352

هذا تمام كلامنا في بيان وجهين للهروب من إشكالات أخذ العلم بالحكم في متعلّق الحكم.

فلو اتّفق في الشريعة في بعض الموارد اختصاص الحكم بالعالمين بالحكم كما في مسألة الجهر والإخفات والقصر والإتمام ـ بناءً على أنّ المستفاد من روايات الإجزاء فيها هو اختصاص الحكم بالعالم ـ يحمل ذلك على أحد هذين الوجهين.

 

مسلك متمّم الجعل

إنّ المحقّق النائينىّ(رحمه الله) سلك في بيان المهرب من إشكال استحالة موضوعيّة العلم بالحكم لمتعلّقه مسلكاً آخر، وهو مسلك متمّم الجعل.

 


به، توقّف العلم به على العلم بالعلم به، وهذا ما يعود إلى الدور، أو إلى روح الدور، أعني: توقّف الشيء على نفسه.

ولا إشكال في أنّ الوجه الثاني المذكور في المتن باستطاعته أن يحلّ المحذور الثاني، بلا حاجة إلى رجوعه إلى الوجه الأوّل، أو إلى روح الوجه الأوّل: من التمييز بين الجعل والمجعول، أو الجعل وفاعليّة الحكم، فحتّى لو فرضنا أنّ الإبراز الذي يكون العلم به شرطاً في الحكم متعلّق بنفس ما يترتّب على العلم، فالمجعول ـ مثلاً ـ يترتّب على العلم بإبراز المولى للمجعول، أو فاعليّة الحكم تترتّب على العلم بإبراز المولى لفاعليّة الحكم، كان المحذور الثاني مرتفعاً؛ إذ لا يلزم من أخذ العلم بإبراز الحكم في موضوع الحكم عدا توقّف العلم به على العلم بالعلم بإبرازه الراجع إلى توقّف العلم به على العلم بإبرازه، وهذا غير توقّف الشيء على نفسه، وكثيراً ما يتّفق توقّف العلم بشيء على العلم بإبرازه، فمثلاً فيما يخبر المخبر الثقة بقضيّة لا سبيل لنا إلى معرفتها غير إخباره يكون علمنا بتلك القضيّة متوقّفاً على علمنا بإبراز المخبر لها.

إلّا إنّه قد يقال: إنّ هذا الوجه لا يحلّ المحذور الأوّل إلّا بنفث روح الوجه الأوّل فيه: من التمييز بين الجعل والفعليّة، أو الجعل والفاعليّة؛ ذلك لأنّه لو غضّ النظر عن هذا التمييز، لأمكن أن يقال باستحالة توقّف الحكم على العلم بإبراز المولى للحكم؛ لأنّ العلم بشيء يقتضي بطبيعته النظر إلى ذاك الشيء وكأنّه مستقلّ عن العلم وغير متوقّف عليه، فإبراز الحكم يجب أن يفرض مستقلّاً عن العلم وغير متوقّف عليه، وهذا يعني: ثبوت إبراز المولى للحكم بغضّ النظر عن العلم بهذا الإبراز، وطبعاً إبراز المولى للحكم فرع ثبوت الحكم واقعاً، إذن هذا يعني: ثبوت الحكم واقعاً بغضّ النظر عن العلم بهذا الإبراز، في حين أنّ المفروض هو توقّف الحكم على العلم بهذا الإبراز.

وبتعبير آخر: أنّ توقّف الحكم على العلم بالإبراز يستدعي توقّف معلوله، وهو الإبراز على العلم بالإبراز، فقد أصبح متعلّق العلم وهو الإبراز متوقّفاً على العلم، وقد افترضنا استحالته؛ للزوم التهافت بين طبيعة العلم الذي يقتضي النظر إلى المعلوم وكأنّه مستقلّ عنه، وطبيعة المعلوم.

إذن نحن بحاجة إلى نفث روح الوجه الأوّل: من التمييز بين الجعل والفعليّة، أو الجعل والفاعليّة في هذا الوجه؛ كي نقول: إنّ فعليّة الحكم أو فاعليّته توقّفت على العلم بإبراز المولى للجعل.

353

وحاصل رأيه في ذلك: أنّ الجعل ربّما لا يكون مطابقاً لغرض المولى ووافياً بتمام الغرض، وذلك كما فيما نحن فيه؛ إذ لا إشكال في أنّ الغرض: إمّا أن تعلّق بصدور الفعل عن خصوص العالم بالحكم، أو تعلّق بصدور الفعل عن مطلق العالمين والجاهلين، ولكنّ جعله لا يفي باختصاص الغرض بالعالم ولا بالإطلاق: أمّا الأوّل فلما مضى من استحالة أخذ العلم بالحكم شرطاً لذاك الحكم، وأمّا الثاني فلما مضى من عدم تفرقة القوم (ومنهم المحقّق النائينىّ(رحمه الله)) بين أخذ العلم شرطاً أو مانعاً، فيستحيل تقييد الحكم بالجهل أيضاً، وبالتالي يستحيل الإطلاق باستحالة التقييد؛ لأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد في نظره(قدس سره): تقابل العدم والملكة، فهذا الجعل مهمل لا مطلق ولا مقيّد، ومن هنا احتجنا إلى جعل آخر متمّم للجعل الأوّل لإفادة غرضه، فيجعل وجوب ذاك الفعل مرّة اُخرى مقيّداً بالعلم بالجعل الأوّل أو مطلقاً، فتحصل نتيجة تقييد الجعل الأوّل أو إطلاقه بتقييد الجعل الثاني أو إطلاقه، وهذان الجعلان لبّاً وروحاً جعل واحد؛ لأنّهما مسوقان لغرض واحد. هذا ما ذهب إليه المحقّق النائينيّ(رحمه الله).

ولنا في هذا الكلام بحثان: أحدهما بلحاظ الجعل الأوّل، وثانيهما بلحاظ الجعل الثاني:

البحث الأوّل: في الكلام في الجعل الأوّل، وقد أورد السيّد الاُستاذ على ما مضى نقله في ذلك عن المحقّق النائينىّ(رحمه الله) إيرادين:

أحدهما: أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد صحيح أنّه تقابل العدم والملكة، ففي جانب العدم اُخذت مرتبة من قابليّة الوجود بانتفائها ينتفي ذلك العدم الخاصّ، لكن ليست القابليّة المأخوذة عبارة عن القابليّة الشخصيّة حتّى ينتفي بانتفائها العدم الملحوظ في باب العدم والملكة، بل هي قابليّة كلّيّة؛ ولذا ترى أنّه يصدق على العبد كونه جاهلاً بحقيقة الباري تعالى مع أنّ التقابل بين العلم والجهل تقابل العدم والملكة، ويستحيل علم العبد بحقيقة الباري عزّ اسمه، والسبب في صدق الجهل في المقام هو كفاية مطلق قابليّته للعلم لصدق عنوان الجهل عليه، ولا حاجة في صدقه عليه إلى قابليّته للعلم بشخص هذا الأمر، فكذلك نقول فيما نحن فيه بكفاية القابليّة الكلّيّة للتقييد في صدق الإطلاق، فإذا امتنع في مورد ما التقييد، لم يمتنع الإطلاق، بل تعيّن الإطلاق.

وهذا الكلام من السيّد الاُستاذ (الذي جاء ذكره في تعليقته على المجلّد الأوّل من

354

أجود التقريرات(1) وفي الدراسات) كان مبنيّاً على مبناه السابق: من أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة، وقد عدل بعد ذلك عن هذا المبنى إلى القول بأنّ التقابل بينهما تقابل التضادّ، وإنّ الإطلاق عبارة عن لحاظ عدم دخل القيد، والتقييد عبارة عن لحاظ دخل القيد، فهما أمران وجوديّان متباينان.

وعلى أىّ حال، فهذا الكلام منه في المقام خلط بين مبحثين لا علاقة لأحدهما بالآخر، فأحدهما بحث اصطلاحيّ صرف، والآخر بحث علمىّ واقعىّ.

