15

 

 

 

 

 

 

منجّزيّة العلم الإجماليّ

 

لا يخفى أنـّنا على مسلكنا من إنكار مبدأ قبح العقاب بلا بيان نكون فارغين عن وجود المقتضي للتنجيز لكلّ من الطرفين، وهو نفس الاحتمال بلا حاجة إلى البحث عن أنّ العلم الإجماليّ هل يقتضي التنجيز بقدر الجامع، أو بقدر الواقع، وإنـّما نحتاج إلى البحث عن أنّ العلم الإجماليّ هل يمنع عن جريان الاُصول في الأطراف تماماً، أو في بعضها أيضاً، أو لا؟ في حين أنـّه على مبنى القوم القائلين بقاعدة قبح العقاب بلا بيان يقع البحث في أنّ العلم الإجمالي هل يقتضي التنجيز، أو لا؟ واقتضاؤه للتنجيز هل يكون بمقدار الجامع، أو بمقدار الواقع؟ واقتضاؤه له هل هو بنحو العلّيّة التامّة، أو لا؟

إلاّ أنّ السيّد الاُستاذ رغم إيمانه بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ذهب(1) في المقام إلى أنّ احتمال التكليف يقتضي التنجيز، ولا حاجة إلى البحث عن اقتضاء العلم الإجماليّ للتنجيز، فذكر: أنّ احتمال التكليف بما أنـّه يقتضي في نفسه احتمال العقاب في المخالفة يقتضي ـ لا محالة ـ التنجيز في المقام؛ لأنّ احتمال العقاب يوجب التنجّز، ويحكم العقل على أساس هذا الاحتمال بلزوم الامتثال ما لم يوجد رافع لهذا الاحتمال، ومؤمّن من العقاب كقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وحتّى في فرض القطع بالتكليف إنـّما يكون المنجّز هو احتمال العقاب لا القطع بالعقاب؛ إذ لا قطع بالعقاب، فإنـّه يحتمل عدم العقاب بمثل التوبة أوالعفو أوالشفاعة.

نعم، احتمال العقاب عند القطع بالتكليف أقوى منه عند الشكّ فيه؛ لأنـّه عند الشكّ يوجد منشأان لاحتمال عدم العقاب: أحدهما: احتمال عدم العقاب من


(1) راجع الدراسات: ج 3، ص 218ـ 219، والمصباح: ج 2، ص 344ـ 345.

16

باب السالبة بانتفاء الموضوع، بأن لا يكون في المقام تكليف أصلاً(1)، والآخر: احتمال عدم العقاب، من باب السالبة بانتفاء المحمول، بمثل العفو والشفاعة. وأمـّا مع القطع بالتكليف فلا يوجد إلاّ احتمال عدم العقاب من باب السالبة بانتفاء المحمول، وإذا كان الموجب للتنجّز هو احتمال العقاب الثابت بمجرّد احتمال التكليف، فلا حاجة في مورد العلم الإجماليّ إلى البحث عن أنّ العلم الإجماليّ ما هو تأثيره في مقام التنجيز؟ فإنّ المقتضي للتنجيز موجود قطعاً، وإنـّما يجب البحث عن وجود المانع عن التنجيز في المقام وهو القواعد المؤمّنة.

إلاّ أنّ هذا الكلام لا يناسب السيّد الاُستاذ، ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ احتمال العقاب ليس هو المنشأ للتنجّز، وإنـّما هو متأخّر رتبة عن التنجّز، ولولا تنجّز التكليف علينا لما كان وجه للعقاب؛ إذ هو عقاب بلا حقّ، وإنـّما نستحقّ العقاب بمخالفة التكليف المنجّز، وما ذكره خلط بين التنجّز الأخلاقيّ والتنجّز الجبلّيّ، فإنـّنا إنـّما نتكلّم في التنجّز الأخلاقيّ، وهو التنجّز الذي يحكم به العقل العمليّ، وهو منشأ للعقاب، وليس نتيجة لاحتمال العقاب.

وأمـّا التنجّز الجبلّيّ فهو ليس ضرورة خلقيّة، بل ضرورة جبلّيّة ناشئة من احتمال العقاب ولو من قبل ظالم جائر، فلو أوعدنا الظالم بالعقاب على ترك عمل فنحن نضطرّ إلى الاتيان به بجبلّتنا، وحبّنا لأنفسنا وفرارنا عن الأذى بطبيعتنا الذاتيّة، وليس الكلام في هذا التنجّز.

ثمّ النسبة بين احتمال العقاب والتنجّز عموم من وجه، فيمكن فرض التنجّز من دون احتمال العقاب، كما لو قطع العبد بأنـّه لو عصى لتعقّبت معصيته بالتوبة أو الشفاعة أو العفو؛ فإنـّه مع هذا لا تجوز له عقلاً المعصية، ويكون التكليف منجّزاً عليه. ويمكن فرض احتمال العقاب من دون التنجّز، كما لو شكّ العبد في صحّة قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، وفرضنا أنـّها في الواقع صحيحة، فخالف تكليفاً مشكوكاً لم يتمّ عليه البيان، فهو يحتمل العقاب؛ لأنـّه يحتمل بطلان القاعدة، لكنّ التنجّز في الواقع غير ثابت؛ لفرض صحّة القاعدة بحسب الواقع.

وثانياً: أنّ ما ذكره ـ من احتمال عدم العقاب عند الشكّ من باب احتمال


(1) هذا هو مصبّ ما يأتي من الإشكال الثاني من إشكالات اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) على السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، إلاّ أنّ هذا إنـّما هو موجود في الدراسات، وليس موجوداً في المصباح.

17

السالبة بانتفاء الموضوع، وهو التكليف ـ غير صحيح على ما هو المسلّم بيننا وبينه، من أنّ التكليف بوجوده الواقعيّ ليس موضوعاً للعقاب، ولذا لا يفرّق بين المتجرّي والعاصي في مناط العقاب.

وثالثاً: لو سلّمنا كون احتمال العقاب بنفسه مقتضياً للتنجّز، قلنا: كيف فرض في المقام الفراغ عن مقتضي التنجيز، وأنّ البحث يجب أن يكون عن المانع؟ وأيّ شيء جعله أساساً في المقام؟ هل هو كبرى قاعدة منجّزيّة احتمال العقاب، أو صغرى ثبوت البيان؟

فإن جعل الأساس كبرى قاعدة منجزيّة احتمال العقاب، فاستغنى عن البحث عن اقتضاء العلم الإجماليّ، فكيف صحّ له جعل هذه القاعدة أساساً في المقام، مع أنّ المفروض تقدّم قاعدة ثانويّة عليها، وهي قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، ففي العلم الإجماليّ لا بدّ أن نبدأ البحث من هنا، لا من قاعدة محكومة لهذه القاعدة، فيجب أن يتكلّم أوّلاً في مقدار بيانيّة العلم الإجماليّ، وكيفيّة الخروج به عن هذه القاعدة الثانويّة واقتضائه للتنجيز.

وإن جعل الأساس صغرى ثبوت البيان التي تفني موضوع ما أشرنا إليه من القاعدة الحاكمة، فعندها تكون قاعدة منجّزيّة احتمال العقاب غير محكومة، فالكلام يكون في نفس هذه الصغرى، ومقدار بيانيّة العلم الإجماليّ، ولا معنىً لغضّ النظر عنها، وفرضها أساساً مفروغاً عنه بحدوده.

وعلى أيّة حال فنحن نعقد البحث هنا في مقامات ثلاثة:

الأوّل: في اقتضاء العلم الإجماليّ للتنجيز وإن كنّا لا نحتاج على مسلكنا إلى البحث عن ذلك؛ لكفاية اقتضاء نفس الاحتمال للتنجيز.

الثاني: في مانعيّة العلم الإجماليّ ثبوتاً أو إثباتاً عن إجراء الاُصول في تمام الأطراف.

الثالث: في مانعيّته ثبوتاً أو إثباتاً عن جريانها في بعض الأطراف.

والحاجة إلى البحث عن هذين المقامين الأخيرين ثابتة حتّى على مبنانا من مبدأ منجّزيّة الاحتمال.

 

18

 

 

 

اقتضاء العلم الإجمالي للتنجيز

 

أمـّا المقام الأوّل، وهو البحث عن اقتضاء العلم الإجماليّ للتنجيز وعدمه، فللتنجيز مرتبتان:

المرتبة الاُولى: التنجيز بمقدار حرمة المخالفة القطعيّة، ولا ينبغي الإشكال في اقتضاء العلم الإجماليّ لهذا المستوى من التنجيز، فإنّ البيان بمقدار الجامع ثابت على كلّ حال، ولم يستشكل أحد من المحقّقين المتأخّرين في اقتضائه للتنجيز بمقدار حرمة المخالفة القطعيّة، ونسب القول بعدم الاقتضاء إلى من لم نقف على اسمه من المتقدّمين، ولعلّه كان في عصر لم يميّز فيه بعدُ بين الأصل العقليّ والشرعيّ، فكان مقصوده ـ في الحقيقة ـ دعوى جريان البراءة الشرعيّة في الأطراف لا البراءة العقليّة. وعلى أيّة حال، فإنكار الاقتضاء في المقام واضح البطلان.

والمرتبة الثانية: التنجيز بمقدار وجوب الموافقة القطعيّة، وهذا هو الذي يكون في الحقيقة مثاراً للبحث عن اقتضاء العلم الإجماليّ للتنجيز وعدمه.

