64

العارض الأوّلي، ولا يشترط فيه عدم الواسطة، فإنّ الذاتيّة تكون بمعنى الذاتيّة المنشَأيّة بأن يكون المعروض منشأً لوجود العارض ولو بألف واسطة.

وعلى أيّ حال، فقد اتّضح بما ذكرناه: أنّ حمل الذاتيّة في كلمات الحكماء على الذاتيّة المنشَأيّة هو الذي يفسّر لنا مجموع هذه الاُمور الموجودة في كلماتهم.

 

تنبيهات:

بقي التنبيه على عدّة اُمور:

الأوّل: أنّ الاُصوليّين قد ذكروا في المقام العرض الذي يعرض بواسطة أمر مباين، وجعلوه عرضاً غريباً(1)، وهذا القسم هو من إضافات علماء الاُصول، وليس موجوداً في التقسيم الأصليّ.

وتوضيح النكتة في ذلك: أنّ علماء الاُصول قصدوا من الأخصّيّة والأعمّيّة والتساوي الأخصّيّة في الصدق والانطباق، والأعمّيّة أو التساوي فيه، فمعنى كون شيء أخصّ من شيء أنّه يصدق على بعض أفراده لا تمامها، ومعنى كونه أعمّ منه


(1) لعلّ توضيح المقصود مايلي:

قصدوا بالعروض العروض المحلّيّ، فمتى ما فرضت واسطة خارجيّة بين العرض ومحلّه، فهذا يعني أنّ العرض عرض على تلك الواسطة، و تلك الواسطة عرضت على المحلّ، وكانت النسبة التصادقيّة بين تلك الواسطة والمحلّ هي التباين، وكان العرض عرضاً غريباً على المحلّ، ومثاله: تعمّق النوم الذي يكون عارضاً على النوم ويكون النوم عارضاً على الإنسان الذي هو المحلّ، ويكون النوم مبايناً في النسبة التصادقيّة مع الإنسان، فيكون عمق النوم عرضاً غريباً للإنسان، في حين أنّنا لو أخذنا النسبة المورديّة بين النوم والإنسان فالنسبة بينهما هي أعمّيّه النوم من الإنسان؛ لأنّ مورده الإنسان وكثير من الحيوانات الاُخرى، ولا نجد مثالاً للتباين.

65

أنّه يصدق على تمام أفراده وزيادة، ومعنى التساوي هو التساوي في الصدق والانطباق، أي: كلّ منهما يصدق على ما يصدق عليه الآخر دون غيره، فاضطرّوا إلى جعل عنوان في مقابل هذه العناوين وهو المباين، في حين ليس مراد الحكماء من الأعمّيّة والأخصّيّة والتساوي ذلك، بل مرادهم منها هو الأعمّيّة والأخصّيّة والتساوي في المورد، سواء كان منطبقاً عليه أو لا. وهذا هو الذي ينبغي أن يراد؛ لأنّ الميزان في ذاتيّة العرض مع الواسطة وعدم ذاتيّته هو كون الواسطة مساوية بالمعنى الثاني وعدمه، فلو أنّ عارضاً عرض على جوهر بواسطة عرض آخر ذاتيّ له، فهذه الواسطة وإن كانت مباينة للجوهر بالمعنى الأوّل ولكن مع ذلك يعتبر عرضها عرضاً ذاتيّاً للجوهر قد عرض عليه بواسطة أمر مساو، والسرّ في ذلك ما مضى من أنّ معلول المعلول معلولٌ، وأنّ ما يعرض ذاتاً على شيء عارض على شيء آخر بالذات عارض ذاتيّ له، ولذا صرّح المحقّق الطوسيّ في شرح الإشارات بأنّ العرض الذي يعرض على الشيء بواسطة أمر مساو من قبيل ما يعرض عليه بواسطة فصله، أو بواسطة عرض آخر مساو له يكون ذاتيّاً له. وعلى هذا الأساس فالمباين يرجع إلى أحد هذه الأقسام، أي: إلى الأعمّ أو الأخصّ أو المساوي.

الثاني: قد عرفت أنّ الملحوظ للحكماء هو الذاتيّة المنشَأيّة، لا الذاتيّة المحلّيّة، إلاّ أنّه قد يقال: إنّ المحل ـ وهو حامل العرض ـ أيضاً يكون منشأً وعلّة للعرض؛ وذلك لأنّه مادّة له، فهو أحد العلل الأربع عند الحكماء، حيث قالوا: إنّ الشيء بحاجة إلى أربع علل: العلّة الفاعليّة، والعلّة المادّيّة، والعلّة الصوريّة، والعلّة الغائيّة. إذن فالمحلّ يعدّ علّة للعرض؛ لأنّه علّة مادّيّة له.

ولكن مع ذلك نقول: إنّ العرض لا يعتبر ذاتيّاً بالذاتيّة المنشَأيّة لمحلّه؛ والنكتة

66

في ذلك: أنّ المحلّ ليس علّة تامّة للعرض حتّى يستتبعه، فالخشبيّة مثلاً لا تكفي لتحقّق السريريّة حتّى تكون السريريّة ذاتيّة لها، فالعرض الذاتيّ للشيء هو الذي يكون ذلك الشيء مستتبعاً له وكافياً في تحقّقه، والمحلّ لا يلزم أن يكون كذلك بالنسبة إلى العرض. نعم، قد يتّفق أنّ المادّة سنخ مادّة فرضها يساوق فرض الفاعل والغاية كمادّة النبات التي تعرض لها أعراض من النموّ وطبع التغذية والحياة والموت، فمثل هذه الأعراض تعتبر ذاتيّة لمحلّها وإن كان فاعلها فوق الطبيعة، وليست نفس المادّة فاعلة لها؛ وذلك لأنّ الفاعل لا قصور فيه كالغاية، وإنّما ينتظر استعداد المادّة، فالمادّة تستتبع العرض لتماميّة باقي العلل، ولا نعني بالذاتيّة إلاّ أنّ فرض الشيء مساوق لاستتباعه للعرض، وعدمه مساوق لعدمه.

