5

 

 

 

 

 

 

 

 

الأمارات الظنّيّة

 

○المقدّمة.

○الظهور.

○الإجماع.

○خبر الواحد الثقة.

○الظنّ (مقدّمات الانسداد).

 

 

 

7

الأمارات الظنّيّة

1

 

 

المقدّمة

 

 

○حجّيّة الظنّ ذاتاً وعدمها.

○استحالة جعل الحجّيّة للظنّ وعدمها.

○مقتضى الأصل عند الشكّ في الحجّيّة.

○السيرة.

 

 

 

9

 

 

 

 

 

 

 

بحث المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) قبل شروعه في بيان الأمارات الظنّيّة التي ثبتت حجّيّتها اُموراً ثلاثة:

1 ـ حجّيّة الظنّ ذاتاً وعدمها.

2 ـ استحالة جعل الظنّ حجّة وعدمها.

3 ـ ما هو مقتضى الأصل عند الشكّ في الحجّيّة.

والأوّلان بحثان ثبوتيّان، والأخير بحث إثباتيّ.

 

حجّيّة الظنّ ذاتاً وعدمها

أمّا الأمر الأوّل: فقد أفاد المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): أنّ الظنّ ليس حجّة بالذات؛ لكونه مشوباً بالشكّ وعدم تماميّة الوصول، والشيء ما لم يتمّ وصوله إلى العبد لا يتنجّز عليه. هذا في مرحلة ثبوت التكليف، وكذلك الأمر في مرحلة سقوطه، فإنّه إذا صار الاشتغال يقينيّاً استدعى ذلك البراءة اليقينيّة، ولا يمكن الاكتفاء في البراءة بغير العلم.

أقول: أمّا مسألة لزوم تحصيل العلم في جانب البراءة، فسيأتي بحثها ـ إن شاء الله ـ في مبحث البراءة والاشتغال، حيث نبحث هناك: أنّه متى يتنجّز التكليف بمرتبة وجوب الموافقة القطعيّة؟ فإذا تنجّز التكليف بهذه المرتبة لم يبق

10

إشكال في عدم جواز الاكتفاء بالامتثال الظنّيّ أو الاحتماليّ؛ إذ هو خلف.

وأمّا مسألة لزوم العلم في تنجّز التكليف وعدم حجّيّة الظنّ ذاتاً الذي هو محلّ الكلام، فما أفاده(قدس سره) فيها مبتن على الفكرة المشهورة في باب حجّيّة القطع: من أنّ القطع حجّة ذاتاً؛ لكونه عين الوصول، وأنّه مع عدمه تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وقد بنوا على هاتين القاعدتين، أعني: قاعدة حجّيّة القطع ذاتاً، وقاعدة قبح العقاب بلا بيان تمام المباحث العقليّة في علم الاُصول.

وقد مضى منّا أنّه لا أساس لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وأنّ قاعدة حجّيّة القطع ذاتاً لا تتمّ إلّا على شكل الضروريّة بشرط المحمول؛ إذ ما لم تفرض مولويّة المولى في أحكامه المقطوعة لا معنى لحجّيّة القطع بأحكامه، كما لا يقول أحد بحجّيّة القطع بحكم زيد أو عمرو أو غيرهما من الناس من الذين لا مولويّة لهم علينا. وإذا فرضت مولويّة المولى في أحكامه المقطوعة فقد فرضت في الموضوع تماميّة التنجيز، فالقول بحجّيّة القطع ليس إلّا ضروريّة بشرط المحمول. وبهذا يظهر أنّ رأس الخيط في التفكير يجب أن يكون عبارة عن مولويّة المولى، والمفروض أنّ أصل مولويّة المولى مفروغ عنها قبل الشروع في علم الاُصول، ويبقى هنا التفكير في مدى سعة دائرة هذه المولويّة وضيقها.

فإن فرض اختصاص دائرتها بالأحكام المقطوعة لم يكن الظنّ أو الشكّ منجّزاً للحكم على العبد؛ لانتفاء المولويّة في موردهما. وإن فرضت سعة دائرة المولويّة لموارد الأحكام المظنونة والمشكوكة كان الظنّ والشكّ أيضاً حجّة على حدّ حجّيّة القطع. وبين الفرضين فروض متوسّطة كثيرة، فإذا فرض ـ مثلاً ـ أنّ دائرة المولويّة تشمل الأحكام المقطوعة والمظنونة دون المشكوكة كان القطع والظنّ حجّة دون الشكّ.

والتحقيق عندنا ـ كما مضى في بحث القطع ويأتي إن شاء الله في بحث البراءة

11

العقليّة ـ: أنّ العقل العمليّ يحكم بثبوت المولويّة وحقّ الطاعة لله تعالى في التكاليف المشكوكة بشرط احتمال اهتمام المولى بهذا التكليف إلى حدٍّ لا يرضى بفواته في حال الشكّ، فيكفي في تنجّز التكليف احتماله مع احتمال كونه على فرض وجوده مهمّاً عند المولى إلى حدّ لا يرضى بفواته عند الشكّ.

وقد تحصّل: أنّ بحثهم عن حجّيّة القطع وحجّيّة الظنّ ذاتاً وعدمها لا أساس له أصلاً.

12

 

استحالة جعل الحجّيّة للظنّ وعدمها

وأمّا الأمر الثاني: فتارةً يستشكل في جعل حجّيّة الظنّ من باب منافاته لحكم العقل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان باعتبار أنّ حكم العقل لا يقبل التخصيص، واُخرى يستشكل فيه من باب منافاته للحكم الواقعيّ في مورده. فهنا مقامان:

 

منافاة الحجّيّة لقبح العقاب بلا بيان

أمّا المقام الأوّل: فقد مضى البحث عنه مفصّلاً فيما سبق وحاصله:

إنّه بناءً على المبنى المختار لا موضوع لهذا الإشكال رأساً؛ إذ نحن نقول بثبوت حقّ المولويّة بمجرّد احتمال التكليف مع احتمال اهتمام المولى به إلى حدّ لا يرضى بفواته في فرض الشكّ، وعدم ثبوت هذا الحقّ عند القطع بعدم اهتمام المولى به إلى هذا الحدّ، وشأن الأدلّة الملزمة هو إثبات اهتمام المولى، فيدخل التكليف في موضوع حقّ المولويّة، وشأن الأدلّة المرخّصة إثبات عدم اهتمام المولى، فيخرج التكليف عن موضوع حقّ المولويّة، وليس هناك تخصيص لقاعدة عقليّة أصلاً.

