345

 

دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص

الجهة الثالثة: في أنّه إذا دار الأمر بين التخصيص والتخصّص فهل يحمل على التخصّص لمكان أصالة العموم أو لا ؟ فلو قال: (أكرم كلّ عالم) وقال أيضاً: (لا تكرم زيداً) فهل يثبت بذلك عدم كون زيد عالماً حتّى يترتّب على ذلك نفي تمام آثار العلم وإثبات تمام آثار نقيض العلم، أو ضدّه الذي لا ثالث له، أو لا يثبت بذلك عدم علمه، وإنّما المتيقّن عدم وجوب إكرامه ؟ ويتأتّى عين هذا الكلام بالنسبة إلى المطلق والمقيّد. والمصاديق لهذا البحث في الاُصول والفقه كثيرة:

منها: تمسّك بعضهم في الاُصول على أنّ الأمر للوجوب بقوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ...﴾، فإنّه مبتن على كون التخصّص والتقيّد مقدّماً على التخصيص والتقييد، حيث يقال: إنّ الأوامر الاستحبابيّة الخارجة قطعاً عن تحت التحذير على مخالفته إن كانت أمراً حقيقة كان خروجها تقييداً وإلّا كان تخصّصاً، والثاني أولى من الأوّل.

ومنها: تمسّك بعضهم في الاُصول على القول بالصحيح بقوله تعالى: ﴿الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَر﴾، فإنّه مبتن على أولويّة التخصّص والتقيّد من التخصيص والتقييد، حيث يقال: إنّ الصلاة الباطلة الخارجة عن الناهية عن الفحشاء والمنكر قطعاً إن كانت صلاة حقيقة لزم التقييد وإلّا لزم التخصّص، والثاني أولى.

ومنها: ما يقال في الفقه في مسألة طهارة ماء الاستنجاء وعدمها، حيث إنّه ورد في ذلك بعض الأخبار، وذهب بعضهم إلى أنّه لا يدلّ في نفسه على طهارة ماء الاستنجاء وإنّما يدلّ على عدم لزوم الاجتناب عنه ولكن تثبت طهارة ماء

346

الاستنجاء بمسألة تقدّم التخصّص والتقيّد على التخصيص والتقييد؛ لأنّه لو قيل بنجاسته مع عدم لزوم الاجتناب عنه للزم تخصيص أدلّة لزوم الاجتناب عن النجس أو تقييدها، ولو قيل بطهارته كان خارجاً عن تلك الأدلّة تخصّصاً.

واُورد على ذلك بأنّه إن قلنا بطهارته استرحنا من تخصيص أدلّة الاجتناب عن النجس لكن لزم من ذلك تخصيص أدلّة تنجّس الماء القليل بملاقاة النجس، فدار الأمر بين تخصيص وتخصيص.

وأنت ترى أنّ أصل التقريب مع ردّه يكون مشياً على مسلك تقدّم التخصّص على التخصيص. ولذلك نظائر كثيرة في الفقه والاُصول.

وقد اختار المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) فيما نحن فيه عدم أولويّة التخصّص من التخصيص(1) بالرغم من أنّه استدلّ قبل ذلك في بعض الموارد على إثبات التخصّص بنفي التخصيص بأصالة العموم(2).

وأحسن ما يمكن أن يقال في مقام إثبات أولويّة التخصّص من التخصيص هو: أنّ قوله مثلاً: (يجب إكرام كلّ عالم) ينعكس بعكس النقيض إلى أنّ: (كلّ مَن لم



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 352 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات الشيخ المشكينيّ.

(2) هذا إشارة إلى ما مضى منه في الكفاية ـ ص 45 من نفس الطبعة ـ من الاستدلال على الصحيح بالأخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواصّ والآثار للمسمّيات مثل: الصلاة عمود الدين، أو معراج المؤمن، والصوم جُنّة من النار ونحو ذلك ممّا نقطع بعدم ترتّبها على العمل الباطل. وهذا يعني أنّ الصلاة الباطلة خارجة عن هذه العمومات وكذلك الصوم الباطل مثلاً، إمّا تخصيصاً لو قلنا بكون هذه الأسامي أسامي للأعمّ، أو تخصّصاً لو قلنا بكونها أسامي للصحيح، فأصالة التخصّص تقتضي كونها أسامي للصحيح.

347

يجب إكرامه فهو ليس بعالم)، وصدق القضيّة مستلزم لصدق عكس نقيضها، والأمارات حجّة في إثبات لوازمها. فقد ثبت بذلك أنّ كلّ مَن لا يجب إكرامه فهو ليس بعالم، والمفروض أنّ زيداً لا يجب إكرامه فيثبت أنّه ليس بعالم.

ولكن الشيخ الخراسانيّ(رحمه الله) يرى أنّه مادام أنّ حجّيّة مثبتات الأمارات إنّما هي ببناء العقلاء فهي تتبع بناءهم، وبناؤهم غير ثابت في هذا المقام، فمهما ثبتت قضيّة كلّيّة من الشارع لم يبنوا على عكس نقيضها، ولا مانع من التفكيك بين المتلازمين فيما لم يكن ثبوت أحدهما بالوجدان بل كان بالتعبّد، ولذا يقع التفكيك بينهما في باب الاُصول العمليّة.

وذكر المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في مقام التعليق على كلام المحقّق الخراسانيّ(قدس سره): أنّ هذا الكلام ـ أعني: عدم ثبوت بناء العقلاء على إثبات اللازم فيما نحن فيه ـ مقبول لكنّه لابدّ من إرجاع ذلك إلى وجه يناسب ذوق العرف، فإنّ التفكيك بين المتلازمين في باب التعبّد وإن كان ممكناً لكن ذلك بنفسه ليس ممّا يساعد عليه العرف؛ لعدم بنائه على الدقّة. نعم، لا مانع من صدور ذلك من الشارع الحكيم في تعبّداته، فيعبّدنا بأحد المتلازمين بدون أن يعبّدنا بالمتلازم الآخر، ولذا وقع التفكيك بينهما في باب الاُصول العمليّة. وأمّا التعبّدات الثابتة من قِبل العرف في الأخذ بما يكشف عنه ظاهر الكلام فالتفكيك فيها بين المتلازمين من حيث هو غير صادر منهم؛ لعدم بنائهم على الدقّة والالتفات إلى نكتة الفرق بين هذا اللازم وذاك اللازم.

نعم، يمكن التفكيك بينهما بنكتة خاصّة عقلائيّة تناسب الذوق العرفيّ، وتلك النكتة هي عبارة عن أنّ العرف إنّما يتمسّك بظهور كلام المولى في قبال الشبهات الحكميّة وفهم الأحكام الكلّيّة الإلهيّة التي يكون المولى بصدد إيصالها، لا في قبال

348

الشبهات الموضوعيّة(1)، ولذا قلنا بعدم حجّيّة العامّ في الشبهة المصداقيّة وحجّيّته في الشبهة الحكميّة، فعين الوجه الذي اقتضى عدم حجّيّة العامّ في الشبهة المصداقيّة اقتضى أيضاً عدم حجّيّة العامّ فيما نحن فيه في إثبات أنّ زيداً ليس عالماً. هذا ما أفاده المحقّق العراقيّ(قدس سره)(2).

