) البحار 53: 181، الحديث 10.

162

على الارتباط التكوينيّ المرتكز على فكرة (لولا الحجّة لساخت الأرض بأهلها)، أي: أنّ الإمام هو قطب رحى الأرض وثباتها.

ونحن لا نمانع من فهم هذا المعنى من الحديث بالمقدار الذي قبلناه في بحث الولاية التكوينيّة، ولكنّنا نقول إضافةً إلى ذلك: إنّ هذه الرواية وكذلك روايات اُخرى تؤكّد أنّ الإمام الحجّة ـ عجّل الله فرجه ـ يمارس وظيفة الهداية والإرشاد للمجتمع، فعن الإمام الصادق(عليه السلام): «لم تخلُ الأرض منذ خَلَقَ الله آدم من حجّة لله فيها، ظاهر مشهور، أو غائب مستور، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجّة الله فيها، ولولا ذلك لم يعبد الله»، فلم تشر هذه الرواية إلى ارتباط العالم بالإمام تكوينيّاً، وإنّما ذكرت ارتباط المجتمع بالإمام ارتباط هداية وإرشاد، ولم تقل: لولا وجود الإمام لساخ العالم أو لساخت الأرض، وإنّما قالت: لولا وجود الإمام لم يعبد الله.

وأيضاً قال سليمان الأعمش: فقلت للصادق(عليه السلام): فكيف ينتفع الناس بالحجّة الغائب المستور؟ قال(عليه السلام): «كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب»(1). وقد تكون هذه الرواية ناظرةً أيضاً إلى الجانب التكويني وإلى جانب الهداية والإرشاد في وقت واحد.

 

فوائد وجود الإمام الحجّة(عليه السلام) تحت الستار:

لقد تساءل اُستاذنا السيّد الشهيد محمّدباقر الصدر(قدس سره) في كتابه (بحث حول المهدي) عن فائدة وجود الإمام وما هو المبرّر لذلك


(1) البحار 23: 6، الحديث 10.
163

بعد أن فرض تحت الستار؟ فأجاب مفترضاً وجود ثلاث فوائد اجتماعيّة تصبّ في إنجاح وتمكّن الإمام ـ عجّل الله فرجه ـ من ممارسة قيادته بدرجة أكبر:

الفائدة الاُولى: الإعداد النفسي لعمليّة التغيير الكبرى، بمعنى: أنّ «عمليّة التغيير الكبرى تتطلّب وضعاً نفسيّاً فريداً في القائد الممارس لها مشحوناً بالشعور بالتفوّق، والإحساس بضآلة الكيانات الشامخة التي اُعِدَّ للقضاء عليها ولتحويلها حضاريّاً إلى عالم جديد، فبقدر ما يعمر قلب القائد المغيّر من شعور بتفاهة الحضارة التي يصارعها، وإحساس واضح بأنّها مجرّد نقطة على الخطّ الطويل لحضارة الإنسان، يصبح أكثر قدرة من الناحية النفسيّة على مواجهتها، والصمود في وجهها، ومواصلة العمل ضدّها حتّى النصر.

ومن الواضح أنّ الحجم المطلوب من هذا الشعور النفسي يتناسب مع حجم التغيير نفسه، وما يراد القضاء عليه من حضارة وكيان، فكلّما كانت المواجهة لكيان أكبر ولحضارة أرسخ وأشمخ تطلّبت زخماً أكبر من هذا الشعور النفسي المفعم. ولمّا كانت رسالة اليوم الموعود تغيير عالم مليء بالظلم وبالجور تغييراً شاملاً بكلّ قيمه الحضاريّة وكياناته المتنوّعة، فمن الطبيعي أن تفتّش هذه الرسالة عن شخص أكبر في شعوره النفسي من ذلك العالَم كلّه، عن شخص ليس من مواليد ذلك العالَم الذين نشؤوا في ظلّ تلك الحضارة التي يراد تقويضها واستبدالها بحضارة العدل والحقّ؛ لأنّ من ينشأ في ظلِّ حضارة راسخة تعمّر الدنيا بسلطانها وقيمها

