386

 

إطلاق دليل الجزئيّة لحال النسيان

وأمّا المقام الثاني: فهو البحث عن مدى دلالة الدليل اللفظيّ على الجزئيّة في حال النسيان وعدمها، وإن كان هذا خارجاً في الحقيقة عن بحث الأقلّ والأكثر الذي عقد لتوضيح الأصل العملي لدى دوران الأمر بينهما.

وبما أنّ الرجوع في المقام إلى الأصل العملي من براءة أو اشتغال كان متفرّعاً على عدم وجود دليل لفظي يدلّ على الجزئيّة، أو عدمها في حال النسيان، تكلّموا في أصل وجود دليل لفظي على أحد الطرفين وعدمه.

والتكلّم في ذلك يمكن على أحد مستويين:

المستوى الأوّل: التكلّم حسب الدلالة الخاصّة في الأبواب المختلفة المقتضية للجزئيّة وعدمها، كأن يتمسّك في باب الصلاة مثلاً بحديث (لا تعاد)، وهذا المستوى من البحث لا يناسب علم الاُصول، وإنّما يناسب أبواب الفقه، بأن يبحث في كلّ باب عمّا هو مقتضى أدلّة ذاك الباب.

المستوى الثاني: التكلّم حسب قواعد عامّة واستنتاج بعض النتائج مبنيّاً على بعض الفروض، وهذا ما بحثوه في المقام.

وقد فرضوا بهذا الصدد دليلين: أحدهما يدلّ على أصل وجوب الواجب والآخر يدلّ على جزئيّة الزائد، وقالوا: إن كان دليل الجزئيّة له إطلاق ثبتت الجزئيّة في حال النسيان، وإن لم يكن له إطلاق رجعنا إلى دليل الواجب، فإن كان لمادّته إطلاق لفرض عدم هذا الجزء ثبت عدم جزئيّته في حال النسيان، إذ المقيّد إنّما ورد في حال الذكر فقط، وإن لم يكن لشيء من الدليلين إطلاق وصلت النوبة إلى الأصل العملي. ثم أُورد حول هذا الذي ذكروه شبهات وتكلّموا فيها:

فتارة تورد الشبهة بلسان يثبت الجزئيّة في حال النسيان حتّى لو لم يكن لدليل الجزئيّة إطلاق، واُخرى تورد الشبهة بلسان يثبت عدم الجزئيّة في حال النسيان حتّى لو كان لدليل الجزئيّة إطلاق ظاهر؛ وذلك إمّا لمنع الإطلاق بعد التأمّل أو لمانع خارجي.

أمـّا إيراد الشبهة بالنحو الأوّل فهو مبنيّ على شبهة الشيخ الأعظم (رحمه الله) من عدم إمكان إيجاب الناقص على الناسي، وتقريبه: أنـّه لو لم تكن السورة مثلاً جزءاً في

387

حال النسيان، فإمّا أنـّه يجب على الناسي الصلاة بلا سورة، أو أنّ الصلاة بلا سورة مسقط للواجب عنه، فلو صلّى بلا سورة لم تجب عليه الصلاة حتّى لو تذكّر بعد ذلك في الوقت. والثاني مناف لإطلاق الهيئة في دليل الواجب، والأوّل مناف لفرض عدم إمكان إيجاب الناقص على الناسي.

والجواب: أنّ إطلاق المادّة في دليل الواجب يكون تحته ثلاثة أفراد: الفرد التامّ، والفرد الناقص في حال النسيان، والفرد الناقص في حال الذُكر، ودليل جزئيّة السورة الذي لا إطلاق له لفرض ا لنسيان قد أخرج الفرد الثالث فحسب، فبقي تحت إطلاق مادّة الواجب الفرد الأوّل والثاني، وهيئته إنّما توجب الجامع بين هذين الفردين، ولا مانع من توجّه هذا الوجوب إلى الذاكر والناسي معاً، وهذا في الحقيقة راجع إلى ما مضى من جوابنا عن أصل شبهة الشيخ الأعظم (قدس سره) بإمكان الاكتفاء بخطاب واحد عامّ متعلّق بالجامع بين الفرد الناقص في حال النسيان والفرد التامّ.

وأمـّا إيراد الشبهة بالنحو الثاني، فتارة يقرّب بدعوى مانع داخلي عن التمسّك بالإطلاق، واُخرى يقرّب بدعوى وجود المانع الخارجي عن ذلك:

أمـّا التقريب الأوّل: فهو مختصّ بما إذا كان دليل الجزئيّة بلسان الأمر لا بلسان الإخبار عن الجزئيّة مثلاً، وهو أنّ الأمر لا يشمل العاجز لاشتراط التكليف بالقدرة، فلا يدلّ على الجزئيّة في حال العجز، فيرجع إلى إطلاق دليل الواجب لو كان، وإلّا فإلى الأصل العملي.

وهذه الشبهة لا تجري فيما إذا كان النسيان في بعض الوقت ولم يستمرّ إلى تمامه؛ لأنّ إيجاب الجزء الزائد بلحاظ مجموع الوقت معقول عندئذ.

وعلى أيّة حال، فقد أجابوا عن هذه الشبهة بأنّ الأمر بالجزء لو كان أمراً مولويّاً اختصّ بالقادر، لكنّه ليس كذلك، وإنّما يفهم منه الإرشاد إلى الجزئيّة، وهذا ممكن حتّى بشأن العاجز، فيؤخذ بإطلاقه.

أقول: إنّ انسلاخ هذا الأمر عن المولويّة ممنوع، ولهذا ترى استهجان التصريح بالإطلاق بأن يقول المولى: إقرأ السورة في الصلاة ولو كنت عاجزاً، بخلاف ما لو قال: السورة جزء للصلاة ولو كنت عاجزاً، فهذا الأمر مفاده هو البعث المولوي، نعم هذا البعث ليس بداعي ملاك نفسيّ في السورة ضمنيّ أو استقلاليّ، بل بداعي الجزئيّة أو الشرطيّة، فيكون دائماً مشروطاً بفرض الإتيان بالصلاة إمّا تصريحاً كقوله تعالى: ﴿إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم﴾، أو بحسب الفهم العرفي من منصرف الكلام، كما إذا قال: اقرأ السورة في الصلاة، فإنّ الذي يفهمه العرف من ذلك هو: أنـّه إن صلّيت فاقرأ فيها السورة، ولهذا يصحّ هذا الأمر بلحاظ الصلاة الاستحبابيّة ـ أيضاً ـ

388

على ما هو عليه من الظهور في البعث الإلزامي، مع أنّ الأمر الضمنيّ المتعلّق بها في الصلاة الاستحبابيّة ليس إلزاميّاً.

فإذا أبطلنا في المقام إرشاديّة هذا الأمر ونفي المولويّة عنه، فلابدّ من استئناف جواب آخر فنقول: قد يفرض أنّ المولى بصدد بيان أنّ وجوب السورة ملازم لوجوب الصلاة بحيث كلّما كانت الصلاة واجبة فالسورة واجبة، ولازم ذلك سقوط وجوب الصلاة عند سقوط وجوب السورة بالعجز عنها مثلاً، وهذا المطلب يمكن للمولى تفهيمه بصيغة العموم بأن يقول: كلّما وجبت الصلاة فقد وجبت السورة، فيفهم العبد الملازمة بين وجوب الصلاة ووجوب السورة، ولازم ذلك أنّ سقوط وجوب السورة يستلزم سقوط وجوب الصلاة، ومن المقبول عرفاً أن يعوّض المولى عن أدوات العموم بمقدّمات الحكمة فيقول: إذا وجبت الصلاة فاقرأ السورة فيها، وإذا أمكن عرفاً بيان ذلك بالإطلاق فمن الممكن أن يُدّعى أنّ المتفاهم عرفاً من الأمر بالجزء هو الإطلاق بهذا المعنى، أي: كونه في مقام بيان الملازمة المطلقة بين وجوب الصلاة ووجوب السورة، وهذا الفهم العرفي ثابت وصحيح، ولذا ترى أنّ العلماء لا يزالون يستفيدون من الأمر بالجزء الجزئيّة حتّى في حال العجز، إلى أن أورد المتأخّرون منهم الإشكال بأنّ الأمر يختصّ بالقادر، فاضطرّوا في مقام التوفيق بين الفنّ وفهمهم العرفي إلى الجواب بأنّ الأمر هنا إرشاد إلى الجزئيّة.

ونحن نستفيد من الأمر بالجزء الإطلاق بهذا المعنى، أي: بمعنى كون الملازمة بين وجوب الصلاة ووجوب الجزء مطلقة، ولازمهُ سقوط وجوب الصلاة عند العجز عن الجزء، لا بمعنى ثبوت وجوب الجزء حتّى في حال العجز عنه، كي يقال: إنّ التكليف مشروط بالقدرة.

ولا يقال: إنّ هذا الإطلاق يقطع بخلافه في فرض النسيان إمّا تخصيصاً أو تخصّصاً.

فإنّه يقال: إنّنا لم نفهم من إطلاق الكلام إطلاق ذات وجوب السورة، بل قلنا: إنّ الإطلاق إنّما هو بداعي بيان الملازمة، وهذا لا يعلم إجمالاً بتخصيصه أو تخصّصه؛ لاحتمال ثبوت الملازمة حتّى في حال النسيان، فيكون أصل الصلاة ساقطاً عنه، والذي قطعنا بخلافه إنّما هو ثبوت اللازم أعني وجوب السورة لا الملازمة(1).