يبقى هنا شيء واحد، وهو: أنّه كيف يمكن فرض عدم اهتمام المولى بتكليفه في حال الشكّ ورضاه بتركه رغم بقاء أصل التكليف في هذه الحال؟ ولكنّ هذا رجوع إلى بحث المقام الثاني: من المنافاة للحكم الواقعيّ، وسنبحثه إن شاء الله.

هذا كلّه بناءً على مبنانا من إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

أمّا بناءً على تسليم تلك القاعدة فيتّجه الإشكال ولو صوريّاً في خصوص الحكم الظاهريّ الإلزاميّ، أمّا الترخيص فهو مطابق للحكم العقليّ.

والصحيح في الجواب: أنّ القاعدة لو تمّت فإنّما تتمّ فيما لو شككنا في الحكم

13

وشككنا أيضاً في اهتمام المولى به على تقدير وجوده، فيكون لنا شكّ في شكّ. أمّا إذا علمنا باهتمام المولى به على تقدير ثبوته فالحكم على تقدير وجوده يكون منجَّزاً، واحتمال التكليف المنجَّز منجِّز.

وعلى هذا نقول: إنّ الحكم الظاهريّ الإلزاميّ ـ سواء كان بلسان جعل الطريقيّة، أو جعل المنجّزيّة أو بأيّ لسان آخر ـ يدلّ بالدلالة العرفيّة على اهتمام المولى بالحكم على تقدير وجوده، كدلالة الإنشاء الواقعيّ بالدلالة العرفيّة على ثبوت روح الحكم في نفس المولى، فارتفع الإشكال.

أمّا ما أفاده المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في مقام حلّ الإشكال: من أنّ الصحيح هو جعل العلم والطريقيّة، وبه يتمّ البيان ويرتفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وهذا بخلاف فرض كون مفاد الحكم الظاهريّ هو جعل المنجّزيّة، فإنّ تنجيز الحكم الذي لم يتمّ بيانه ليس بياناً له، بل هو تخصيص لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فالتخلّص من الإشكال إنّما يكون بجعل البيان والعلم تعبّداً.

أقول: ما أفاده(رحمه الله) قد مضى فيما سبق مع دفع ما اُورد عليه وتسجيل الإيراد الصحيح عليه.

وحاصل الإيراد الصحيح عليه هو: أنّه إن فرض رفع موضوع القاعدة بلسان جعل الطريقيّة من ناحية دلالته العرفيّة على اهتمام المولى بالحكم، فلا فرق في هذه الدلالة بين لسان جعل الطريقيّة ولسان جعل المنجّزيّة وغير ذلك. وإن أنكرنا اختصاص القاعدة بفرض عدم العلم باهتمام المولى، فلا محيص ـ في مقام فرض تنجّز الحكم في بعض الأوقات بدون ثبوت العلم التكوينيّ ـ عن دعوى توسعة مّا في الغاية، بأن تكون الغاية عبارة عن الجامع بين العلم التكوينيّ وشيء آخر. وليست دعوى التوسعة من ناحية جعل العلم الذي ليس إلّا عبارة عن فرض العلم واعتباره، بأولى من دعوى التوسعة من ناحية اُخرى كجعل المنجّزيّة وفرضها.

14

 

الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ

وأمّا المقام الثاني: فالإشكال في الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ تارةً ينشأ من ناحية العقل النظريّ، واُخرى ينشأ من ناحية العقل العمليّ:

أمّا الأوّل: فبأحد بيانين:

الأوّل: لزوم اجتماع الضدّين أو المثلين، فلو كان الحكم الظاهريّ مطابقاً للحكم الواقعيّ لزم اجتماع المثلين، ولو كان مغايراً له لزم اجتماع الضدّين؛ لتضادّ الأحكام من حيث المبادئ.

والثاني: لزوم نقض الغرض وهو محال؛ لاستحالة انفكاك المعلول عن علّته، فإنّ الغرض علّة غائيّة لما اشتمل عليه من فعل أو ترك، والالتفات إليه يحرّك الفاعل نحو الفعل أو الترك، فإذا التفت المولى إلى غرضه الواقعيّ الذي يفوت بجعل الحكم الظاهريّ ولم يتحرّك نحو ترك هذا الجعل كان هذا يعني انفكاك المعلول عن علّته.

وأمّا الثاني: فببيان أنّ الترخيص في مقابل الأحكام الواقعيّة تفويت للمصلحة على العبد وإضرار به؛ لأدائه إلى فوات ملاكات الأحكام الواقعيّة الناشئة عن المصالح والمفاسد، وهذا قبيح لا يصدر من المولى الحكيم. نعم، لا استحالة في صدوره من المولى غير الحكيم.

وهذا بخلاف الوجهين الأوّلين غير المربوطين بالعقل العمليّ، فإنّ اجتماع المثلين أو الضدّين أو انفكاك المعلول عن العلّة محال حتّى لو كان المولى غير حكيم.

هذا. وكأنّ الشيخ الأعظم(رحمه الله) شعر بأنّ من المناسب أن يُذكر وجه لإمكان الحكم الظاهريّ في قبال ما فُعِل: من ذكر وجه لاستحالته، فذكر(قدس سره) ما يرجع إلى مقدّمتين:

الاُولى: إنّا لم نجد وجهاً للاستحالة؛ لما سوف يأتي: من دفع شبهة ابن قبة للاستحالة.

15

الثانية: إنّ العقلاء يبنون ـ في مورد عدم وجدان نكتة للاستحالة ـ على الإمكان ويرتّبون آثاره.

وأورد المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) على الشيخ وجوهاً ثلاثة، نذكرها على غير ترتيب الكفاية من حيث التقديم والتأخير:

الأوّل: إنّه لا ثمرة لهذا البحث؛ إذ لو قام دليل قطعيّ على الحكم الظاهريّ كان هو دليلاً على الإمكان، فإنّ الدليل على الوقوع الذي هو أخصّ من الإمكان دليل لا محالة على الأعمّ وهو الإمكان. ولو لم يقم دليل قطعيّ على الحكم الظاهريّ فلا ثمرة لإثبات إمكانه.