والتحقيق: أنّ هناك فرقاً بين المقام وبين التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، فإنّ الوجه في عدم حجّيّة العامّ في الشبهة المصداقيّة ـ على ما مضى بيانه ـ هو القطع بأنّ المولى بما هو جاعل للحكم ليس عالماً بحال هذا المصداق المشكوك حاله عندنا، ولا عبرة بعلمه بذلك بما هو علاّم الغيوب. وأمّا فيما نحن فيه فنحن غير قاطعين بعدم كون المولى بما هو جاعل عالماً بحال هذا الفرد؛ لأنّ المفروض أنّنا نحتمل أنّه إنّما جعل أصل الحكم المخالف للعامّ لهذا الفرد من باب علمه بخروج هذا الفرد تخصّصاً من تحت العامّ، وكذا الكلام فيما لو فرض موضوع المخصّص آل فلان مثلاً لا خصوص واحد، وهذا يعني احتمال أنّ المولى قد اطّلع بما هو جاعل على حال زيد أو حال آل فلان فجعل الحكم، فالملاك الثابت لعدم حجّيّة العامّ في الشبهات المصداقيّة غير ثابت فيما نحن فيه.

ثمّ إنّه بالإمكان التفصيل في المقام بين باب العموم وباب الإطلاق، فلو ثبت الحكم بالعموم أمكن نفي عنوان الخاصّ عن الفرد المشكوك بعكس النقيض للعامّ، أمّا لو ثبتت كلّيّة الحكم بالإطلاق وعلمنا بخروج فرد عن الحكم تقييداً أو



(1) التي قد يكون المولى أيضاً جاهلاً بها.

(2) راجع المقالات، ج 1، المقالة: 32، ص 451 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم.

349

تخصّصاً لم يكن بناء العقلاء على الأخذ بعكس النقيض، وليس ذلك من باب التفصيل بين المتلازمين بل من باب علمنا بأنّ أصل الإطلاق في هذا الفرض غير مقصود يقيناً بالقياس إلى الفرد الذي قطعنا بخروجه عن الحكم؛ لأنّ هذا الفرد إن لم يكن داخلاً تحت الموضوع رأساً فلا معنى لقصد المولى عدم دخل خصوصيّة في الحكم في قبال هذا الفرد، وإن كان داخلاً تحته لكنّه خارج عن الحكم تخصيصاً فهذا كاشف عن دخل خصوصيّة في الحكم في قبال هذا الفرد، وعلى أيّ حال لم يقصد المولى الإطلاق من هذه الناحية، وهذا غير مسألة التفكيك بين المتلازمين(1).

وقد اتّضح بكلّ ما ذكرناه: أنّه في خصوص باب العموم لا يبعد القول بكون التخصّص أولى من التخصيص.

وهذا بقطع النظر عمّا سيأتي ـ إن شاء الله ـ من أنّ مقتضى القاعدة عدم حجّيّة العمومات الصادرة عن الشارع رأساً، فنأخذ في الخروج عن هذه القاعدة بالقدر المتيقّن.

ثمّ إنّ دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص يتصوّر بشكلين:

الأوّل: ما بحثناه حتّى الآن من فرض العلم بخروج فرد مثلاً عن الحكم مع الشكّ في أنّه هل هو خارج عن تحت عنوان العامّ فخروجه يكون بالتخصّص، أو



(1) لا يخفى أنّ هذا الكلام غريب، فإنّنا نثبت الإطلاق ابتداءً في كلام المولى لا بالنظر إلى قياس الحكم بهذا الفرد، وإنّما بالنظر إلى أنّ ظاهر أخذ عنوان في موضوع الحكم من دون أخذ خصوصيّة اُخرى عدم دخل أيّ خصوصيّة اُخرى في الحكم، وهذا الأمر محتمل الصدق فنأخذ به، ولازم ذلك كون خروج زيد عن الحكم بالتخصّص لا بسبب دخل خصوصيّة زائدة على عنوان الموضوع في الحكم.

350

داخل تحت عنوان العامّ فيكون خروجه تخصيصاً كما لو قال: (أكرم كلّ عالم) وقال: (لا يجب إكرام زيد) وكان زيد فرداً مشخّصاً شككنا في علمه وجهله.

والثاني: أن يتردّد الخارج المذكور في الدليل الخاصّ بين فردين: أحدهما داخل تحت عنوان العامّ والآخر خارج عنه، كما لو قال: (أكرم كلّ عالم) وقال: (لا يجب إكرام زيد) أو قال: (لا تكرم زيداً) وكان لدينا شخصان مسمّيان بزيد: أحدهما عالم والآخر جاهل فلم نعرف مَن هو المقصود بزيد، فهنا أيضاً دار الأمر في الحقيقة بين التخصيص والتخصّص؛ إذ لو كان المقصود هو زيد العالم فخروجه تخصيص، ولو كان المقصود هو زيد الجاهل فخروجه تخصّص، فما هي الوظيفة في هذا الفرض؟

والكلام في ذلك يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في أنّه هل يكون زيد العالم في هذا الفرض محكوماً بوجوب الإكرام أو لا؟ لا إشكال في أنّه محكوم بوجوب الإكرام؛ وذلك لأنّ المفروض دلالة العامّ على وجوب إكرامه، ولا شيء في قباله يوجب رفع اليد عنه إلّا قوله: (لا تكرم زيداً) والمفروض إجماله، ولا معنى لصيرورة المجمل معارضاً للمبيّن وموجباً لرفع اليد عنه.

وبكلمة اُخرى: إنّ العامّ بنفسه دالّ على شمول الحكم لزيد العالم، وقد شككنا في خروجه عن الحكم بالتخصيص، ومن الواضح أنّ المرجع عند الشكّ في خروج فرد من أفراد العامّ عن الحكم بالتخصيص هو العموم.

ولا يقاس ذلك بما مضى من فرض العلم بعدم وجوب إكرام زيد المشكوك علمه وجهله؛ إذ في ذلك الفرض كان خروج الفرد عن حكم العامّ مسلّماً وإنّما كان الشكّ في خروجه من موضوعه وعدمه، فكان ربّما يدّعى أنّ العامّ لا يدلّ على

351

خروجه من موضوعه. وأمّا فيما نحن فيه فالشكّ إنّما هو في خروج فرد العامّ عن حكمه وعدمه، ولا إشكال في أنّ المرجع في هذا الفرض هو العموم. نعم، لو كان قوله: (لا تكرم زيداً) متّصلاً بالعامّ لم يجز التمسّك بالعامّ؛ لاحتمال قرينيّة المتّصل، لكن ذلك خارج عن المبحث.