 


(1) دعوى أنّ مفاد الإطلاق عرفاً هو الملازمة بين وجوب الفعل ووجوب جزئه بعيدة

389

وأمـّا التقريب الثاني: فهو عبارة عن التمسّك بحديث (رفع النسيان) المقتضي لصحّة الصلاة مثلاً عند فوات جزء منها كالحمد نسياناً.

وصحّة هذا التقريب وفساده متفرّع على المباني الماضية في حديث (الرفع)، فإن اخترنا أنّ المقصود بالنسيان هو ما نشأ من النسيان وهو هنا ترك الحمد مثلاً، وأنّ الرفع رفع عنائي للوجود الخارجي، أي: فرض ما في الخارج بمنزلة نقيضه، صحّ إثبات المقصود هنا بحديث (الرفع)، إذ قد فرض ترك الحمد بمنزلة فعله، وهذا في الحقيقة حكم بترتّب آثار الفعل، فحديث (الرفع) حاكم على مثل قوله:« لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب »؛ إذ يحكم بثبوت الفاتحة في المقام.

وإن فرض أنّ المقصود بالنسيان هو المنسيّ وهو الحمد في المقام، وجب أن يفرض أنّ الرفع رفع حقيقي للوجود التشريعي لا رفع عنائي للوجود الخارجي؛ لأنّ المفروض عدم وجود الحمد خارجاً.

وعلى أيّة حال، فإن فرض أنّ الرفع رفع حقيقي للوجود التشريعي فسواء فرض أنّ المرفوع هو المنسيّ وهو الحمد في المقام، أو ما نشأ من النسيان وهو الترك، نقول: إنّه إن اختصّ النسيان ببعض الوقت فلا مجال للتمسّك بحديث (الرفع)؛ إذ الحمد في خصوص ذاك الوقت، أو تركه فيه ليس موجوداً بوجود تشريعي حتّى يرفع، وإنّما الموجود بالوجود التشريعي هو الحمد في مجموع الوقت، أو تركه في جميع الوقت.

 


فيما إذا كان المركّب مستحبّاً دائماً، لا واجباً في بعض الاحيان، بأن يقال: رغم عدم وجوب الكل أبداً كان المولى بصدد بيان الملازمة بين وجوب الكل ووجوب جزئه.

فالاُولى دعوى أنّ مفاد الإطلاق عرفاً في الأمر بالجزء هو الملازمة بين الإتيان بالفعل صحيحاً ووجوب جزئه، ولازمه أنـّه حينما لا يمكن إيجاب الجزء للعجز عنه يستحيل الإتيان بالفعل صحيحاً.

وبكلمة اُخرى: أنّ الأمر بالجزء مفاده المباشر هو البعث إلى الجزء الداعي الذي يكشف عنه هذا البعث هو الجزئيّة، والعرف هنا حَمَلَ الإطلاق لحالة العجز بعد استحالة إطلاق المفاد المباشر ـ وهو البعث ـ على كونه بداعي بيان إطلاق الجزئيّة، وهذا يختلف عن فرض كون الأمر بالجزء إرشاداً محضاً إلى الجزئيّة كما قال به الأصحاب، والسرّ في استهجان التصريح بالإطلاق أنّ هذا التصريح يقوّي ظهور الكلام في ارتباط الإطلاق بنفس المفاد المباشر للأمر وهو البعث.

390

وإن استمرّ النسيان في تمام الوقت صحّ التمسّك بحديث الرفع، ودلّ الحديث على عدم وجوب الحمد، أو حرمة تركه مثلاً، لكنّ هذا أعمّ من فرض وجوب الصلاة عليه بلا حمد، أو عدم وجوبها؛ لأنّ ارتفاع وجوب الحمد يمكن أن يكون بارتفاع وجوب أصل الصلاة، ويمكن أن يكون مع فرض وجوب الباقي، فلا يثبت بذلك عدم جزئيّة الحمد للصلاة في حال النسيان.

وإذا كان لدليل الجزئيّة إطلاق بالنحو الذي مرّ، ثبت بذلك سقوط وجوب أصل الصلاة عنه.

وما ذكرناه من الشقوق مرّت مع تحقيقها ـ على ما اتذكّر ـ في حديث الرفع.

 

حول فرض الزيادة

التنبيه السادس: في فرض الزيادة.

وهنا أبحاث فقهيّة لا ينبغي التعرض لها هنا، بل تُذكر في محالّها من الفقه، من قبيل أنّ الزيادة في الصلاة هل تبطل أو لا؟ وما هي حدود مبطليّتها؟ وما هو حكم الزيادة في الطواف؟ وما إلى ذلك.

ولكنّنا نتكلّم هنا في الجهات الكلّيّة المرتبطة بشكل مباشر، أو غير مباشر ببحث دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر، والبحث يقع في جهات عديدة:

 

صور مبطليّة الزيادة

الجهة الاُولى: في تصوير أقسام الجعل الشرعي التي تُنتج مبطليّة الزيادة، حتّى يرى أنّ الشكّ في أي قسم من أقسامه يكون مجرى للبراءة وهي ما يلي:

الأوّل: أن يؤخذ عدم الزيادة شرطاً، ولا إشكال في معقوليّة ذلك، فإنّ هذا الجعل لا يكشف عن كيفيّة غير معقولة في الملاك، ولا يلزم منه تأثير الأمر العدمي في الأمر الوجودي؛ إذ لا أقلّ من تصوير كون ملاك الواجب بنحو تكون الزيادة مانعة عن حصوله، فلا محالة يصبح عدمها شرطاً. وهذا يكفينا في معقوليّة هذا القسم. ولو فرض عدم إمكان فرض آخر للملاك يناسب هذا القسم، سنشير إليه في القسم الثاني إن شاء اللّه.

391

الثاني: أن يؤخذ عدم الزيادة جزءاً للواجب، كما جاء في كلام المحقّق الخراساني(رحمه الله)(1).

إلّا أنّ المحقّق الاصفهاني(رحمه الله) استشكل في إمكان ذلك(2)؛ لأنّ كلّ نحو من أنحاء الجعل يكشف عن نحو من أنحاء الملاك مناسب له، فالقسم الأوّل وهو شرطيّة عدم الزيادة كان يناسب فرض كون الزيادة مانعة عن حصول الملاك، وهذا أمر معقول، ولكنّ هذا القسم وهو فرض جزئيّة عدم الزيادة يناسب كون عدم الزيادة بنفسه أحد أجزاء علّة حصول الملاك، وهذا مستحيل لاستحالة تأثير الأمر العدمي في الأمر الوجودي.

ويرد عليه: أولاً: أنّ من الملاك أن يفرض أنّ الملاك في الواجب لم يكن أمراً وجوديّاً خارجيّاً، بل كان عبارة عن حصول الاستعداد للعبد لإفاضة الكمال عليه مثلاً، وليس من المستحيل تأثير الأمر العدمي في مثل الاستعداد والإمكان. وبهذا تصوّرنا الشرط المتأخّر الذي يؤثر فيما سبق، مع أنـّه غير موجود، حيث قلنا: إنّه يؤثّر في الإمكان والاستعداد، ولا بأس به، وهذا ما مضى توضيحه والبرهنة عليه في بحث الشرط المتأخّر(3) ولا نعيده هنا.

 


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 244 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق المشكيني.

(2) راجع نهاية الدراية: ج 2، ص 284.

(3) هذا إشارة إلى الدورة الاُولى من البحث، إمـّا ما حضرته من بحث الشرط المتأخّر فقد كان من الدورة الثانية، وما اختاره(رحمه الله) هناك لا يتأتّى هنا، فقد ذكر هناك في تصوير الشرط المتقدّم ـ الذي بُحث ضمن مبحث الشرط المتأخّر ـ إشكال كيفيّة تأثير الشرط المتقدّم في الملاك الذي يكمن في المتأخّر مع أنّ ذاك الشرط ينتهي وينعدم لدى وجود المشروط، ونقل جواباً عن ذلك وهو أنّ الشرط المتقدّم ليس مؤثّراً كي يستحيل تقدّمه، بل هو من المقدّمات الإعداديّة الخالقة للإمكان والاستعداد، وبرهن(رحمه الله) على أنّ هذا الكلام بظاهره لا يتمّ إلّا بإرجاعه إلى أنّ الشرط المتقدّم يخلق أمراً مقارناً له ثمّ ينتهي الشرط ويبقى أثره بقوّة مبقية إلى زمان تحقّق المشروط، فهو في واقعه شرط مقارن لا متقدّم.

وهذا الكلام كما ترى لا يأتي فى المقام، فإنّ العيب في المقام لم يكن ينشأ من عدم التقارن وتقدّم المؤثّر حتّى يحلّ بهذا البيان، وإنّما كان ينشأ من كون المؤثّر رغم تقارنه للأثر أمراً

392

هذا. وإنّما فرضنا أنّ ملاك الواجب عبارة عن حصول الإمكان والاستعداد، وعدم الزيادة دخيل فيه، ولم نفرض أنّ ملاك الواجب عبارة عن أمر وجودي خارجي، وعدم الزيادة دخيل في إمكان ذلك الأمر والاستعداد له؛ لأنّه إذا فرضنا هكذا كان عدم الزيادة شرطاً لدخله في قابليّة القابل مثلاً لا جزءاً.

وثانياً: أنـّه يمكن أن يفرض أنّ في ملاك الواجب جهة عدميّة، كما إذا أحبّ المولى أن يحصل على دينار في حال عدم مرضه، فيفرض أنّ عدم الزيادة دخيل في ذلك الأمر العدمي.