والثاني: إنّ كون بناء العقلاء على أصالة الإمكان عند الشكّ في ذلك وعدم وجدان ما يدلّ على الاستحالة ممنوع.

والثالث: إنّه بعد تسليم ثبوت هذا البناء من العقلاء، فغاية ما يمكن افتراضه هي الظنّ بالإمضاء من قبل الشارع، وحجّيّة الظنّ أوّل الكلام.

وهذا هو المقدار الموجود في عبارة الكفاية في هذا الإشكال.

والتقريب التامّ له أن يقال: إنّه لو فرض القطع بإمضاء هذه السيرة فهو قطع بالحكم بأصالة الإمكان من قِبَل الشارع، وهذا بنفسه حكم ظاهريّ، فهذا يعني القطع بإمكان الحكم الظاهريّ، وهو خلف فرض الشكّ في الإمكان والبناء على أصالة الإمكان. وإن فرض الظنّ بإمضائها فحجّيّة الظنّ أوّل الكلام.

والوجه في هذا التتميم: أنّه مع قطع النظر عنه يقال: لماذا فرض في المقام الظنّ بالإمضاء؟ وأيّ فرق بين هذه السيرة ومثل السيرة القائمة على حجّيّة الظهورات التي سلّم المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) في محلّه إفادتها للقطع؟! فتتميم الإشكال يكون ببيان الفارق بأن يقال: إنّ إفادتها للقطع فيما نحن فيه خلف الفرض.

16

هذا. وجاء في الدراسات: إنّ إشكالات المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) إنّما ترد على الشيخ لو كان مراده دعوى أصالة الإمكان مطلقاً، لكن من المحتمل أو المطمئنّ به أنّ مراده دعوى أصالة الإمكان عند ما تقوم أمارة ظنّيّة معتبرة على الحكم الظاهريّ، كما إذا دلّ ظاهر كلام المولى على جعل حكم ظاهريّ، فإنّه لا إشكال عندئذ في أنّ العقلاء يأخذون بهذا الظاهر، ولا يرفعون اليد عنه بمجرّد احتمال الاستحالة. وهذا كلام صحيح، فوزان ما نحن فيه وزان ما إذا قال المولى مثلاً: (أكرم العلماء) واحتملنا عدم وجود الملاك في إكرام العالم الفاسق المساوق لاحتمال استحالة وجوب إكرامه. ومن الواضح أنّ العقلاء يأخذون بمدلول هذا الكلام حتّى بالنسبة للعالم الفاسق، ولا يعتنون باحتمال الاستحالة.

أقول: لعلّ هذا من سهو القلم؛ لأنّه لايعقل جعل البحث في خصوص فرض قيام الأمارة الظنّيّة المعتبرة على الحكم الظاهريّ؛ إذ ننقل الكلام عندئذ إلى تلك الأمارة الظنّيّة ونقول: هل ثبتت حجّيّتها بالقطع أو الظنّ، وهكذا إلى أن يتسلسل أو ينتهي الأمر إلى القطع بالحجّيّة. وإذا قطعنا بالحجّيّة فقد قطعنا بتحقّق الحكم الظاهريّ.

وقياس ما نحن فيه بمثال الأمر بإكرام العلماء في غير محلّه؛ إذ في هذا المثال إنّما فرض الشكّ في إمكان مدلول الدليل، لا في حجّيّة الدليل التي هي مدلول دليل آخر، والمفروض الفراغ عن إمكانها ووقوعها وثبوت المصلحة في جعل الظهور حجّة وطريقاً إلى مقاصد المولى، بينما فيما نحن فيه تكون نكتة الشكّ في إمكان مدلول الدليل سارية إلى حجّيّته التي هي مدلول دليل آخر؛ لأنّ حجّيّة هذا الدليل بنفسها حكم ظاهريّ شككنا في إمكانه.

أمّا التحقيق في المقام ـ بغضّ النظر عمّا أفاده الأعلام ـ فهو: أنّ بإمكاننا دعوى أصالة الإمكان بنحو تسلم عن جميع تلك الإشكالات.

17

أمّا إشكال اللغويّة، فبالإمكان علاجه في المقام سواء فرضنا عدم قيام دليل قطعيّ على الحكم الظاهريّ، أو فرضنا قيامه عليه:

أمّا على الفرض الأوّل، فتظهر الثمرة فيما إذا كان عدم قطعيّة الدليل الدالّ على الحكم الظاهريّ من ناحية احتمال عدم الإمكان بحيث لولا هذا الاحتمال لكان قطعيّاً بالفعل، كما إذا كان الدليل عبارة عن السيرة العقلائيّة وعدم ردع الشارع، وكانت السيرة بمستوى نحتمل اكتفاء الشارع في مقام ارتداع الناس باحتمال عدم الإمكان عن التصريح بالردع، فإذا فرض عندئذ جريان أصل عقلائيّ يقتضي الإمكان بنحو يثبت اللوازم أيضاً ثبت بهذا ذاك الحكم الظاهريّ تعبّداً، كما ثبت أصل الإمكان تعبّداً.

وأمّا الإشكال بأنّنا ننقل الكلام إلى نفس هذا التعبّد؛ إذ هو حكم ظاهريّ، والقطع به خلف الفرض، وحجّيّة الظنّ به أوّل الكلام، فهذا راجع إلى الإشكال الثالث.

وأمّا على الفرض الثاني، فبيان الثمرة: أنّه إذا افترضنا قيام دليل قطعيّ على الحكم الظاهريّ ـ على أن نقصد بالحكم الظاهريّ الحكم المختصّ بفرض الشكّ ـ فمرجع احتمال عدم إمكان الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ هو احتمال عدم إمكان بقاء الحكم الواقعيّ في حال الشكّ، فيتمسّك في إثبات بقائه الذي تترتّب عليه ثمرات كعدم الإجزاء ـ على ما قيل في بحث الإجزاء ـ بإطلاق دليل الحكم الواقعيّ. وحجّيّة الإطلاق وإن كانت حكماً ظاهريّاً لكنّا فرغنا عن إمكان الحكم الظاهريّ بمعنى الحكم المختصّ بفرض الشكّ، وإنّما نحتمل استحالة مدلول هذا الإطلاق، فهذا يكون عيناً من قبيل مثال الأمر بإكرام العلماء مع احتمال استحالة وجوب إكرام العالم الفاسق الذي مضى أنّ بناء العقلاء فيه على ترتيب آثار الإمكان والأخذ بظاهر كلام المولى؛ إذ الشكّ إنّما هو في

18

إمكان مدلوله، ويكفي في الحجّيّة احتمال الصدق.