المقام الثاني: في أنّه هل يمكن أن يثبت بالعامّ ـ بعد ما مضى من الفراغ عن حجّيّته بالنسبة لزيد العالم ـ أنّ مراد المولى من (زيد) في قوله: (لا تكرم زيداً) هو زيد الجاهل أو لا ؟ ذهب المحقّق النائينيّ(قدس سره)(1) والسيّد الاُستاذ دامت بركاته(2)إلى الأوّل، وذلك لدلالة العامّ بالالتزام على أنّ مَن هو محرّم الإكرام هو زيد الجاهل؛ إذ المفروض أنّه دلّ على كون زيد العالم واجب الإكرام، ولا يعقل أن يكون إكرام زيد العالم واجباً وحراماً معاً، فيعلم أنّه إن كان أحدهما محرّم الإكرام ـ كما هو المستفاد من قوله: (لا تكرم زيداً) ـ فإنّما هو زيد الجاهل، فالعامّ في الحقيقة رافع لإجمال قوله: (لا تكرم زيداً).

ولا يخفى أنّ مبحث رفع إجمال المجمل بالمبيّن الذي يعارض أحد محتمليه مبحث سيّال وله صغريات كثيرة من أوّل الفقه إلى آخره ولا يختصّ بما نحن فيه من ورود عامّ وخاصّ مجمل، بل ربّما يفرض ورود النصّ على إكرام زيد العالم مثلاً وورود قوله على الإجمال: (لا تكرم زيداً)، فنقول: هل يمكن رفع إجماله بذلك النصّ أو لا ؟



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 458 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

(2) راجع محاضرات الفيّاض، ج 5، ص 243 بحسب طبعة دار الهادي بقم.

352

كما ربّما يفرض أيضاً كلا الكلامين مجملاً من جهة ومبيّناً من جهة اُخرى، فيرفع إجمال كلّ واحد منهما بالآخر، وذلك كما يقال في حديثين واردين في باب تحديد الكرّ بالوزن: أحدهما صحيحة محمّد بن مسلم(1)، والآخر مرسلة ابن أبي عمير(2)، دلّ الأوّل على أنّ الكرّ ستمئة رطل والثاني على أنّه ألف ومئتا رطل.

وتوضيح الكلام فيه: أنّ الرطل على ثلاثة أقسام: عراقيّ ومكّيّ ومدنيّ، والمكّيّ ضِعف العراقيّ، فألف ومئتا رطل عراقيّ يساوي ستمئة رطل مكّيّ، كما أنّهما مساويان لتسعمئة رطل مدنيّ؛ لأنّ الرطل المكّيّ يساوي رطلاً ونصفاً من الرطل المدنيّ، وعلى هذا فصحيحة محمّد بن مسلم تدلّ على أنّ الكرّ لا يكون أزيد من ألف ومئتي رطل عراقيّ، فإنّه إن كان المراد من الرطل فيها الرطل المكّيّ ساوى الكرّ ألف ومئتي رطل عراقيّ، وإن كان المراد منه غير ذلك كان أقلّ من ذلك المقدار، كما أنّ مرسلة ابن أبي عمير تدلّ على أنّ الكرّ لا يكون أقلّ من ستمئة رطل مكّيّ، فإنّه إن كان المراد من الرطل فيها الرطل العراقيّ الذي هو أخفّ الأرطال ساوى الكرّ ستمئة رطل مكّيّ، وإن كان المراد منه غير ذلك كان الكرّ أزيد من ذلك. إذن فمقتضى رفع إجمال كلّ منهما بالآخر حمل الصحيحة على الرطل العراقيّ والمرسلة على المكّيّ، وعليه فينبغي الكلام في أصل أنّه هل يمكن رفع إجمال أحد الحديثين بالدلالة الالتزاميّة للآخر أو لا ؟



(1) الوسائل، الباب 11 من الماء المطلق، ح 3، عن أبي عبدالله(عليه السلام): «والكرّ ستمئة رطل».

(2) المصدرالسابق، ح 1 عن أبي عبدالله(عليه السلام): «الكرّ من الماء الذي لا ينجّسه شيء ألف ومئتا رطل».

353

ولنتكلّم أوّلاً في المجمل الذي كان المبيّن معارضاً لأحد محتمليه لكي نرى هل يثبت محتمله الآخر بالدلالة الالتزاميّة أو لا، ويظهر الحال بعد ذلك بالنسبة للمجملين. فنقول:

تارة: نفترض أنّ دليلاً مّا كان مفاده أساساً هو الجامع بين حكمين ولم يكن يشر إلى أحدهما المعيّن عند الله والمردّد عندنا، والدليل المبيّن نفى أحد فردي الجامع، كما لو ورد ما يدلّ على أصل وجوب الصلاة لدى الزوال وورد دليل بلحاظ يوم الجمعة ينفي وجوب صلاة الظهر، ولا إشكال في أنّه يتعيّن هنا الفرد الآخر وهو في هذا المثال صلاة الجمعة، أو ورد دليل ينفي صلاة الجمعة فتثبت صلاة الظهر؛ إذ من الواضح أنّ ثبوت الجامع مع انتفاء أحد فرديه يلازم ثبوت الفرد الآخر، وهذا في الحقيقة خارج عمّا نحن فيه؛ لأنّ الدليل على الجامع ليس مجملاً.

واُخرى: نفترض أنّ الدليل مجمل أشار إلى فرد معيّن عند الله وإن كان مجهولاً عندنا كما في مثال: (لا تكرم زيداً)، فإنّه يشير إلى فرد معيّن اسمه زيد، ونحن لم نعرف هل كان مقصوده زيد العالم أو زيد الجاهل فقسنا ذلك إلى قوله: (أكرم كلّ عالم). وقد مضى أنّ المحقّق النائينيّ والسيّد الاُستاذ ذهبا إلى ثبوت الحكم الخاصّ متوجّهاً إلى زيد الجاهل ببركة الدلالة الالتزاميّة للعامّ(1).

والواقع هو: أنّنا تارة: نفترض القطع بإرادة الجدّ في قوله: (لا تكرم زيداً) وهنا يتمّ ما ذكراه؛ لأنّ حديث (لا تكرم زيداً) يدور أمره بين أن يكون كذباً، أو يكون



(1) لأنّ الشيخ النائينيّ(رحمه الله) بان على حجّيّة لوازم الأمارات، والسيّد الخوئيّ(رحمه الله) جعل حديثه فعلاً مبنيّاً على فرض حجّيّة لوازم الأمارات.

354

تقيّةً، أو يكون محرّماً لإكرام زيد العالم جدّاً، أو يكون محرِّماً لإكرام زيد الجاهل جدّاً، والأوّل منفيّ بوثاقة السند وحجّيّته، والثاني منفيّ بالقطع بالجدّ، والثالث منفيّ بحجّيّة العموم في (أكرم كلّ عالم)، فانحصر الأمر في الرابع وهو حرمة إكرام زيد الجاهل.