وقد تحصّل أنّ هذا القسم الثاني ممكن ثبوتاً كالقسم الأوّل، ولكنّ المأنوس في ذهن أهل العرف هو القسم الأوّل، ـ أعني الشرطيّة ـ لا الثاني، وهذا الاُنس يكون إلى درجة تُعطي لقول الشارع مثلاً (الزيادة مبطلة) الظهور في الشرطيّة والانصراف عن الجزئيّة، بحيث لو ترتّبت على ذلك ثمرة عمليّة يُحكم بالشرطيّة.

الثالث: أن يكون عدم الزيادة مأخوذاً في الجزء، كما إذا كان الركوع مثلاً مشروطاً بعدم التكرار.

وذكر المحقّق الخراساني(رحمه الله) أنّ هذا يرجع إلى النقيصة دون الزيادة(1).

فإن كان مقصوده(رحمه الله) بذلك إنكار الزيادة موضوعاً فهذا غير صحيح؛ إذ لاتقابل بين حصول الزيادة وحصول النقيصة، فهنا قد حصلت النقيصة إذلم يأت بالركوع الذي هو جزء للصلاة؛ لأنّه كان مقيّداً بعدم التكرار، وحصلت الزيادة أيضاً، إذ الركوع الثاني بل والركوع الأوّل بعد سقوطه عن الجزئيّة زيادة ـ لامحالة ـ حتّى على أخصّ الأقوال الفقهيّة في الزيادة وهو كونها عبارة عن إضافة شيء بقصد الجزئيّة مع كونه مسانخاً لأحد أجزاء الصلاة، فإنّ هذه الزيادة مسانخة لأحد أجزاء الصلاة وهو الركوع، إذ ليس المراد بالمسانخة هي المسانخة حتّى في الحدّ كي يقال: إنّ الركوع الصلاتي كان محدوداً بحدّ التوحّد والانفراد وهذا الحدّ غير موجود في هذه الزيادة.

هذا. والمحقّق الاصفهاني(قدس سره) وجّه كلام اُستاذه وفسّره بتفسير آخر، وهو أنّ مقصوده هو إنكار الزيادة حكماً لا موضوعاً، وذلك بمعنى أنّ ما اُخذ عدمه في الجزء


عدميّاً، وهذا كما ترى لا ينحلّ بهذا البيان، نعم ينحلّ بما هو الظاهر من الجواب الذي نقله اُستاذنا هناك: من أنـّه لا بأس بتأثير الأمر العدمي بمعنى خلقه للإمكان والاستعداد، ولكنّه(رحمه الله) قد ناقش هذا الظاهر هناك فراجع.

(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 244 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق المشكيني.

393

لا يعقل أن يؤخذ ذلك الشيء مع هذا مانعاً في أصل الصلاة مثلاً؛ إذ المانعيّة فرع ثبوت الاقتضاء، وقد ارتفع الاقتضاء بزيادة هذا الجزء لإبطاله للجزء المزيد عليه(1)

أقول: إنّ هذا الكلام لا يناسب مبناه(قدس سره) من أنّ عدم الزيادة يستحيل أن يكون دخيلاً في الملاك؛ للزوم تأثير المعدوم في الموجود، فإنّه على هذا لا يكون معنى دخل عدم الزيادة في الجزء إلّا مانعيّة الزيادة عن تأثير الجزء، ولا منافاة بين أن تكون للزيادة مانعيّتان في عرض واحد: مانعيّة عن التأثير بلحاظ الجزء، ومانعيّة عن التأثير بلحاظ المجموع(2).

نعم، لو فرض أنّ عدم الزيادة ليس هو المأخوذ في الجزء بعنوانه، وإنّما المأخوذ في الجزء هو عنوان آخر وجودي ملازم له، كعنوان التوحّد والتفرّد إن تصوّرناه، فعندئذ يعقل حتّى على مبناه فرض قصور المقتضي بانتفاء ذاك العنوان الوجودي الدخيل في الاقتضاء، لكنّ هذا ـ أيضاً ـ لا ينافي فرض المانعيّة، فإنّه وإن سقط هذا الجزء بالزيادة عن اقتضائه الضمنيّ، لكنّ بقيّة الأجزاء باقية على اقتضائها الضمنيّ، فيمكن فرض مانعيّة هذه الزيادة عنها، فلا معنى لإنكار إمكان المانعيّة في


(1) راجع نهاية الدراية: ج2، ص 282 .

(2) أمّا إذا صار القرار على الخروج من مبناه وافتراض عدم الزيادة جزءاً، فإذن لم يبق موضوع للاستشكال في مانعيّة الزيادة بعدم معقوليّة المانعيّة عند عدم تماميّة المقتضي؛ إذ ليست الزيادة مانعة، وإنّما عدم الزيادة جزء من المقتضي، فيمكن فرض انتفاء هذا الجزء في عرض انتفاء جزء آخر.

هذا. ويمكن أن يكون مقصود المحقّق الخراساني والشيخ الاصفهاني(رحمهما الله): أنّ مجرّد فرض الزيادة مانعة عن صحّة الجزء يكون ملحقاً حكماً بالنقيصة، أي: أنّ معنى هذا الفرض بطلان الصلاة بفقدان الركوع الواجد للشرائط مثلاً، لا بطلانها بالزيادة.

نعم، يمكن فرض بطلانها بالزيادة ـ أيضاً ـ بأن يكون الركوع الثاني أو الأوّل ـ أيضاً ـ بعد فقدانه للشرط زيادة مانعة عن الصحّة، لكنّ هذا يعني الجمع بين أحد القسمين الأوّلين لفرض مبطليّة الزيادة، وهما أخذ عدم الزيادة شرطاً أو شطراً في أصل الواجب، والقسم الثالث وهو مبطليّة الزيادة للجزء، ولم يكن المقصود استحالة الجمع بين قسمين، وإنّما كان المقصود أنّ القسم الثالث بما هو هو يلحق حكماً بالنقيصة لا الزيادة، أي: أنـّه لا يوجب بنفسه بطلان الصلاة بالزيادة، وإنّما يوجب بطلان الصلاة بفقدانها للجزء الواجد للشرائط.

394

المقام حتّى في هذا الفرض، إلّا بمعنى أنّ هذه المانعيّة لا أثر لها؛ إذ المفروض أنّ تلك الأجزاء مقتضيات ضمنيّة لا استقلاليّة، ولم تنضمّ إلى ذلك الجزء الآخر، فلا تؤثّر شيئاً(1).

ثمّ إنّ ما ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله) في المقام من عدم تصوير الزيادة إذا كان الجزء مشروطاً بعدم الزيادة؛ لرجوع الزيادة ـ عندئذ ـ إلى النقيصة صار منشأً لتوسيع البعض للإشكال وتعميقه؛ وذلك بدعوى أنـّه لا تتصوّر الزيادة سواء فرض الجزء مشروطاً بعدم الزيادة، أو فرض لا بشرط بالنسبة للزيادة، أمـّا إذا كان مشروطاً بعدم الزيادة، فلما ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله) من رجوع الزيادة إلى النقيصة، وأمـّا إذا كان لا بشرط؛ فلأنّ الجزء ـ عندئذ ـ يكون هو الإعمّ من ركوع واحد مثلاً أو ركوعين، فلو أتى بركوعين كان المجموع جزءاً ولم تكن هناك زيادة.

وأجاب عن ذلك السيّد الاُستاذ: بأنّ الجزء قد يفرض بشرط لا واُخرى يفرض لا بشرط، بمعنى كون الجزء هو الجامع بين الركوع والركوعين على حدّ تخيير الوجـوب بين الأقلّ والأكثر، وفي هذين الفرضين لا تعقل الزيادة لما ذكره المستشكل، وثالثة يفرض لا بشرط لكن لا بمعنى أنّ الركوع الثاني إن أتى به أصبح جزءاً للجزء، بل بمعنى أنّ ضمّ الركوع الثاني إلى الركوع الأوّل ضمّ للحجر إلى جنب الإنسان لا يضرّ ولا ينفع، فصرف وجود الركوع جزء، والزائد عليه ليس جزءاً ولا مانعاً، وعندئذ تتصوّر الزيادة(2).

أقول: يمكن هنا طرح عدّة أسئلة:

1 ـ أصحيح ما ذكره من أنّ الجزء إذا كان بشرط لا لم تتصوّر فيه الزيادة، أو تتصوّر الزيادة لعدم منافاتها للنقيصة، فما أتى به من الركوع الثاني بل وكذا الركوع الأوّل زيادة لا محالة؟!

2 ـ أصحيح ما ذكره من أنـّه إذا أخذ الركوع لا بشرط بمعنى الجامع بين الركوع والركوعين لم تتصوّر الزيادة؟ فلو أضاف أحد غرفة إلى غرف بيته أفلا يصدق أنـّه


(1) الظاهر أنّ من يقول بأنّ عدم النتيجة لدى عدم المقتضي لا يسند إلى المانع، وإنّما يسند إلى عدم المقتضي لا يفرّق بين كون المقتضي مفقوداً بجميع أجزائه أو ببعض أجزائه، فهو يقصد أنّ المقتضي ما لم يتمّ باجتماع كلّ ما له دخل في الاقتضاء لا يسند عدم النتيجة إلى وجود المانع.

(2) راجع الدراسات: ج 3، ص 293، والمصباح: ج 2، ص 466 - 467.

395

زاد في بيته غرفة لا لشيء إلّا لأنّ البيت يكون لا بشرط من ناحية كون غرفه ثلاثاً أو أربعاً مثلاً بمعنى أخذ الجامع فيه؟!