وأمّا الإشكالان الأخيران فلا محيص عنهما بناءً على المبنى المتعارف في الاُصول: من أنّ حجّيّة غير القطع يجب أن تكون بجعل من الشارع.

ولكنّنا نقول: إنّ دائرة حقّ المولويّة أوسع من دائرة الأحكام الواصلة بطريق القطع، وتشمل الأحكام الواصلة بالطريق الذي اتّخذه المولى عادة له في مقام إيصال أحكامه. ولا إشكال في أنّ ظهور الكلام من هذا القبيل، فيكون الظهور حجّة لا بمعنى جعل الحجّيّة له كي يتكلّم في إمكان ذلك واستحالته، بل بمعنى أنّ من حقّ المولى امتثال ظاهر كلامه، وعندئذ إذا فرضت دلالة ظاهر كلام المولى على جعل طريق وحكم ظاهريّ، فلا إشكال في أنّ بناء العقلاء على ترتيب أثر إمكان ذلك الحكم الظاهريّ والأخذ بظاهر كلام المولى؛ لأنّ الشكّ إنّما هو في إمكان مدلول ذلك الظاهر لا في حجّيّته، ويكون من قبيل مثال الأمر بإكرام العلماء مع احتمال استحالة وجوب إكرام العالم الفاسق(1).

بقي الكلام في تحقيق الحال فيما مضت: من وجوه استحالة الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ. وقد عرفت أنّها على قسمين؛ إذ بعضها يرجع إلى الإشكال من ناحية العقل النظريّ، وبعضها يرجع إلى الإشكال من ناحية العقل العمليّ.


(1) وبهذا يندفع الإشكال الأوّل أيضاً وهو إشكال عدم الثمرة.

وواقع الحال أنّنا بالنسبة لإمكان أصل الحكم الظاهريّ (بمعنى الحكم المختصّ بظرف الشكّ) في الجملة لسنا بحاجة إلى أصالة الإمكان؛ لأنّ الحكم الظاهريّ الأوّل في تسلسل الأحكام الظاهريّة ـ وهو حجّيّة الظهور ـ قطعيّ نأخذ به حتّى على مبنى القوم: من اختصاص الحجّيّة الذاتيّة بالقطع. وبعد ذلك يصبح دليل الأحكام الظاهريّة الاُخرى وبقاء الحكم الواقعيّ في ظرف الشكّ حالهما حال مثال الأمر بإكرام العلماء، أي: أنّ الشكّ يكون في المدلول لا في حجّيّة الدليل.

19

 

الإشكال من ناحية العقل النظريّ:

أمّا القسم الأوّل: فقد عرفت أنّ له تقريبين: أحدهما: لزوم اجتماع الضدّين أو المثلين. والثاني: لزوم نقض الغرض. وقد ذكر في مقام الجواب عن هذا القسم وجوه. ولا أقصد بذلك أنّهم أرادوا الجواب عن كلا الإشكالين؛ إذ لم يذكر كلا الإشكالين بهذا الشكل في كلام كلّ من تعرّض للإشكال والجواب، وإنّما المقصود: أنّهم دفعوا إشكال استحالة الجمع بين الحكمين من وجهة العقل النظريّ ولو في الجملة بأحد وجوه:

الوجه الأوّل: منع كون الحكم الظاهريّ حكماً تكليفيّاً كي ينافي الحكم الواقعيّ، وإنّما هو عبارة عن جعل الطريقيّة، أو جعل المنجّزيّة، أو جعل الحجّيّة، أو غير ذلك، على اختلاف تعبيراتهم وتقريباتهم لذلك. فذكر المحقّق النائينيّ(رحمه الله)جعل الطريقيّة(1)، وذكر المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)جعل المنجّزيّة(2)، ونحن جعلنا الجميع جواباً واحداً باعتبار ما عرفته: من الجامع بينها.

والواقع: إنّ هذا الوجه لا يدفع شيئاً من الإشكالين:

أمّا إشكال نقض الغرض، فلأ نّ الحكم الظاهريّ بأيّ لسان كان إن لم تترتّب عليه صيرورة المكلّف في سعة من ناحية مخالفة الحكم الواقعيّ كان هذا خُلفاً، وكان الحكم الظاهريّ لغواً، ولم يكن منتجاً للأثر المقصود والنتيجة المطلوبة من الأحكام الظاهريّة. وإن ترتّبت عليه هذه السعة لزم نقض الغرض؛ لأنّ المكلّف يترك الواقع المطلوب اعتماداً على هذه السعة الثابتة له من قبل المولى.


(1) في الأمارات أو فيها وفي الاُصول المحرزة أيضاً بمعنى من المعاني.

(2) واستثنى في كفايته من هذا الجواب مثل أصالة الإباحة.

20

وأمّا إشكال اجتماع الضدّين، فلأنّ الإشكال لم يكن متمركزاً في نفس صياغة الحكمين التكليفين وكيفيّة الجعل والاعتبار، كي يقال: إنّ الحكم الظاهريّ ليس حكماً تكليفيّاً وإنّما هو حكم وضعيّ وجعل للطريقيّة أو لغيرها من الاُمور الاعتباريّة. وإنّما التضادّ متمركز في مبادئ هذه الاعتبارات: من المصالح والمفاسد وما في نفس المولى: من الحبّ والبغض، ولا تؤثّر في حساب ذلك صيغة الجعل والاعتبار. فما أفادوه في المقام: من بيان أقسام جعل الحكم الظاهريّ: من جعل الطريقيّة والمنجّزيّة والحجّيّة وغير ذلك، غير مرتبط بالمقام أصلاً، وإن أثّر ذلك في تصعيد مستوى علم الاُصول على أساس ما ترتّبت عليه من ثمار في مقامين:

أحدهما: في تقديم أحد الأدلّة على غيره في مقام التعارض وعدمه؛ إذ التعارض مربوط بباب اللفظ والتعبير وتؤثّر فيه الصياغات. ويأتي الكلام في ذلك إن شاء الله.