164

وأفكارها، يعيش في نفسه الشعور بالهيبة تجاهها؛ لأنّه ولد وهي قائمة، ونشأ صغيراً وهي جبّارة، وفتح عينيه على الدنيا فلم يجد سوى أوجهها المختلفة، وخلافاً لذلك شخص يتوغّل في التأريخ عاش الدنيا قبل أن ترى تلك الحضارة النور، ورأى الحضارات الكبيرة سادت العالم الواحدة تلو الاُخرى ثمّ تداعت وانهارت، رأى ذلك بعينيه ولم يقرأه في كتاب تأريخ، ثمّ رأى الحضارة التي يقدّر لها أن تكوِّن الفصل الأخير من قصّة الإنسان قبل اليوم الموعود، رآها وهي بذور صغيرة لا تكاد تتبيّن، ثمّ شاهدها وقد اتخذت مواقعها في أحشاء المجتمع البشري تتربّص الفرصة لكي تنمو وتظهر، ثمّ عاصرها وقد بدأت تنمو وتزحف وتصاب بالنكسة تارةً ويحالفها التوفيق تارةً اُخرى، ثمّ واكبها وهي تزدهر وتتعملق وتسيطر بالتدريج على مقدّرات عالَم بكامله، فإنّ شخصاً من هذا القبيل عاش كلّ هذه المراحل بفطنة وانتباه كاملين ينظر إلى هذا العملاق ـ الذي يريد أن يصارعه ـ من زاوية ذلك الامتداد التأريخي الطويل الذي عاشه بحسّه لا في بطون كتب التأريخ»(1).

ففرق بين ما لو كان القائد المعدّ لقطع دابر الظلمة مولوداً في عصر اُبّهة ذلك الظالم وهيمنته وسطوته، وما لو كان القائد موجوداً في عصر سابق. وما أكثر ما يرى خلال هذه المدّة الطويلة من الظَلَمة الذين يعاشرهم من أوّل نقطة ضعفهم وضآلة وضعهم، وإلى أن يصلوا إلى نهاية طغيانهم، وإلى أن يضمحلّوا مرّةً اُخرى، ثمّ يعاصر آخر



(1) بحث حول المهدي: 42 ـ 45.

165

الأوضاع الظالمة التي بدأ أيضاً الطواغيت فيها بأدوار ضآلتهم إلى أن تفرعنوا، وكان هذا القائد مأموراً بتطهير الأرض منهم ومن آثارهم، فستكون للقائد عندئذ نفسيّة متهيّـئة ومستعدّة للعمل الجادّ أكثر ممّا لو فتح عينيه منذ البدء في عصر اُبّهتهم وسيطرتهم.

الفائدة الثانية: الإعداد الفكري وتعميق الخبرة القياديّة، بمعنى: أنّ « التجربة التي تتيحها مواكبة تلك الحضارات المتعاقبة والمواجهة المباشرة لحركتها وتطوراتها لها أثر كبير في الإعداد الفكري وتعميق الخبرة القياديّة لليوم الموعود؛ لأنّها تضع الشخص المدّخر أمام ممارسات كثيرة للآخرين بكلّ ما فيها من نقاط الضعف والقوّة، ومن ألوان الخطأ والصواب، وتعطي لهذا الشخص قدرةً أكبر على تقييم الظواهر الاجتماعيّة بالوعي الكامل على أسبابها، وكلّ ملابساتها التأريخيّة»(1).

الفائدة الثالثة: الاقتراب من مصادر الإسلام الاُولى، بمعنى: أنّ «عمليّة التغيير المدّخرة للقائد المنتظر تقوم على أساس رسالة معيّنة هي رسالة الإسلام، ومن الطبيعي أن تتطلّب العمليّة في هذه الحالة قائداً قريباً من مصادر الإسلام الاُولى، قد بُنيت شخصيّته بناءً كاملاً بصورة مستقلّة ومنفصلة عن مؤثّرات الحضارة التي يقدر لليوم الموعود أن يحاربها»(2).