3 ـ أصحيح ما ذكره من أنـّه إذا كان الركوع لا بشرط بمعنى أخذ صرف الوجود جزءاً، وكون الزائد نسبته إلى الفرد الأوّل نسبة الحجر إلى جنب الإنسان لا يضرّ ولا ينفع، صَدَقَتِ الزيادة؟ فلو أنّ أحداً طبع كتاب الكفاية وطبع خلفه في نفس المجلّد كتاباً آخر، قيل عنه أنـّه زاد في الكفاية لا لشيء إلّا لأنّه ضمّ في ذاك المجلّد إلى الكفاية كتاباً آخر كضمّ الحجر إلى جنب الإنسان؟!

ولو أنّ أحداً صنّف في الاُصول كتاباً وكتب خلفه كتاباً آخر في علم النحو الذي تكون نسبته إلى الاُصول نسبة الحجر إلى الإنسان، صَدَقَ أنـّه زاد في الاُصول شيئاً؟!

قد يتبادر إلى الذهن من هذه الأسئلة أنّ الحقّ يكون على العكس ممّا ذكره السيّد الاُستاذ تماماً، ففي كلّ فرض نفى الزيادة يكون الصحيح هو إثباتها، وفي كل فرض أثبتها يكون الصحيح هو نفيها. إلّا أنّ الأمر ليس كذلك وإنّما هذه الإسئلة مشيٌ على منهج كلامه من الخلط بين الزيادة الحقيقيّة والزيادة التشريعيّة، وعدم الالتفات إلى نكات الزيادة الحقيقيّة.

وتحقيق المطلب: هو أنّ الزيادة على قسمين ولا يتمّ كلامه سواءٌ حمل على القسم الأوّل، أو على القسم الثاني، أو على الجامع بينهما:

أمـّا القسم الأوّل: فهو الزيادة الحقيقيّة، وصدق الزيادة الحقيقيّة لشيء في شيء آخر له شرطان:

الشرط الأوّل: أن يكون المزيد فيه مطّاطاً ومَرِناً يمكن أن يشتمل على تلك الزيادة كما يمكن أن لا يشتمل عليها، وذلك كما في مثال البيت الذي يصدق على البناء المخصوص بما فيه من غرف، سواء فرضت ثلاثاً أو أربعاً مثلاً، ولو لم يكن كذلك لم تصدق الزيادة فيه، فمن بنى خلف داره بستاناً أو حانوتاً لا يصدق أنـّه زاد في بيته؛ لأنّ مفهوم البيت لا يشتمل على بستان أو حانوت خلفه، ولهذا لا تصدق الزيادة في الكفاية، أو في الاُصول على طبع كتاب خلف الكفاية، أو تأليف كتاب خلف كتاب الاُصول؛ لعدم مطّاطية الكفاية، أو الاُصول ومرونته بلحاظ تلك الزيادة.

الشرط الثاني: أن يكون هناك حدّ ـ خارج حقيقة المزيد فيه ـ ينافي تلك الزيادة حتّى يتحدّد المزيد فيه بذلك، ويجعل في قبال الزيادة، وذلك كما لو أمر البنّاء ببناء بيت واُعطي بيده خارطة لذلك البناء، وفي تلك الخارطة لا توجد إلّا

396

ثلاث غرف ثمّ بنى أربع غرف، فإنّه يصدق هنا أنـّه زاد في البيت غرفة، وأمـّا لو لم يحدّ من أوّل الأمر بهذا الحدّ فبنى بيتاً ذا غرف أربع فلا يصدق أنـّه زاد في البيت غرفة، ولو قيل: إنـّه زاد في البيت غرفة لسُئِل هل ـ عجباً ـ كان القرار أن يكون البيت ذا ثلاث غرف فزاد في البيت غرفة؟ نعم، إذا كان هناك بيت فيه موضع ـ بوضعه الخارجي ـ ثلاث غرف، ثمّ بنى فيه غرفة اُخرى قيل عنه ـ أيضاً ـ: أنـّه زاد في بيته غرفة؛ لوجود الحدّ المنافي لتلك الزيادة، وذلك هو نفس الوضع الخارجي للبيت.

والآن علينا أن نرى أنـّه في أيّ قسم من الأقسام تصدق الزيادة في الصلاة بالإتيان بالركوع الثاني، وفي أيّ قسم منها لا تصدق الزيادة فيها بالإتيان به.

فنقول: تارة يتكلّم في الزيادة في مسمّى الصلاة، واُخرى يتكلّم في الزيادة في الواجب.

أمـّا الزيادة في مسمّى الصلاة ففي القسم الثالث: وهو فرض مسمّى الصلاة لا بشرط بالمعنى الثاني، لا تصدق الزيادة؛ وذلك لانتفاء الشرط الأوّل؛ إذ مسمّى الصلاة ليس ـ حسب الفرض ـ مطّاطاً يمكن اشتماله على الركوع الثاني، كما أنّ الإنسان ليس مطّاطاً يمكن اشتماله على الحجر المنضمّ اليه، فلو أنّ شخصاً أخذ بيده حجراً لا يصدق أنـّه زيد في الإنسان شيء، وكذلك الحال في القسم الأوّل: وهو فرض الجزء بشرط لا، فإنّ مسمّى الصلاة ـ أيضاً ـ لا يمكن أن يشتمل على الركوع الثاني، فالشرط الأوّل مفقود.

وأمـّا في القسم الثاني: وهو فرض كون المأخوذ في مسمّى الصلاة الجامع بين الركوع الواحد والركوعين فالشرط الأوّل ثابت، كما هو الحال في البيت الذي يمكن أن يشتمل على ثلاث غرف، ويمكن أن يشتمل على أربع غرف، لكنّ الشرط الثاني غير ثابت، إن فرض أنّ الدخيل في الواجب هو الجامع بين ركوع واحد وركوعين، كما كان الدخيل في مسمّى الصلاة ذلك؛ لأنّه لا يوجد حدّ مناف للركوع الثاني، فلا تصدق الزيادة عندئذ، وإن فرض أنّ الدخيل في الواجب هو الركوع بشرط لا عن الزيادة، أو لا بشرط بالمعنى الثاني من اللا بشرطيّة، فالشرط الثاني ـ أيضاً ـ موجود؛ لأنّ الركوع الثاني زيادة في مسمّى الصلاة على حدّ الواجب.

وبهذا ظهر أنـّه إن كان نظر السيّد الاُستاذ إلى الزيادة الحقيقيّة في مسمّى الصلاة لم يصحّ ما أفاده، بل لا تصدق الزيادة في القسم الذي ذكر صدق الزيادة فيه وهو القسم الثالث، وقد تصدق الزيادة وقد لا تصدق في القسم الثاني الذي أنكر فيه صدق الزيادة، ولا تصدق الزيادة وفاقاً للسيّد الاُستاذ في القسم الأوّل.

397

ويُحتمل أن يكون مقصود السيّد الاُستاذ الزيادة في المسمّى كما فرضناه حتّى الآن، لكن ما ذكره من الأقسام الثلاثة يكون بلحاظ الواجب، بمعنى أنـّه لو اُخذ الركوع بلحاظ الواجب بشرط لا لم تعقل الزيادة في المسمّى؛ لما ذكره المستشكل من رجوع الزيادة ـ عندئذ ـ إلى النقيصة، وكذلك الحال لو فرض الواجب هو الجامع بين الركوع والركوعين؛ لأنّ الركوع الثاني ـ عندئذ ـ سيكون جزءاً ولا توجد زيادة في المقام، أمـّا لو اُخذ الركوع بلحاظ الواجب لا بشرط من حيث الزيادة بالمعنى الثاني للابشرطيّة تعقّلت الزيادة في المسمّى.

فإن كان هذا هو مقصود السيّد الاُستاذ في المقام صحّ كلامه في القسم الثاني والثالث، ولكن لا تبقى صورة لتماميّة كلامه في القسم الأوّل، وهو فرض كون الركوع بشرط لا عن الزيادة.

وتوضيح ذلك: أنّ صورة الإشكال في هذا القسم في صدق الزيادة كانت عبارة عمّا ذكره المستشكل من أنّة مع فرض الركوع بشرط لا، ترجع الزيادة إلى النقيصة، ـ لا لأنّنا نفقد الركوع الصحيح، وهذا ما أوردنا عليه بأنّه لا منافاة بين صدق الزيادة والنقيصة معاً، ولنفترض الآن أنّ هذا الإيراد غير وارد عليه ـ ولكن أصل هذا الإشكال لا يأتي في المقام ولو صورة؛ وذلك لأنّ الزيادة إنّما رجعت إلى النقيصة بلحاظ الواجب لا بلحاظ المسمّى، فيُلتزم بلزوم النقيصة بلحاظ الواجب، ولزوم الزيادة بلحاظ المسمّى.

وبكلمة اُخرى: أنّ السيّد الاُستاذ لو أراد الزيادة بلحاظ المسمّى وذكر الأقسام الثلاثة بلحاظ الواجب، فلا تقابل بين الزيادة والنقيصة؛ لأنّ الزيادة تكون بلحاظ المسمّى والنقيصة بلحاظ الواجب، ولو حمل كلامه بقرينة جعل المقابلة بين الزيادة والنقيصة على اتّحاد المقسَم والمزيد فيه، فإمّا أن يكون المقصود الزيادة في الواجب، وهذا ما سيجيء البحث عنه، وإمـّا أن يكون المقصود الزيادة في المسمّى، وهذا ما عرفت الإشكال فيه.