والثاني: فيما مضى من بحث قيام الأمارات مقام العلم وقد مضى تفصيله.

الوجه الثاني: إنّ مبادئ الحكمين ليست مرتكزة على مورد واحد حتّى تقع المنافاة. فمبادئ الحكم الواقعيّ ثابتة في المتعلّق، ومبادئ الحكم الظاهريّ ثابتة في نفس الحكم.

ويرد عليه: إنّ مبادئ الحكم الظاهريّ لو كانت ثابتة في نفس الحكم ـ بأن لم يكن وراء إيجاد الحكم غرض للمولى يحصل بالإتيان بمتعلّقه ـ لم يحكم العقل بلزوم اتّباع هذا الحكم أصلاً، وبتعبير آخر: قد مضى منّا أنّ المحرّكيّة العرضيّة للحكم بواسطة حكم العقل متمّمة للمحرّكيّة الذاتيّة، ومع فرض عدم تعلّق غرض للمولى وراء إصدار الحكم بالإتيان بمتعلّقه ليست للحكم محرّكيّة ذاتيّة للعبد بملاك حبّ العبد لإنجاز أغراض المولى؛ إذ المولى وصل إلى أغراضه بإيجاد الحكم ولا يريد شيئاً آخر.

21

وإن شئت فقل: إنّ غاية ما يتصوّر في العبد من دافع الامتثال وحالة الطواعية والخضوع للأوامر أن يكون العبد بمنزلة جوارح المولى، وكما أنّ جوارح المولى لا تتحرّك نحو المتعلّق إذا لم يكن غرض فيه كذلك حال العبد المطيع.

ولو أمكن الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ بهذا الوجه لأمكن الجمع بين حكمين واقعيّين به أيضاً حينما لا يتنجّز كلاهما كي ينتهي الأمر إلى التضادّ من حيث التنجّز، فلو ورد (أكرم العلماء) وورد (لاتكرم الفسّاق) ففي مادّة الاجتماع إن لم يتنجّز كلاهما بحصول القطع بعلم زيد وبفسقه مثلاً، أمكن الجمع بينهما بافتراض أنّ الملاك في أحدهما في المتعلّق وفي الآخر في نفس الحكم.

هذا. ونحن لا ننكر أنّه كثيراً مّا يكون ملاك الحكم في نفس الحكم دون متعلّقه، لكن لا بمعنى أن لا يكون هناك غرض للمولى وراء الحكم، بل بمعنى أنّ الإتيان بالمتعلّق بعنوانه الأوّليّ ليس مطلوباً، وإنّما المطلوب هو امتثال حكم المولى، فيحكم المولى بالمتعلّق كي يمتثله العبد، فتتحقّق هذه المصلحة خارجاً. ولعلّ هذه المصلحة هي الملحوظة في جلّ العبادات أو كلّها.

الوجه الثالث: ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) في المقام بغضّ النظر عن الجواب الأوّل، ونحن نذكر هنا ما يستنبط عادة من عبارته مع تحقيق الحال في ذلك، تاركين الكلام عن محتملات مقصوده وتحقيق بعض عبائره وخصوصيّات كلامه.

فنقول: إنّ ما يفسّر به عادة كلامه هو أنّ للحكم مرتبة الإنشاء، وهي عبارة عن الحكم الذي يكون مشتركاً بين العالم والجاهل، ومرتبة الفعليّة، وهي التي تكمن فيها مبادئ الحكم، فالمنافاة إنّما تقع بين الحكمين لو فرضا معاً فعليّين، بينما الحكم الفعليّ بشأن المكلّف في موارد وجود الحكم الظاهريّ إنّما هو الحكم الظاهريّ، وأمّا الحكم الواقعيّ فهو إنشائيّ، فلا منافاة بينهما.

وليس الحكم الواقعيّ إنشائيّاً صرفاً كي يقال: إنّ لازم ذلك إذن هو عدم تنجّز

22

الحكم الواقعيّ حتّى بالعلم؛ إذ لا قيمة للعلم بصرف الإنشاء والاعتبار، بينما لا إشكال في تنجّزه بالعلم، وإنّما المقصود بإنشائيّة الحكم الواقعيّ هو عدم فعليّته من ناحية الشكّ فقط، أي: أنّ كلّ الاُمور الدخيلة في فعليّة الحكم ثابتة عدا العلم بهذا الإنشاء، فالعلم به هو أحد الاُمور الدخيلة في فعليّة الحكم، وهو منتف بحسب الفرض. فالحكم الواقعيّ فعليّ من غير ناحية الشكّ، ويكون العلم به موضوعاً للفعليّة الكاملة، فإذا علم به وجب عليه امتثاله، وإذا لم يعلم به جاء الحكم الظاهريّ وكان هو الفعليّ بشأنه، ولا ينافيه الحكم الواقعيّ؛ لأنّه ليس فعليّاً من جميع الجهات.

وأورد المحقّق النائينيّ(رحمه الله) على هذا الوجه بأنّ التفكيك بين مرتبة الإنشاء والفعليّة في المقام غير معقول، فمرتبة الإنشاء عبارة عن مرتبة الجعل والاعتبار الثابتة بمجرّد إصدار الحكم، كقوله تعالى: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾، ومرتبة الفعليّة إنّما تتحقّق بتحقّق الموضوع وهو الاستطاعة في مثال الحجّ مثلاً، وهذه هي فعليّة المجعول والمعتبر. والخلاصة: إنّ الحكم بنحو القضيّة الحقيقيّة ما لم يوجد موضوعه خارجاً يكون في مرحلة الإنشاء والجعل، فإذا انطبق خارجاً على موضوعه صار فعليّاً، وإذا وقع الشكّ في حكم من الأحكام، فإن فرض العلم وعدم الشكّ جزءاً لموضوع هذا الحكم، إذن فهذا الإنسان الشاكّ خارج عن موضوع هذا الحكم، ولا يوجد بشأنه حكم فعليّ ولا إنشائيّ. وإن فرض عدم كون ذلك جزءاً للموضوع إذن الحكم بشأنه فعليّ، فالتفكيك بين المرتبتين بلحاظ ما نحن بصدده أمر غير معقول.