توضيح ذلك: أنّ للفلاسفة اصطلاحاً في باب التقابل حيث سمّوا قسماً منه بتقابل التضادّ، والقسم الآخر بتقابل السلب والإيجاب، والثالث بتقابل التضايف، والرابع بتقابل العدم والملكة. وقد ذكر في كلمات القدماء تقابل العدم والملكة. ووقع البحث بين المتأخّرين في فهم مراد القدماء من هذا المصطلح، فذهب بعض إلى أنّ القابلية المأخوذة في باب العدم والملكة قابليّة شخصيّة، وبعض آخر أنّها قابليّة كلّيّة. وليس هذا إلّا بحثاً في المصطلح لا في أمر واقعىّ؛ إذ من الواضح الذي لم يشكّ فيه أحد: أنّ العدم المطلق، والعدم المقيّد بالقابليّة الكلّيّة، والعدم المقيّد بالقابليّة الشخصيّة، كلّها مقابل للوجود، ولا يمكن اجتماع واحد منها مع الوجود. وإنّما الكلام والبحث فيما هو المصطلح عليه في باب العدم والملكة، فلو وردت آية أو رواية تدلّ على أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة بالمعنى المصطلح عند الفلاسفة، كان للتفتيش عن معنى هذه الكلمة، والاستشهاد على كون الملكة المأخوذة ملكة كليّة بمثال العلم والجهل؛ لإطلاق هذا المصطلح عليهما في كلمات الفلاسفة، مجال.

ولكنّ الأمر ليس كذلك، وإنّما ينبغي البحث العلميّ بالنسبة إلى الإطلاق والتقييد عن أمر واقعىّ: وهو أن نرى أنّه ما هي النكتة التي توجب سريان الطبيعة إلى تمام أفرادها؟ هل هي العدم المأخوذ فيه القابليّة الكلّيّة، أو الشخصيّة، أو غير ذلك؟ وقد مضى منّا في بحث المطلق والمقيّد أنّ نكتة السريان إنّما هي ذات عدم التقييد، وأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل السلب والإيجاب.

الثاني: أنّ الإهمال في الحكم محال، بل هو إمّا مطلق أو مقيّد، وقد استنتج ذلك في تعليقته على المجلّد الأوّل من أجود التقريرات(2): من أنّ شوق المولى لا محالة: إمّا أن


(1) ص 104.

(2) ص 103.

355

يكون متعلّقاً بخصوص صدور الفعل عن العالم مثلاً، أو بالمطلق، لا بقسم خاصّ.

وهذا الكلام منه خلط بين باب الشوق وباب الحكم.

توضيح ذلك: أنّ الحكم غير الشوق، كما اعترف به السيّد الاُستاذ في إيراده على الشيخ الأعظم(قدس سره)، حيث استدلّ الشيخ الأعظم على رجوع قيد الهيئة إلى المادّة بأنّ المولى إذا تصوّر شيئاً: فإمّا أن لا يشتاق إليه، ولا كلام لنا في ذلك، أو يشتاق إليه، وعلى الثاني: فإمّا أن يشتاق إلى مطلق ذاك الشيء، أو إلى حصّة خاصّة منه، فعلى الأوّل يكون الحكم مطلقاً، وعلى الثاني يكون الحكم مقيّداً، لكنّ القيد رجع إلى متعلّق الاشتياق.

وأورد على ذلك السيّد الاُستاذ: أنّ هذا الكلام لا يثبت المقصود من رجوع قيد الهيئة في الأحكام إلى المادّة؛ لأنّ الحكم غير الشوق، وهذا التشقيق كان تشقيقاً في الشوق.

فإذا بنينا على أنّ الحكم غير الشوق، قلنا في المقام: إنّ استحالة الإهمال بما هو إهمال في باب الشوق لا تقتضي استحالة الإهمال بما هو إهمال في باب الحكم، ففي باب الشوق يكون الإهمال محالاً في ذاته ولو فرض التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل التضادّ بخلاف باب الحكم، فإنّ الشوق والحكم كلاهما مشتركان في كونهما من موجودات عالم النفس، إلّا أنّ الفرق بينهما: أنّه في باب الحكم يمكن أن يفرض الإهمال وعدم الإطلاق والتقييد والالتزام بلازم ذلك من عدم الانطباق على ما في الخارج، بعد قطع النظر عن إشكال اللغويّة، أمّا في باب الشوق فالانطباق على ما في الخارج ذاتىّ له، ولا يعقل تعلّق الشوق بالصورة الذهنيّة إلّا باعتبار انطباقها في نظر المشتاق على ما في الخارج، إذن فلا يعقل فيه الإهمال.

نعم، بناءً على ما حقّقناه في بحث المطلق والمقيّد: من أنّ التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب لا يعقل الإهمال، لكن لا لاستحالته هو، بل لاستحالة ارتفاع النقيضين وعدم تصوير الإهمال. أمّا بناءً على مبنى السيّد الاُستاذ من كون التقابل بينهما تقابل التضادّ، فلدعوى إمكان الإهمال في الحكم مجال واسع.

وعلى أىّ حال، فيرد على ما أفاده المحقّق النائينىّ(رحمه الله) في الجعل الأوّل من الإهمال ما عرفته: من أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل التناقض دون العدم والملكة، فلا يتحقّق الإهمال.

البحث الثاني: في الكلام في الجعل الثاني. قد عرفت ما ذهب إليه المحقّق النائينىّ(رحمه الله):

356

من أنّ المولى يتوصّل إلى مطلوبه ـ من أخذ قيد العلم أو الإطلاق ـ بجعل ثان مقيّد بالعلم بالجعل الأوّل أو مطلق. ونورد على ذلك أمرين:

الأوّل: أ نّا إذا التفتنا إلى أنّ الذي يؤخذ في متعلّق الحكم هو العلم بالجعل، لم نحتج إلى متمّم الجعل؛ لما عرفت: من أنّ هذا ممكن في الجعل الواحد، أمّا لو لم نلتفت إلى ذلك، وتخيّلنا أنّ المجعول يتوقّف على العلم بالمجعول، أو قل: الحكم الفعلىّ يتوقّف على العلم بالحكم الفعلىّ، فتعدّد الجعل لا يحلّ المشكل؛ وذلك لأنّ الجعل الأوّل كيف يصبح فعليّاً كي يكون العلم بفعليّته سبباً لفعليّة الجعل الثاني؟ هل يصبح فعليّاً حينما نعلم به، فالمهملة في قوّة الجزئيّة؟، أو يصبح فعليّاً مطلقاً، أي: حتّى لو لم نعلم به، فالمهملة في قوّة المطلقة؟، أو لا يصبح فعليّاً أصلاً؟

فإن فرض الأوّل فهو غير معقول؛ إذ الجعل إنّما يصبح فعليّاً بفعليّة موضوعه، بمعنى تحقّق القيد المأخوذ فيه، أو انطباقه بالإطلاق، والمفروض عدم شيء منهما، على أنّه لو صحّ ذلك إذن لم نحتج لحصر الفعليّة في دائرة العلم إلى متمّم الجعل.

وإن فرض الثاني فهو ـ أيضاً ـ غير معقول؛ إذ مع فرض عدم الإطلاق الذي هو نكتة السريان لا يعقل الانطباق على تمام الأقسام، على أنّه لو صحّ ذلك لم نحتج في نتيجة الإطلاق إلى متمّم الجعل.

وإن فرض الثالث لم يمكن حصول العلم بمجعول الجعل الأوّل كي يتحقّق موضوع الجعل الثاني.

الثاني: أنّه لو أراد المولى تخصيص الحكم بالعالم بالحكم بما لهذه الكلمة من معنى، لم يصل إلى هدفه عن طريق تقييد الجعل الثاني ـ بطريقة المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ـ بالعلم بالجعل الأوّل؛ لأنّ هذا الجعل الثاني ـ أيضاً ـ يكون بالقياس إلى نفسه مهملاً لا مقيّداً بالعلم به ولا مطلقاً، فهو بحاجة إلى جعل ثالث مقيّد بالعلم بالجعل الثاني، وهكذا إلى أن يتسلسل.

نعم، افترضنا أنّ عدم تقييد الجعل الثاني بالعلم بالجعل الأوّل دلّ على إطلاق الشوق والملاك لكلّ الناس؛ لأنّه لو كان الشوق والملاك مختصّين بشأن العالم، لكان إطلاق الجعل الثاني لفرض الجهل بالجعل الأوّل لغواً؛ لأنّ من كان جاهلاً بسابقه فلا شوق ولا ملاك في نظر المولى بالنسبة إليه، فلا داعي لجعل يحقّق نتيجة الإطلاق للجعل الأوّل.