وأمـّا الزيادة في الواجب فغير معقولة أصلاً؛ لأنّه لو فرض أخذ الركوع في الواجب لا بشرط عن الزيادة بالمعنى الثاني من اللا بشرطيّة، فالشرط الأوّل من شرطي صدق الزيادة منتف ؛ لعدم قابليّة شمول الواجب بما هو واجب للركوع الثاني، وكذا لو فرض أخذه بشرط لا، وأمـّا لو فرض أخذه بنحو التخيير بين الأقلّ والأكثر، فالشرط الأوّل وهو المرونة والمطّاطيّة بلحاظ الركوع الثاني موجود، لكنّ الشرط الثاني غير موجود؛ لعدم وجود حدّ ينافي الركوع الثاني، إلّا أن يفرض أمر

398

استحبابيّ بالاقتصار على الركوع الأوّل، أو نهي تنزيهي عن الركوع الثاني، فعندئذ تصدق الزيادة، لكنّ هذه الزيادة غير مبطلة جزماً؛ لأنّها لا تضرّ بأصل ما كُلّفنا به من الصلاة، وإنّما تضرّ بامتثال هذا الحكم الاستحبابيّ الجديد، فمثل هذه الزيادة خارجة عمّا نحن فيه.

وأمـّا القسم الثاني: فهي الزيادة التشريعيّة، وهي عبارة عن الإتيان بشيء لا يكون جزءاً بقصد جزئيّته تشريعاً، فإن كان نظره إلى هذه الزيادة، فهي تتصوّر في القسم الأوّل وهو المأخوذ بشرط لا، وفي القسم الثالث وهو المأخوذ بنحو اللا بشرط بالمعنى الثاني، ولا تتصوّر في القسم الثاني، وهو فرض التخيير بين الأقلّ والأكثر؛ لأنّه إذا أتى بالركوع الثاني كان جزءاً فلا يكون تشريعاً.

هذا. وأمـّا أنـّه هل الزيادة المبطلة هي الزيادة التشريعيّة، أو الزيادة الحقيقيّة؟ فهذا بحث موكول إلى الفقه. والصحيح هو مبطليّة الجامع بين الزيادتين(1).

الشكّ في مبطليّة الزيادة

الجهة الثانية: فيما إذا شكّ في مبطليّة الزيادة.

والصحيح: أنـّه تجري البراءة ـ عندئذ ـ على جميع الفروض المتصوّرة في مبطليّة الزيادة. نعم، يقع التفصيل بينها بحسب بعض المباني غير المرضيّة، من قبيل مبنى الفرق بين الشكّ في الجزئيّة والشكّ في الشرطيّة بجريان البراءة في الأوّل دون الثاني، فإنّه على هذا المبنى يجب أن يفصّل بين ما إذا احتمل أخذ عدم الزيادة شرطاً، أو لم يحتمل عدم أخذه جزءاً بجريان البراءة على الثاني دون الأوّل.

وأمـّا على المختار فتجري البراءة من دون فرق بين الفروض المتصوّرة إذاعلم بمبطليّة الزيادة في حال الذكر وشكّ في مبطليّتهافي حال النسيان، فالحال هو الحال في الشكّ في جزئيّة الزائد في حال النسيان الذي مضى البحث عنه في التنبيه السابق.


(1) لا إشكال في مبطليّة الزيادة التشريعيّة، وأمّا مبطليّة الزيادة الحقيقيّة على الإطلاق فتستلزم مبطليّة القنوت والأذكار المستحبّة والأدعيّة الجائزة؛ لأنّ مسمّى الصلاة لا يأبى عن دخولها فيه، وهي خارجة عن حدّ الوجوب، فكلا شرطي صدق الزيادة الحقيقيّة ثابتان. إذن فلا يبعد حمل رواية «من زاد في صلاته فعليه الإعادة» على زيادة الركعة ـ كما رواها في الوسائل في باب زيادة الركعة، وهو الباب 19 من أبواب الخلل من المجلّد الخامس، ج 2، ص 332 ـ أو على الزيادة التشريعيّة.

399

بقي شيء: وهو أنـّه في المركّبات الارتباطيّة التي يعتبر فيها الترتيب بين الأجزاء يكون الشكّ في جزئيّة شيء فيها مساوقاً للشكّ في الزيادة بالنسبة للجزء الذي بعده لدى ترك ذاك الجزء المشكوك، فلو شكّ في كون الشهادة الثانية مثلاً جزءاً أو لا فَتَرَكها اعتماداً على البراءة، وأتى بما يليها وهو الصلاة على محمد وآله (صلى الله عليه وآله)، فمن المحتمل أن تكون هذه زيادة؛ إذ على تقدير جزئيّة الشهادة الثانية يجب أن تكون الصلاة على محمد وآله (صلى الله عليه وآله) بمقتضى الترتيب بعد تلك الشهادة وليست الصلاة عليهم قبلها جزءاً، ومع هذا الشكّ لو أتى بالصلاة عليهم بقصد الجزئيّة لكان تشريعاً، والبراءة لا تثبت الإطلاق، فلا محيص عن أن يأتي بالصلاة عليهم رجاءً لا بقصد الجزئيّة، كما هو الحال في كل موارد دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر، فمتى ما أجرى البراءة عن الزائد يجب أن يأتي بالأقلّ رجاءً لا بعنوان كونه هو الواجب بحدّه وإلّا لزم التشريع، إلّا بناءً على كون البراءة تثبت الإطلاق، لكنّه خلاف التحقيق كما مضى.

 

شبهة التشريع في الزيادة

الجهة الثالثة: في مبطليّة الزيادة في العمل العبادي لا من ناحية شرطيّة عدم الزيادة أو جزئيّته، بل من ناحية التشريع والإضرار بقصد القربة حينما يقصد الجزئيّة وهو ليس بجزء(1).

وهذا القصد تارة يكون بمعنى التصرّف في أمر المولى، واُخرى يكون بمعنى الخطأ في حين أنـّه يريد العمل بواقع الأمر المولوي.


(1) هذه الجهة من البحث تكون من الجهات المرتبطة بنحو غير مباشر ببحث دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر، وهي ترتبط ببحث الدوران والشكّ بينهما بدمج ما دمجه فيها صاحب الكفاية من البحث عن قصد الجزئيّة لدى فرض الشكّ في الزيادة بعد فرض أنّها لو كانت زيادة لكان هذا القصد مبطلاً للتشريع وللإضرار بقصد القربة(1)، وبما أنّ اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) ترك هذا المقطع فكأنّما يبدو أنّ هذه الجهة غير مربوطة بما نحن فيه.


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 244 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق المشكيني.

400

أمـّا التصرّف في أمر المولى فهو على ثلاثة أنحاء:

النحو الأوّل: أن يغضّ النظر عن الأمر المولوي المتعلّق بالعمل من دون تلك الزيادة ويستبدله بفرض أمر مولوي متعلّق به مع تلك الزيادة، وهنا لا إشكال في البطلان من جهة التشريع، فإنّه لم يعبد ربّه ولم يمتثل أمر مولاه، وإنّما كان المحرّك له نحو عمله هو تشريعه وداعيه على الجري وفق الأمر الذي صنعه.

النحو الثاني: أن لا يغضّ النظر عن الأمر المولوي المتعلّق بالعمل من دون تلك الزيادة ولا يفرضه كالعدم، بل يفرض إلى جانب ذلك الأمر أمراً آخر ـ تشريعاً ـ متعلّقاً بمجموع العمل مع الزيادة، وعندئذ إن كان الأمر الأوّل كافياً في الداعويّة المستقلّة له نحو العمل صحّ عمله، ولا يبطله اشتماله على التشريع المحرّم؛ لعدم مضريّته بقصد القربة، وإن لم يكفِ إلّا بمقدار جزء الداعي، أو لم تكن له داعويّة أصلاً بطل عمله.

النحو الثالث: أن يمدّد نفس الأمر الموجود المنبسط على ما عدا هذا الزائد بحيث يشمل هذا الزائد، وذلك إمّا بأن يفرض أنّ مجموع الركوع الأوّل والركوع الزائد مثلاً جزء، أو بأن يفرض أنّ الجامع بين القليل والكثير جزء، فتشريعه إنّما هو في تمديد الأمر إلى هذا الزائد ولا بأس بصحّة عمله عندئذ؛ إذ قد أتى بالأجزاء الواقعيّة بقصد الأمر الواقعي، وإنّما شرّع في جزء زائد بتمديده لذلك الأمر وتكميله بحيث يشمل هذا الجزء بأحد النحوين.

هذه هي الشقوق الأساسيّة للمطلب مع أحكامها، ويمكنك التشقيق والتفريع.

وأمـّا الخطأ في القصد فقسّموه إلى قسمين:

الأوّل: ما يسمّى بالخطأ والاشتباه في التطبيق، وذلك بأن يقصد امتثال نفس الأمر الواقعي الموجود خارجاً لكنّه يعتقد اشتباهاً وخطأً أنـّه متعلّق بالمجموع من الزائد والمزيد عليه.

وهنا قالوا بصحّة العمل؛ إذ لم يكن أيّ خلل في قربته وتحركّه عن الأمر الواقعي، غاية ما هناك أنـّه طبّقه خطأً على المجموع.

الثاني: ما يسمّى بالخطأ بنحو التقييد، وذلك بأن لا يدري المكلّف أنـّه هل متعلّق الأمر خصوص الركوع الواحد أو مجموع الركوعين، أو يعتقد أنّ متعلّقه مجموع الركوعين، وعلى أيّ حال يأتي بالصلاة مع الركوعين، ويتحرّك عن الأمر الواقعي لو كان متعلّقاً بالركوعين، وأمـّا لو كان متعلّقاً بالركوع الواحد فهو لا يتحرّك

401

عنه.

وهنا قالوا بالبطلان؛ لأنّه تحرّك عن ذلك الأمر على تقدير غير متحقّق، فالتحرّك عن الأمر لم يتحقّق.