وهذا الإيراد من المحقّق النائينيّ(رحمه الله) على المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) خلط بين مصطلحات المحقّق الخراسانيّ ومصطلحات المحقّق النائيني، وتحميل لمصطلحات المحقّق النائينيّ(رحمه الله)على عبارة المحقّق الخراسانيّ.

فليس مقصود المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من مرتبتي الإنشاء والفعليّة هما مرتبتا

23

الجعل والمجعول بالمعنى المعروف عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله) كي يرد عليه هذا الإشكال، بل مقصوده هو التفكيك بين مدلولين تصديقيّين للكلام.

توضيحه: إنّ لصيغة (افعل) مثلاً دلالة تصوّريّة، وهي دلالته على النسبة الطلبيّة ـ مثلاً ـ بحسب عالم التصوّر، ودلالة تصديقيّة نهائيّة، وهي دلالته على وجود مبادئ الحكم في النفس، ودلالة تصديقيّة اُخرى متوسّطة بين الدلالتين، وهي على مذاق المشهور ـ ومنهم المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) ـ إيجاديّة، وبهذا يميّزون الإنشائيّات عن الإخبار، فصيغة (افعل) مثلاً توجد الطلب في الخارج، وعلى مذاق آخر ليست إيجاديّة وإنّما هي دلالة على اعتبار نفسانيّ أوجده المولى في نفسه، وهو اعتبار الفعل في ذمّة المكلّف مثلاً، ومن وراء هذا ما مضى: من المدلول التصديقيّ النهائيّ وهو المبادئ. وهاتان الدلالتان التصديقيّتان قد تكونان تامّتين، وقد توجد قرينة على انتفاء الدلالة التصديقيّة النهائيّة. والحكم المشتمل على كلا المدلولين يصطلح عليه المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) بالحكم الفعليّ. والحكم المنسلخ عن المدلول النهائيّ يصطلح عليه بالحكم الإنشائيّ. ومقتضى إطلاق دليل الحكم وإن كان هو ثبوت كلا المدلولين في ظرف الشكّ، لكنّ جعل الحكم الظاهريّ في ظرف الشكّ بعد فرض استحالة الجمع بينه وبين حكم فعليّ آخر قرينة على عدم إرادة المدلول التصديقيّ النهائيّ(1)، لكن لا مطلقاً كي يكون الحكم الواقعيّ إنشائيّاً


(1) يشبه حلّ المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) للإشكال ـ أو يرجع إليه ـ الحلّ الذي كان يتبنّاه اُستاذنا المرحوم آية الله الشاهروديّ(رحمه الله): من التفصيل بين الجانب الوضعيّ للتكليف، وهو انشغال الذمّة، والجانب التكليفيّ له، وهو المطالبة بالأداء، فالأوّل هو المشترك بين العالم والجاهل، والثاني هو المختصّ بالعالم. وكان يعبّر(رحمه الله)أحياناً بأنّ الجمع بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ ـ يعني التكليفيّين ـ مستحيل.

24

صرفاً ولا يتنجّز بحصول العلم، بل بمقدار وجود الحكم الظاهريّ؛ إذ في الزائد على ذلك لا قرينة على عدم إرادة المدلول التصديقيّ النهائيّ، والضرورة تتقدّر بقدرها. كما أنّه إنّما يرفع اليد عن المدلول التصديقيّ النهائيّ ـ وهو ثبوت مبادئ الحكم في نفس المولى ـ بمقدار الإلزام دون أصل الرجحان؛ لعدم منافاته مع الحكم الظاهريّ، فأصل الرجحان ثابت، ومن هنا يتمّ حسن الاحتياط في ظرف الشكّ. هذا. والحكم الإنشائيّ هو المشترك بين العالم والجاهل والذي به ترتفع مشكلة التصويب.

وأورد المحقّق العراقي(قدس سره) على المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): أنّ لازم ما ذكره عدم تكفّل الخطابات الواقعيّة إلّا لذاك الحكم الإنشائيّ دون المدلول التصديقيّ النهائيّ مطلقاً، أي: حتّى في ظرف العلم؛ وذلك لأنّ الحكم الفعليّ وهو المدلول التصديقيّ النهائيّ مشروط بالعلم ـ على الفرض ـ والعلم الدخيل فيه هو العلم بالخطاب لا العلم بنفسه؛ إذ العلم بشيء يستحيل أن يكون موضوعاً لنفس ذلك الشيء، فيكون المدلول التصديقيّ في طول العلم بالخطاب الذي هو في طول الخطاب، فيستحيل دلالة الخطاب عليه؛ إذ لا تعقل دلالته على ما في طوله.

والجواب: إنّ الخطاب بعد فرض التقييد بالحكم الظاهريّ يدلّ على فعليّة الحكم على تقدير العلم بالخطاب، أي: يدلّ على قضيّة شرطيّة، وهي: أنّه لو علم المكلّف بالخطاب لأصبح الحكم بشأنه فعليّاً، فإذا تحقّق الشرط تحقّق الجزاء،وهذا غير افتراض دلالة الخطاب ابتداءً على فعليّة الجزاء كي يرد عليه: أنّ الجزاء في طول العلم بالخطاب فكيف يدلّ عليه الخطاب؟!

فهذا خلط بين دلالة الخطاب على الفعليّة التنجيزيّة ودلالته على الفعليّة على تقدير، فإذا علمنا نحن بتحقّق التقدير علمنا بتحقّق الفعليّة.

وقد اتّضح أنّ الإشكالين اللذين اُوردا على المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) غير واردين عليه.

25

نعم، الكلام في أنّ ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) هل هو دفع للإشكال، أو التزام به؟(1).

ويختلف ذلك باختلاف الاعتقاد بمقدار بطلان التصويب واشتراك الحكم بين العالم والجاهل الذي هو أساس الإشكال في الحكم الظاهريّ: فإن قلنا بأنّ المقدار المسلّم اشتراكه بين العالم والجاهل إنّما هو هذا الحكم الإنشائيّ الذي هو اعتبار نفسانيّ أو إيجاد للطلب مثلاً، فلا يبقى إشكال في الحكم الظاهريّ(2). وإن قلنا بأنّ المشترك بينهما هو لُبّ الحكم وهو المدلول التصديقيّ النهائيّ، فكلام المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) التزام بالإشكال وإنكار لوجود هذا القدر المشترك، وليس دفعاً للإشكال.