357

ونحن قد فرغنا من أنّ اختصاص الغرض والملاك والشوق بدائرة العالمين أمر ممكن وجداناً، بل برهنّا على ذلك بالبيانين اللذين مضيا منّا لطريق الوصول إلى الغرض، أمّا وصول المولى إلى غرضه في اختصاص الحكم بدائرة العالمين عن طريق هذا البيان المرويّ عن الشيخ النائينيّ(قدس سره)، فأمر غير ممكن.

 

أخذ العلم مانعاً عن متعلّقه

المقام الثاني: في أخذ العلم بالحكم مانعاً عن متعلّقه، وجعل عدمه موضوعاً لذلك الحكم، وقد خلطوا بينه وبين أخذ العلم شرطاً في متعلّقه، فساقوهما بمساق واحد، وبرهنوا في كليهما ببرهان واحد، واختاروا الاستحالة. ومن هنا اتّجه الإشكال في أمرين:

الأوّل: ما أفاده الشيخ الأعظم(قدس سره) في مقام توجيه كلام الأخباريّين القائلين بعدم جواز اتّباع القطع الحاصل من طريق العقل، حيث ذكر الشيخ الأعظم(رحمه الله): أنّه من الممكن للأخباريّين أن يدّعوا كون القطع الحاصل من طريق العقل مانعاً عن الحكم، فبحصول هذا القطع ينتفي الحكم، ولا يلزم من ذلك الردع عن حجّيّة القطع الطريقىّ الذي هو محال.

والثاني: رواية أبان المعروفة في ديّة أصابع المرأة حيث ورد أنّه قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع المرأة كم فيها؟ قال: عشرة من الإبل. قلت: قطع اثنتين؟ قال: عشرون. قلت: قطع ثلاثاً؟ قال: ثلاثون. قلت: قطع أربعاً؟ قال: عشرون. قلت: سبحان الله! يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون؟! إنّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق، فنبرأ ممّن قاله، ونقول: الذي جاء به شيطان. فقال: مهلاً يا أبان، هذا حكم رسول الله(صلى الله عليه وآله): إنّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الديّة، فإذا بلغت الثلث، رجعت إلى النصف. يا أبان، إنّك أخذتني بالقياس، والسنّة إذا قيست، محق الدين»(1).

فظاهر هذه الرواية: أنّ أباناً كان قاطعاً بأنّ قطع الإصبع الرابع لا يوجب تخفيف الديّة؛


(1) الوسائل ج 19 باب 44 من أبواب ديّات الأعضاء ح 1 ص 268.

358

ولذا قال: إنّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق، فنبرأ ممّن قاله، ونقول: الذي جاء به شيطان، فالإمام(عليه السلام) ردعه عن هذا القطع بكونه حاصلاً من القياس، وأنّ السنّة إذا قيست، محق الدين، فهذا الحديث ـ أيضاً ـ نظير كلام الشيخ الأعظم(قدس سره) في جعل القطع مانعاً عن الحكم.

ووجّه المحقّق النائينىّ(رحمه الله) هذه الرواية وكلام الشيخ الأعظم(قدس سره) بمسلكه الذي مضى: من التقييد بواسطة متمّم الجعل.

والسيّد الاُستاذ سجّل الإشكال على الشيخ الأعظم، وأمّا الرواية فردّها بضعف السند، وبالنقاش في دلالتها: بأنّ من المحتمل أنّ أباناً لم يكن حصل له القطع بالحكم، وإنّما حصل له الظنّ(1).

أقول: التحقيق: أنّ هذه الرواية أجنبية عمّا نحن فيه: من مانعيّة القطع عن الحكم؛ فإنّ كون القطع مانعاً إنّما يتصوّر فيما إذا كان الحكم ثابتاً في الواقع، لكنّه كان مقيّداً بعدم القطع عن هذا الطريق. وأمّا في مورد الرواية، فالمفروض فيها عدم ثبوت الحكم الذي تخيّله أبان سواء قطع هو بثبوته، أوْ لا ؛ فإنّ المرأة ـ بحسب ما في هذه الرواية ـ تعاقل الرجل في الديّة إلى الثلث، وبعد ذلك ترجع ديّتها إلى النصف، وببالي ـ إن لم تخنّي الذاكرة ـ أنّي ذكرت هذا البيان للسيّد الاُستاذ، فعدل عن فرض كون الرواية واردة فيما نحن فيه.

وعلى أىّ حال، فهذه الرواية لا تنطبق على مسألة أخذ القطع مانعاً عن متعلّقه


(1) جاء في مصباح الاُصول النقاش في هذه الرواية:

أوّلاً: بضعف السند.

وثانياً: بأنّه لادلالة على كون أبان قاطعاً بذلك، فلعلّه كان مطمئنّاً به، وتعجّبه الذي كان يبرزه بقوله: (كنّا نقول من جاء به شيطان) لا يدلّ على أكثر من ذلك.

وثالثاً: بأنّ الإمام(عليه السلام) (على تقدير فرضه قاطعاً) قد أزال قطعه ببيان الواقع، لا أنّه ردعه عن العمل بقطعه مع فرض بقاء القطع على حاله.

أقول: إشكال ضعف السند غريب في المقام؛ فإنّ سنده واضح الصحّة، وهو كما جاء في الوسائل مايلي: محمّد بن يعقوب، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه وعن محمّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعاً، عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجّاج، عن أبان بن تغلب. ورواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن محمّد ابن أبي عمير. ورواه الصدوق بإسناده عن عبد الرحمن بن الحجّاج مثله.

359

أصلاً،(1) وإنّما تنطبق على الردع عن حجّيّة القطع الطريقىّ، أو سلب القطع من نفس أبان تكويناً، أو بيان أنّه لم يكن ينبغي له حصول القطع بذلك؛ لأنّ دين الله لا يصاب بالعقول، وأنّ القياس يمحق الدين.

وأمّا كلام الشيخ الأعظم(قدس سره) فتصحيحه يكون بتحقيق أصل المطلب، وبيان عدم استحالة أخذ القطع بالحكم مانعاً عن متعلّقه، وأنّ قياسه بأخذ القطع شرطاً لمتعلّقه قياس مع الفارق. وشرح الكلام في ذلك: أنّ أخذ القطع بالحكم مانعاً عن متعلّقه يتصوّر بوجهين:

الأوّل: أخذ القطع بالجعل مانعاً عن المجعول، وقد عرفت أنّ أخذ القطع بالجعل شرطاً للمجعول ممكن فضلاً عن أخذه مانعاً.

الثاني: أخذ القطع بالمجعول مانعاً عنه.

والتحقيق: أنّ هذا ـ أيضاً ـ ممّا لااستحالة فيه، ولا يأتي هنا شيء من الإشكالات التي مضى ذكرها في أخذ القطع بالحكم شرطاً لمتعلّقه، وهي أربعة:

الأوّل: الدور ببيان أنّ العلم بالحكم متوقّف على الحكم، فلو اُخذ في موضوعه، وتوقّف الحكم عليه، لزم الدور.

وأنت ترى أنّ هذا الإشكال لا يرد في المقام؛ إذ لو سلّم توقّف العلم بالحكم على نفس


(1) لايخفى أنّ من يحمل هذه الرواية على أخذ القطع القياسىّ مانعاً عن متعلّقه، ليس مقصوده كون القطع القياسىّ ـ دائماً ـ مطابقاً للواقع في حدّ ذاته، إلّا أنّه يمنعه ويفنيه؛ فإنّ هذا واضح البطلان، وإنّما مقصوده من مانعيّة القطع القياسىّ هو: أنّه لو كان الحكم الذي قطع به ثابتاً في نفسه، لزال بهذا القطع، وصدق هذه القضيّة الشرطيّة في مورد الرواية لا ينافي عدم صدق الشرط فيه كي يجعل انتفاء الحكم من أصله في مورد الرواية دليلاً على كون الرواية أجنبيّة عمّا نحن فيه.