واُخرى: نفترض أنّ الجدّ في قوله: (لا تكرم زيداً) غير قطعيّ، كما لو افترضنا احتمال النهي عن إكرام زيد العالم الذي كان مخالفاً لمباني العامّة مثلاً تقيّة، وعندئذ نقول: لا مجال لإجراء أصالة الجدّ أو أصالة عدم التقيّة في قوله: (لا تكرم زيداً) لحمله على زيد الجاهل، فإنّ إجراءها بمعنى إثبات الجدّ أو عدم التقيّة تعبّداً يعني أنّ المدلول الاستعماليّ للكلام يكشف عن المراد الجدّيّ. إذن فهذا الأصل لا يمكن أن يعيّن المدلول الاستعماليّ؛ إذ ليس هو إلّا بمعنى أماريّة المدلول الاستعماليّ على الجدّ، فلابدّ أن نثبت أوّلاً أنّ المدلول الاستعماليّ هو حرمة إكرام زيد الجاهل حتّى تثبت بعد ذلك بأصالة الجدّ حرمة إكرامه، في حين أنّ هذا غير ثابت قبل أصالة الجدّ وعدم التقيّة، إذن فلا سبيل إلى حجّيّة أصالة الجدّ وعدم التقيّة في المقام(1).



(1) قد تقول: إنّ أصالة الجهة تبقى على حجّيّتها وتثبت على الإجمال حرمة إكرام أحدهما، وقد أصبح العامّ الدالّ على وجوب الإكرام مخالفاً لهذا العلم الإجماليّ في أحد طرفيه والبراءة مخالفة له في طرفه الآخر، فيتعارضان ويتساقطان.

والجواب يكون: إمّا ببيان: أنّ أصالة العموم لا تسقط بمعارضة الأصل؛ لكونها أمارة، ويختصّ أصل البراءة بالسقوط منعاً عن لزوم المخالفة القطعيّة، أو ببيان: أنّ أصل البراءة في كلا الطرفين موجود، والبراءة في كلا الطرفين من سنخ واحد، فيسقطان بثبوت الإجمال الداخليّ لدليل البراءة وتبقى أصالة العموم على حجّيّتها.

355

وقد اتّضح بهذا البيان الفرق الكامل بين ما لو كان الدليل دالّاً على الجامع وثبت انتفاء أحد فرديه فهنا يثبت الفرد الآخر بلا إشكال، وبين ما لو كان الدليل مجملاً بين معنيين وأصالة الجهة انصبّت لإثبات جدّيّة أحد المعنيين المعيّن عند الله والمردّد عندنا.

وإن أردت التوضيح بذكر مثال آخر قلنا: لو قامت البيّنة مثلاً على نجاسة أحد الإنائين وعلمنا بطهارة واحد معيّن منهما نعرفه، فإن كانت البيّنة تشهد بالجامع بين النجاستين فلا بأس بضمّ مفادها إلى العلم بطهارة واحد منهما بالخصوص لتثبت بذلك نجاسة الفرد الآخر، أمّا لو كان مدلول البيّنة نجاسة أحدهما بالخصوص لا الجامع بين النجاستين كما لو قال: (إنّ إناء زيد نجس) وكان إناء زيد معيّن عنده غير معيّن عندنا، ففي هذا الفرض لا تدلّ البيّنة بالالتزام ـ ببركة ضمّها إلى العلم بطهارة هذا الفرد ـ كون ذاك الفرد نجساً؛ وذلك لأنّ نجاسة ذاك الفرد ليست من لوازم البيّنة على كلّ تقدير؛ إذ لو كان مراد البيّنة في الواقع خصوص ما علمنا بطهارته لم تكن نجاسة ذاك الفرد ملازمة لنجاسة الآخر كما هو واضح، ففي هذا الفرض تسقط البيّنة عن الحجّيّة رأساً.

هذا في البيّنة، ويأتي عين ما ذكرناه في كلّ أمارة لم تنصبّ على الجامع، بل انصبّت على فرد معيّن عند الله احتملنا تشخّصه في الفرد الذي ثبت فيه خلاف مفاد تلك الأمارة.

وأصالة الجهة فيما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ مفادها جدّيّة المدلول الاستعماليّ المعيّن عند المتكلّم والمردّد عندنا بين ما ثبت خلافه وهو جدّيّة حرمة إكرام زيد العالم، وما لم يثبت خلافه وهو جدّيّة المراد الاستعماليّ الآخر وهو حرمة إكرام زيد الجاهل، وبهذا لا يمكن إثبات حرمة إكرام زيد الجاهل؛ إذ

356

ليس ذلك ملازماً لمفاد أصالة الجدّ على كلّ تقدير(1).

ولا يتوهّم وقوع المعارضة بين أصالة الجدّ في الخاصّ وأصالة الجدّ في العامّ، فإنّ المنافاة بينهما غير معلومة؛ لاحتمال صدق كلتيهما، بأن يكون مراد المتكلّم من الخاصّ هو خصوص الفرد الجاهل، فيبقى العامّ على حجّيّته بالنسبة إلى زيد العالم؛ لعدم معلوميّة مزاحم له، فأصالة الجهة تجري في العامّ بلا إشكال وتصير حاكمة على أصالة الجهة في الخاصّ؛ لأنّها توجب العلم تعبّداً بخطأ أصالة الجهة في الخاصّ على أحد التقديرين، والمفروض عدم تماميّة الدلالة الالتزاميّة حتّى نأخذ بالتقدير الآخر، فتسقط أصالة الجهة في الخاصّ عن الحجّيّة رأساً.

وما ذكرناه يجري في جميع موارد رفع إجمال أحد الدليلين بمبيّنيّة الدليل الآخر إلّا ما كان من قبيل ما مضى من مثال الكرّ الذي لا يمكن قياسه بما نحن فيه؛ لثبوت الدلالة الالتزاميّة على جميع التقادير، فإنّ حديث ستمئة رطل يدلّ ـ على جميع محتملاته الثلاثة ـ على عدم كون الكرّ أزيد من ألف ومئتي رطل عراقيّ، وحديث ألف ومئتي رطل يدلّ ـ على جميع محتملاته الثلاثة ـ على عدم كون الكرّ أقلّ من ستمئة رطل مكّيّ.

هذا تمام الكلام بالنسبة لحمل المجمل على المبيّن.



(1) قد أبطل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) هذا الكلام في تقريرالسيّد الهاشميّ ـ حفظه الله ـ في الجزء الثالث من بحوث في علم الاُصول ـ ص 446 ـ بأنّ هذا الإشكال غير تامّ رغم أنّنا كنّا نبني عليه سابقاً؛ وذلك لأنّ الظهور في الجدّيّة وعدم التقيّة صفة مضافة إلى نفس الكلام لا إلى المدلول الاستعماليّ له، بمعنى أنّ الدالّ على الجدّيّة وعدم التقيّة إنّما هو ظهور حال المتكلّم في أنّ كلامه الذي يتكلّم به ليس فارغاً وتقيّة، لا أنّ المدلول عليه هو نفس المدلول الاستعماليّ ليقال: إنّه مردّد بين ما ثبت بطلانه وما هو غير محرز الثبوت.

357

 

الكلام في العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص

الجهة الرابعة: في جواز الأخذ بالعمومات والإطلاقات الواردة في الأحكام قبل الفحص عن المخصّص وعدمه.