إنّ افتراضات اُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره) هذه حول فائدة الغيبة


(1) المصدر السابق: 47.
(2) المصدر السابق: 47 ـ 48.
166

الطويلة للإمام الحجّة الغائب ـ عجّل الله فرجه ـ واجهت اعتراضاً مفاده: أنّ الإمام الحجّة، وهو إمام معصوم ملهم من قبل الله سبحانه وتعالى، لا يحتاج إلى كثرة التجارب لغرض الإعداد النفسي وتعميق الخبرة القياديّة؛ لأنّه حاصل على هذه الملكات بحكم إمامته.

إنّ هذا الاعتراض غير وارد على هذه الفوائد التي ذكرها اُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره)؛ وذلك لأنّه لا تنافي بينها وبين افتراض أنّ الإمام مزوَّد بالعلم والمعرفة مباشرةً من قبل الله تعالى، فتسديد الإمام(عليه السلام)من قبل الله قد تختلف طريقته، فتارةً عن طريق الإلهام، واُخرى بهذا النحو الذي ذكره اُستاذنا السيّد الشهيد(رحمه الله) ـ وهو التجارب ـ ويتمّ تكميله بهذا الاُسلوب، وثالثةً بالجمع بينهما. وهذا محتمل الصحّة ولا تنافي بين الأمرين.

أمّا بالنسبة إلى مقارنة هذه النقاط ـ التي ذكرها اُستاذنا السيّد الشهيد ـ مع الرواية التي أوردتُها حول أثر وجود الإمام الحجّة في زمن غيبته: «أمّا وجه الانتفاع بي في غيبتي، فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبها عن الأبصار السحاب، وإنّي لأمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء»، فلا شيء من التقارب بينهما؛ لأنّ الرواية غير ناظرة إلى هذه النقاط، ومضمونها لا يشير إليها، لكنّ الذي تشير إليه هذه الرواية هو امتداد تأثير الإمام القيادي والاجتماعي والتكويني على طول غيبته، كما أنّ الشمس تؤثّر وهي خلف السحاب.

 

 

167

 

 

 

 

 

تنوّع الأدوار القياديّة للأ ئمّة (عليهم السلام)

 

تكاد تكون قيادة الأئمّة(عليهم السلام) للمجتمع الإسلاميّ من البديهيّات المعروفة في التأريخ الإسلاميّ، برغم أنّ قيادتهم لم تجرِ بنسق واحد وطريقة واحدة، بمعنى أنّها مرّت بمراحل وأدوار تأريخيّة يكمّل بعضها البعض الآخر، وتحديد الأدوار القياديّة للأئمّة الأطهار(عليهم السلام) بداية ونهاية يرجع إلى تصوّر يتّفق مع طبيعة الأحداث المنظورة في خطّ تأريخ الإسلام، فيما يتعلّق بأعمال الأئمّة ومواقفهم من الدولة والمجتمع والاُمّة التي خلّفها رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وبمواقف الحكم المنحرف من الأئمّة أنفسهم، كما أوضح ذلك اُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره) في محاضراته التي طبعت في كتاب (أهل البيت تنوّع أدوار ووحدة هدف).

واُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره) ذكر في الكتاب المذكور ثلاث مراحل تأريخيّة في قيادة الأئمّة(عليهم السلام) للمجتمع، وهي:

المرحلة الاُولى: مرحلة تفادي صدمة الانحراف. وقد عبّر عنها(قدس سره) بقوله: «هذه المرحلة هي التي عاش فيها قادة أهل البيت(عليهم السلام)مرارة الانحراف وصدمته بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانت مرارة

168

الانحراف وصدمة هذا الانحراف من الممكن أن تمتدّ وتقضي على الإسلام ومصالحه وعلى الاُمّة الإسلاميّة، فتصبح قصّةً في التأريخ لا وجود لها في خطّ الزمن المستمرّ.