ولعلّ مقصود اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): مجرّد بيان أنّ الرواية لا دلالة فيها على مانعيّة القطع القياسىّ عن الحكم ما دمنا نعلم أنّ المفروض في مورد الرواية انتفاء الحكم من أصله، ولعلّ حمل المحقّق النائينىّ(رحمه الله) للرواية على مانعيّة القطع من الحكم كان لأجل علاج ما قد يفهم منه من الردع عن القطع الطريقىّ الناشئ من القياس، فبما أنّ الردع عن القطع الطريقىّ مستحيل كان هذا قرينة عند المحقّق النائينىّ على إرادة مانعيّة القطع القياسىّ التي يمكن تحقيقها في رأي المحقّق النائينىّ بمتمّم الجعل.

ولكن يرد عليه عندئذ: أنّ صرف الرواية عن الردع عن القطع الطريقىّ لا يحصر أمر الرواية بالحمل على مانعيّة القطع القياسىّ، ولا يوجب ظهورها في ذلك، بل يمكن حملها على إرادة إفناء قطع أبان تكويناً، أو مجرّد بيان أنّ هذا القطع لم يكن في محلّه.

360

الحكم، فمن الواضح: أنّ عدم العلم بالحكم لا يكون متوقّفاً عليه(1).

الثاني: لزوم التهافت بين طبيعة العلم وطبيعة المعلوم؛ إذ العلم إنّما يكشف عمّا فرض ثبوته بقطع النظر عنه، في حين أنّ الحكم المشروط بالعلم ليس ثابتاً بقطع النظر عن العلم.

ومن الواضح: أنّ هذا الوجه ـ أيضاً ـ لا يأتي في المقام؛ إذ الحكم مشروط هنا بعدم العلم لا بالعلم، فإذا علمنا بهذا الحكم المشروط، كان هذا الحكم ثابتاً بقطع النظر عن العلم، ولا تكون طبيعته متنافية مع طبيعة العلم.

الثالث: ثبوت المحرّك المولوىّ بقطع النظر عن ثبوت الحكم؛ لأنّ موضوعه هو العلم بالحكم، وهذا العلم كاف في التحريك سواء ثبت الحكم، أو لا، ولو ثبت الحكم لم يزد في التحريك شيئاً؛ إذ هو نفس الحكم الذي اُخذ انكشافه مفروغاً منه في مرحلة موضوعه لا حكم آخر.

وهذا الوجه ـ أيضاً ـ لا إشكال في عدم جريانه في المقام؛ لأنّ موضوع الحكم هنا عدم العلم، وليس العلم حتّى تتمّ المحركيّة المولويّة في مرحلة الموضوع.

الرابع: لزوم الدور في مرحلة الوصول؛ لأنّ العلم بالحكم متوقّف على العلم بموضوعه الذي هو العلم بالحكم على الفرض، فالعلم بالحكم يتوقّف على العلم بالعلم بالحكم، وهذا يوجب الدور، أو ما هو روح الدور من توقّف الشيء على نفسه؛ لأنّ العلم بالعلم: إمّا هو عين العلم الأوّل كما هو الصحيح، أو متوقّف عليه كما مضى بيانه.

وهذا ـ أيضاً ـ لا يأتي في المقام كما هو واضح؛ لأنّ موضوع الحكم هنا هو عدم العلم به عن طريق العقل مثلاً، وهو غير العلم، وغير متوقّف على العلم، فلا يلزم الدور، ولا توقّف الشيء على نفسه.


(1) وبهذا يبطل ـ أيضاً ـ إشكال تقدّم الشيء على نفسه في منظار الجعل المنقول عن المحقّقالنائينىّ(رحمه الله). ونحن لا نقبل فكرة كون النقيضين في رتبة واحدة، وكون انقسام الحكم إلى فرض العلم به وعدمه من الانقسامات اللاحقة لو استلزم كون العلم بالحكم متأخّراً عن الحكم لا يستلزم كون عدم العلم به ـ أيضاً ـ متأخّراً عنه؛ فإنّ تأخّر الانقسام لا يستلزم تأخّر كلا القسمين.

361

وهنا وجهان آخران لتوهّم الاستحالة يختصّان بفرض مانعيّة العلم عن الحكم، ولا يشملان فرض شرطيّته له.

الأوّل: أنّ الحكم إنّما يجعل لكي يكون محرّكاً بالوصول، وفيما نحن فيه قد خنق وصوله ومحرّكيّته في مهده؛ لأنّ موضوعه هو عدم العلم به، فبمجرّد وصوله ينتفي بانتفاء موضوعه.

وهذا الإشكال إنّما يتوهّم وروده فيما لو فرض مطلق العلم بالحكم مانعاً عنه دون علم خاصّ به، كالعلم الناشئ عن طريق العقل مثلاً، وإلّا لكان الحكم قابلاً للوصول بغير ذاك الطريق.

والواقع أنّه حتّى لو فرض مطلق العلم بالحكم مانعاً عنه، لا يرد هذا الإشكال؛ وذلك لإمكان وصول الحكم بحجّة شرعيّة غير علميّة(1). نعم، لو اُخذ مطلق وصوله ولو بحجّة شرعيّة مانعاً عنه،ثبت الإشكال.

الثاني: أنّه لو اُخذ عدم حصول العلم عن طريق العقل ـ مثلاً ـ موضوعاً للحكم، لزم عدم إمكان وصول هذا الحكم إلى من علم بالحكم عن هذا الطريق، فيكون جعل هذا الحكم بشأن هذا الشخص مستحيلاً، نظير استحالة جعل الحكم في حقّ المتجرّي بما هو متجرّ؛ لاستحالة وصوله إليه.

والجواب: أوّلاً: أنّ الحكم إنّما يشترط فيه قابليّة الوصول إلى من جعل في حقّه، ويكون موضوعاً له، ومن علم بالحكم عن طريق العقل ليس موضوعاً له بحسب الفرض، وإنّما جعل الحكم بشأن غيره، وهو قابل للوصول إلى من جعل له هذا الحكم، وهذا بخلاف الحكم المجعول على المتجرّي بعنوان التجرّي؛ فإنّ موضوعه هو نفس المتجرّي المفروض عدم إمكان وصول الحكم إليه.

وثانياً: أنّه إذا اُخذ العلم بشخص الحكم مانعاً عن ذلك الحكم، استحال تحقيق المانع


(1) طبعاً من دون أن تقوم تلك الحجّة مقام القطع الموضوعىّ في مانعيّته عن الحكم.

362

في الخارج، فلا يبقى مورد للإشكال بعدم إمكانيّة وصول الحكم إلى من جعل في حقّه؛ وذلك لأنّ شخص هذا الحكم متقوّم بعدم العلم به، وعدم العلم به لا يجتمع مع العلم به كما هو واضح(1).

لايقال: إذا كان حصول هذا المانع مستحيلاً في الخارج، فلا فائدة في أخذه مانعاً.

فإنّه يقال: إنّ استحالة حصوله في الخارج إنّما نتجت من أخذه مانعاً، وهذا بنفسه هو فائدة المانعيّة.

هذا تمام الكلام في معقوليّة أخذ القطع بالحكم مانعاً عنه. أمّا إنّ مقالة الأخباريّين يمكن توجيهها بالحمل على هذا الوجه، أو لا، فهذا ما سنبحثه في بعض الأبحاث الآتية إن شاء الله.

 


(1) أمّا لو لم يفرض أنّ المانع هو العلم بشخص هذا الحكم، بل فرض أنّ المانع هو العلم بالجامع بين الحكم المقيّد بعدم العلم وغير المقيّد به، فهذا خروج عمّا نحن فيه من أخذ العلم بالحكم مانعاً عن متعلّقه، وهذا الفرض ـ أيضاً ـ معقول، ولا يرد عليه لزوم عدم وصول شخص الحكم المقيّد بعدم العلم إلى من جعل في حقّه؛ وذلك لمكان الجواب الأوّل فحسب، وهو: أنّ اللازم في الحكم إنّما هو قابليّته للوصول إلى من جعل في حقّه، لاإلى غيره، وتلك القابليّة ثابتة هنا.