يمكن أن يستدلّ على عدم جواز ذلك باُمور:

الأوّل: الإجماع.

وبما أنّ من المحتمل كون مدركه بعض ما ذكروه من الوجوه يكون ذلك الإجماع في قوّة تلك المدارك، فلابدّ من النظر فيها ولا يصحّ الاستدلال بنفس الإجماع.

الثاني: الأخبار التي يستدلّ بها لوجوب الفحص في الشبهات الحكميّة وعدم جواز الرجوع قبله إلى البراءة.

والتحقيق: عدم تماميّة الاستدلال بها فيما نحن فيه بما لها من الألسنة المختلفة وإن استدلّ السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بتلك الأخبار.

واستدلّ المحقّق العراقيّ(قدس سره) ببعضها، حيث إنّه(قدس سره) ذكر خصوص ما سنذكره من الطائفة الأخيرة في مقام الاستدلال على المقصود، ولا يبعد أن يكون ذلك من باب المثال، بأن يكون مقصوده الاستدلال بمطلق الأخبار التي يستدلّ بها على وجوب الفحص في باب البراءة. وعلى أيّ حال فالأخبار الدالّة على وجوب الفحص على طوائف عديدة:

منها: ما ورد بلسان الأمر بالتعلّم والتفقّه(1).



(1) راجع الكافي، ج 1، الباب الأوّل من كتاب فضل العلم.

358

وأنت ترى أنّه لا يتمّ الاستدلال بذلك على المدّعى فيما نحن فيه، فإنّه إنّما يدلّ على وجوب الفحص فيما نحن فيه بعد الفراغ عن عدم حجّيّة العامّ قبل الفحص، فيدلّ على أنّه إن لم يكن العامّ حجّة قبل الفحص لم يجز للإنسان الجلوس في بيته وعدم التعلّم والتفقّه. وأمّا لو فرض حجّيّة العامّ قبل الفحص فهذا بنفسه يُثبِت للإنسان العلم والفقه، فله أن لا يفحص عن المخصّص ويجلس في بيته، لا بأن يترك العمل رأساً بل بأن يعمل بالعامّ، فإنّه يصدق عليه بعد فرض حجّيّة العامّ أنّه تَعَلَّمَ وتفقَّه، فالتمسّك بذلك في إثبات عدم حجّيّة العامّ قبل الفحص عن المخصّص دوريّ.

ومنها: ما ورد بلسان الذمّ على ترك السؤال، كما ورد في مَن غسّل مجدوراً أصابته جنابة فكزّ فمات: قتلوه، ألا سألوا ؟ ألا يمّموه؟!(1).

وهذا أيضاً ـ كما ترى ـ حاله حال سابقه، فإنّه بناءً على حجّيّة العامّ قبل الفحص لو اُوْرِد على المكلّف الآخذ به: أنّه لماذا لم يسأل عن الحكم فسيقول: بأ نّي سألتُ فاُجبتُ بالعامّ وكان العامّ حجّة لي.

ومنها: ما ورد بلسان هلاّ تعلّمت؟ كما ورد: من أنّه يقال للعبد يوم القيمة: هل علمت؟ فإن قال: نعم، قيل: فهلاّ عملت، وإن قال: لا، قيل له: هلاّ تعلّمت حتّى تعمل؟(2).



(1) الوسائل، ب 5 من التيمّم، ح 1.

(2) روى في البحار عن مجالس المفيد بسند صحيح عن مسعدة بن زياد قال: «سمعت جعفر بن محمّد(عليه السلام)وقد سُئل عن قول الله عزّوجلّ (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَة﴾ فقال: إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: أكنت عالماً؟ فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلّمت حتّى تعمل. فيخصمه وذلك الحجّة البالغة». البحار، ج 1، ص 178.

359

وهذا أيضاً ـ كما ترى ـ كسابقيه؛ إذ لو كان العبد عمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص وفرض حجّيّته يكون له أن يجيب بأ نّي تعلّمت العامّ وكان حجّة فعملت به.

والخلاصة: أنّ الاستدلال بأخبار وجوب الفحص المستدلّ بها في باب البراءة على المدّعى فيما نحن فيه دوريّ.

الثالث: العلم الإجماليّ بوجود المخصّصات والمقيّدات لعمومات الكتاب والسنّة ومطلقاتها.

وقد اُورد على ذلك بأمرين:

الأوّل: أنّ الفحص ليس رافعاً لأثر العلم الإجماليّ، أعني: عدم جواز العمل بالعامّ؛ وذلك لأنّه بعد الفحص والظفر بمقدار من المخصّصات بحسب إمكاننا لا يحصل لنا القطع بعدم وجود مخصّص آخر لم نجده، بل من المحتمل أن يكون لباقي العمومات مخصّص لم يصلنا، فباقي العمومات لم يسقط بعدُ عن طرفيّته للعلم الإجماليّ.

والجواب: أنّا كما نعلم إجمالاً بوجود مخصّصات في الواقع أعمّ ممّا وصلتنا وما لم تصل، كذلك نعلم إجمالاً بوجود مخصّصات في الكتب الأربعة مثلاً، وعدد المعلوم بالعلم الإجماليّ الثاني مساو لعدد المعلوم بالعلم الإجماليّ الأوّل، وهذا مرجعه ـ لا محالة ـ إلى العلم الإجماليّ بوجود المخصّصات في الكتب الأربعة والشكّ البدويّ بوجود مخصّص آخر عدا المعلوم إجمالاً في الواقع، فالعلم الإجماليّ الأوّل ـ لا محالة ـ منحلّ بالعلم الإجماليّ الثاني، نظير ما لو علمنا إجمالاً بوجود نجس واحد بين ألف إناء وعلمنا إجمالاً بوجود نجس واحد بين قسم معيّن منها، فإنّ العلم الإجماليّ الكبير ينحلّ ـ لا محالة ـ بالعلم الإجماليّ الصغير كما سيأتي تفصيله ـ إن شاء الله ـ في مبحث العلم الإجماليّ.

360

الثاني: ما ذكره المحقّق الخراسانيّ(قدس سره): من أنّ العلم الإجماليّ بوجود المخصّصات لا يقتضي وجوب الفحص إلّا بمقدار الظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال، فيلزم عدم وجوب الفحص بعد الظفر بهذا المقدار(1).

وهذا الإشكال متين لا مناقشة فيه.

إلّا أنّ المحقّق العراقيّ(قدس سره) لم يقبله؛ وذلك لأنّ مبناه في باب انحلال العلم الإجماليّ بالعلم التفصيليّ إنّ العلم التفصيليّ لا يحلّ حقيقةً العلم الإجماليّ إلّا مع فرض القطع بأنّ ما علمه إجمالاً هو عين ما علمه تفصيلاً، وإلّا فليس انحلال العلم الإجماليّ بالعلم التفصيليّ حقيقيّاً وإنّما يكون انحلاله به حكميّاً، والانحلال الحكميّ يختصّ بما إذا كان العلم التفصيليّ ثابتاً من أوّل حدوث العلم الإجماليّ، من باب أنّ العلم الإجماليّ لا يمكنه أن يبعث بالتنجيز في دائرة يكون بعض أطرافها بقدر المعلوم بالإجمال منجّزاً بالعلم التفصيليّ، ويرى أنّ هذا الانحلال الحكميّ مختصّ بما إذا كان هذا التنجيز الثاني معاصراً لأوّل زمان حدوث ذاك العلم الإجماليّ، ولكن فيما نحن فيه يكون العلم التفصيليّ بسبب الفحص متأخّراً عن العلم الإجماليّ، وبعد أن أثّر العلم الإجماليّ في تنجيز الأطراف ليس يرتفع أثره بسبب طروّ العلم التفصيليّ في بعض الأطراف(2).