وقد ذهب المحقّق النائينيّ (قدس سره) ـ على ما في تقرير السيّد الاُستاذ(1) ـ إلى عدم اقتضائه للتنجيز بهذا المقدار، ولكنّ المشهور في مدارس المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله) هو الاقتضاء، وهو المنقول عن المحقّق النائينيّ في تقرير الشيخ الكاظميّ(2).

والظاهر أنّ الاختلاف بين التقريرين باعتبار تعدّد الدورتين، لأنّ دورة البحث التي كتبها الشيخ الكاظميّ سبقت الدورة التي كتبها السيّد الاُستاذ، فكأنّ الشيء الذي استقرّ رأي المحقّق النائيني (رحمه الله) عليه أخيراً هو القول بعدم الاقتضاء.

وربط بعضٌ اقتضاءَ العلم الإجماليّ للتنجيز بمقدار الموافقة القطعيّة وعدمه بحقيقة العلم الإجماليّ وما هو المنكشف به، فنحن نتكلّم أوّلا في حقيقة العلم الإجماليّ، وبيان الوجوه في ذلك، ثمّ نتكلّم على كلّ وجه من تلك الوجوه في مقدار اقتضاء العلم الإجماليّ، فنقول:


(1) ج 2، ص 245 .

(2) راجع فوائد الاُصول: ج4، ص9 .

19

 

حقيقة العلم الإجمالي

إنّ لهم في حقيقة العلم الإجماليّ مباني ثلاثة:

المبنى الأوّل: ما يستفاد من كلام المحقّق الخراسانيّ (قدس سره) في تعليقته على كفايته(1) : من كون العلم الإجماليّ علماً بالفرد المردّد، حيث إنـّه ذكر (رحمه الله) في بحث الواجب التخييريّ في الكفاية: أنّ أحد الأقوال فيه كون الواجب هو الواحد المردّد، وذكر في تعليقته على الكفاية: أنّ هذا لا يرد عليه الإشكال من ناحية أنـّه كيف يتعلّق وصف بالواحد المردّد؟ فإنـّه قد يتعلّق الوصف الحقيقيّ ذو الإضافة كالعلم به، فضلاً عن الوصف الاعتباريّ كالوجوب.

واُورد عليه من قِبَل من تأخّر عنه بأنـّه لا يعقل تعلّق العلم بالفرد المردّد، وأنـّه إن أراد الواحد المردّد المفهوميّ فهو ليس مردّداً، وإن أراد واقع الفرد المردّد ـ والظاهر أنـّه المراد له ـ، فهذا غير معقول؛ إذ كلّ ماهيّة لها تعيّن ماهويّ لا محالة، وما ليس له تعيّن ماهوي ليس ماهيّة حتّى يتعلّق العلم به، بل يلزم أيضاً التردّد في الوجود، فإنّ المعلوم بالذات موجود بنفس وجود العلم، فيلزم أن يكون العلم موجوداً بوجود متردّد، والتردّد في الوجود غير معقول.

والخلاصة: أنّ التقرّر الماهوي مساوق للتعيّن الماهويّ، والوجود الخارجيّ مساوق للتعيّن الخارجيّ، ولا يعقل التردّد في الماهيّة، ولا في الوجود، وعلى أساس أمثال هذه الكلمات أقاموا صرح المبنى الثاني.

والمبنى الثاني: هو ما ذهب إليه المحقّق الإصفهانيّ(2)(قدس سره)، ويظهر من كلمات المحقّق النائينيّ (رحمه الله) أيضاً، من أنّ العلم الإجماليّ يتعلّق بالجامع(3) بخلاف العلم التفصيلي، فالفرق بينهما يكون من ناحية المعلوم بهذا الوجه، ولا فرق بينهما من ناحية العلم.


(1) راجع الكفاية: ج 1، ص 226 بحسب طبعة المشكيني، التعليق على السطر العاشر من الصفحة.

(2) راجع نهاية الدراية: ج 2، ص 242 و302 و30 - 31، و ج 1، ص 255 .

(3) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 4، وأجود التقريرات: ج 2، ص49 - 50 .

20

وبرهن المحقّق الإصفهانيّ على أنّ العلم الإجماليّ علم بالجامع مع شكوك في الأفراد بأنّ العلم إمّا أنـّه لا يتعلّق بشيء، أو يتعلّق بالجامع، أو يتعلّق بالفرد بحدّه الشخصيّ مردّداً، أو بالفرد المعيّن.

أمـّا الأوّل وهو عدم تعلّق العلم بشيء، فباطل، فإنّ العلم من الأوصاف ذات الإضافة.

وأمـّا الثالث، فقد فرغنا عن بطلانه.

وأمـّا الرابع، فمن الواضح أنـّنا لا نعلم بأحد الفردين معيّناً، فلا نقطع بوجود زيد مثلاً في المسجد، ولا بوجود عمرو فيه.

فتعيّن أنّ العلم متعلّق بالجامع بينهما، وقال(1) (رحمه الله): إنـّنا نعلم بشيئين: نعلم بوجود إنسان في المسجد، وهو الجامع، ونعلم ـ أيضاً ـ أنّ ذاك الإنسان ليس غير زيد وعمرو، وهو (قدس سره) وإن عبّر بوجود علمين في المقام، لكن ـ في الحقيقة ـ يوجد علم واحد متعلّق بإنسان ليس غير زيد وعمرو(2)، فلا يقال: قد نحتمل أو نعلم بوجود شخص آخر أيضاً.

ويمكن إقامة صورة برهان أيضاً في قبال هذا البرهان، وهي أنـّنا وإن كنّا نعلم بوجود الجامع في المسجد، لكنّنا نعلم ـ أيضاً ـ بشيء زائد على هذا، فإنـّنا عرفنا في المنطق أنّ الجامع لا يوجد إلاّ في ضمن خصوصيّة الفرد، ولا يوجد مستقلاّ ً عن الأفراد، فنعلم ـ لا محالة ـ أنّ هذا الجامع ليس باستقلاله موجوداً في المسجد، بل توجد خصوصيّة في المسجد، فقد تعدّى علمنا من الجامع إلى خصوصيّة زائدة، ثمّ ننقل الكلام إلى تلك الخصوصيّة الزائدة التي تعلّق بها العلم، فنقول: هل هي ـ أيضاً ـ جامع أو جزئيّ؟ فإن فرضت جامعاً أعدنا البرهان، وقلنا: إنـّه لا يوجد إلاّ في ضمن خصوصيّة ... وهكذا إلى أن يتسلسل وهو مستحيل، أو ينتهي الأمر إلى الفرد، فالعلم يتعلّق بالفرد لا بالجامع.

وكأنّ ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ (قدس سره) من أنـّنا نعلم ـ مضافاً إلى الجامع ـ بأنّ هذا الجامع ليس غير زيد وعمرو علاجٌ لهذا المطلب، أي: ما يرى من أنّ العلم تعدّى من الجامع إلى شيء زائد على الجامع، ولكنّ هذا الشيء الزائد إن كان بنفسه جامعاً


(1) في نهاية الدراية: ج 2، ص 242.

(2) وهو المستفاد ممّا في نهاية الدراية: ج 2، ص 202.

21

وكلّيّاً، عاد ما ذكرناه من البرهان من أنـّنا نعلم بأنّ الجامع لا يوجد إلاّ مع التعيّن في ضمن فرد، والانطباق عليه، فلابدّ من انتهاء الأمر إلى تعلّق العلم بالفرد.

ولا يكفي أن يقال: إنـّنا نعلم بالجامع مفروغاً عن انطباقه، أي: نعلم أنـّه وجد الجامع منطبقاً على الفرد، فإنـّنا نعيد الكلام في هذا الانطباق المعلوم فنقول: هل نعلم بجامع الانطباق، أو بانطباق معيّن؟

فإن علمنا بانطباق معيّن فقد آل الأمر إلى تعلّق العلم بالفرد، وإن علمنا بجامع الانطباق أعدنا برهان العلم بأنّ الجامع لا يوجد إلاّ في ضمن الفرد.

ولا أدري ألهذا أو لغير هذا أقام المحقّق العراقيّ (رحمه الله) صرح المبنى الثالث.

المبنى الثالث: وهو تعلّق العلم بالواقع، وأنّ الفرق بين العلم الإجماليّ والتفصيليّ إنـّما هو في نفس العلم، أو قل في المعلوم بالذات.

وقد ذكر المحقّق العراقيّ(1) (رحمه الله): أنـّه بلغني عن بعض من يدّعي الفضل من أهل العصر أنـّه لا فرق بين العلم الإجماليّ والتفصيليّ من ناحية نفس العلم، وإنـّما الفرق من ناحية المعلوم الخارجيّ، ففي العلم التفصيليّ يعلم بالواقع، وفي العلم الإجماليّ يعلم بالجامع، والصحيح: أنّ العلم سواء كان إجماليّاً أو تفصيليّاً يتعلّق بالواقع، وينكشف به الواقع، إلاّ أنّ الفرق في نفس العلم والانكشاف، أو قل: المعلوم بالذات، والمنكشف بالذات، فقد يكون الانكشاف انكشافاً تامّاً وتفصيليّاً، واُخرى يكون انكشافاً مجملاً وغير واضح، أي: أنّ الفرد قد ينكشف بصورته المفصّلة، وقد ينكشف بصورة مشوّشة .