هذا بغضّ النظر عن أنّ هذا الاعتبار النفسانيّ أو الأمر الذي يوجد بالإنشاء غير ثابت في باب الأحكام على الإطلاق؛ إذ لو بيّن الحكم بغير الإنشاء لم يتحقّق ذلك. أمّا بناءً على كون ذلك عبارة عن أمر يوجد بالإنشاء كما هو مبنى المحقّق


(1) وعلى تقدير أن يكون دفعاً للإشكال وصحيحاً، فهو وإن كان في نفسه جواباً صحيحاً ويكفي لإبطال شبهة الاستحالة، ولكن بما أنّه يشتمل على رفع اليد عن ظهور الخطاب في الفعليّة لا ينبغي أن يصار إليه ما أمكن حلّ الإشكال مع التحفّظ على الظهور، كما سترى إن شاء الله.

(2) لو كان دليلنا على بطلان التصويب هو الاستحالة العقليّة كان حلّ المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) كافياً لعلاج مشكلة التصويب، كيف لا ويكفي للعلاج ما هو أقلّ من فرض الاشتراك في ذاك الاعتبار النفسانيّ أو الأمر الإيجاديّ؛ إذ يكفي في رفع استحالة توقّف الشيء على العلم به أخذ العلم بالجعل في متعلّق المجعول بالمصطلح الميرزائيّ، على تحقيق مضى في بحث القطع. ولو كان دليلنا على بطلانه الإجماع فالإجماع إن كان فهو على لبّ الحكم وواقعه، لا على الاشتراك في صيغة جوفاء.

26

الخراسانيّ(رحمه الله)، فواضح؛ لفرض عدم الإنشاء. وأمّا بناءً على كونه اعتباراً نفسانيّاً، فلأنّ ثبوته لغو صرف؛ لأ نّا لا نحتمل وجود ملاك في نفسه، وفي باب الإنشاء كان يوجد هذا الاعتبار تحفّظاً على الجهة اللغويّة؛ إذ المفروض أنّ الإنشاء موضوع لإبراز ذلك، أمّا مع انتفاء الإنشاء فلا وجه لإيجاد هذا الاعتبار أصلاً(1).

الوجه الرابع: ما نسب إلى المحقّق العراقي(رحمه الله)، وهو التبعيض في مبادئ الحكم. توضيحه: إنّه كما أنّ الشيء المركّب من أجزاء قد تتبعّض فيه مبادئ الحكم: من الملاك والإرادة، فيكون الملاك والإرادة متعلّقين به من جهة الجزء الأوّل مثلاً، أو قل: إنّ الملاك والإرادة متعلّقان بالجزء الأوّل لا بكلّ المركّب، كذلك يمكن افتراض جهات عديدة للوجود بعدد مقدّماته وتبعّض المبادئ بلحاظها، فقد تتعلّق إرادة المولى بذاك الوجود بقدر المقدّمة الفلانيّة دون سائر المقدّمات، فمن مقدّمات حصول واجب مّا من العبد إبراز المولى طلبه لذلك بالخطاب الواقعيّ، ومنها إيصال الحكم إلى العبد بجعل الاحتياط أو غيره، فلذاك الواجب جهتان من الوجود باعتبار هاتين المقدّمتين، فمن الممكن أن تتعلّق إرادة المولى بخصوص الجهة الاولى من جهتي وجوده، وهذا إنّما يستدعي إبراز المولى طلبه بالخطاب الواقعيّ وقد فعل، أمّا إيصال ذلك إلى العبد فالمفروض عدم تعلّق إرادة المولى بجهة وجود الواجب من ناحيته، فلا محذور في عدم تصدّي المولى لإيجاد هذه


(1) لا نكتة لوضع الإنشاء لإبراز ذاك الاعتبار دون إبراز مبادئ الحكم رأساً إلّا افتراض أنّ هذا طبع عقلائيّ واُسلوب يعتمدونه لتنظيم أحكامهم وصياغتها في صيغة عقلائيّة. ولو صحّ هذا الكلام فالإخبار عن الحكم سيكون إخباراً عن هذا الاعتبار. نعم، لو كان دليلنا على افتراض إنشاء شيء وراء الحبّ والبغض كون الإنشاء إيجاداً ولا يمكن إيجاد الحبّ والبغض بالإنشاء، فهذا الدليل لايرد في الإخبار. فهذا الإشكال وارد على المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) مبنائيّاً.

27

المقدّمة بل تصدّيه لخلافها وجعل أصالة البراءة مثلاً.

أقول: إنّ تعدّد الجهات يتصوّر في طرف الوجود بلحاظ الأجزاء؛ لانبساط وجوده على الأجزاء، ولكن لا يتصوّر بلحاظ المقدّمات إلّا في طرف العدم دون طرف الوجود؛ لأنّ الشيء لاتتعدّد جهة وجوده بتعدّد مقدّماته وأجزاء علّته، وإنّما التعدّد ثابت في ناحية العدم، فإنّه يشترط في وجود الشيء وجود مجموع أجزاء علّته، ولكن يكفي في عدمه عدم واحد منها، فعدم أيّ جزء من أجزاء العلّة باب من أبواب عدم المعلول.

فلكي يرجع هذا الوجه إلى وجه معقول نسبيّاً ينبغي أن يكون المراد منه: افتراض أنّ إرادة المولى تعلّقت بسدّ باب عدم الشيء من ناحية خاصّة دون سدّ باقي أبواب عدمه، فأحد أبواب عدم الواجب كان هو عدم إبراز المولى لإرادته بالخطاب الواقعيّ، وقد سدّه، أمّا الباب الآخر وهو عدم إيصال الحكم إلى العبد بجعل الاحتياط مثلاً، فلم يسدّه؛ لعدم تعلّق إرادته بسدّ كلّ الأبواب، بل تعلّقت إرادته بما ينافي سدّ هذا الباب ويبقيه مفتوحاً على مصراعيه بجعل أصالة البراءة مثلاً.