وقد أورد(رحمه الله) عين هذا الإشكال على ما اُجيب به عن شبهة الأخباريّين في



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 353 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.

(2) راجع المقالات، ج 1، المقالة: 33، ص 455 ـ 456 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم.

361

أصالة البراءة، حيث أشكل الأخباريّون على الاُصوليّين في أصل البراءة في الشبهات الحكميّة: بأنّ العلم الإجماليّ الكبير بوجود تكاليف إلزاميّة مانع عن جريان البراءة، واُجيب من قِبل الاُصوليّين: أنّ هذا العلم الإجماليّ ينحلّ بالعلم التفصيليّ الحاصل بالتدريج بالتكاليف الإلزاميّة بعدد المعلوم بالإجمال، فأورد على ذلك المحقّق العراقيّ(قدس سره) بمنع كون هذا العلم التفصيليّ حالّاً للعلم الإجماليّ؛ لكونه متأخّراً عنه زماناً. ومن هنا وقع(رحمه الله)في التكلّف في مقام دفع شبهة الأخباريّين(1).

أقول: سيأتي ـ إن شاء الله ـ في محلّه منع عدم انحلال العلم الإجماليّ حقيقة بالعلم التفصيليّ ما لم يكن المعلوم بالإجمال معنوناً بعنوان خاصّ غير مشتمل عليه العلم التفصيليّ، وبناءً على الانحلال الحقيقيّ لا فرق بين فرض مقارنة العلم التفصيليّ للعلم الإجماليّ وتأخّره عنه.

وأمّا ما ذكره(رحمه الله) في المقام بعد فرض الانحلال حكميّاً: من أنّ التمسّك بأصالة العموم بعد العثور ـ بالفحص ـ على المقدار المعلوم بالإجمال حاله حال التمسّك بأصالة البراءة بعد العثور ـ بالفحص ـ على المقدار المعلوم بالإجمال من التكاليف الإلزاميّة في أنّ الانحلال الحكميّ لا يجري لدى تأخّر العلم التفصيليّ عن العلم الإجماليّ، فيرد عليه: أنّه لو تمّ ما ذكره في مسألة البراءة لا يتمّ في المقام؛ للفرق



(1) والذي تكلّفه(رحمه الله) هو دعوى: أنّ العلم الإجماليّ تعلّق منذ البدء بما سنظفر به بعد الفحص المتعارف، فبعد الفحص وعدم الظفر في أيّ مورد ينكشف خروج ذاك المورد عن الطرفيّة للعلم الإجماليّ من أوّل الأمر، وقال(رحمه الله)بذلك من دون فرق بين باب الفحص عن المخصّص للعامّ أو الفحص عن التكليف في مقابل أصالة البراءة. راجع نفس المصدر الذي أشرنا إليه آنفاً.

362

بينهما سواء سلكنا في تنجّز العلم الإجماليّ مسلك المشهور أو سلكنا فيه مسلك المحقّق العراقيّ(رحمه الله):

أمّا مسلك المشهور: فهو أنّ منجّزيّة العلم الإجماليّ للموافقة القطعيّة تكون بملاك تعارض الاُصول في الأطراف وتساقطها.

وعلى هذا المبنى يكون الفرق واضحاً بين ما نحن فيه ومبحث البراءة؛ لأنّه قد يقال في مبحث البراءة: لو تحقّق علم إجماليّ وسقطت الاُصول في الأطراف بالمعارضة، ثمّ تحقّق علم تفصيليّ في بعض الأطراف وقلنا بأنّه لا يحلّ العلم الإجماليّ حلاًّ حقيقيّاً عجز هذا العلم عن حلّه حلاًّ حكميّاً؛ لأنّ ملاك التنجّز الذي هو تساقط الاُصول ثابت بعدُ على حاله؛ لأنّ الاُصول في الأطراف الاُخرى لا زالت معارضة للاُصول في الأطراف التي ظفرنا فيها بالتكليف ولو بلحاظ ما قبل الظفر، والأصل الذي مات بالمعارضة لا يحيى بعد الموت كما يأتي برهانه ـ إن شاء الله ـ في محلّه.

وأمّا في باب العمومات فالاُصول اللفظيّة لم تتساقط بالمعارضة حتّى يقال: إنّها لا ترجع بعد السقوط أو أنّ التعارض لا زال محفوظاً، وإنّما العلم الإجماليّ بوجود مخصّصات بعدد خمسين مثلاً فيما بأيدينا من الروايات والتي لو فحصنا عنها لوجدناها أوجب خروج خمسين من تلك العمومات عن دليل الحجّيّة وهو بناء العقلاء؛ لعدم بنائهم على حجّيّة عمومات وصلت مخصّصاتها ولو بالعلم الإجماليّ، وبالنتيجة عجزنا عندئذ عن التمسّك بأصالة العموم في جميع الأطراف، لا بمعنى التعارض فيما بينها بل بمعنى اشتباه الحجّة باللاحجّة، فإن علم بعد ذلك تفصيلاً في خمسين من العمومات معيّنة أنّها مخصَّصة فقد سقط اشتباه الحجّة باللاحجّة وعملنا بالباقي.

363

نعم، لو كنّا نؤمن بأنّ مجرّد العلم الإجماليّ بمخصّصات يخرج تمام أطراف العلم الإجماليّ عن بناء العقلاء على الحجّيّة، حتّى مع فرض وجود علم تفصيليّ مقارن لحدوث العلم الإجماليّ بذاك المقدار من المخصّصات كان معنى ذلك سقوط كلّ العمومات في المقام، لكن هذا ما لا يلتزم به المحقّق العراقيّ نفسه في فرض تقارن العلمين.

وأمّا مسلك المحقّق العراقيّ(رحمه الله): فهو أنّ العلم الإجماليّ بنفسه علّة تامّة لتنجيز الموافقة القطعيّة.

وقد يتخيّل أنّه على هذا المبنى لا يبقى فرق بين ما نحن فيه وباب البراءة.

لكن التحقيق ثبوت الفرق بينهما أيضاً لنفس النكتة التي أشرنا إليها، ففي باب البراءة يفترض أنّ العلم الإجماليّ بالتكاليف نجّز الأطراف مباشرة بسبب طريقيّته المحض إلى نفس التكاليف، فسقطت الاُصول، والعلم التفصيليّ المتأخّر في بعض الأطراف لا يُحيي الأصل الذي سقط بالتنجيز سابقاً. نعم، لو كان العلم التفصيليّ مقارناً سقط العلم الإجماليّ حكماً؛ لأنّه لا يمكنه تنجيز المعلوم على كلّ تقدير؛ إذ على بعض التقادير يكون معلوماً بالعلم التفصيليّ.