ولو أردنا أن نشبّه العلم الإجماليّ بحسب ما يقوله هو (قدس سره)بالإحساسات الخارجيّة ـ وإن لم يشبّهه هو ـ قلنا: إنّ شخصين يريان جسماً، أحدهما يراه من قريب، والآخر يراه من بعيد، فهو يرى شبحاً لا يدري أنـّه إنسان أو حيوان أو شجر مثلاً، فكلّ من هذين الشخصين يتعلّق إحساسهما بالواقع المعيّن الواحد، لكنّ أحدهما إحساس تفصيليّ، والآخر إجماليّ ومشوّش وغير واضح، فمثل هذا الفرق الثابت بين الإحساسين الظاهريّين نتصوّره بين الإدراكين الباطنيّين.

هذا، والمحقّق العراقيّ (رحمه الله) لا يقيم في صريح عبارته برهاناً على مبناه من أنّ


(1) راجع المقالات: ج2، ص84، ونهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص309.

22

العلم الإجماليّ ـ أيضاً ـ يتعلّق بالواقع، وأنّ الفرق بينه وبين العلم التفصيليّ في نفس العلم، وإنـّما هو يستَبْدِهُ ما ذكره، ولكن يوجد في عبارته شيء لعلّه يراه هو البرهان على مقصوده، وذلك الشيء هو أنّ الصورة الإجماليّة تنطبق على تمام ما في الخارج انطباق المجمل على المفصّل، والمبهم على المبيّن، ولا تنطبق على جزء منه فحسب انطباق الكلّيّ على الفرد، فلعلّ هذا إشارة إلى ما مضى منّا في الاستشكال في المبنى الثاني، من أنـّنا نعلم بشيء زائد على الجامع الذي هو جزء الفرد؛ إذ نعلم أنّ ذلك الجزء لا يستطيع أن يقف على قدميه.

ولكن يمكن الاستشكال في هذا المبنى ـ أيضاً ـ بما يستخرج من مجموع كلمات المحقّق الإصفهانيّ من أنّ الحدّ الشخصي للفرد هل هو داخل تحت الصورة الاجمالية المنكشفة أو لا؟ وعلى الأوّل هل الداخل تحت دائرتها هو الحدّ الشخصي المعيّن، أو الحدّ الشخصيّ المردّد ؟ فإن فرض دخول الحدّ الشخصيّ المعيّن تحت تلك الصورة المنكشفة أصبح العلم الإجماليّ علماً تفصيليّاً، ومن المعلوم أنـّنا لا نرى حدّاً شخصيّاً معيّناً في تلك الصورة الإجماليّة، وإن فرض دخول الحدّ المردّد تحتها فقد اتّضح بطلانه فيما سبق، وإن فرض عدم تعدّي العلم إلى الحدود الشخصيّة فهذا معنى تعلّق العلم بالجامع، وهكذا نرجع إلى المبنى الثاني، والذي هو ـ أيضاً ـ بدوره يبطل بما مضى من البرهان، كما أنـّه إن رجعنا إلى مبنى الفرد المردّد ورد علينا إشكال الفرد المردّد، إذن فما هو العلاج ؟

وحيث إنّ العلم الإجماليّ أمر وجدانيّ راجع إلى وجدان كلّ أحد، فلذلك يحتمل قويّاً أنّ مقصود من قال بتعلّق العلم بالفرد المردّد، ومن قال بتعلّقه بالجامع، ومن قال بتعلّقه بالواقع المعيّن شيء واحد، إلاّ أنـّه قد نظر كلّ واحد منهم إلى جهة من جهات المطلب، فعبّر بالتعبير المناسب لها.

وتحقيق الحال في هذا المقام: هو أنّ الصورة الكلّيّة المستوردة في الذهن على قسمين:

القسم الأوّل: الصورة الكلّيّة المستوردة في الذهن من الجزئيات والأفراد الخارجيّة، فترد في الذهن مثلاً صور جزئيّة من أفراد للإنسان، والذهن البشريّ يقشّرها ويطرح مميّزات كلّ فرد عن الآخر، فتبقى صورة كلّيّة قابلة للانطباق على كثيرين، لأنـّها منتزعة من كثيرين، وهو جزء موجود في كلّ واحد منها بناءً على تصوّرات المنطق الاُرسطيّ، ولذا يقال: إنّ الكلّيّ موجود بوجود الفرد، وإذا وجد الكلّ وجد الجزء.

23

القسم الثاني: الصورة التي يخلقها الذهن البشريّ نفسه، ويُلبِسها على ما في الخارج، ويجعلها رمزاً لكلّ فرد من الأفراد، وثوباً قابلاً للإلباس على كلّ فرد من الأفراد، فليست هذه الصورة قابلة للانطباق على ما في الخارج بالمعنى الصادق في القسم الأوّل، إذ ليست هي ـ في الحقيقة ـ جزءاً مقشّراً لكلّ فرد، وموجودة في ضمن كلّ فرد من الأفراد، وإنـّما هي رمز يرمز به إلى الفرد الخارجيّ بقشوره، وهذه الصورة كثيراً مايخلقها الذهن البشريّ، خصوصاً إذا لم يستطع أن يسيطر على الأفراد، فينسج صورة بنفسه، حتى يرمز بها إلى أيّ فرد أراد، وذلك كما في صورة العدم، حيث إنـّه لا معنىً لاتيان أفراد العدم من الخارج إلى الذهن، وأيّ شيء يرد إلى الذهن من الخارج لكي يقشّره ويكوّن منه صورة العدم الكلّي؟! فلمّا لم يستطع الذهن أن يسيطر على الأفراد صاغ هذا الرمز ليرمز به إلى الواقع، ومثله صورة الوجود، حيث إنّ أفراد الوجود لم تكن تأتي إلى الذهن حسب ما يقال من أنّ الوجود هو أنـّه في الأعيان، وهذا لا يأتي في الذهن، فلمّا لم يقدر الذهن البشريّ على السيطرة على أفراده جعل في نفسه هذا الرمز كي يرمز به إلى الأفراد، ومن هذه الصور المصوغة من قبل الذهن البشريّ عنوان (أحدهما) ونحوه، فهو عنوان رمزيّ، وليس شيئاً ينطبق على ما في الخارج، وجزءاً من كلّ فرد، بل هو رمز لتمام ذاك الفرد بقشوره، وإذا أردنا أن نشبّهه بشيء في باب اللغة شبّهناه بالمشترك اللفظي الذي هو رمز لكلّ واحد من المعاني بتمامه، لا لخصوص الجزء الجامع بينها، فهذه الرموز تجعل من قبل الذهن البشريّ من قبيل جعل الألفاظ رمزاً إلى المعاني، إلاّ أنـّها ليست بصناعة اللغة، كما في رمزيّة الألفاظ، بل بقوّة خاصّة في الفهم البشريّ أودعها الله (تعالى) فيه ليدرك بها الأشياء.

وفي باب العلم الإجماليّ لمّا لم يستطع الذهن البشريّ أن يسيطر على الفرد الموجود من الفردين في الخارج ويصبّ العلم على صورته، نسج عنوان (أحدهما)، وانصبّ العلم على هذه الصورة التي هي رمز تصلح لأن يرمز بها إلى أيّ واحد من الفردين(1)، وهذا لا يرد عليه شيء من الإشكالات السابقة.


(1) إن كان المقصود: أنّ عنوان (أحدهما) رمز للواقع كرمزيّة اللفظ للمعنى فليس تحت هذا اللفظ مفهوم غير المفهوم المنطبق مباشرة على الواقع، فهذا واضح البطلان، فإنّ لدينا مفاهيم ثلاثة متباينة في عالمها، وهي مفهوم زيد مثلاً ومفهوم عمرو، ومفهوم (أحدهما) بإرجاع الضمير إلى زيد وعمرو، ولو كان لفظ (أحدهما) مفهومه عين المفهوم المنطبق على الواقع لما حلّ لنا مشكلة تصوير العلم الإجماليّ، فإنـّه في الجهالة يساوي الواقع المجهول؛ لأنـّهما متّحدان مفهوماً، فلم نصنع شيئاً لحلّ الإشكال.

وإن كان المقصود: أنّ عنوان (أحدهما) يعطينا مفهوماً خاصّاً به يباين المفهوم الحاكي مباشرة عن الواقع بخصوصه، والذي لم نعلمه بالضبط، وأنّ هذا المفهوم رمز بحت، أي: خاو عن الواقعيّة من قبيل بحر من زئبق، فهذا ـ أيضاً ـ واضح البطلان، إذ لو كان كذلك لما صحّ حمل عنوان (أحدهما) على كل من زيد وعمرو، إذن فمفهوم أحدهما ليس أمراً خيالياً بحتاً كما نبّه على ذلك اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في بحث الوضع العام والموضوع له الخاصّ.

وإن كان المقصود: أنّ عنوان (أحدهما) جامع انتزاعيّ لكنّه جامع عرضي، وليس جامعاً ذاتياً كي يكون بالضرورة جزءاً من الفرد لا يحصل إلاّ بالتقشير، وإنما هو جامع انتزاعي صحّ انتزاعه من كلا الفردين بما لهما من القشور الزائدة على الجامع الذاتي، فهذا مطلب صحيح، ولكن عبارة المتن قاصرة عن أداء ذلك.

وهذا الكلام يأتي في جميع الجوامع الرمزيّة، فهي دائماً تكون في واقعها جوامع انتزاعيّة عرضيّة لا خياليّة بحتة.