أقول: إنّ التحرّك في الحقيقة لا يكون حتّى في الصور الاعتياديّة عن الوجود الواقعي للأمر، وإنّما هو عن وجوده الواصل علميّاً أو احتماليّاً، وهذا هو معنى القربة. لا التحرّك عن ذات الأمر الواقعي الذي لا يعقل، وهذا الشخص قد تحرّك عن الوجود الواصل علميّاً أو احتماليّاً إليه للأمر بالمجموع، لا أنـّه تحرّك عن الأمر على تقدير ولم يتحرّك عنه على تقدير آخر.

نعم، تارة يفرض أنـّه يكون المحرّك له هو الجامع بين الأمر بالمجموع من الزائد والمزيد عليه، والأمر بخصوص المزيد عليه وهو يعتقد إنطباق الجامع على الفرد الأوّل، وهذا ما نسمّيه بالخطأ في التطبيق، واُخرى يُفرض أنّ محرّكه هو خصوص الوجود العلمي أو الاحتمالي للأمر بالمجموع، وهذا ما نسمّيه بالخطأ في التقييد ونقول: إنّ عمله أيضاً صحيح إذ هذا التحرّك تحرّك قربيّ، وإن كان ما تخيلّه من الأمر علماً أو احتمالاً لم يكن موجوداً فى الواقع ولا يشترط في صحّة العمل عدا كون تحرّك العبد نحوه تحرّكاً قربيّاً وكونه ممّا يصحّ في نفسه التقرّب به إلى المولى، وكلا الشرطين موجود هنا.

 

الشكّ في الجزئيّة عند العجز

التنبيه السابع: إذا شككنا في أنّ جزئيّة الجزء الفلاني هل هي مطلقة أو هي في غير حالة العجز فما هو مقتضى الأصل؟ هذا البحث يشبه من حيث العنوان تماماً البحث الذي مضى في التنبيه الخامس، ففي كلا البحثين يبحث عن الشكّ في كون الجزئيّة مطلقة أو مقيّدة بغير صورة العذر، إمّا بمعنى العذر النسياني كما في البحث السابق، وإمّا بمعنى العذر العجزي كما في هذا البحث. ولكنّ هنا فروقاً بين المبحثين من عدّة جهات تنشأ من الفرق التكويني بين طبيعة النسيان وطبيعة العجز، وبذكر تلك الجهات (أعني جهات الفرق) يتجلّى ما هو الموقف الصحيح في هذا البحث، فلنذكر تلك الجهات.

 

402

إمكان الالتفات إلى العجز

الجهة الاُولى: أنـّه مضى في البحث السابق إبداء شبهة أنّ الناسي لا يمكن أن يوجب عليه الباقي؛ لأنّه لو التفت إلى نسيانه خرج عن كونه ناسياً، وإلّا فلا يصله الخطاب، وقد مضى حلّ هذه الشبهة، ومضى أنّ بعضهم ربطوا بحث جريان البراءة وعدمه نفياً وإثباتاً بهذه الشبهة، فإن تمّت فلا مجال للبراءة، وإلّا فتجري البراءة، وإن كنّا نحن بيّنّا أنّ جريان البراءة وعدمه غير مرتبط بهذه الشبهة وجوداً وعدماً.

وأمـّا هنا فلا موضوع لتلك الشبهة رأساً؛ إذ لا مانع من توجّه العاجز إلى عجزه ولا يخرج بذلك عن كونه عاجزاً، فيمكن توجيه الخطاب إليه بإتيان الباقي، وهذا الفرق بين المبحثين بناءً على تسليم تلك الشبهة في نفسها هناك، وإن كان لا يثمر على مبنانا من عدم ارتباط جريان البراءة وعدمه بتلك الشبهة نفياً وإثباتاً، إلّا أنـّه يثمر على مبنى من يربط جريان البراءة وعدمه بتلك الشبهة نفياً وإثباتاً.

 

وجه الارتباط ببحث الأقلّ والأكثر

الجهة الثانية: أنـّه مضى في ذلك البحث أنّ السيّد الاُستاذ يرجع البحث إلى بحث جريان البراءة وعدمه في الأقلّ والأكثر الارتباطيين، ببيان: أنـّه إن كانت الجزئيّة مطلقة فالواجب خصوص الفرد التامّ، وإن كانت مقيّدة فالواجب هو الجامع بين الفرد التامّ في حال الذكر والفرد الناقص في حال النسيان.

وقلنا هناك: إنّ هذا البحث خارج عن مبحث دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين حكماً في بعض الموارد، كما أنـّه خارج موضوعاً ـ أيضاً ـ في البعض الآخر، فإذا ارتفع النسيان في أثناء الوقت فهنا وإن كان يعلم إجمالاً بوجوب التامّ، أو الجامع بينه وبين الناقص في حال النسيان، لكنّ هذا العلم الإجمالي إنّما حصل بعد خروج أحد طرفيه عن محل الابتلاء، فجريان البراءة هنا غير مربوط بجريان البراءة عند دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين، فهذا خارج عن ذاك المبحث حكماً.وإذا استمرّ النسيان في تمام الوقت فالعلم الإجمالي إنّما هو علم إجمالي بين المتباينين؛ إذ يعلم إجمالاً بوجوب الناقص في الوقت أو التامّ في خارج الوقت، فهذا خارج عن بحث الأقلّ والأكثر موضوعاً، ومع كون الأمر دائراً بين المتباينين تجري البراءة؛ لأنّ العلم الإجمالي إنّما حصل بعد خروج أحد طرفيه عن محل الابتلاء.

403

وأمـّا فيما نحن فيه، ففي فرض ارتفاع العجز في الأثناء يكون جريان البراءة وعدمه مرتبطاً بجريان البراءة في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين وعدمه؛ لأنّ العلم الإجمالي حاصل من أوّل الأمر؛ إذ هو من أوّل الأمر ملتفت إلى عجزه، وفي فرض استمرار العجز في تمام الوقت يكون العلم الإجمالي منجّزاً؛ لأنّه علم إجمالي دائر بين المتباينين ثابت من أوّل الأمر، لالتفاته إلى عجزه.

نعم، إذا لم يكن لذلك الواجب قضاء فلا يتشكّل علم إجمالي، بل يشكّ بدواً في وجوب الباقي وتجري البراءة.

ثمّ إنّ هذا العلم الإجمالي وإن كان منجّزاً على مبانينا، لكنّه يمكن الاستشكال في منجّزيّته على بعض المباني كما على مباني المحقّق النائيني (قدس سره)الذي يقول: إنّ تنجيز العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة يكون بمعارضة الاُصول، ومعارضتها تكون باستلزامها للترخيص في المخالفة القطعيّة بحيث يمكن للعبد الوقوع في المخالفة القطعيّة منه مرخصاً فيها، ولذا يقول (قدس سره): بعدم تنجيز العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة من باب عدم إمكان الجمع بين الإطراف، وعلى هذا فنقول: إنّه فيما نحن فيه لا تلزم مخالفة قطعيّة مرخّصاً فيها بما هي مخالفة قطعيّة للعلم الإجمالي؛ وذلك لأنّه إن أتى بالصلاة الناقصة في الوقت لم تلزم مخالفة قطعيّة، وإن ترك الصلاة في الوقت رأساً حصل له العلم التفصيلي بوجوب القضاء.

 

استصحاب وجوب الباقي

الجهة الثالثة: ما يظهر في فرض ثالث غير الفرضين الماضيين ـ من استمرار العجز إلى أثناء الوقت أو إلى آخر الوقت ـ وهو ما إذا كان العجز من أثناء الوقت فقد ذكرت فى المقام مسألة الاستصحاب، أي: استصحاب وجوب الباقي، ووقع البحث عنه، ولا أقصد أنّ التمسّك بالاستصحاب هنا صحيح، وإنّما المقصود أنّ شبهة الاستصحاب جاؤوا بها هنا، ولكن لا يوجد لهم أيّ ذكر عن الاستصحاب في مبحث النسيان(1) والصحيح هو ما صنعوه، فإنّ الاستصحاب على تقدير تماميّته في المقام


(1) المحقّق العراقي (رحمه الله) قد تعرّض في مقالاته ج 2، ص 102 للاستصحاب في فرض النسيان.

404

لا مجال له في مبحث النسيان.

فهنا نتكلّم في مقامين: الأوّل في أنـّه على تقدير تماميّة الاستصحاب هنا، هل يتمّ هناك، أو يوجد هناك فرق بين المقامين في ذلك؟ والثاني في أنـّه هل يتمّ الاستصحاب فيما نحن فيه أو لا؟

أمـّا المقام الأوّل: فالصحيح أنـّه لو تمّ الاستصحاب هنا فإنّه لا يتمّ في باب النسيان؛ إذ في حال النسيان لا يُوجد شكّ لاحق، فإنّ الناسي يرى نفسه ذاكراً وملتفتاً لا ناسياً، وبعد أن صلّى ناقصاً ثمّ تذكّر لا مجال لأن يُثبت وجوب ما أتى به من الباقي في حال النسيان بالاستصحاب؛ لأنّ الحكم الظاهري على ما مضى منّا إنّما هو لحفظ الملاكات الواقعيّة عند التزاحم، والاستصحاب هنا ليس له أيّة حافظيّة لملاك الباقي لو كان، بل انحفظ بنفسه في المرتبة السابقة على الحكم الظاهري، فأي مجال للحكم الظاهري؟!

ولا يقال: إنّه بناءً على إجزاء الأحكام الظاهريّة سوف تترتّب ثمرة على هذا الاستصحاب: وهي الإجزاء وعدم لزوم القضاء، فلا يكون الاستصحاب لغواً.