الأئمّة(عليهم السلام) في هذه المرحلة عاشوا صدمة الانحراف وقاموا بالتحصينات اللازمة بقدر الإمكان، بكلّ العناصر الأساسيّة للرسالة ضدّ صدمة الانحراف، فحافظوا على الرسالة الإسلاميّة نفسها... وتبدأ هذه المرحلة بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتستمرّ إلى حياة الإمام الرابع من قادة أهل البيت(عليهم السلام)»(1).

المرحلة الثانية: مرحلة بناء الكتلة الواعية. وقد عبّر عنها اُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره) بقوله: «هي المرحلة التي شرع فيها قادة أهل البيت(عليهم السلام) ـ بعد أن وضعوا التحصينات اللازمة وفرغوا من الضمانات الأساسيّة ضدّ صدمة الانحراف ـ ببناء الكتلة، بناء الجماعة المنطوية تحت لوائهم، الشاعرة بكلّ الحدود والأبعاد من المفهوم الإسلاميّ المتبنّى من قبلهم(عليهم السلام)... حتّى تكون هذه الجماعة هي الرائد والقائد والحامي للوعي الإسلاميّ الذي حُصّن بالحدّ الأدنى.

هذا العمل مارسه الإمام الباقر (عليه السلام) على مستوى القمّة، وقلنا: إنّ هذه المرحلة استمرّت إلى زمن الإمام الكاظم(عليه السلام)، وفي زمن الإمام الكاظم(عليه السلام) بدأت المرحلة الثالثة»(2).


(1) أهل البيت تنوّع أدوار ووحدة هدف: 115.
(2) المصدر السابق: 115 ـ 116.
169

المرحلة الثالثة: ظهور الكتلة الواعية بمستوى تسلّم زمام الحكم. وقد وصف اُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره) هذه المرحلة بقوله: «لا تحدّد (هذه المرحلة) بشكل بارز من قبل الأئمّة(عليهم السلام) أنفسهم، بل يحدّدها بشكل بارز موقف الحكم المنحرف من الأئمّة أنفسهم؛ وذلك لأنّ الجماعة التي نشأت في ظلّ المرحلة الثانية التي وضعت بذرتها في المرحلة الاُولى، نشأت ونمت في ظلّ المرحلة الثانية، هذه الجماعة غزت العالم الإسلاميّ وقتئذ، وبدا للخلفاء أنّ قيادة أهل البيت(عليهم السلام)أصبحت على مستوى تسلّم زمام الحكم والعودة بالمجتمع الإسلاميّ إلى حظيرة الإسلام الحقيقي، وهذا خلّف بشكل رئيسي ردود الفعل للخلفاء تجاه الأئمّة(عليهم السلام) من أ يّام الإمام الكاظم(عليه السلام)»(1)، وهذه المرحلة امتدّت من زمن الإمام الكاظم إلى زمن الإمام العسكري(عليه السلام).

وقبل أن نشرع في الحديث عن أئمّة الدور الأوّل والظروف المحيطة بكلّ واحد منهم وفق التقسيم الثلاثي لأدوارهم العامّة، لابدّ من إشارة توضيحيّة مهمّة للاُسلوب والمنهج المتّبع من قبلهم في قيادة الاُمّة وتوجيهها؛ إذ إنّ الأئمّة(عليهم السلام) اختصّوا بأداء منهجيٍّ معيّن في القيادة يختلف عن باقي الناس المتصدّين لنفس المهمّة؛ إذ الأئمّة ليسوا كباقي الناس، فاختصاصهم من قبل الله تعالى بالعصمة والنزاهة وقربهم الداني من رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وإيكال مهمّة الإمامة لهم



(1) المصدر السابق: 116.

170

والنصّ عليهم دون غيرهم، كلّها اُمور جعلت منهجهم القيادي يتّصف بخصوصيّة تتلائم وطبيعتهم هذه.