وافتراض تعلّق العلم الإجماليّ بهذا الجامع الانتزاعي أو العرضي، لا يرد عليه ما مضى من أنـّنا نعلم بوجود شيء أكثر من الجامع في المسجد، لأنّ الجامع لا يوجد إلاّ ضمن خصوصيّة الفرد، وذلك؛ لأنّ هذا الجامع ليس هو ذاك الجامع الذي هو من ضمن الفرد؛ إذ ليس جزءاً من الفرد انتزع عنه بالتقشير، وإنما هو جامع منتزع من الفردين بما هما فردان، وبما لهما من قشور بالمقدار الداخل تحت العلم.

24

أمـّا إشكال الفرد المردّد، فلأنّ عنوان (أحدهما) ليس فرداً مردّداً واقعاً، وإنـّما هو رمز يمكن أن يرمز به إلى هذا الفرد بتمامه، ويمكن أن يرمز به إلى ذاك الفرد بتمامه.

وأمـّا إشكال: أنـّنا نعلم بأنّ الجامع والجزء المشترك لا يوجد إلاّ في ضمن الجزئي وفي ضمن القشور الفرديّة، فلأنّ العلم لم ينصب على الجامع، وإنـّما انصبّ على صورة رمزيّة يمكن أن يرمز بها إلى أيّ واحد من الفردين بقشوره.

وأمـّا إشكال: أنّ الحدّ الشخصيّ هل هو داخل تحت الصورة الإجماليّة مردّداً أو معيّناً؟ فالأوّل غير معقول، والثاني يلزم منه انقلاب العلم الإجماليّ إلى العلم

25

التفصيليّ، فلأنـّنا لا ندّعي كون مصبّ العلم هو الحدّ الشخصيّ، بل مصبّه هو عنوان (أحدهما).

هذا هو واقع المطلب الذي اختلفت التعابير عنه، فيمكن أن يعبّر عنه بالفرد المردّد، ويمكن أن يعبّر عنه بالجامع، ويمكن أن يعبّر عنه بالواقع، فإنّ هذا الرمز بطبيعته له مرونة، يمكن أن يرمز به إلى هذا الفرد، ويمكن أن يرمز به إلى ذاك الفرد، وفي نفس الوقت لا يمكن أن يرمز به إلى الفردين معاً بنحو المجموعيّة، بل يرمز به إلى كلّ واحد منهما على سبيل البدل عيناً من قبيل الثوب الذي يصحّ أن يقال: إنـّه صالح لأن يلبسه كلّ أحد، ويصح أن يقال: إنـّه لا يصلح إلاّ للبس فرد واحد، فمن نظر إلى مرونة هذا الرمز عبّر بالجامع، ومن نظر إلى الفرد المعيّن الذي رمز إليه بهذا الرمز عبّر بالواقع، ومن نظر إلى أنّ ما يصلح لأن يرمز إليه هو أحد الفردين على سبيل البدل عبّر بالفرد المردّد، فالخلط بين هذا الرمز والجامع يوجب التعبير بالفرد المردّد، فإنّ ما يكون منطبقاً على كلّ واحد من الفردين كالجامع ـ لا رمزاً إليه ـ ويكون انطباقه على الفرد انطباقاً عليه مع قشوره إنـّما هو الفرد المردّد.

هذا وتجدر الإشارة هنا إلى المراد من التعبير بالواقع، وحاصل الكلام: أنّ هذا الرمز ليس دائماً يرمز إلى الواقع المعيّن، بل قد لا يرمز إليه، أي: أنّ علم الشخص لا يكون متوجّهاً نحو فرد معيّن؛ لاستواء نسبته إلى كلا الفردين، ولا أقصد بذلك التفرقة بين ما لو كان كلا طرفي المعلوم بالإجمال ثابتاً في الواقع وما لو كان أحد طرفيه فقط ثابتاً في الواقع، بل أقصد بذلك التفرقة بين ما لو كان منشأ العلم الإجماليّ ما يدلّ بمقتضاه الأوّلي على عدم اجتماع نقيض كلّ من طرفي العلم الإجماليّ كحساب الاحتمالات، أو البرهان على عدم الاجتماع، وما لو كان منشأه ما لا تستوي نسبته إلى الطرفين، كما لو سمع صوت أحد الشخصين فعرف وجود أحدهما في المسجد مثلاً، فالعلم الإجماليّ في الثاني له توجّه نحو أحد الفردين بالخصوص بخلافه في الأوّل.

لكنّ هذا التفصيل لا يوجب إشكالاً على التعبير بتعلّق العلم الإجماليّ بالواقع، وتوضيح ذلك: أنّ المقصود بتعلّق العلم الإجماليّ بالواقع ليس هو كون المعلوم بالذات هو الواقع، فإنّ ذلك معلوم بالعرض، والمعلوم بالذات ثابت في اُفق النفس، وليس أيضاً المقصود بذلك: أنّ المعلوم بالذات دائماً يوجد في الخارج ما يطابقه من معلوم بالعرض معيّن، فإنّ العلم الإجماليّ قد يكون جهلاً مركّباً، كالعلم

26

التفصيليّ الذي قد يكون أيضاً جهلاً مركّباً، فلا يوجد فرد معيّن في الخارج يطابق المعلوم بالذات تفصيلاً، وإنـّما المقصود بذلك هو بيان ضيق الصورة المعلومة بالذات وأنـّها بمقدار الواقع(1)، ومن المعلوم أنّ انتفاء الواقع لا يوجب سعة في الصورة المعلومة بالذات، ولذا يقال في العلم التفصيليّ بلا إشكال: إنـّه متعلّق بالواقع في قبال تعلّقه بالجامع، ولو لم يكن المعلوم موجوداً في الخارج أصلاً؛ لأنّ الصورة المعلومة بالذات لا تتّسع بعدم وجود المعلوم بالذات، وكذلك الحال في العلم الإجماليّ، فالصورة المعلومة بالإجمال إن لم ترمز إلى فرد معيّن في الواقع، إمّا لعدم وجوده أصلاً، أو لكون نسبتها إلى الفردين على حدّ سواء، فهذا ليس توسعة في تلك الصورة، كما لو علم محالاً بالجامع فقط، وإنـّما هي باقية على حالها من الضيق.

هذا تمام الكلام في حقيقة العلم الإجماليّ.

 

اقتضاء التنجيز للموافقة القطعيّة

وهنا ننتقل إلى أصل المطلب، وهو أنّ العلم الإجماليّ هل يقتضي التنجيز بمقدار الموافقة القطعيّة، أو لا؟ فعن المحقّق النائينيّ في تقرير السيّد الاُستاذ(2) عدم اقتضائه للتنجيز، وذهب المحقّق العراقيّ(3) والمحقّق الإصفهانيّ(4) ـ ولعلّه المشهور ـ إلى اقتضاء التنجيز، والصحيح هو عدم التنجيز إلاّ في قسم من الشبهات الموضوعيّة. ولا يخفى أنـّنا إنـّما نتكلّم هنا بناءً على قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)،


(1) يبدو أنّ المحقّق العراقيّ (رحمه الله) يدّعي أكثر من ذلك، فهو لا يدّعي فقط ضيق الصورة المعلومة بالذات، بل يدّعي ـ أيضاً ـ انطباقها على أحد الفردين المعيّن في الواقع والمجهول لدينا، ولذا يرى أنّ امتثال أحد الفردين لا يكفي، وذلك لعدم إحراز كونه هو المطابق للمعلوم بالإجمال، وهذا الكلام غير معقول في فرض كون نسبة العلم الإجمالي إلى الطرفين على حدّ سواء، بحيث لا يمكن لعلاّم الغيوب أيضاً أن يعيّن معلومنا الإجماليّ.

(2) ج2، ص245 .

(3) راجع المقالات: ج2، ص87، ونهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 307 - 310.

(4) راجع نهاية الدراية: ج2، ص343 - 344، وص32 - 33 .

27

وحرفيّتها كما بنوا عليها وعلى حرفيّتها.

وأمـّا بناءً على ما هو الصحيح من منجّزيّة الاحتمال بدلاً عن تلك القاعدة، فلا إشكال في أصل لزوم الموافقة القطعيّة.

فالكلام هنايقع في مطلبين: أحدهما: في أنّ العلم الإجماليّ ليس كلّما تعلّق بالحكم اقتضى وجوب الموافقة القطعيّة، ففي الشبهات الحكميّة مثلاً لا يقتضي ذلك. والآخر: في بيان ضابط التفصيل بين الموارد، والنكتة في اقتضاء العلم الإجماليّ في بعضها لتنجيز وجوب الموافقة القطعيّة.

 

نفي عموم الاقتضاء

أمـّا المطلب الأوّل: فنقول: إنـّه لو تعلّق العلم مثلاً بوجوب الظهر أو الجمعة لم يكن هناك مقتض لوجوب الموافقة القطعيّة، ويتبيّن ذلك ببيان أمرين:

الأوّل: أنّ المقدار المنجّز إنـّما هو الجامع؛ إذ لم يتمّ البيان بالنسبة للحدّ الشخصيّ، فهو داخل بعدُ تحت دائرة قبح العقاب بلا بيان، فإنّ الحدّ الشخصيّ المعيّن لم ينكشف، وإنـّما انكشف الجامع.

والثاني: أنـّه يكفي في الموافقة القطعيّة للجامع الذي هو المقدار المنجّز الإتيان بأحد الفردين.

أمـّا الأمر الثاني فواضح. وأمـّا الأمر الأوّل فهو صحيح على مبنانا، وعلى المباني الثلاثة الاُخرى التي مضت عن القوم، حتى على تقدير عدم إرجاعها إلى مبنانا.