363

 

خاتمة في أقسام الظنّ

 

وفي ختام البحث عن أقسام القطع التي عرفتها نبحث عن مدى تصوّر تلك الأقسام في الظنّ:

إنّ التقسيمات الماضية للقطع كانت باعتبارات ثلاثة:

الأوّل: انقسامه إلى طريقىّ وموضوعىّ على وجه الصفتيّة وعلى وجه الكاشفيّة، وقد عرفت الوجوه الصحيحة لتصوير هذا التقسيم للقطع. أمّا الظنّ فلا إشكال في تصوّر طريقيّته، وكذلك فرض أخذه موضوعاً بما هو صفة. أمّا موضوعيّته بنحو الكاشفيّة، فتتصوّر ـ أيضاً ـ بناءً على تفسير تقسيم الموضوعىّ إلى الصفتىّ والطريقىّ، باعتبار عنوان (له) وعنوان (فيه)؛ فإنّ الظنّ ـ أيضاً ـ مشتمل على هذين العنوانين كالقطع. وأمّا بناءً على التفسير الآخر: وهو كون الموضوعىّ الصفتىّ ما لوحظ فيه بعض لوازمه، والموضوعىّ الطريقىّ ما لم يلحظ فيه ذلك، فهذا التقسيم متصوّر في الظنّ الذي يكون حجّة شرعاً، ولا يجري بالنسبة إلى الظنّ الذي لا يكون حجّة شرعاً إلّا بتأويل.

توضيح ذلك: أنّه إن اُريد بأخذ الظنّ الذي ليس حجّة موضوعاً لحكم بما هو كاشف أخذه موضوعاً بما له من الكشف الشرعىّ، فهذا خلف فرض عدم حجّيّته، وإن اُريد بذلك أخذه موضوعاً بما له من الكشف التكوينىّ الناقص، قلنا: هل المراد أخذ كشفه الناقص موضوعاً بما له من الحدّ العدمىّ، أي: بشرط لا عن المرتبة الأعلى من الكشف، وهي مرتبة القطع، أو المراد أخذ هذا المقدار من الكشف من دون دخل الحدّ العدمىّ في الحكم، فيكون الحكم مترتّباً على القطع أيضاً؛ لأنّ ذاك المقدار من الكشف موجود فيه وإن كان في ضمن كشف أقوى؟

فإن اُريد الأوّل، رجع هذا إلى الظنّ الصفتىّ؛ لأنّ الموضوع لم يكن متمحّضاً في ذات الكشف، وقد اُخذ فيه بعض الصفات المقارنة، وهو الحدّ العدمىّ.

وإن اُريد الثاني، لم يكن ذلك أخذاً للظنّ موضوعاً، بل كان أخذاً للجامع بين الظنّ والقطع موضوعاً، وهذا ما قصدناه بكلمة التأويل.

364

أمّا إذا كان الظنّ حجّة شرعاً، فأخذه موضوعاً بما هو كاشف من دون أن يرجع إلى أخذ الجامع بين القطع والظنّ بمكان من الإمكان؛ وذلك بأن يكون الموضوع الحجّيّة التعبّديّة، ومن المعلوم: أنّ القطع ليس حجّة تعبّداً (1).

الثاني: انقسام الموضوعيّ منه إلى كونه تمام الموضوع، أو جزء الموضوع. وهذا التقسيم كان متصوّراً في باب القطع. أمّا في الظنّ فلا إشكال في أخذه تمام الموضوع، كما لا إشكال في أخذه جزء الموضوع عند ما يكون الجزء الآخر شيئاً آخر غير متعلّقه. أمّا إذا فرض الجزء الآخر عبارة عن متعلّقه وجوداً أو عدماً، فهناك فرق بين الظنّ الذي يكون حجّة شرعاً، والظنّ الذي لا يكون حجّة:

ففي الظنّ الذي يكون حجّة نقول: إنّ من الممكن كون الموضوع مركّباً منه ومن متعلّقه وجوداً، فالجزء الأوّل من الموضوع ثابت بالوجدان، والجزء الثاني ثابت بالتعبّد، ولكن لا يمكن تركّب الموضوع منه ومن متعلّقه عدماً؛ لأنّ هذا الموضوع يستحيل وصوله إلى المكلّف؛ إذ لو كان الظنّ حجّة، فكيف يتصوّر ثبوت عدم متعلّقه عند المكلّف؟! ولو فرض قيام حجّة شرعيّة لدى المكلّف غير هذا الظنّ على عدم متعلّقه، وقع التعارض بينها وبين هذا الظنّ، وخرج هذا الظنّ عن كونه حجّة.

وفي الظنّ الذي لا يكون حجّة نقول: من الممكن كون الموضوع مركّباً منه ومن متعلّقه وجوداً أو عدماً؛ لإمكان وصول الموضوع بكلا جزئيه إلى المكلّف: أمّا الجزء الأوّل وهو الظنّ، فبالوجدان، وأمّا الجزء الثاني، فإن كان عبارة عن متعلّق الظنّ وجوداً، فيمكن أن يصل بأحد أمرين:

الأوّل: قيام حجّة شرعيّة على طبق ذلك الظنّ.

والثاني: ثبوت حكم شرعىّ على فرض مخالفة ذلك الظنّ للواقع، فيتشكّل ـ عندئذ ـ علم إجمالىّ بفعليّة ذلك الحكم، أو الحكم المترتّب على الظنّ.

وإن كان عبارة عن متعلّق الظنّ عدماً، فدائماً يتشكّل علم إجمالىّ بصحّة متعلّق الظنّ، أو فعليّة الحكم المترتّب على الظنّ، فإن قامت حجّة شرعيّة على خلاف ذلك الظنّ، ثبت


(1) وأمّا إذا فسّرنا الموضوعىّ الطريقىّ بما اُخذ موضوعاً بوصفه داخلاً في جامع الحجّة، والموضوعىّ الصفتىّ بما اُخذ موضوعاً بخصوص ذاته، فمن الواضح: أنّ هذا التقسيم إنّما يجري في الظنّ الحجّة، ولا يجري في غيره.

365

ظاهراً الحكم المترتّب على الظنّ، وإلّا كفى في وصوله نفس ذاك العلم الإجمالىّ.

الثالث: انقسام الموضوعىّ إلى كونه موضوعاً لخلاف متعلّقه، أو ضده، أو مثله، أو نفسه. وقد عرفت بالنسبة إلى القطع ما أمكن منها وما لم يمكن. وأمّا بالنسبة إلى الظن فتارة يقع الكلام في الظنّ الذي يكون حجّة، فلا إشكال في جعله موضوعاً لخلاف متعلّقه كالقطع. ويستحيل جعله موضوعاً لضدّ متعلّقه كالقطع؛ لوقوع التهافت بين حجّيّته والحكم المترتّب عليه. وأمّا جعله موضوعاً لمثل متعلّقه، فبمكان من الإمكان، كما قلنا بإمكانه في باب القطع، بل الإمكان هنا أوضح؛ لأنّ برهان المحقّق النائينىّ(رحمه الله) على الاستحالة لو تمّ هناك لا يأتي هنا، وهو: كون النسبة بين الحكمين عموماً مطلقاً في نظر القاطع؛ فإنّ النسبة هنا بينهما عموم من وجه حتّى في نظر الظانّ؛ فإنّ الظانّ يحتمل خطأ نفسه. وأمّا جعله موضوعاً لنفس متعلّقه شرطاً، فمحال كالقطع؛ لنفس ما كان مختاراً في باب القطع من الوجهين:

الأوّل: لزوم التهافت بين الطبيعتين؛ فإنّ طبيعة الظنّ هو الكشف الناقص عن شيء يرى ثبوته مستقلّاً عن الظنّ وبقطع النظر عنه.

والثاني: أنّ العلم بالحكم متوقّف على العلم بموضوعه الذي هو الظنّ بالحكم بحسب الفرض، والعلم بالظنّ بالحكم هو نفس الظنّ؛ لأنّ الظنّ من المعلومات الحضوريّة لدى النفس، ولا أقلّ من كونه متوقّفاً على الظنّ بالحكم كتوقّف العلم بالمحسوسات على الإحساس، فلزم كون العلم بالحكم معلولاً للظنّ بالحكم بلا واسطة، أو بواسطة العلم بالظنّ، وقد لزم من ذلك العلم باجتماع الضدّين، وهما الظنّ والعلم.