وأمّا العلم الإجماليّ بالمخصّصات فيحقّق الموضوع لسقوط العمومات المخصَّصة، بسبب عدم بناء العقلاء على حجّيّة عموم يكون مخصّصه واصلاً ولو بالعلم الإجماليّ، وبسببه نرجع مرّة اُخرى إلى اشتباه الحجّة باللاحجّة من العمومات، وحينما انتهينا بالفحص إلى خمسين من العمومات مثلاً مخصّصة كشفنا عن أنّها لم تكن حجّة من أوّل الأمر وارتفع اشتباه الحجّة باللاحجّة.

نعم، لو كنّا نؤمن بأنّ مجرّد العلم الإجماليّ بمخصّصات يخرج تمام أطراف العلم الإجماليّ عن بناء العقلاء على الحجّيّة، حتّى مع فرض وجود علم تفصيليّ مقارن بذاك المقدار من المخصّصات كان معنى ذلك سقوط العمومات تماماً في المقام، لكن هذا ما لا يلتزم به المحقّق العراقيّ نفسه في فرض تقارن العلمين.

364

وفي نهاية البحث مع المحقّق العراقيّ(قدس سره) نشير إلى أنّه لو فرض أنّ أحداً تفحّص في الروايات قبل بلوغه سنّ التكليف وظفر بمقدار المعلوم بالإجمال لم يبق مورد لما أشار إليه المحقّق العراقيّ(رحمه الله) من عدم تأثير العلم المتأخّر في الانحلال الحكميّ، ولم يبق موضوع لتأثير العلم الإجماليّ بشأنه بعد البلوغ بالنسبة لباقي العمومات.

الرابع: ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) دليلاً لوجوب الفحص وادّعى أنّه مختصّ بباب البراءة ولا يأتي فيما نحن فيه، وهو: أنّ العقل حاكم بأنّ وظيفة المولى إنّما هي بيان الأحكام وجعلها في معرض الوصول إلى العبد بالفحص، وليست من وظيفته أن يطرق باب كلّ واحد من بيوت عبيده ويوصل الأحكام إليه، ووظيفة العبد هي التفحّص عن أحكام المولى لا الجلوس في البيت وإجراء البراءة عن كلّ تكليف شكّ فيه. نعم، لو شكّ في تكليف وفحص عنه ولم يظفر به كان له عندئذ التمسّك بالبراءة(1).

وذكر السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ أنّ هذا الوجه يأتي فيما نحن فيه أيضاً، فإنّه بعد أن علمنا أنّ من دأب المولى وديدنه تأخير المخصّصات والمقيّدات لم يجز التمسّك بالعموم قبل الفحص وأصبح حاله حال البراءة(2).

أقول: التحقيق أنّ هذا الوجه إنّما يتمّ فيما نحن فيه ولا يتمّ في باب البراءة، فإنّ هذا الوجه في باب البراءة إنّما يمنع عن التمسّك بالبراءة العقليّة لا البراءة



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 480 ـ 481 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(قدس سره)، وفوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 540 ـ 541 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) راجع المحاضرات للفيّاض، ج 5، ص 250 ـ 251، إلّا أنّه لم يتمسّك بحكم العقل بوجوب الفحص، بل تمسّك بعدم إحراز بناء العقلاء على الحجّيّة قبل الفحص مادام أنّ دأب الشريعة وديدنه الفصل بين العمومات والمخصّصات.

365

الشرعيّة، فإنّ العقل يحكم بأنّ موضوع قبح العقاب بلابيان يرتفع بصرف بيان الحكم وجعله في معرض الوصول إلى العبد، وتقصير العبد في الفحص لا يوجب قبح العقاب. وأمّا إذا إذن المولى بنفسه في ارتكاب ما لا يعلم فالعقل لا يحكم بعد ذلك بوجوب الفحص وتحصيل العلم، بل يقول: من الجائز قبل الفحص ارتكاب غير معلوم الحرمة لإجازة المولى بنفسه ذلك، ولماذا يفحص العبد حتّى يحصل له العلم ويخرج عن موضوع جواز ارتكاب ما لا يعلم حرمته؟ فهذا الوجه غير تامّ في باب البراءة وإنّما هو تامّ فيما نحن فيه بالتقريب الذي ذكره السيّد الاُستاذ دامت بركاته.

بل لا يبعد أن يقال: إنّ كون دأب المولى وديدنه تأخير المخصّصات والمقيّدات في غالب الموارد، وذكر عامّ أو مطلق في كثير من الأوقات بدون إرادة العموم أو الإطلاق منه لا يوجب عدم حجّيّة العامّ والمطلق قبل الفحص عند العقلاء، بل يوجب سقوطهما عن الحجّيّة رأساً، فمقتضى القاعدة عدم حجّيّة عمومات الكتاب والسنّة وإطلاقاتهما رأساً، والقدر المتيقّن من الخارج عن مقتضى القاعدة بسيرة المتشرّعة في زمان الأئمّة(عليهم السلام) ـ الممضاة من جانبهم ـ هو العامّ والمطلق بعد الفحص عن المخصّصات والمقيّدات.

نعم، نفس مَن كان يسأل الإمام(عليه السلام) عن شيء ويسمع الجواب ببيان حكمه لم يكن عليه الفحص عن مخصّص هذا الحكم، بل كان يعلم أنّ تكليفه الفعليّ هو العمل بهذا الحكم إمّا لأنّه لا مخصّص له، أو لأنّ عنوان التخصيص غير منطبق بشأن هذا الشخص مثلاً. وأمّا الشخص الآخر الذي كان يروى له هذا الحديث أو يراه في كتاب هذا الراوي فحال هذا الخبر بالنسبة له حال سائر الأخبار، ولابدّ له من الفحص عمّا تحت اليد حتّى يطمئنّ بعدم وجود مخصِّص فيما بيده من الأخبار.

هذا تمام الكلام في وجوب الفحص عن المخصّص.

366

 

الكلام في شمول الخطاب للمعدومين والغائبين

الجهة الخامسة: في شمول الخطاب للمعدومين والغائبين وعدمه.

لا إشكال في شمول الأحكام الثابتة بالعموم للغائبين والمعدومين إذا لم تبيّن بلسان الخطاب، كَأَن يقال: (كلّ مستطيع يجب عليه الحجّ). إنّما الكلام فيما يكون بلسان الخطاب، كالمشتمل على حروف النداء الموضوعة لذات الخطاب، أو على الضمائر التي اُدمج فيها معنى الخطاب، أو هيئة تدلّ على الخطاب، هل يعمّ ذلك المعدومين والغائبين، أو تكون أداة الخطاب قرينة على الاختصاص بالحاضرين أو الموجودين، فحرف النداء مثلاً في قوله: (يا أيّها الناس) قد خصّت مدخولها بالحاضرين أو الموجودين؟

اختلفوا في ذلك على أقوال:

أحدها: ما ذهب إليه المشهور من عدم العموم.