فالأئمّة(عليهم السلام) من جهة يشتركون مع باقي الناس في أنّهم يعيشون في المجتمع ويؤدّون دورهم الاجتماعي على نحو طبيعي، وتواجههم الأحداث والظروف بنفس الكيفيّة التي تواجه الآخرين، كما أنّ كيفيّة تفاعلهم مع الأحداث والوقائع يتمّ أيضاً بشكل طبيعي، أي: بشكل بشري ﴿إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ...﴾، تتكافأ فيه قدراتهم الظاهريّة مع قدرات البشر الاعتياديّة، ولكنّ الأئمّة في الوقت نفسه، وبحكم الخصوصيّات والمؤهّلات التي يتميّزون بها (العصمة، الإمامة، والقرب من رسول الله) يعون الأشياء والوقائع ويدركونها بشكل مختلف وربما مغاير عن باقي الناس؛ لسببين أساسيين:

الأوّل: أنّ وعي الناس للأحداث والوقائع غالباً ما تؤثّر فيه الأهواء النفسيّة والجهل وما إلى ذلك من صفات يتّصفون بها، لكنّ الأئمّة براء منها؛ لعصمتهم واستقامتهم، وبهذا فإنّ الأئمّة(عليهم السلام) يعون الأشياء وعياً عقليّاً محضاً خالصاً من المؤثّرات النفسيّة.

الثاني: أنّ الأئمّة(عليهم السلام) ولقربهم من رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ولمهمّة الإمامة التي اُنيطت بهم أخبرهم الرسول(صلى الله عليه وآله) بالحوادث والوقائع الاجتماعيّة العامّة والخاصّة التي ستقع لكلّ واحد منهم، ولهذا فالأئمّة (عليهم السلام) كانوا يعلمون بالأحداث ولا يُباغتون بها كما يُباغت الإنسان الاعتيادي.

ولكن ثمّة سؤال مهمّ في هذا الصدد، هو: هل كان الأئمّة (عليهم السلام)يعملون وتصدر عنهم ردود الأفعال على أساس علمهم هذا، أي:

171

على أساس معرفتهم السابقة بالأحداث والوقائع؟ وكيف إذن يتمّ التوفيق بين استجابتهم للأحداث وفق ذلك العلم وبين ما يُتراءى من توافق استجاباتهم مع الأسباب الظاهريّة المألوفة؟

والجواب المعقول عن هذا الاستفهام هو: أنّ الأئمّة كانوا يعملون ويخطّطون لقضايا المجتمع، ولِما تواجههم من أحداث بمستوى طبيعي من السلوك وفق السنن والعلل الظاهرة لها، وكان علمهم الخاصّ أمراً يوفّر لهم رؤيةً وعمقاً واقعيّاً ومستقبليّاً لإدراك ماهيّة القضايا الاجتماعيّة إدراكاً صحيحاً من شأنه تعزيز قدراتهم القياديّة ومهمّاتهم التغييريّة في المجتمع.

فالرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) كان يعلم بأنّ الكثير من أصحابه سوف يرتدّون بعده، وكان يعلم بنواياهم، ومستويات تديّنهم وإيمانهم ـ وقد ورد عن أئمّتنا(عليهم السلام): «ارتدّ الناس بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله) إلّا ثلاثة»(1) ـ ومع ذلك كان عمله وتخطيطه للاُمور يجري بشكل طبيعي وفق ظواهر الاُمور ومجريات السنن الطبيعيّة، فمثلاً عندما جهّز الرسول جيش اُسامة بن زيد وأمر بعض الصحابة بمرافقة الجيش تحت إمرته كان(صلى الله عليه وآله) يعلم بأنّ اُولئك (الصحابة) المأمورين بمرافقة الجيش سوف لن يخضعوا لأمره ولن يطيعوه، ولكنّه(صلى الله عليه وآله) لم يعمل بعلمه السابق عنهم، بل عمل بظاهر الحال ريثما تظهر النتائج بشكل طبيعي. والأمر نفسه عندما أفضى الرسول بعلمه لابن عمّه ووصيّه الإمام



(1) البحار 34: 274.