أمـّا على مبنى تعلّق العلم بالجامع فواضح، فإنّ البيان عندئذ إنـّما تمّ بمقدار الجامع؛ إذ هو الذي تعلّق به العلم لا أكثر، فلا يجب الامتثال إلاّ بذلك المقدار، وذلك يكون بالإتيان بأحد الفردين.

وأمـّا على مبنانا فأيضاً يكون الأمر واضحاً، إذ نحن أيضاً نقول بأنّ العلم تعلّق بالجامع، إلاّ أنـّنا لا نقصد بالجامع الجامع الحقيقي، وإنـّما نقصد به ما يكون رمزاً لتمام الفرد بقشوره، والموافقة القطعيّة بقدر ما تعلّق به العلم من الجامع الرمزيّ تحصل بالإتيان بأحد الفردين.

وأمـّا على مبنى الفرد المردّد فنقول: إنّ صاحب هذا المبنى يسلّم أنّ الفرد

28

المردّد لا وجود له في الخارج؛ إذ الوجود الخارجيّ يساوق التعيّن، إلاّ أنـّه يقول: إنّ طرف الإضافة للعلم هو الفرد المردّد، لأنّ كونه طرفاً لإضافة العلم لا يستلزم وجوده خارجاً، حتى يرد عليه إشكال استحالة التردّد في الوجود الخارجيّ، وفاته أنّ هذا أيضاً مستلزم للتردّد في الوجود الخارجيّ؛ لأنّ طرف إضافة العلم الذي ليس موجوداً في الخارج هو المعلوم بالذات وهو عين العلم، والعلم بنفسه من الموجودات الخارجيّة، فلزم التردّد في الوجود الخارجيّ.

وعلى أيّة حال، فبعد فرض تسليم مبناه نقول: إنّ هذا لا يقتضي لزوم امتثال زائد على امتثال الجامع، فإنـّه وإن كان المفروض أنّ المقدار المتعلّق به العلم أزيد من الجامع، لكنّ المقدار الذي يقبل التنجيز ممّا تعلّق به العلم إنـّما هو الجامع، والمقدار الزائد على ذلك الداخل في دائرة العلم لا يقبل التنجيز، فإنّ المقدار الزائد إنـّما هو عبارة عن الحدّ الشخصيّ الترديديّ، وعندئذ نسأل: ماذا يتنجّز زائداً على الجامع؟ هل يتنجّز الحدّ الشخصيّ التعيينيّ، أو يتنجّز الحدّ الترديديّ؟ فإن قيل بالأوّل قلنا: إنّ الحدّ التعيينيّ ليس هو الزائد الذي تعلّق به العلم، فإنّ المفروض أنّ العلم إنـّما تعلّق بالفرد المردّد. وإن قيل بالثاني، أعني: تنجّز الفرد المردّد والحدّ الترديديّ، قلنا: إنّ الحكم الذي وجد خارجاً ليس هو الفرد المردّد قطعاً؛ لأنّ المفروض تسليم استحالة الوجود المردّد في الخارج، فالفرد المردّد ليس هو الحكم الشرعيّ الذي وجد خارجاً قطعاً، فكيف يتنجّز؟

والخلاصة: أنّ الحدّ التعيينيّ حكم شرعيّ قابل للتنجيز، لكنّه لم يتعلّق به العلم، والحدّ الترديديّ تعلّق به العلم، لكنّه ليس حكماً شرعيّاً يوجد من قبل الشارع حتى يقبل التنجيز، فلا يتنجّز إلاّ الجامع.

وأمـّا على مبنى تعلّق العلم بالواقع، فيمكن أن يقال هنا: إنّ العلم يقتضي الموافقة القطعيّة، لأنّ الواقع لا يحرز حصوله بالإتيان بأحد الفردين، والاشتغال اليقينيّ يستدعي الفراغ اليقينيّ، والواقع قد تنجّز وخرج عن (قاعدة قبح العقاب بلا بيان)؛ لأنـّه ثبت بيانه بتعلّق العلم به، وعندئذ يكون احتمال الواقع المنجّز في كلّ واحد من الطرفين منجِّزاً لا محالة.

إلاّ أنّ الصحيح: أنـّه على هذا المبنى ـ أيضاً ـ لا يتنجّز إلاّ مقدار الجامع. وتوضيح ذلك: أنّ المفروض في هذا المبنى هو أنّ المعلوم الخارجيّ بالعلم الإجماليّ، وبالعلم التفصيليّ هو شيء واحد، وهو الواقع، لكنْ هناك فرق بين ذات

29

صورتي العلم أو بين المعلومين بالذات، فإحداهما: صورة صافية غير مخلوطة بالإجمال والإبهام، والاُخرى: صورة غير صافية، ومخلوطة بالإجمال والإبهام، فهذه الصورة وإن لم يمكن خارجاً تجزئتها إلى حصّتين لكنّها ـ بحسب التحليل العقليّ ـ تُجزّأ إلى حصّتين: إحداهما نور وانكشاف، والاُخرى ظلمة وإبهام، والذي يطابق تمام الفرد الخارجيّ إنـّما هو تمام هذه الصورة، لا خصوص جانب الانكشاف منها، ونحن وإن كنّا لا نتعقّل في الصورة العلميّة هذا الازدواج حتى نسمّي المجموع بالعلم، أو بأيّ اسم آخر، إلاّ أنّ مفروض هذا المبنى هو تعقّل الازدواج في صورة واحدة بين الانكشاف والإبهام، وسواء سمّينا هذا المجموع بالعلم، أو بأيّ اسم آخر، فالواقع هو أنّ البيان إنـّما يكون بمقدار ما في الصورة من نور وانكشاف، وهو بمقدار الجامع. وأمـّا ما فيها من ظلمة وإبهام فليس بياناً، ومُخرِجاً للشيء عن قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) بحرفيّتها، فالمقدار المنجّز هو الجامع لا أكثر.

وهنا لا بأس بإلفات النظر إلى نكتة تعود لما سبق، فقد مضى ذكر إشكال على ما اختاره المحقّق العراقيّ في تحقيق حقيقة العلم الإجماليّ مستخرج من كلمات المحقّق الإصفهانيّ، من أنّ الحدّ الشخصيّ للفرد هل هو داخل تحت الصورة الإجماليّة أو لا؟ فإن قيل: لا، كان علماً بالجامع. وإن قيل: نعم، لزم انقلاب العلم الإجماليّ إلى التفصيليّ إن فرض ذلك الحدّ الشخصيّ معيّناً، وإلاّ جاء إشكال الفرد المردّد.

أقول: لو اقتصر في مقام الإشكال على المحقّق العراقيّ على هذا المقدار من البيان، أمكن أن يقال في مقام التفصّي عنه: إنّ الحدّ الشخصيّ داخل في هذه الصورة الإجماليّة، لكن لا في جانب الانكشاف منها، بل في جانب الإبهام منها. إذن فلا بدّ من إضافة شيء إلى ذاك الإشكال وهو: أنّ الإبهام ـ في الحقيقة ـ ليس صورة، بل عبارة عن عدم الصورة، وإنـّما الصورة عبارة عن نفس الانكشاف.

وعلى أيّة حال، فقد تحصّل أنـّه على جميع المباني لا مقتضي لوجوب الموافقة القطعيّة.

والانصاف: أنّ هذا من فضائح القول بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان) بحرفيّتها، إذ كيف يقبل الوجدان أن يقال بجواز المخالفة الاحتماليّة لحكم علم إجمالاً من قبل المولى ـ تعالى ـ من دون جعل براءة شرعيّة في المقام، وأنـّه ليس له حقّ الطاعة أزيد من الموافقة الاحتماليّة لذلك؟!

30

ويوجد في كلماتهم (قدّس الله أسرارهم) ما يدلّ على التزامهم بحرفيّة القاعدة، من قبيل الاستدلال على سراية التنجّز إلى الواقع غير المبيّن بغير دعوى ضيق في القاعدة ـ كما سوف يأتي إن شاء الله ـ، والتزام المحقّق النائينيّ (قدس سره) لعدم اقتضاء العلم الإجماليّ لتنجّز الموافقة القطعيّة، وهو إنـّما يوجب الموافقة القطعيّة من باب تعارض الاُصول حتى البراءة العقليّة في الأطراف تساقطها وبقاء الاحتمال بلا مؤمّن، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ أنـّه لا وجه للتعارض والتساقط في المقام بلحاظ البراءة العقليّة، بل بعد عدم الاقتضاء لا بدّ من الالتزام بجواز المخالفة الاحتماليّة بحكم البراءة العقليّة.

ثمّ إنّ الوجه في ما ذكرناه من عدم اقتضاء العلم الإجماليّ لتنجّز الموافقة القطعيّة إنـّما هو ما عرفته مفصّلاً، من أنّ المقدار المنكشف هو الجامع لا الحدّ الشخصيّ، فهو المقدار المنجّز، وأنـّه يكفي في موافقته القطعيّة الاتيان بفرد واحد، لا ما أفاده المحقّق الإصفهاني (قدس سره) ثم دفعه.

فقد أفاد في المقام(1) : أنّ المقدار المنكشف هو الجامع، وهذا هو الجزء الأوّل من برهاننا على المدّعى، وأنـّه تكفي الموافقة الاحتماليّة للجامع بالإتيان بفرد واحد، ولا تحرم مخالفته الاحتماليّة بترك الآخر؛ إذ المخالفة الاحتماليّة لا قبح فيها، ولا يستحقّ العبد العقاب عليها، وإلاّ لزم أن يعاقب من ارتكب كلا الطرفين بعقابين.