وأيضاً الظنّ بالحكم متوقّف على الظنّ بموضوعه الذي هو الظنّ بالحكم، فالظنّ بالحكم متوقّف على الظنّ بالظنّ، والظنّ بالظنّ محال: أمّا أوّلاً فللزوم الدور، أوالتسلسل، أوخلل بالدماغ الذي هو خارج عن محلّ الفرض، وأمّا ثانياً فلأنّ الظنّ من المعلومات الحضوريّة لدى النفس، فلا يمكن الشكّ فيه. ويأتي تصوير التسلسل في جانب العلم بالظنّ أيضاً.

وإن شئت فقل: إنّ جامع التصديق بالحكم متوقّف على جامع التصديق بالموضوع، والأوّل إمّا أن يفرض في ضمن القطع بالموضوع، أو في ضمن الظنّ به، فهناك صور أربع،

366

على مختلف الصور كما يظهر بالتأمّل، ولعلّ الإشكال هنا أشدّ من بعض الجهات من الإشكال في أخذ العلم شرطاً لمتعلّقه.

وأمّا جعله مانعاً عن متعلّقه، فغير ممكن بخلاف القطع، والفرق بينهما: أنّه في باب القطع ربّما يتعلّق غرض المولى بثبوت الحكم على غير القاطع بشخص الحكم المجعول، إمّا لعدم المقتضي بالنسبة إلى القاطع بشخص الحكم، أو لوجود المانع عن الجعل في حقّه، فيقيّد الحكم بعدم القطع بشخصه حتّى يفيد استحالة تحقّق القطع المانع. أمّا بالنسبة إلى الظنّ الذي جعله حجّة، فكان بإمكانه التوصّل إلى غرضه بعدم جعله حجّة، فجعله أوّلاً حجّة، ثُمّ أخذ الظنّ الذي يكون حجّة مانعاً ليس إلّا تبعيداً للمسافة.

وأمّا الظنّ الذي لا يكون حجّة، فلا إشكال في جعله موضوعاً لخلاف متعلّقه. وأمّا جعله موضوعاً لضدّ متعلّقه، فذهب المحقّق الخراسانىّ(قدس سره) إلى إمكانه بخلاف باب القطع؛ لانحفاظ مرتبة الحكم الظاهرىّ في المقام، وهي الشكّ، فيجمع بين الحكم المظنون والحكم المترتّب على الظنّ بلاإشكال.

وأورد عليه المحقّق النائينىّ والسيّد الاُستاذ: أنّ الجمع بين الحكمين لا يتمّ بمجرّد انحفاظ مرتبة الحكم الظاهرىّ، وإنّما يتمّ إذا كان أحدهما ظاهريّاً والآخر واقعيّاً، أمّا فيما هو المفروض من أخذ الظنّ موضوعاً لحكم واقعىّ، فلايمكن الجمع.

وهذا الإشكال منهم متين على مبناهم في باب الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ.

نعم، يبقى هنا استدراك، وهو: أنّه يمكن جعل الظنّ موضوعاً لضدّ متعلّقه بنحو الشرطيّة، بشرط أن يكون الظنّ جزء الموضوع، ويكون جزؤه الآخر عبارة عن عدم متعلّقه؛ إذ مع فرض كون الموضوع خصوص الظنّ المخالف للواقع لايأتي إشكال اجتماع الضدّين، لافي الواقع، ولا في ظنّ المكلّف. وهذا الحكم الذي هو ضدّ متعلّق الظنّ قابل للوصول إلى المكلّف بدليل شرعىّ يكون حجّة مع الظنّ بالخلاف، أو بنفس العلم الإجمالىّ الذي يتولّد من جعل ذلك الحكم على خصوص الظنّ المخالف، فمثلاً لو جعل الظنّ بوجوب الصلاة بقيد المخالفة موضوعاً لاستحبابها، يحصل للمكلّف علم إجمالىّ بوجوب الصلاة أو استحبابها، وبالتالي يعلم بأصل مطلوبيّتها.

367

وأمّا جعله موضوعاً لمثل متعلّقه، فبمكان من الإمكان، بل الإمكان هنا أظهر من الإمكان في باب القطع وفي باب الظنّ الذي يكون حجّة؛ إذ لا برهان المحقّق النائينىّ (رحمه الله)على الاستحالة يأتي في المقام: وهو كون النسبة بين الحكمين عند القاطع عموماً مطلقاً، ولا برهان السيّد الاُستاذ يأتي في المقام: وهو لزوم اللغويّة؛ لتماميّة المحرّك المولوىّ في المرتبة السابقة؛ وذلك لأنّ المفروض في المقام عدم حجّيّة الظنّ، فلم يتمّ المحرّك. نعم، يأتي هنا ما مضى من البرهان الثالث هناك. وأمّا البرهان الرابع فيأتي هنا من ناحية أن الحكم الأوّل لا يمكن تخصيصه بغير فرض الظنّ به على مبناهم: من استحالة أخذ الظنّ بالحكم مانعاً عن متعلّقه. وأمّا تخصيص الحكم الثاني بغير فرض المصادفة، فلا مانع منه هنا؛ إذ ربّما يصل بقيام حجّة شرعيّة على عدم المصادفة(1).

وأمّا جعله شرطاً لمتعلّقه، فلايمكن؛ لعين ما مضى من الوجهين.

وأمّا جعله مانعاً عن متعلّقه، فبمكان من الإمكان كالقطع، للفرق بينه وبين الظنّ الذي يكون حجّة؛ لأنّ الظنّ الذي يكون حجّة كان من الممكن نفيه خارجاً بعدم جعل الحجّيّة، فجعله حجّة، ثُمّ جعل الظنّ الحجّة مانعاً عن الحكم تطويل للمسافة. وأمّا ذات الظنّ فلا يمكن للمولى بما هو مولى نفيه خارجاً، إلّا بجعله مانعاً.

هذا تمام الكلام في أقسام الظنّ. وإنّما تعرضّنا لهذا البحث مع أنّه لم يقع مثل هذه التقسيمات في الشريعة تأسّياً بالشيخ الأعظم(قدس سره) حيث تعرّض لذلك في ذيل مبحث أقسام القطع.

 


(1) لايخفى أنّه إذا أمكن تخصيص أحد الحكمين، بطل البرهان الرابع، حيث يلتزم في مقابله بتخصيص أحد الحكمين دون الآخر، ولا يلزم من ذلك الترجيح بلامرجّح؛ لأنّ المفروض عدم إمكانيّة تخصيص الحكم الآخر، فتخصيص ما أمكن تخصيصه ليس ترجيحاً بلامرجّح، وهو كاف في رفع إشكال اجتماع المثلين، إذن فلو كنّا نحن والبرهان الرابع في المقام، لكانت النتيجة: أنّه لامانع من جعل الظنّ بالحكم موضوعاً لمثل الحكم، بشرط أن يكون الموضوع خصوص الظنّ المخالف للواقع؛ إذ في فرض المخالفة لايتمّ البرهان، أمّا في فرض المصادفة فلايمكن جعله موضوعاً لمثل الحكم؛ للزوم اجتماع المثلين الذي هو غير ممكن بحسب ما هو المفروض.

369

بحث القطع

5

 

 

 

المُوافقةُ الالتزاميّة

 

○ وجوب الالتزام.

○ مانعيّة وجوب الالتزام عن جريان الاُصول.

○ آراء الأعلام في المسألة.

 

371

 

 

 

 

هل يستدعي القطع الموافقة الالتزاميّة كما يستدعي الموافقة العمليّة أو لا؟

تعرّض الأصحاب ـ قدّس الله تعالى أسرارهم ـ في المقام لمسألة الموافقة الالتزاميّة (وهي عمل اختيارىّ قلبىّ بمعنى عقد القلب وخضوع الجنان للحكم)، وذلك كمقدّمة لمعرفة ما إذا كان وجوب الموافقة الالتزاميّة مانعاً عن جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالىّ حينما لا يوجد مانع من ناحية المخالفة العمليّة، كما في موارد دوران الأمر بين المحذورين، وموارد إثبات الاُصول للتكليف الإلزامىّ مع العلم الإجمالىّ بخلافه، كما في مستصحبي النجاسة مع القطع بطهارة أحدهما.

فيقع الكلام في جهتين:

 

وجوب الالتزام

 

الجهة الاُولى: في تحقيق حال وجوب الموافقة الالتزاميّة وعدمه.