172

عليٍّ(عليه السلام) عن مآل الاُمور بعده، فأخبره عن ارتداد الناس وتنكّرهم لخلافته، وعلى الرغم من ذلك لم يعمل الإمام عليّ(عليه السلام) إلّا بظاهر الاُمور، وهكذا الأمر مع باقي الأئمّة(عليهم السلام)، فالإمام الحسين(عليه السلام)وعلى الرغم من علمه بأنّه سوف يقتل وتُسبى عياله ويُحال بينه وبين أهدافه، لكنّه أعلن لدى خروجه من مدينة جدّه صوب مكّة والعراق للثورة على حكومة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان عن أهداف موضوعيّة، ودعا الناس إلى مؤازرته رافعاً شعار الثورة على الظلم والانحراف المتمثّلين بحكومة يزيد، وداعياً إلى إقامة حكومة الإسلام العادلة، فقوله(عليه السلام): «إ نّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي»(1)، وقوله(عليه السلام): «يزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحرّمة معلن بالفسق ومثلي لا يبايع مثله»(2)، وكذلك قوله(عليه السلام): «ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربّه حقّاً حقّاً»(3)، وقوله(عليه السلام): «فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلّا بَرَماً»(4)، ونحو ذلك من الكلمات إن دلّت على شيء فإنّما تدلّ على المنهج الواقعيّ والموضوعي للأئمّة(عليهم السلام)في قيادة المجتمع، وهو منهج تربوي اُريد له أن يعطي ثماره في تكوين وعي الاُمّة على اُسس صحيحة وأصيلة.

 



(1) البحار 44: 329، الحديث 2.

(2) المصدر السابق: 325، الحديث 2.

(3) المصدر السابق: 381.

(4) المصدر السابق.

173

أمّا تفصيل الحديث عن الأئمّة(عليهم السلام) وفق التقسيم الثلاثي الذي عرفته عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، فنحن هنا نقتصر ـ لضيق المجال ـ على التحدّث عن أئمّة الدور الأوّل مؤجّلين الحديث عن أئمّة الدورين الأخيرين.

 

 

 

174

 

أئمّة الدور الأوّل

 

تمتدّ المرحلة الاُولى في قيادة الأئمّة للمجتمع ـ وهي مرحلة تفادي صدمة الانحراف ـ من بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله) وتستمرّ إلى حياة الإمام الرابع من قادة أهل البيت(عليهم السلام)، فيكون الإمام عليّ(عليه السلام)بدايةً لها، وهو أوّل أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) الذين شاهدوا بداية انحراف التجربة الإسلاميّة في نطاق الدولة وفيما بعدُ في نطاق المجتمع، بعد أن حِيزت الخلافة عنه وتلقّفها بعض الصحابة متنكّرين لوصيّة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ومجازفين بحداثة التجربة وجدّة عهد المسلمين بالإسلام، فوضعوا كيان الدولة على حافّة الانهيار، بعد أن اتخذت القيادة طريقاً غير طريقها الصحيح، وكان من الطبيعي ـ على حدّ تعبير اُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره) ـ أن ينمو الانحراف ويتّسع حتّى يحيط بالتجربة نفسها، فتنهار الزعامة التي تشرف على تطبيق الإسلام، وحينما تنهار الدولة وتنهار زعامة التجربة ينهار تبعاً لذلك المجتمع الإسلاميّ؛ لأنّ المجتمع الإسلاميّ يتقوّم بالعلاقات التي تنشأ على أساس الإسلام، فإذا لم تبقَ زعامة التجربة لترعى هذه العلاقات وتحمي وتقنّن قوانين لهذه العلاقات، فلا محالة ستتفتّت هذه العلاقات وتتبدّل بعلاقات اُخرى قائمة على أساس آخر غير الإسلام، وهذا معناه زوال المجتمع الإسلاميّ.

وبهذا فإنّ الأئمّة(عليهم السلام) ـ وبعد ظهور انحراف التجربة الإسلاميّة