ثمّ أجاب عن ذلك: بأنّ العقل يرى لزوم الامتثال القطعيّ للحكم المعلوم(2).

وكأنّ مقصوده (قدس سره) بذلك: هو أنّ كلاّ من المخالفتين الاحتماليّتين ليست حراماً


(1) راجع نهاية الدراية: ج 2، ص 32 ـ 33، وص 243 ـ 244.

(2) وقال (رحمه الله): إنّ هذا بناءً على أنّ استحقاق العقاب يكون بحكم العقل. أمـّا بناءً على كونه بحكم الشرع وجعله، فلازمه استحقاق العقاب على مخالفة التكليف الواقعيّ بعد قيام الحجّة عليه، وعليه ففي كلّ طرف من الأطراف نحتمل العقاب لاحتمال كون التكليف فيه، فلا بدّ من اجتنابه.

أقول: سواء فرض استحقاق العقاب بحكم العقل، أو بحكم الشرع، فبعد فرض الإيمان بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان) وفرض عدم تماميّة البيان إلاّ بقدر الجامع، يتّجه القول بجواز الاكتفاء بالموافقة الاحتماليّة للواقع؛ لأنـّها موافقة قطعيّة للجامع، وما عدا ذلك داخل تحت الأمان المستفاد من القاعدة.

31

مستقلاّ لكي يلزم تعدّد العقاب، وإنـّما هنا واجب واحد، وهو الموافقة القطعيّة، وهي واجبة بما تستبطن من سائر مراتب الموافقة الظنّيّة والاحتماليّة، إلاّ أنّ هذا الواجب الواحد وهو الموافقة القطعيّة يكون بنحو الانحلال، أي: على تقدير فقد هذه المرتبة من الموافقة يُنتقَل إلى المرتبة الأدنى المستبطنة فيها، وهكذا، فكلّ من المخالفتين الاحتماليّتين قبيح بما هو ترك لجزء واجب واحد انحلاليّ بهذا المعنى، فمن ترك كلا الطرفين يعاقب بالعقاب الواحد الذي يعاقب به من علم بالحكم تفصيلاً فتركه.

وعلى أيّة حال، فلا إشكال في حكم العقل بوجوب الموافقة القطعيّة للمقدار المعلوم، ولذا لو علم تفصيلاً بالحكم ثمّ شكّ في امتثاله فلا إشكال في أنـّه لا بدّ له من الإتيان به حتى يحصل له القطع بالامتثال، وإنـّما نقول في مورد العلم الإجماليّ بأنـّه لا يقتضي التنجيز أكثر من ضرورة الإتيان بأحد الأفراد؛ لأجل أنّ الموافقة القطعيّة للمقدار المعلوم ـ وهو الجامع ـ تحصل بالإتيان بأحد الأفراد، لا لا جل كفاية موافقته الاحتماليّة وعدم حرمة مخالفته الاحتماليّة.

 

ضابط التفصيل في الاقتضاء

وأمـّا المطلب الثاني: فالتحقيق هو الفرق بين مثل العلم الإجماليّ بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة الذي هو شبهة حكميّة، ومثل العلم الإجماليّ بوجوب إكرام زيد و عمرو بنحو الشبهة الموضوعيّة من باب العلم بوجوب إكرام العالم، والعلم إجمالاً بكون أحدهما عالماً، ففي الأوّل لا يقتضي العلم الإجماليّ تنجّز شيء أزيدمن الجامع، ويكفي في امتثال الجامع الإتيان بإحدى الصلاتين؛ إذ تحصل بذلك الموافقة القطعيّة للمقدار المعلوم، وفي الثاني لا بدّ من إكرام كليهما؛ لأنـّنا علمنا بوجوب إكرام العالم، فلا بدّ من تحصيل الموافقة القطعيّة لذلك، وهي لا تحصل بإكرام أحدهما، فلا بدّ من إكرام كليهما.

ويمكن أن يتخيّل في المقام أنـّه لا فرق بين المثالين، ففي كليهما يكفي الاتيان بالجامع بالإتيان بأحد الفردين، فإنّ الحكم لا يتنجّز إلاّ بالوصول، ووصول الحكم لا يكون إلاّ بوصول الكبرى والصغرى معاً، فلو علم مثلاً أنّ زيداً عالم، ولم يعلم بالكبرى، وهي وجوب إكرام العالم، لم يتنجّز عليه وجوب إكرام زيد، ولو علم

32

بوجوب إكرام العالم، ولم يعلم بالصغرى، وهي كون زيد عالماً لم يتنجّز عليه وجوب إكرام زيد أيضاً، وعليه نقول: إنـّه في مورد العلم الإجماليّ بوجوب إكرام أحدهما لا فرق بين افتراض الإجمال في الكبرى أو الصغرى، فلا فرق بين أن نفترض أنـّنا علمنا إجمالاً بوجوب إكرام العالم أو العادل، وعلمنا أنّ زيداً عالم وعمراً عادل، أو نفترض أنـّنا علمنا بوجوب إكرام العالم، وعلمنا إجمالاً بأنّ أحدهما عالم، ففي الأوّل لا إجمال في الصغرى، ولكنّ الإجمال في الكبرى أدّى إلى أن لا نعلم بوجوب الإكرام إلاّ بقدر الجامع، فلم يتنجّز إلاّ مقدار الجامع بين الطرفين الذي يكفي في إتيانه الإتيان بأحد الطرفين، فإنّ الصغرى وإن كانت معلومة بالعلم التفصيليّ، ولكن وصول الحكم لا يكون إلاّ بوصول الصغرى والكبرى معاً، والمفروض أنّ الكبرى لم تصل إلاّ بقدر الجامع، وفي الثاني الذي كانت الشبهة فيه موضوعيّة لا إجمال في الكبرى، ولكنّ الإجمال في الصغرى أدّى إلى نفس النتيجة، فهنا ـ أيضاً ـ لم يتنجّز إلاّ القدر الجامع بين الطرفين، لأنّ الكبرى وإن كانت معلومة بالتفصيل، لكنّ وصول الحكم لا يكون إلاّ بوصول الكبرى والصغرى معاً، والمفروض أنّ الصغرى لم تصل إلاّ بمقدار الجامع، فإنـّنا لا نعلم بعالميّة هذا بالخصوص، ولا بعالميّة ذاك بالخصوص، وإنـّما نعلم بعالميّة الجامع، فلا يتنجّز علينا إلاّ إكرام الجامع.

ولعلّ هذه الشبهة هي التي جعلت من يقول بعدم اقتضاء العلم الإجماليّ لتنجيز الموافقة القطعيّة كالمحقّق النائينيّ (رحمه الله) لا يفصّل بين مورد ومورد.

والتحقيق: أنّ هذا الكلام غير صحيح، فعدم معلوميّة الصغرى بأزيد من الجامع لا ينقل التكليف المعلوم من الواقع إلى الجامع.

وتوضيح ذلك: أنّ المقدار الواصل ينحلّ ـ بحسب التحليل العقليّـ إلى أمرين: وجوب إكرام شخص، ووجوب أن يكون الإكرام مضافاً إلى العالم، فإذا أكرمنا أحدهما لم يكن ذلك موافقة قطعيّة للمقدار الواصل؛ إذ الجزء الثاني التحليليّ من جزئي المقدار المعلوم، وهو أن يكون المكرم عالماً لم يُقطع بموافقته، ولا بدّ من تحصيل القطع بموافقته، كما أنـّنا لو علمنا تفصيلاً بوجوب صلاة الظهر بشرط طهارة البدن مثلاً، ثمّ شككنا في الاتيان بها بهذا الشرط، وفرضنا عدم جريان قاعدة الفراغ، وعدم إحراز الطهارة بمثل أصالة الطهارة أو استصحابها، لم يكن شكّ في أنّ المورد مورد قاعدة (أنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقينيّ)، ولا مجال فيه للبراءة.

وقد تحصّل: أنّ العلم الإجماليّ في المثال الثاني له إضافة خاصّة إلى الواقع

33

من الفردين بخلافه في المثال الأوّل، وأنـّه في المثال الثاني يكون المقدار المعلوم أزيد من الجامع، وهو وجوب إكرام أحدهما؛ لأنـّنا نعلم ـ زائداً على ذلكـ بوجوب كون الإكرام مضافاً إلى العالم، أو قل: بشرط كون المكرَم عادلاً، فتحصيلاً للموافقة القطعيّة للمقدار الزائد لا بدّ من إكرام كلا الفردين، فالصحيح ليس هو ما ذهب إليه المحقّق العراقي (قدس سره)من اقتضاء العلم الإجماليّ لتنجيز الموافقة القطعيّة مطلقاً، ولا ما ذهب إليه المحقّق النائينيّ (رحمه الله) بمقتضى إطلاق كلامه من عدم اقتضائه لذلك مطلقاً، وإنـّما الصحيح ـ حسب مبنى حرفيّة قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) ـ هو التفصيل.