إنّ تصوير وجوب الموافقة الالتزاميّة يكون بأحد وجوه:

الوجه الأوّل: افتراض أنّ الحكم الشرعىّ موضوع لحكم العقل بانصياع القلب له بالالتزام والخضوع النفسىّ، كما هو موضوع لحكم العقل بوجوب الامتثال، فهما حكمان عقليّان عرضيّان. الثاني منهما ـ وهو وجوب الامتثال ـ مشروط عند الأصحاب القائلين بقاعدة قبح العقاب بلا بيان بالوصول، والأوّل منهما ـ وهو وجوب الالتزام ـ يمكن افتراض اشتراطه بالوصول أيضاً، أو افتراض عدم اشتراطه بذلك. والثاني منهما خاصّ بالتكاليف الإلزاميّة المتوجّهة إلى المكلّف، في حين أنّ الأوّل منهما يشمل الأحكام الترخيصيّة والأحكام المتوجّهة إلى شخص آخر، فعلى الرجال ـ مثلاً ـ أن يلتزموا قلباً بالأحكام الخاصّة بالنساء، وكذا العكس.

الوجه الثاني: ـ أيضاً ـ هو افتراض أنّ للعقل حكمين تجاه الحكم الشرعىّ، وهما:

372

وجوب الامتثال بالأركان، ووجوب الالتزام بالجنان، إلّا أنّه يفترض وجوب الالتزام في طول وجوب الامتثال، أي: إنّ العقل يحكم بوجوب الالتزام بالتكليف الذي وجب امتثاله بما هو كذلك، فوجوب الامتثال مأخوذ في موضوع حكم العقل بوجوب الالتزام، إذن فلا مورد لوجوب الالتزام بالنسبة إلى الأحكام الترخيصيّة، أو الأحكام المتوجّهة إلى إنسان آخر، ولا بالنسبة إلى أىّ حكم غير منجّز، كما في موارد دوران الأمر بين المحذورين مثلاً.

الوجه الثالث: افتراض أنّ الموافقة الالتزاميّة هي شقّ من شقّي امتثال الحكم أوسع مورداً من شقّه الآخر الذي هو العمل بالأركان، فشقّ العمل بالأركان خاصّ بالأحكام الإلزاميّة المتوجّهة إلى شخص هذا الإنسان، في حين أنّ شقّ الموافقة بالجنان يشمل ما عدا ذلك أيضاً.

ووجوب الالتزام بناءً على هذا الوجه لا يمكن أن يشمل الحكم غير الواصل بناءً على مشرب القوم القائلين بأنّ حكم العقل بوجوب الامتثال متقوّم بالوصول، ومع عدمه تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

الوجه الرابع: أن يفترض أنّ وزان الموافقة الالتزاميّة في التعبّديّات والتوصّليّات هو وزان قصد القربة في التعبّديّات، فكما أنّ قصد القربة دخيل في الغرض في التعبّديّات، فلا يصحّ العمل من دونه، كذلك قد تكون الموافقة الالتزاميّة دخيلة في الغرض في التعبّديّات والتوصّليّات، فلا يصحّ العمل من دونها.

وهذا الوجه لو تمّ لاختصّ وجوب الالتزام بالحكم المنجّز، فهو من هذه الناحية أخصّ من الوجه الأوّل والثالث غير المختصّين بالحكم المنجّز، لكنّه في نفس الوقت أوسع من الوجه الثاني الذي كان ـ أيضاً ـ مختصّاً بالحكم المنجّز؛ وذلك لأنّ الوجه الثاني لم يكن يأتي في موارد دوران الأمر بين المحذورين؛ لأنّ وجوب الالتزام كان في طول التنجّز، ولا تنجّز في موارد دوران الأمر بين المحذورين، في حين أنّ هذا الوجه لو تمّ أصبح المكلّف متمكّناً من المخالفة القطعيّة باختيار أحد الطرفين مع ترك الالتزام، فقد خرج المورد عن الدوران بذاك المعنى(1).

الوجه الخامس: افتراض أنّ الالتزام القلبىّ واجب شرعىّ مستقلّ في قبال سائر


(1) أو يجب الالتزام بالجامع على احتمال يأتي في الجهة الثانية.

373

الواجبات الشرعيّة. وهذا متوقّف على ورود دليل شرعىّ على ذلك في الأحكام كما ورد في اُصول الدين، ويدور ـ حينئذ ـ سعة وضيقاً مدار مفاد ذاك الدليل المفترض.

ومقصود الأصحاب (رضوان الله عليهم) ممّا جعلوه مداراً إثباتاً ونفياً في المقام هو: الوجه الثالث من هذه الوجوه دون غيرها. أمّا الوجه الخامس فواضح(1)، وأمّا الأوّلان والرابع فيظهر من التأمّل في كلماتهم: أنّها غير مقصودة. ونحن نقتصر هنا على الاستشهاد بالقرائن الموجودة في كلام المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله):

فقوله في الكفاية في أوّل هذا المبحث: «هل تنجّز التكليف بالقطع كما يقتضي موافقته عملاً يقتضي موافقته التزاماً...» ينفي إرادة الوجه الأوّل؛ فإنّ وجوب الالتزام بناءً على الوجه الأوّل حكم عقلىّ في عرض التنجّز، وليس شقّاً من شقّي التنجّز، ولا مترتّباً على التنجّز، فقوله: «هل تنجّز التكليف يقتضي...» إنّما يتلاءم مع الوجه الثاني الذي يكون وجوب الالتزام فيه حكماً عقليّاً مترتّباً على التنجّز، أو الثالث الذي يكون وجوب الالتزام فيه شقّاً من شقّي التنجّز، أو الرابع الذي يكون الالتزام فيه دخيلاً في الغرض، فيتنجّز على العبد بتنجّز التكليف.

ثُمّ تصريحه(رحمه الله) في أثناء البحث بأنّ الموافقة الالتزاميّة بناءً على وجوبها تجب حتّى في غير موارد وجوب الموافقة القطعيّة أو حرمة المخالفة القطعيّة ينفي الثاني والرابع؛ فإنّ الثاني لا يكون إلّا في مورد يتنجّز العمل بالأركان، والرابع يجري في مورد الدوران بين المحذورين، لكنّه لايكون في موارد الترخيص.

وقد أشكل(رحمه الله) على وجوب الالتزام بالوجدان الحاكم بعدم ثبوت حقّ من هذا القبيل للمولى، في حين أنّ هذا الإشكال لا مورد له على الوجه الرابع الذي يفترض فيه دخل الالتزام في غرض المولى؛ فإنّ الوجدان غير مطّلع على ما له دخل في غرض المولى، أو ليس له دخل.

وأيضاً عبّر(رحمه الله) بناءً على وجوب الالتزام بأنّ للحكم امتثالين وطاعتين: إحداهما بحسب القلب والجنان، والاُخرى بحسب العمل بالأركان، وهذا ـ كما ترى ـ ظاهره تعدّد


(1) لعلّ وجه الوضوح دعوى أنّه لامجال لتوهّم ورود دليل شرعىّ على ذلك. وعلى أيّ حال، فالقدر المتيقّن عندي: أنّ الأصحاب لم يقصدوا الوجه الرابع؛ فإنّهم لم يتكلّموا في الوجوب الشرطىّ للالتزام، وإنّما تكلّموا فيما هو من سنخ الوجوب التكليفىّ.

374

الحقّ، فهو ينفي الرابع، وعرضيّة الحقّين، فهو ينفي الثاني.

وعلى أىّ حال، فهذا الوجه الثالث الذي عليه مدار البحث عند الأصحاب نفياً أو إثباتاً الحقّ فيه هو النفي؛ وذلك لوضوح: أنّ التكليف لا يدعو إلّا إلى ما تعلّق به، وهو لم يتعلّق إلّا بالعمل، وحكم العقل بتنجّز التكليف ليس إلّا ضماناً عقليّاً لتحقّق ما أراده التكليف من التحرّك، إذن فالالتزام غير مشمول لا لتحريك التكليف ودعوته؛ إذ لم يتعلّق به، ولا لحكم العقل بالتنجّز؛ إذ لم يكن داخلاً في تحريك التكليف كي ينجّزه العقل، فلو فرضنا حكم العقل بوجوبه، فليس إلّا حكماً جديداً غير داخل في صميم حكم العقل بتنجّز التكليف، وليس شقّاً من شقّي وجوب الامتثال.