فلو اُرجع هذا الوجه إلى البيان الذي بيّنّاه، فجوابه الفنّيّ أن يقال: إنّه إذا فرض تعلّق إرادة المولى بسدّ باب عدم صلاة الجمعة ـ مثلاً ـ من ناحية عدم إبرازه لإرادتها، فقد فرضت في المرتبة السابقة على إرادة سدّ باب العدم إرادة اُخرى متعلّقة بوجود الصلاة، فيقع الكلام في هذه الإرادة المتعلّقة بوجود الصلاة، فإن اُرجعت هذه الإرادة أيضاً إلى إرادة سدّ باب عدم صلاة الجمعة من ناحية عدم إبراز إرادة الصلاة، فقد فرضنا مرّة اُخرى في المرتبة السابقة إرادة متعلّقة بوجود الصلاة، وهكذا إلى أن يتسلسل أو نستقرّ على إرادة متعلّقة بوجود الصلاة، وإذا استقررنا على إرادة متعلّقة بوجود الصلاة وقعت المنافاة بين الحكم الواقعيّ

28

والظاهريّ بلحاظ هذه الإرادة(1).

نعم، لو فرض سلخ ذاك الإبراز رأساً عن مبادئ الحكم: من الملاك والإرادة، رجع هذا إلى الوجه الثالث، وضمّ بقيّة الخصوصيّات إليه من قبيل ضمّ الحجر إلى جنب الإنسان.

الوجه الخامس: ما أفاده المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في مقالاته، وهو مبتن على القول بالطريقيّة، لا بمعنى جعل الطريقيّة الذي يقول به المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في قبال جعل المنجّزيّة مثلاً، بل بمعنى كون مبادئ الأحكام الظاهريّة هي نفس مبادئ الأحكام الواقعيّة، وأنّها شرّعت للحفاظ على الأحكام الواقعيّة، في قبال السببيّة بمعنى كون قيام الأمارة ـ مثلاً ـ محدثاً لملاك آخر في مقابل ملاك الواقع. وفرض طريقيّة الحكم الظاهريّ بهذا المعنى يساوق فرض عدم الإشكال من ناحية تضادّ الحكمين؛ إذ التضادّ بينهما كان من ناحية المبدأين، والمفروض عدم وجود مبدأ مستقلّ للحكم الظاهريّ في قبال مبادئ الواقع.

نعم، يبقى إشكال نقض الغرض، حيث يؤدّي الحكم الظاهريّ أحياناً إلى ترك الواجب مثلاً، بينما المفروض تعلّق الغرض اللزوميّ للمولى به في الواقع، وهذا نقض للغرض. وقد تصدّى المحقّق العراقيّ(رحمه الله)لدفع هذا الإشكال بجواب يقوم على أساس مقدّمة، وتلك المقدّمة هي: أنّ مقدّمات الواجب على قسمين:

القسم الأوّل: ما يكون مقدّمة لنفس الفعل بما هو بغضّ النظر عن إرادة المولى،


(1) بل حتّى لو تكلّمنا في مقدّمات اُخرى غير إبراز إرادة العمل قلنا: إنّ سدّ أيّ باب من أبواب العدم المنفتح من جهة مقدّمة أو جزء علّة ليس إلّا مقدّمة من مقدّمات وجود المعلول لا عينه أو جزءه كما هو واضح، ومعه يستحيل أن تكون إرادته عين إرادة المعلول أو جزءها، فإنّ معروضي الإرادتين إذا تباينا فلابدّ من تباين العارضين وهما الإرادتان، فإرادة سدّ باب من أبواب العدم بإيجاد المقدّمة أو جزء العلّة إنّما هي معلولة لإرادة المعلول ومترشّحة منها لا عينها، فالتنافي بلحاظ إرادة المعلول قائم على حاله.

29

كطيّ المسافة الذي هو مقدّمة للحجّ مثلاً، بلاربط لذلك بتعلّق إرادة المولى بالحجّ وعدمه.

والقسم الثاني: ما يكون مقدّمة للفعل في طول تعلّق إرادة المولى بالفعل، وهذه المقدّمة تارةً تكون راجعة إلى المولى، كإبراز المولى إرادته بالخطاب، فهو مقدّمة لصدور الفعل من العبد؛ إذ به يتنجّز الحكم على العبد، ويتحرّك بذلك نحو الفعل. وليس هذا الإبراز مقدّمة للفعل بما هو فعل، بل هو مقدّمة له في طول تعلّق إرادة المولى به؛ إذ إنّما يكون ذاك الإبراز مقدّمة بما هو كاشف عن الإرادة المولويّة، والكاشف يكون في طول المنكشف. واُخرى تكون راجعة إلى العبد، كإرادة العبد للفعل، فإنّها من المقدّمات التي تكون في طول إرادة المولى؛ إذ هي التي توجب انقداح الداعي والإرادة في نفس العبد. هذه هي المقدّمة.

وبعد ذلك نقول: إنّ إرادة الفعل إنّما تكون محرّكة نحو مقدّمات الفعل التي ليست في طول الإرادة، ولا تحرّك نحو المقدّمات التي هي في طولها؛ لاستحالة محرّكيّة الشيء نحو ما يكون في طوله. وعلى هذا الأساس يقول المحقّق العراقي(رحمه الله): إنّه تستثنى في وجوب المقدّمة من تمام المقدّمات إرادة الفعل، فهي لا تتّصف بالوجوب المقدّميّ؛ لكونها في طول إرادة المولى. هذا بلحاظ المقدّمات الراجعة إلى العبد.

وكذلك الكلام بلحاظ ما يرجع إلى المولى، فإبراز المولى إرادته بالخطاب لا يعقل تحرّك المولى نحوه بنفس إرادة الفعل؛ لكونه في طولها، وإنّما يكون تحرّكه نحوه بإرادة اُخرى في عرض تلك الإرادة، وهذه الإرادة الثانية تختلف باختلاف شدّة ملاك الفعل وضعفه، فقد يكون ملاك الفعل قويّاً إلى حدّ تتعلّق إرادة المولى بسدّ كلّ أبواب العدم الراجعة إلى نفسه، فيبرز إرادته للفعل ويوصلها إلى العبد بأيّ نحو أمكن من الخطاب الواقعيّ، وجعل وجوب الاحتياط، وعنوان صدّق العادل،