فإنّه يقال: إنّه لم يكن إشكالنا عبارة عن اللغويّة وعدم الثمرة حتّى يجاب بأنّ ثمرته الإجزاء بناءً على القول به، وإنّما إشكالنا عبارة عن أنّ حقيقة الحكم الظاهري هي الأحكام الحافظة لملاكات الأحكام الواقعيّة عند التزاحم في باب الشكّ، وهذا ما لا يتصوّر في المقام، والإجزاء إنّما هو فرع تحقّق الحكم الظاهري في نفسه وتماميّته، وهنا لا يتمّ الحكم الظاهري؛ لأنّ الملاك الواقعي انحفظ في المرتبة السابقة على الحكم الظاهري لا بالحكم الظاهري.

وأمـّا المقام الثاني: فالإشكال المتبادر إلى الذهن في اوّل النظر في هذا الاستصحاب هو أنّ الوجوب المتيقّن سابقاً للباقي هو الوجوب الضمني، والمشكوك لاحقاً هو الوجوب الاستقلالي له، فكيف يستصحب الوجوب السابق مع القطع بارتفاعه؟ وفي مقام دفع هذا الإشكال تذكر عدّة تقريبات للاستصحاب في المقام:

التقريب الأوّل: أن يحوّل مركز الاستصحاب من الفرد إلى الجامع فيُستصحب جامع الوجوب الضمني والاستقلالي للباقي.

ويرد عليه: أوّلا: أنّ هذا من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي، وهو استصحاب الجامع بين الفرد المقطوع الارتفاع والفرد المشكوك الحدوث، وهو غير

405

صحيح على ما سوف يأتي ـ إن شاء اللّه ـ بيانه في بحث الاستصحاب.

وثانياً: أنّ الجامع بين الوجوب الضمني للباقي والوجوب الاستقلالي له جامع بين ما يقبل التنجّز وما لا يقبل التنجّز، فإنّ الوجوب الضمني للباقي ـ مع فرض عدم القدرة على الجزء الآخر الذي لابدّ من ضمّه إلى هذا الباقي حتّى يفيد ـ لا يقبل التنجّز، ومثل هذا الجامع لو علم بالعلم الوجداني لا يترتّب على هذا العلم أثر التنجيز فكيف بالاستصحاب! هذا إذا اُريد من استصحاب الجامع إثبات الجامع فقط، وأمـّا إذا اُريد بذلك إثبات خصوص الوجوب الاستقلالي، كان ذلك تعويلاً على الأصل المثبت.

ثمّ إنّ المحقّق العراقي (قدس سره) مضافاً إلى الإيراد الأوّل على هذا التقريب أورد إيراداً آخر: وهو أنّ استصحاب بقاء الوجوب محكوم لاستصحاب جزئيّة ذلك الجزء؛ لأنّ الشكّ في بقائه مسبّب عن الشكّ في كون جزئيّة ذلك الجزء مطلقة، فإن كانت جزئيّته مطلقة فالوجوب قد ارتفع، وإلّا فالوجوب باق (1).

ويرد عليه: أنـّه إن كان المراد باستصحاب الجزئيّة استصحاب جزئيّته بمعنى دخله في عالم الملاك فهذا سبب عقلي لسقوط الوجوب لا سبب تشريعي له حتّى يُستصحب ويُجعل استصحابه حاكماً على استصحاب الوجوب، وإن كان المراد استصحاب جزئيّته بمعنى كونه واجباً بالوجوب الضمني، فهذا مقطوع العدم، فإنّه مع عدم القدرة عليه غير واجب جزماً، وإن كان المراد استصحاب جزئيّته للواجب بمعنى الملازمة بين وجوب الصلاة وكون هذا الجزء واجباً ضمنيّاً في الصلاة فثبوت الملازمة بين طبيعة وجوب الصلاة والوجوب الضمني لهذا الجزء مشكوك من أوّل الأمر، نعم الثابت هو الملازمة بين وجوب الصلاة في خصوص حال القدرة على هذا الجزء والوجوب الضمني لهذا الجزء، وهذه الملازمة مقطوعة البقاء.

هذا، مضافاً إلى أنّ الملازمة في عرض عدم وجوب الباقي وهما معلولان لشيء ثالث وهو كون الملاك قائماً بالمجموع من هذا الجزء وبقيّة الأجزاء، وليست هنا سببيّة ومسببيّة حتّى السببيّة والمسبّبية التكوينيّة، وإن كان المراد استصحاب جزئيّة هذا الجزء لمسمّى الصلاة كما هو الذي يظهر من تقرير بحثه (قدس سره)(2) ففيه: أنـّه


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 450.

(2) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 451.

406

من الواضح أنّ هذا ليس حكماً شرعيّاً ولا موضوعاً لحكم شرعي، وإنّما الواجب علينا هو واقع الصلاة لا مسمّى الصلاة بما هو مسمّى الصلاة.

التقريب الثانيّ: هو التفصيل بين الجزء الذي يعدّ ركناً ومقوّماً للصلاة والجزء الذي يعدّ وجوده وعدمه من حالات الصلاة لا مقوّماً لها بحيث يتبدّل بانتفائه الموضوع.

وذلك بتقريب أنـّه قد حقّق في بحث الاستصحاب التفصيل بين انتفاء ما يعدّ جهة تعليليّة وما يعدّ جهة تقييديّة، فمع انتفاء الجهة التقييديّة لا مجال للاستصحاب؛ لعدم الشكّ اللاحق والجزم بالارتفاع، ومع انتفاء الجهة التعليليّة يجري الاستصحاب؛ لوجود اليقين السابق والشكّ اللاحق، فنطبّق هذه القاعدة على ما نحن فيه، ونقول في موارد العجز عن الأجزاء التي تعدّ جهة تعليليّة باستصحاب وجوب الباقي؛ لأنّه عرفاً عين الموضوع السابق قد علم سابقاً بوجوبه وشكّ لاحقاً في وجوبه فيستصحب وجوبه.

وتوضيح بطلان هذا التقريب يكون بشرح فكرة التفصيل بين الجهة التعليليّة والتقييديّة، وهذا موكول إلى بحث الاستصحاب، إلّا أنّنا نقول هنا إجمالاً: إنّ الجهة المنتفية التي يراد أن يُرى أنّها تعليليّة أو تقييديّة تارة يُفرض القطع بكونها دخيلة في شخص الحكم المعلوم حدوثاً وبقاءً، غاية الأمر أنـّه يحتمل بعد انتفائها ثبوت حكم آخر مماثل للحكم الأوّل، وفي هذا القسم لا مجال للاستصحاب ولو فرضت الحيثيّة تعليليّة لا تقييديّة فإنّها سواء كانت تقييديّة أو تعليليّة نحن نعلم بانتفاء الحكم عند انتفائها ولو لأجل انتفاء علّته، وإنّما نحتمل حكماً آخر غير الحكم الأوّل، فهنا لا مجال للاستصحاب؛ لعدم الشكّ اللاحق في بقاء الحكم السابق والقطع بارتفاعه.

واُخرى يفرض الشكّ في كونها دخيلة في الحكم المعلوم وعدمه، أو الجزم بدخلها حدوثاً والشكّ في دخلها بقاءً، وعندئذ يتحقّق الشكّ اللاحق في بقاء الحكم السابق سواء كانت الجهة تعليليّة أو تقييديّة؛ إذ على تقدير دخلها بقاءً يكون الحكم منتفياً، وعلى تقدير عدم دخلها بقاءً أو عدم دخلها لا حدوثاً ولا بقاءً يكون شخص ذلك الحكم باقياً، إلّا أنـّه لا نقول ـ عندئذ ـ بجريان الاستصحاب مطلقاً، بل نفصّل بين فرض كون الجهة تعليليّة وكونها تقييديّة؛ لأنّه إذا كانت الجهة تقييديّة فلا يُمكننا أن نشير إلى شخص الباقي ونقول: إنّ هذا كان ذا حكم كذائي والآن كما كان؛ لأنّ هذا يعدّ غير الشيء السابق الذي كان ذا حكم كذائي، فمثلاً إذا جاز تقليد المجتهد ثمّ زال اجتهاده فلا يصحّ أن يقال: إنّ هذا الشخص بما هو هذا الشخص كان يجوز تقليده فالآن كما كان؛ لأنّ الاجتهاد يعدّ حيثيّة تقييديّة لجواز التقليد، فيقال: إنّه فيما سبق

407

كان يقلَّد المجتهد بما هو مجتهد وهذا ليس مجتهداً. وهذا بخلاف ما إذا كانت الجهة تعليليّة بمناسبات الحكم والموضوع في نظر العرف كالتغيّر في الماء المتغيّر مثلا فيشار إلى الموضوع المعيّن ويقال: إنّ هذا كان نجساً والآن كما كان بحسب الاستصحاب. وتوضيح ما ذكرناه وتفصيله موكول إلى بحث الاستصحاب.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ ما نحن فيه من قبيل القسم الأوّل، فإنّ المفروض أنّ الحكم المتيقّن إنّما هو وجوب تمام الأجزاء، فهو ينتفي حتماً بتعذّر بعض الأجزاء، ويكون ذلك الجزء دخيلاً في الحكم حدوثاً وبقاءً ولو فرض كون الجهة تعليليّة، وأمـّا الحكم بوجوب الباقي فهو حكم آخر، ولا مجال لإثباته بالاستصحاب، فدعوى دخول ما نحن فيه في قاعدة التفصيل في الاستصحاب بين موارد الحيثيّة التقييديّة وموارد الحيثيّة التعليليّة؛ توهّم باطل، وقد نشأ ذلك من الاشتباه الصادر منهم في مبحث الاستصحاب عند التفصيل بين موارد الحيثيّة التقييديّة وموارد الحيثيّة التعليليّة حيث تخيّلوا أنّ كون الحيثيّة تعليليّة يساوق تحقّق الشكّ اللاحق وعدم الجزم بزوال الحكم السابق، وهذا يوجب التفصيل، مع أنـّه ليس كذلك، بل هما شيئان مختلفان لايرتبط أحدهما بالآخر، فقد تكون الحيثيّة تعليليّة ومع ذلك لا يوجد شكّ لاحق، بل يقطع بانتفاء الحكم السابق، فلا مجرى للاستصحاب، وقد يكون الشكّ اللاحق ثابتاً لكنّ الحيثيّة تقييديّة فلا يجري الاستصحاب أيضاً، على ما يأتي تفصيله في محلّه إن شاء اللّه.