ويرد على الوجه الأوّل والثاني والثالث التي تجمعها دعوى حكم العقل بحقّ الموافقة الالتزاميّة للمولى: ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) في المقام: من أنّ الوجدان حاكم بانتفاء حقّ من هذا القبيل، وأنّ العبد الذي امتثل بالأركان ولم يلتزم بالجنان لا يستحقّ إلّا الثواب.

وينبغي أن يكون المقصود بذلك: دعوى أنّ العقل العملىّ الحاكم في تشخيص علاقات العبد والمولى الحقيقىّ يدرك عدم حقّ من هذا القبيل، لا الاستشهاد على المقصود بالنسبة إلى العبد وخالقه بحالة العبيد والموالي الاعتياديّين؛ إذ يرد على ذلك: أنّ مولويّة الله تعالى ذاتيّة، ويستحيل أن تكون مجعولة، ومولويّة الموالي الاعتياديّين مجعولة، ويستحيل أن تكون ذاتيّة، ودائرة الحقّ المجعول سعة وضيقاً تتبع دائرة الجعل، ولا تكون سعة دائرة جعله وضيقها دليلاً على سعة دائرة الحقّ الذاتيّ وضيقها، كما هو واضح.

ويرد على الوجه الرابع: أنّه لا يدلّنا برهان ولا وجدان على دخل الالتزام في غرض المولى، وحينئذ فإن أمكن أخذه في الخطاب، دفعنا احتماله بالإطلاق، وإلّا نفيناه بالبراءة وبالإطلاق المقامىّ.

بل نحن نقطع على وفق عرفنا المتشرّعىّ، وأنسنا بمذاق الشارع بعدم دخل ذلك في غرضه(1).

ويرد على الوجه الخامس: عدم ورود أىّ دليل شرعىّ يدلّ عليه.


(1) إذ لم ترد أىّ إشارة إلى ذلك من قريب أو بعيد في كتاب أو سنّة على رغم الابتلاء به.

375

مانعيّة وجوب الالتزام عن جريان الاُصول

 

الجهة الثانية: في أنّ وجوب الموافقة الالتزاميّة لو سلّم فهل يمنع ذلك عن جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالىّ حينما لا يكون مانع عملىّ عن ذلك، أو لا؟

وكان الجدير في منهجة البحث تأخير ذلك عن مبحث منجّزيّة العلم الإجمالىّ؛ لصعوبة بحث مانعيّة وجوب الموافقة الالتزاميّة عن جريان الاُصول قبل معرفة قواعد العلم الإجمالىّ، فهذا من تشويش الأبحاث.

إلّا أنّنا قد بحثنا على وفق ترتيب الكفاية، ولهذا نتعرّض لهذا البحث هنا.

وعلى أىّ حال، فقد وقع في كلماتهم تشويش في بيان وجه المانعيّة نشأ عنه التشويش في الجواب عن ذلك.

فقد جاء في الدراسات في بيان وجه المانعيّة: أنّ جريان الأصل في الأطراف يستلزم المخالفة الالتزاميّة تكويناً؛ لاستحالة الالتزام بشيء مع التعبّد بخلافه في تمام الأطراف، في حين أنّ هذا البيان ليس على ما ينبغي؛ إذ المفروض: أنّه لولا وجوب الموافقة الالتزاميّة، لجرت الاُصول في الأطراف بلا أىّ منافاة بينها وبين الحكم الواقعىّ، وقد افترضنا الفراغ من إمكانيّة الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ في مورد واحد، فما معنى تصوّر التنافي بين التزامين بشيئين غير متنافيين؟!(1)

فالذي ينبغي أن يفترض في مقام تصوير المانعيّة، ويجعل مصبّاً للبحث إثباتاً ونفياً إنّما هو القول بأنّ جريان الأصل في الأطراف يستلزم الترخيص في المخالفة الالتزاميّة. فلنفحص عن حال هذا التصوير للمانعيّة بناءً على كلّ واحد من الوجوه الخمسة الماضية لفرضيّة وجوب الموافقة الالتزاميّة:

أمّا على الوجه الأوّل: وهو كون وجوب الالتزام وجوباً عقليّاً منفصلاً عن مسألة التنجّز والامتثال إطلاقاً، فمن الواضح: أنّ دليل الأصل إنّما يؤدّي إلى نفي التنجيز وضرورة الامتثال، والمفروض أنّ هذا حكم عقلىّ آخر أجنبىّ عن ذاك.

نعم، لو كان هذا أثراً شرعيّاً للتكليف، لأمكن أن يقال: إنّ الأصل النافي للتكليف بناءً


(1) هذا لو لم نقل بإمكانيّة الالتزام بالمتنافيين ـ أيضاً ـ بناءً على أنّ الالتزام القلبىّ سهل المؤونة.

376

على تنزيليّته ينفي هذا الأثر، ونقصد بالتنزيليّة هنا: (كون الأصل ناظراً إلى تمام الآثار، لا ما وقع عليه الاصطلاح عند المشهور: من لحاظ نوع للكشف فيه)، ولكنّ المفروض أنّ هذا أثر عقلىّ بحت، والأصل التنزيلىّ إنّما يثبت أو ينفي الآثار الشرعيّة.

وأمّا على الوجه الثاني: وهو كون الالتزام حكماً عقليّاً اُخذ في موضوعه التنجّز ووجوب الامتثال، فمن الواضح ـ أيضاً ـ أنّ هذا لا يصلح مانعاً عن جريان الاُصول التي هي جارية لولاه؛ فإنّ المفروض انتفاء أىّ تنجيز أو وجوب امتثال في الرتبة السابقة على وجوب الالتزام، إذن لا موضوع لوجوب الالتزام.

وأمّا على الوجه الثالث: وهو كون وجوب الالتزام شقّاً من شقّي التنجّز مترتّباً على الوصول على حسب مبناهم، فيمكن تصوير المنافاة في المقام بين جريان الاُصول ووجوب الموافقة الالتزاميّة بأن يقال: إنّ وجوب الموافقة الالتزاميّة على هذا الوجه شقّ من شقّي التنجّز ووجوب الامتثال، والمفروض أنّ الاُصول تؤدّي إلى انتفاء التنجّز ونفي وجوب الامتثال، فهي تنفي وجوب الالتزام، فكما أنّ لزوم الترخيص في المخالفة القطعيّة العمليّة تمنع ـ مثلاً ـ عن جريان الاُصول، كذلك لزوم الترخيص في المخالفة الالتزاميّة تمنع عن ذلك.

وهذا البيان إنّما يكون له مجال في المقام ـ بغضّ النظر عمّا سيأتي إن شاء الله تعالى من الجواب ـ إذا كان مفاد الأصل نفي الواقع، كقوله: «رفع ما لا يعلمون». وبذلك يرفع جميع الآثار الامتثاليّة، أمّا إذا كان مفاده ناظراً إلى جانب العمل فحسب، فلا علاقة له بحقّ الالتزام حتّى يمنع عن جريانه(1).

 


(1) كأنّ ظاهر هذا الرجوع إلى لسان دليل الأصل. والأولى في المقام أن يقال: إنّنا تارة نفترض أنّ دليل الأصل لا يمكن أن ينفي التنجيز أو التعذير العقليّين، ويثبت ما يقابله لا مباشرة ولا عن طريق حكم تكليفىّ كالترخيص في المخالفة أو إيجاب الاجتناب مثلاً، فحتّى لو كان دليل الأصل وارداً بهذا اللسان، يجب تأويله وحمله على إيجاد العلم التعبّديّ على خلاف الحكم المنفىّ، بدعوى أنّ هذا يترتّب عليه نفي التنجيز أو التعذير وإثبات عكسه تلقائيّاً.

واُخرى نفترض أنّ دليل الأصل ينفي التنجيز العقلىّ مباشرة، أو عن طريق حكم تكليفىّ. وثالثة نفترض إمكانيّة كلا الأمرين.

فعلى الفرض الأوّل لا يعقل التفكيك بين شقّي التنجيز من وجوب الالتزام ووجوب العمل بأن يرفع بالأصل الثاني دون الأوّل، فتقع المنافاة ـ مثلاً ـ بين الأصل ووجوب الالتزام.