والضابط الفنيّ لهذا التفصيل ليس هو كون الشبهة حكميّة أو موضوعيّة، وإنـّما الضابط لذلك كون متعلّق الحكم مقيّداً بقيد لا يعلم حصوله في هذا الفرد أو في ذاك الفرد، فنضطرّ إلى الجمع بين الفردين تحصيلاً للقطع بحصوله، فمتى ما كان هكذا وجبت الموافقة القطعيّة، ومتى ما لم يكن هكذا لم تجب، ولو كانت الشبهة موضوعيّة، كما هو الحال في الشبهات الموضوعيّة التي ليس المشكوك فيها باشتباه خارجيّ قيداً للمتعلّق، كما في مثال وجوب إكرام العالم، وإنـّما كان قيداً للمكلّف أو التكليف، كما لو شكّ بنحو الشهبة الموضوعيّة أنّ المكلّف هل هو مسافر فيقصّر، أو حاضر فيتمّ، ولم يجرِ الاستصحاب لتوارد الحالتين مثلاً، وكما لو وجب التصدّق على زيد إن نزل المطر، وعلى عمرو إنْ هبّت الرياح، وتردّد الأمر بين نزول المطر وهبوب الرياح .

هذا تمام الكلام فيما هو المختار، وهو التفصيل في قبال قول الطرفين القائل أحدهما باقتضاء التنجّز مطلقاً، والآخر بعدمه مطلقاً.

 

كلمات الأصحاب حول الاقتضاء

وأمـّا ذكر كلام الطرفين، فالمحقّق النائينيّ (قدس سره) ذهب في أجود التقريرات(1) إلى عدم اقتضاء العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة، واستدلّ على ذلك بأنّ العلم إنـّما تعلّق بالجامع، وهو الذي تمّ عليه البيان، فهو المنجّز ـ وهذا هو الجزء الأوّل من جزئي برهاننا على عدم الاقتضاء ـ، ولكنّه (قدس سره) لا يقول بجواز الاكتفاء بالموافقة الاحتماليّة، بل يقول بأنّ العلم الإجماليّ وإن كان بنفسه لا يقتضي تنجيز


(1) أجود التقريرات: ج 2، ص 245.

34

الموافقة القطعيّة، لكنّه لمّا كان العلم الإجماليّ مقتضياً بنحو العلّيّة ـ حسب ما ذهب إليه (قدس سره) ـ لحرمة المخالفة القطعيّة أوجب ذلك تعارض الاُصول المؤمّنة، وتساقطها في الأطراف، فيبقى الاحتمال في كلّ واحد من الطرفين بلا مؤمّن عن استحقاق العقاب، والاحتمال بلا مؤمّن منجّز لا محالة، قال (قدس سره): وإن شئت فسمّ ذلك باقتضاء العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة؛ إذ اقتضى ذلك بالواسطة، حيث إنـّه اقتضى حرمة المخالفة القطعيّة المقتضية لتعارض الاُصول وتساقطها المقتضي لبقاء الاحتمال بلا مؤمّن، وبالتالي تنجيزه.

أقول: أمـّا ما أفاده (رحمه الله) في وجه عدم اقتضاء العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة، فيرد عليه ما عرفت من أنـّه لا يوجب عدم الاقتضاء مطلقاً، بل يجب استثناء ما إذا كان متعلّق الحكم مقيّداً بقيد لايعلم حصوله إلاّ بالإتيان بكلا الفردين، فهنا تجب الموافقة القطعيّة، وإلاّ لم تجب ـ أيضاً ـ الموافقة القطعيّة فيما لو علم تفصيلاً بوجوب الصلاة المقيّدة بقيد مّا، وشكّ في الاتيان بها بقيدها المطلوب.

وأمـّا ما أفاده من لزوم الموافقة القطعيّة من باب تعارض الاُصول وتساقطها وبقاء الاحتمال بلا مؤمّن، فيرد عليه: أنّ الاُصول الشرعيّة وإن كانت تتساقط ـ إن سلّم ـ لحرمة المخالفة القطعيّة، لكنّنا نتكلّم في المرتبة السابقة، وهي مقدار حقّ المولى بحكم العقل في نفسه قبل وصولنا إلى المرتبة اللاحقة، وهي تصرّف المولى في مقدار الامتثال اللازم بتزييد او تنقيص، فنقول: إنّ المقدار الذي يستحقّه المولى إنـّما هوالامتثال بمقدار الجامع، وأمـّا كلّ واحدة من الخصوصيّتين فتجري عنها البراءة العقليّة، وقاعدة (قبح العقاب بلا بيان) لأنـّها غير مبيّنة، ولا معنىً لوقوع المعارضة بين إجراء القاعدتين في الخصوصيّتين؛ إذ لا منافاة أصلاً بين تنجّز الحدّ الجامع وعدم تنجّز الحدّين الخاصّين.

وقد تنبّه إلى ذلك المحقّق العراقيّ(1)(قدس سره) فنقض على القائل بعدم اقتضاء العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة بأنـّه لا بدّ له من القول بجواز مخالفة أحد الطرفين، مع أنـّه لا يقول بذلك.

وهذا النقض في محلّه، حيث إنّ المحقّق النائينيّ (رحمه الله) لا يلتزم بجواز مخالفة أحد الطرفين، مع أنّ هذا ممّا لا بدّ أن يلتزم به حسب مبانيه كما عرفت.


(1) هذا التنبّه موجود في المقالات: ج 2، ص 87، القسم الأوّل من الصفحة.

35

وأمـّا القول باقتضاء العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة ـ الذي ذهب إليه المحقّق العراقيّ(1) والمحقّق الإصفهانيّ(2) (قدس سرهما)، ونسب إلى المشهور، وذهب إليه المحقّق النائينيّ (قدس سره) في تقرير الشيخ الكاظميّ(3) ـ فالذي يستخلص من كلمات المحقّق العراقيّ (رحمه الله) ـ على تشويشها ـ دليلاً على ذلك وجهان:

الوجه الأوّل: أنّ العلم الإجماليّ ـ حسب ما عرفت من مبناه من كون افتراقه عن العلم التفصيليّ في نفس العلم، أو صورة المعلوم بالذات لا في المعلوم بالعرض ـ يكون عارضاً في الذهن على صورة إجماليّة، والعلم التفصيليّ يكون عارضاً في الذهن على صورة تفصيليّة، وليس العلم عارضاً على الواقع الخارجيّ، ببرهان: أنّ العلم يخطأ، ولا يوجد هنا واقع خارجيّ أصلاً، فهنا حدّان ذهنيّان: أحدهما حدّ إجماليّ، والآخر حدّ تفصيليّ، والعلم الإجماليّ عرض على الأوّل، والعلم التفصيليّ عرض على الثاني. أمـّا في الخارج فلا يوجد عدا حدّ واحد، وهو الحدّ الشخصيّ، وليس لما في الخارج حدّان: حدّ إجماليّ وحدّ تفصيليّ، والعلم يعرض على الصورة الذهنيّة لا على ما في الخارج، ولا يسري كلّ من العلمين من حدّه إلى حدّ الآخر، فالعلم الإجماليّ عرض على الحدّ الإجماليّ، ولا يسري إلى الحدّ التفصيليّ، وكذلك العكس ـ أيضاً ـ مستحيل استحالة عروض أيّ عارض على غير معروضه، فإنّ الحدّ الإجماليّ والحدّ التفصيليّ أمران متباينان. وأمـّا التنجّز فليس عارضاً على الصورة الذهنيّة كالعلم حتّى يقال: إنـّه يقف على ما يقف عليه العلم من الحدّ الإجماليّ، ولا يسري إلى الحدّ التفصيليّ، وإنـّما هو عارض على الواقع الذي قلنا: إنـّه ليس له حدّان، وإنـّما له حدّ واحد، وهو حدّه الشخصيّ، فيتنجّز الواقع بهذا العلم، وإذا تنجّز الواقع بهذا العلم تنجّز الطرفان، إذ يحتمل في كلّ واحد من الطرفين وجود الواقع المنجَّز، واحتمال الواقع المنجَّز منجِّز لا محالة، فما يقال من أنـّه كما أنّ العلم الإجماليّ لا يسري كذلك التنجّز لا يسري خلط بين الحدود الذهنيّة المعروضة للعلم والحدّ الخارجيّ المعروض للتنجّز.

ويرد عليه: أوّلاً: أنّ معروض التنجّز ـ حسب ما هو الصحيح من كون المتجرّي


(1)راجع المقالات:ج2، ص 87، ونهاية الأفكار:القسم الثاني من الجزء الثالث، ص309.

(2) راجع نهاية الدراية: ج 2، ص 32ـ 33، وص 343ـ 344.

(3) راجع ج 4، ص 9.

36

معاقباً بنفس ملاك عقاب العاصي ـ ليس هو الواقع بوجوده الخارجيّ، بل هوالوجود العلميّ للحكم، فإنّ لزوم طاعة المولى إنـّما هو بملاك تعظيمه وأداء حقّه، ومن المعلوم أنّ تعظيمه لا يتحقّق بمجرّد امتثال حكمه الواقعيّ، سواء وصل بمرتبة من مراتب الوصول أو لا، ويتحقّق بامتثال ما علم من حكمه، سواء كان العلم مطابقاً للواقع أو لا. إذن فالتنجّز عارض على الصورة الذهنيّة لا على الواقع.