وثانيها: ما ذهب إليه المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) وهو العموم(1).

وثالثها: ما ذهب إليه المحقّق النائينيّ(قدس سره) من التفصيل بين القضايا الخارجيّة فلا تشمل، والقضايا الحقيقيّة فتشمل(2).



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 357 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 490 ـ 491 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 550 ـ 551 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

367

ولنقدّم قبل الشروع في بيان ما هو الحقّ أمرين:

 

حقيقة الخطاب:

الأوّل: في حقيقة الخطاب.

اشتهر في الألسن أنّه عبارة عن قصد تفهيم المخاطب بالكلام، ومن هنا يقال بعدم معقوليّة خطاب المعدوم والغائب؛ لعدم قابليّتهما لقصد التفهيم.

وللمحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) في تحقيق حقيقة الخطاب كلام في تعليقته على الكفاية(1)، وهو: أنّ التفهيم ليس شرطاً في الخطاب ولا يتقوّم الخطاب به، ولذا يصحّ الخطاب من الله تعالى للعباد مع عدم فهمهم إيّاه، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيم﴾(2)، ولا يشترط أيضاً في ذلك السماع بالجارحة، ولذا يصحّ الخطاب من العباد لله تعالى مع أنّه لا يسمع بجارحة، ولا مطلق السماع، ولذا قد يُخاطَب الأصمّ بخطاب ويترجم له شخص آخر خطاب المتكلّم بإشارات يفهمها، ولا يشترط أيضاً الاجتماع في مجلس واحد، ولذا تخاطب الشيعة أئمّتها الذين قد ارتحلوا إلى عالم آخر، فهم يخاطبونهم من عالَم إلى عالَم، وإنّما الذي



(1) نهاية الدراية، ج 2، ص 471 ـ 473 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام).

(2) المثال المذكور في عبارة الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) للخطاب بلا تفهيم وتفهّم هو مخاطبة الجماد الحاضر.

ولكن جاء في أثناء كلامه لدى بيان الاجتماع الإحاطيّ قوله: «سواء كان المتكلّم محيطاً كالبارئ تعالى شأنه عند خطابه لعباده وإن لم يلتفت المخاطب إلى الخطاب...»، فكأنّ التمثيل بآية (يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيم﴾ جرى على لسان اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) بمناسبة هذا المقطع وإن لم يكن موجوداً في عبارة الشيخ.

368

يكون دخيلاً في تحقّق الخطاب هو الاجتماع بأحد وجوه ثلاثة: الاجتماعالمكانيّ، كما لو خاطب الإنسان مَن هو حاضر في المجلس، والاجتماع السماعيّ كما في مخاطبة الشيعة مع أئمّتها، فإنّه وإن لم يكن بينهما اجتماع مكانيّ حقيقة، أي: أنّهما ليسا في مجلس واحد لكن سماع المخاطب ولو من بعيد يكون بمنزلة حضوره فهو بحكم الاجتماع المكانيّ، والاجتماع الإحاطيّ، ولذا يصحّ مخاطبة الله تعالى الذي هو محيط بالعباد لعباده وبالعكس.

هذا ما أفاده المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره).

وهو ـ كما ترى ـ لا يفيد وجهاً محصّلاً لتصوير حقيقة الخطاب، فإنّه إن أراد: أنّ حقيقة الخطاب هو اجتماع المتكلّم مع غيره فهو بديهيّ البطلان، فإنّه قد يجتمع الإنسان مع شخصين ويخاطب أحدهما دون الآخر، فلو كان الخطاب عبارة عن ذلك لكان كلاهما مخاطبين، مع أنّه ليس كذلك بل يمتاز أحدهما عن الآخر بالخطاب، وما به الامتياز غير ما به الاشتراك، وإن أراد: أنّ الاجتماع شرط في تحقّق الخطاب لم يظهر بذلك حقيقة الخطاب مع أنّه(قدس سره) كان في مقام بيان حقيقة الخطاب.

 

التحقيق في حقيقة الخطاب:

والتحقيق في هذا المقام: أن يقال: إنّه لا إشكال في أنّه تتحقّق بالخطاب نسبة بين المخاطَب والمخاطِب، وأنّ الخطاب في الحقيقة ربط الكلام بالمخاطب بربط خاصّ وتوجيه إليه بنحو مخصوص فنقول: إنّ هذا الربط والتوجيه إمّا يكون لواقع الكلام، أعني: الصوت الخاصّ الذي أوجده المتكلّم، أو ربط لمضمون الكلام بالمخاطب، أو يكون هذا الربط من الاُمور النفسانيّة الثابتة في نفس المتكلّم:

أمّا الاحتمال الأوّل: فباطل قطعاً، فإنّه من الواضح أنّ الكلام صوت في الفضاء قائم بالمتكلّم ومرتبط به، ولا يعقل ارتباط خاصّ له بشخص آخر.

369

وأمّا الاحتمال الثاني: فأيضاً باطل قطعاً، فإنّه ربّما يكون مضمون الكلام مرتبطاً بغير المخاطب، وربّما يكون المخاطب غير مربوط به مضمون الكلام.

فتعيّن الاحتمال الثالث، وهو: أنّ الخطاب أمر نفسانيّ يرتبط بالمخاطب، وليس ذلك إلّا قصداً مخصوصاً، وليس هو إلّا قصد إعداد الغير للفهم من ناحية هذا الكلام وسدّ باب العدم من ناحية عدم ذلك الكلام بشرط أن يكون في الكلام ما يكون مبرزاً لذلك القصد، فلو قال بحضور المخاطب: ﴿لِلَّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا﴾ قاصداً لإعداد المخاطب لفهم وجوب الحجّ عليه لم يكن هذا القصد خطاباً، بخلاف ما لو قال: (يجب عليك الحجّ)، فإنّ الضمير في عليك كان مبرزاً لذلك القصد. نعم، الإعداد للفهم له مراتب: فإنّه تارةً يكون مجرّد الإعداد، واُخرى يكون إعداداً قريباً للفعل، فعلى الأوّل يعمّ الخطاب للغائبين والمعدومين، وعلى الثاني يختصّ بالحاضرين أو الموجودين، وتعيين ذلك ـ أعني: أنّ الخطاب هل هو قصد مطلق الإعداد المبرز باللفظ أو قصد إعداد قريب للفعل مبرز باللفظ ـ مربوط بالاستظهار العرفيّ من أدوات الخطاب وليس عليه برهان عقليّ، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ بيان ما هو الحقّ فيه.

 

تحرير ما ينبغي أن يكون محلاًّ للنزاع:

الثاني: في تحرير ما ينبغي أن يكون محلاًّ للنزاع.

ذكر المحقّق النائينيّ(قدس سره)(1): أنّ النزاع في شيئين عقليّ ولفظيّ: فالعقليّ هو أنّه



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 489 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله). وراجع فوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 548 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.