التقريب الثالث: هو أنّ وجوب الباقي بعد تعذّر أحد الأجزاء هو عين وجوبه قبل التعذّر إلّا أنـّه يختلف عنه في الحدّ؛ لأنّ الوجوب كان قبل التعذّر منبسطاً على الجزء الزائد، والآن انكمش عنه ووقف على سائر الأجزاء، ونحن نستصحب ذات المحدود بقطع النظر عن الحدود من قبيل استصحاب ذات الحمرة بعد القطع بزوال شدّتها.

أقول: إن اُريد تصوير حركة الانبساط والانقباض في عالم الحبّ وما فوقه، فهو محتمل البقاء حتّى بلحاظ الجزء المتعذّر، وإن اُريد تصويرها في عالم التكليف والاعتبار فهو غير معقول؛ فإنّ التكليف والاعتبار ليست له حركة الانبساط والانقباض، وإنّما هو أمر ساكن وثابت على النحو الذي اُنشِىء واعتُبِر، والتكليف بالباقي مباين للتكليف بالمجموع.

نعم، يمكن استصحاب وجود مبادىء الحكم من الحبّ وما فوقه في الباقي لولا ما سيجيء من إشكال الدوران بين قبوله للتنجّز وعدم قبوله له.

هذا، وقد تحصّل إلى هنا عدم تماميّة شيء ممّا ذكروه من الأجوبة عن

408

الإشكال الرئيسي الماضي الذي ذكره الأصحاب في المقام، وهو أنّ المشكوك اللاحق غير المتيقّن السابق؛ لأنّ المتيقّن السابق هو الوجوب الضمني للباقي، والمشكوك اللاحق هو الوجوب الاستقلالي له.

إلّا أنّ هذا الإشكال مبنيّ على تصوّر خاطىء في المقام: وهو تخيّل أنّ الباقي لو كان واجباً عليه عند العجز عن الجزء الزائد فإنّما يجب عليه ذلك بخطاب مستقلّ، وهذا التصوّر غير صحيح، فإنّه مضى في مبحث النسيان إمكان تصوير الخطاب من أوّل الأمر بنحو يُوجب الإتيان بالأقلّ عند النسيان، وكذلك الأمر فيما نحن فيه، فمن الممكن تصميم الخطاب من أوّل الأمر بنحو يوجب الإتيان بالتامّ عند القدرة والإتيان بالناقص عند العجز؛ وذلك بأن يوجب المولى من أوّل الأمر الجامع بين التامّ عند القدرة والناقص عند العجز، فلو كان الخطاب في الواقع هكذا فالباقي بعد العجز واجب بنفس الوجوب السابق، إذن فقد شككنا في بقاء وجوب الباقي الثابت عليه فيما سبق وعدمه، فإنّه إن كان ذلك الوجوب وجوباً للتامّ فهو غير باق، وإن كان وجوباً للجامع بين وجوب التامّ في حال القدرة ووجوب الناقص في حال العجز فهو باق، فاستحصاب وجوب الباقي لا يرد عليه الإشكال الذي ذكره الأصحاب.

نعم، يرد عليه: أنّ الوجوب السابق على أحد التقديرين غير قابل للتنجيز حين العجز، وهو تقدير كونه وجوباً للتامّ، فاستصحاب الوجوب السابق استصحاب للجامع بين ما يقبل التنجّز وما لا يقبل التنجّز، فإن اُريد بذلك إثبات هذا الجامع فقط فهذا الجامع لا يتنجّز بالعلم الوجداني فضلاً عن الاستصحاب، وإن اُريد بذلك إثبات التقدير الآخر فهو تعويل على الأصل المثبت.

وبمثل هذا نجيب عن التقريب الذي أشرنا إليه للاستصحاب من استصحاب بقاء مبادىء الحكم في الباقي، فإنّه على تقدير كونها منبسطة على الجزء غير المقدور كما كانت كذلك قبل العجز لا تقبل التنجّز، وعلى تقدير انكماشها ووقوفها على الباقي تقبل التنجّز، فإن اُريد إثبات التقدير الثاني كان الأصل مثبتاً، وإلّا لم يترتّب على هذا الاستصحاب تنجيز.

 

وجوب الباقي بقاعدة الميسور

الجهة الرابعة: أنّة قد يثبت في المقام وجوب الباقي بعد العجز عن الزائد بدليل اجتهادي وهو ما يسمّى بقاعدة الميسور.

409

 

 

 

قاعدة الميسور

 

والدليل عليها من الأخبار روايات ثلاث:

أحدها: الرواية العاميّة: عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»(1).

وثانيها: الرواية العلويّة: «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه»(2).

وثالثها: الرواية العلويّة الاُخرى: «الميسور لا يسقط بالمعسور»(3).

وهذه الروايات لا يمكن الاعتماد على شيء منها من حيث السند؛ فإنّ الروايتين الأخيرتين مرسلتان مذكورتان في غوالي اللئالي لم يُرَ لهما عين ولا أثر في كتب الأخبار المتقدّمة، فلا يحتمل فضلاً عن أن يُطمأن باعتماد السابقين الذين هم أشدّ بصيرة منّا بخصوصيّات الخبر من حيث الصدق والكذب على هذين الخبرين، فلا ينجبر سندهما بذلك بناءً على قبول كبرى الانجبار بعمل السابقين، وأمـّا الرواية الاُولى فهي عاميّة مرويّة عن أبي هريرة ليس لها عين ولا أثر في كتب أخبار الخاصّة، ولهذا ليس هنا مزيد حاجة إلى التكلّم تفصيلاً في دلالة هذه الأخبار والإشكالات التي اُوردت عليها، إلّا أنّنا نتكلّم عن خصوص حديث «الميسور لا يسقط بالمعسور»؛ لأنّ البحث فيه أكثر فنيّة، وبالتكلّم فيه يظهر حال جملة من الإشكالات التي تتطرّق إلى الحديثين الآخرين ثمّ نتكلّم ـ أيضاً ـ عن حديث «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»(4).

 


(1) سنن البيهقي: ج 4، باب وجوب الحج مرّة واحدة، ح 1، ص 326، وصحيح مسلم: ج 4، باب فرض الحج مرّة في العمر، ح 1، ص 102.

(2) غوالي اللئالي: ج 4، ح 207، ص 58.

(3) نفس المصدر: ح 205.

(4) كأنّ البحث عن هذا الحديث كان نتيجة أنّ اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) أحسّ بأنّ بعض

410

أمـّا حديث الميسور لا يسقط بالمعسور فقد اعترض على دلالته بعدّة إشكالات كل واحد منها يبتني على بعض التفاسير في هذا الحديث، فلنذكر أوّلاً التفاسير التي قد تحتمل في هذا الحديث وهي ثلاثة:

التفسير الأوّل: أن يفرض قوله: «لا يسقط بالمعسور» نهياً بلسان النفي من قبيل قوله تعالى﴿لا رَفَثَ ولا فُسوقَ ولا جِدالَ في الحَج﴾(1). على بعض تفاسير الآية ومن قبيل الأمر بلسان الإخبار كما يقال: (يسجد سجدتي السهو) بمعنى: اسجد سجدتي السهو.

التفسير الثاني: أن يفرض هذا الكلام نفياً تشريعيّاً بأن يقصد بنفس ذلك جعل الحكم والتكليف من قبيل قوله: «لا ربا بين الوالد وولده»(2). المقصود به تشريع حليّة الربا لا الإخبار بعدم وجوده تكويناً.

التفسير الثالث: أن يحمل على النفي الحقيقي الإخباري كقولنا: الإنسان لا يمشي على يديه وقوله تعالى ﴿ما جَعَلَ عليكُم في الدينِ من حَرَج﴾(3).

وأمـّا الإشكالات فهي اُمور:

منها: ما ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله) من تعارض ظهور هيئة (لا يسقط) في وجوب الإتيان بالباقي مع ظهور (الميسور) في الإطلاق وشموله للمستحبّات، فإنّ الميسور من المستحبّ لا يجب الإيتان به عند تعذّر بعض أجزائه(4).

وهذا الإشكال مبتن على التفسير الأوّل من التفاسير الثلاثة، وهو حمل النفي على النهي، إذ لو قلنا: إنّه جعلٌ لبقاء الحكم الثابت قبل العجز عن بعض الأجزاء، أو إخبار عن ذلك كما هو الحال في التفسير الثاني والثالث لم يكن موضوع لهذا الإشكال كما هو واضح.

 


الحضّار يحبّ أن يبحث عن هذا الحديث أيضاً، وإلّا فهو كان مصمّماً على الاقتصار على بحث الميسور.

(1) سورة 2، البقرة، الآية 197.

(2) راجع الوسائل: ج 18 بحسب طبعة آل البيت، ب 7 من الربا، ح 1، ص 135، و ح3، ص 136.

(3) سورة 22، الحجّ، الآية 78.

(4) راجع الكفاية: ج 2، ص 252 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق المشكيني.