وثانياً: أنـّنا سلّمنا أن معروض التنجّز هو الواقع، لكنّ الواقع إنـّما هو جزء العلّة للتنجّز، والجزء الآخر هو البيان والوصول؛ إذ لو لم يبيّن كان داخلاً تحت قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، والبيان إنـّما تمّ بمقدار الجامع، وأمـّا ماذكره من : (أنّ القول بعدم سريان التنجّز ـ كما لا يسري العلم ـ خلط بين الحدود الذهنيّة المعروضة للعلم والحدّ الخارجيّ) فهو خلط في المقام؛ إذ لم يكن المقصود دعوى عدم سراية التنجّز من الحدّ الإجماليّ إلى الحدّ التفصيليّ، وإنـّما المقصود هو أنّ الواقع الخارجيّ بنفسه له حدّان، لا بمعنى الحدّ الإجماليّ والحدّ التفصيليّ المتباينين، بل بمعنى الحدّ الجامعيّ والحدّ الشخصيّ المتداخلين، فإنّ الشيء له حدود عديدة صاعدة ونازلة حسب ما له من جوامع وكلّيّات، فلابدّ أن نرى ما هو المقدار المبيّن من الواقع؟ هل هو الحدّ الجامعيّ فقط، أو هو مع حدّه الشخصيّ؟ والمفروض أنّ صورة العلم الإجماليّ مزدوجة من جهة انكشاف وجهة إبهام، وما يطابق جهة انكشافها هو الحدّ الجامعيّ، وما يطابق جهة إبهامها هو الحدّ الشخصيّ، فالبيان إنـّما يتمّ بمقدار الجامع، ويكفي في امتثاله القطعيّ الاتيان بأحد الطرفين، فلا تجب الموافقة القطعيّة للواقع على تفصيل قد عرفته.

الوجه الثاني(1) ـ أنـّنا سلّمنا أنّ العلم تعلّق بالجامع، لكن الجامع تارةً ينظر إليه قبل تحصّصه وانطباقه في الخارج، واُخرى ينظر إليه مفروغاً عن انطباقه وتحصّصه، والأوّل كما في الواجب التخييريّ بالتخيير العقليّ أوالشرعيّ، فإذا أوجب المولى الصلاة التي هي جامع بين أفرادها، وهو الواجب التخييري العقليّ، أو أوجب باب التخيير الشرعيّ أحد الاُمور من الخصال الثلاث في الكفّارة، الذي هو جامع انتزاعيّ بينها، فهنا لا يلزم إلاّ الإتيان بفرد واحد من تلك الأفراد، لحصول الجامع بذلك. وأمـّا في ما نحن فيه فقد تعلّق العلم بالجامع مفروغاً عن تحصّصه


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 300 و 309.

37

وانطباقه في الخارج، وإذا كان الأمر كذلك فلا محالة تتنجّز تلك الحصّة، وذلك الأمر الموجود في الخارج.

أقول: إنّ هذا الكلام لا يخلو عن غموض، فلو كان مقصوده: أنّ التحصّص والخصوصيّة داخل تحت العلم؛ لأنـّنا علمنا بالجامع مفروغاً عن تحصّصه وتخصيصه في ضمن فرد، فتتنجّز الخصوصيّة؛ لانكشافها لنا، ورد عليه: أنّ ما هو تحت العلم يكون عبارة عن عنوان الخصوصيّة، والانطباق الذي هو أمر كلّي، وما يقصد إثبات تنجيزه عبارة عن واقع الخصوصيّة، فهذا يكون من باب اشتباه العنوان بالمعنون والمفهوم بالمصداق.

ولوكان مقصوده: أنـّه وإن كان ما هو تحت العلم هو عنوان الخصوصيّة والتحصّص لا واقعها، ولكنْ لمّا تعلّق العلم بجامع متخصّص بخصوصيّة، ونحن لا نعلم بواقع تلك الخصوصيّة، إذن لا بدّ أن نأتي بكلا الفردين؛ إذ لو أتينا بأحدهما لم يحصل القطع بالاتيان بالجامع بما هو متخصّص بتلك الخصوصيّة المخصوصة، ورد عليه: أنـّه إنْ اُريد بذلك أنّ حصّة معيّنة من الجامع داخلة تحت العلم فلا بدّ من تحصيل القطع بإتيانها، فهذا غير معقول بعد أن كان المفروض عدم العلم بواقع الخصوصيّة، وإن اعترف بأنّ المقدار المعلوم هو الجامع بين الحصّتين، وادّعى مع هذا تنجّز تلك الحصّة للعلم بتحصّص ذلك الجامع، فلا وجه لذلك؛ إذ المفروض أنّ المقدار المعلوم والمبيّن هو الجامع بين الحصّتين، وخصوصيّة الحصّتين باقية بعدُ تحت قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) .

وكلّ هذه الكلمات إنـّما نشأت من القاعدة التي خلقوها، ثمّ قدّسوها وهي قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، حيث إنّ مقتضى حرفيّتها جواز ارتكاب بعض الأطراف، مع أنّ الوجدان يدلّ بوضوح على أنـّه لو علم إجمالا بحكم من قبل المولى اقتضى ذلك لزوم الموافقة القطعيّة، فوقعوا في ضيق من ناحية التزامهم بمبانيهم المفروغ عن صحّتها عندهم، فالتزم المحقّق النائينيّ (قدس سره) بعدم اقتضاء العلم الإجماليّ لتنجيز الموافقة القطعيّة، واحتال عن طريق تساقط الاُصول، وعزّ على المحقّق العراقيّ (رحمه الله)أن يلتزم بعدم اقتضائه لتنجيزها، فاضطرّ ـ جمعاً بين المبنى والوجدان الحاكم بتنجيز الموافقة القطعيّة ـ إلى أن يتكلّم بهذه الكلمات التي هو أجلّ شأناً من أن لا يلتفت إلى بطلانها، ولو أنـّهم بدلاً عن هذا التزموا بشيء بسيط، وذلك بأن رجعوا إلى أصل المبنى مرّةً اُخرى، وتأمّلوا فيه فتنازلوا عن قاعدة (قبح

38

العقاب بلا بيان) أو عن حرفيّتها، فقيّدوها وخصّصوها بما لا يشمل فرض العلم الإجماليّ، لاستراحوا عن كلّ هذه الكلمات والإشكالات.

والصحيح: أنّ العلم الإجماليّ وإن لم يكن بياناً إلاّ بمقدار الجامع لكنّه يقتضي تنجيز الموافقة القطعيّة للواقع، وهذا نقول به حتى على مبنانا من منجّزيّة نفس الاحتمال، أي أنّ من ترك أحد طرفي العلم الإجماليّ فهو أشدّ استحقاقاً للعقاب ممّن خالف الاحتمال البدويّ للتكليف من دون مؤمّن شرعيّ(1) .

 


(1) قد يقال: إنّ هذا الكلام غير صحيح، فإنّ التنجّز حتى بناءً على إنكار قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) إنـّما هو فرع الوصول، غاية ما هنا أنـّه يكتفى بناءً على إنكار تلك القاعدة بالوصول الاحتماليّ، واشتداد التنجّز إنـّما يتبع اشتداد الوصول، والمفروض أنّ العلم الإجماليّ إنـّما هو وصول للجامع، وليس وصولاً لأحد الأمرين، فكيف يوجب اشتداد تنجّزه؟!

والجواب: أنـّه لعل مقصود اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) دعوى أنّ احتمال انطباق المعلوم بالإجمال (وهو نوع من الوصول) منجّز أكثر من منجّزيّة الشكّ البدويّ.

39

 

 

 

هل يمكن الترخيص في تمام الأطراف؟

 

وأمـّا المقام الثاني ـ وهو البحث عن مانعيّة العلم الإجماليّ ثبوتاً أو إثباتاً عن إجراء الاُصول الترخيصيّة في تمام الأطراف ـ فالكلام فيه تارةً يقع في مانعيّته ثبوتاً، واُخرى في مانعيّته إثباتاً عنه.

 

المحذور الثبوتيّ

أمـّا مانعيّة العلم الإجماليّ ثبوتاً عن إجراء الاُصول الترخيصيّة، فالصحيح فيها أنّ العلم الإجماليّ لا يمنع عن إمكان الترخيص في تمام الأطراف، كما يظهر ذلك بالالتفات إلى مبنانا في الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ بإضافة بعض البيانات، وتوضيح ذلك: أنـّه مضى في محلّه: أنّ الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ يكون ببيان أنّ الحكم الظاهريّ عبارة عن إعمال المولى لقوانين التزاحم، وتقديم الغرض الأهمّ عند تزاحم أغراضه في عالم المحرّكيّة، لا تزاحمها في عالم الامتثال المصطلح عليه بالتزاحم في مدرسة المحقّق النائينيّ (قدس سره)؛ إذ الإباحة لا امتثال لها حتى يقع التزاحم في الامتثال، ولا تزاحمها في عالم الحكم المصطلح عليه بالتزاحم في مدرسة المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله)، إذ ذلك فرع وحدة المتعلّق المفقودة في مانحن فيه، وإذا كان الحكم الظاهريّ عبارة عن إعمال المولى لقوانين باب التزاحم، وتقدّم الغرض الأهمّ من الأغراض المتزاحمة في عالم المحرّكيّة، لم يكن منافياً للحكم الواقعيّ لا بلحاظ تضادّ المبادىء؛ إذ الحكم الظاهريّ ينبع من نفس مبادىء الأحكام الواقعيّة، وليست له مبادىء اُخرى وراء مبادئها، ولا بلحاظ تفويت الغرض؛ إذ لا بأس به إذا كان لأجل المزاحمة بغرض أهمّ.

وهذا البيان ـ كما ترى ـ يأتي بعينه في ما نحن فيه؛ إذ لا فرق بين ما نحن فيه وموارد الشكّ البدوي، عدا أنـّه في تلك الموارد لا يعلم إلاّ بأحد الغرضين: اللزوميّ والترخيصيّ، لا على التعيين، وفيما نحن فيه يعلم بخصوص الغرض اللزوميّ، ويعلم