الثالث: أنّ العلّة الغائيّة حينما تكون باقي العلل مفروغاً عن ثبوتها تستتبع لا محالة ذا الغاية، فالغاية وإن كانت من ناحية معلولة لذي الغاية لكنّها من ناحية اُخرى تعدّ علّة ومنشأً لذي الغاية، وعلى هذا الأساس يصحّ أن يكون موضوع العلم عبارة عن الغاية، ويكون العلم باحثاً عن أسبابها، وذلك من قبيل علم الطبّ حيث يجعل موضوعه الصحّة، وهو يبحث عن حالات الإنسان والحركات والقوى الموجودة في جسم الإنسان إلى غير ذلك، حيث إنّه تفرض الصحّة غاية لكلّ تلك الاُمور، وقد ذهب الفلاسفة إلى أنّه كلّما يوجد شيء فهو بحاجة إلى علّة غائيّة، لا أنّ العلّة الغائيّة مرتبطة بفرض الاختيار في العمل، فالعلّة الغائيّة للأفعال والقوى والحركات في الجسم هي الصحّة، فتقع الصحّة موضوعاً لعلم الطبّ، ويتكلّم فيه عن أسبابها ومقدّماتها وموانعها أيضاً.

هذا تمام الكلام في النقطة الاُولى، وبحسب الحقيقة قد ظهرت ممّا ذكرناه نكات حلّ الإشكال في النقطة الثانية والثالثة أيضاً.

67

انحصار البحث في كلّ علم بالعارض الذاتيّ لموضوعه:

وأمّا النقطة الثانية، وهي: أنّه لماذا لا يحقّ للعلم أن يبحث عن غير العرض الذاتيّ لموضوعه؟

فقد جاء في كلمات جملة من الأعلام الاستشكال في ذلك، فذكر المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره): أنّه لا وجه لحصر أبحاث العلم في البحث عن العوارض الذاتيّة(1). وذكر السيّد الاُستاذ (دامت بركاته) أيضاً: أنّه ليس من الضروري حصر البحث في مسائل العلم في البحث عن العارض الذاتيّ لموضوع العلم، بل ولا في البحث عن العارض الذاتيّ لموضوع المسألة، فيمكن عقد مسألة لها موضوع، ويبحث عن العوارض الغريبة لذلك الموضوع(2).

أقول: إنّ نكتة تخصيص الفلاسفة لأبحاث العلوم بالبحث عن العوارض الذاتيّة للموضوع تظهر ـ حسب مبانيهم ـ بعد الالتفات إلى مقدّمتين موضّحتين لمقصودهم في المقام:

الاُولى: ما مضى من أنّ المقصود من الذاتيّة إنّما هي الذاتيّة بلحاظ النسبة المنشَأيّة، لا الذاتيّة بلحاظ النسبة المحلّيّة.

والثانية: أنّهم إنّما اشترطوا كون البحث عن العوارض الذاتيّة في خصوص البحث البرهانيّ دون غيره كالجدل والخطابة والسفسطة، والعلم الحقّ في نظرهم إنّما هو العلم البرهانيّ.


(1) راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 26، بحسب طبعة آل البيت.

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 5 ـ 7، تحت الخطّ بحسب الطبعة المعلّق عليها من قبل السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، وراجع المحاضرات للشيخ الفيّاض، ج 1، ص 24 بحسب الطبعة الثالثة لنشر دار الهاديّ للمطبوعات بقم.

68

وبعد أن اتّضح مقصودهم في المقام يمكن توجيه كلامهم ببيان: أنّ العلم بثبوت المحمول للموضوع على قسمين:

الأوّل: أن يكون مجرّد علم بالثبوت من دون العلم بالضرورة واستحالة العدم، كالعلم بفقر زيد مع إمكان غناه، وهذا العلم عندهم ليس برهانيّاً، وهو قابل للزوال؛ لعدم ضرورة الثبوت، وما لم يكن الثبوت ضروريّاً أمكن التشكيك فيه.

والثاني: هو العلم بالثبوت على أساس الضرورة واستحالة العدم، كالعلم بأنّ زوايا المثلث تساوي قائمتين، وهذا هو العلم البرهانيّ عندهم. ومن الواضح أنّ ثبوت المحمول للموضوع بالضرورة لا يكون إلاّ في العارض الذاتيّ بالمعنى الذي نحن بيّنّاه من الذاتيّة، فإنّما يكون المحمول ذاتيّاً وضروريّاً للموضوع إذا كان الموضوع هو المنشأ للمحمول بلا واسطة، أو كان منشأً للأوسط وكان الأوسط منشأً للمحمول، فالإشكال عليهم في هذه النقطة ينشأ من الغفلة عن مجموع ما ذكرناهما من المقدّمتين.

 

تطبيق فكرة العرض الذاتيّ على سائر العلوم:

وأمّا النقطة الثالثة: فقد ذكروا في المقام إشكالاً وحاروا في جوابه، وهو: أنّ كثيراً من مسائل العلوم تكون موضوعاتها أخصّ من موضوع العلم، فموضوع العلم مثلاً هو الجنس، وموضوع المسألة هو النوع، والعارض بواسطة أخصّ يعتبر عارضاً غريباً.

والجواب: ما عرفته من أنّ قاعدة كون العارض بواسطة أخصّ عارضاً غريباً يستثنى منها ـ بالبرهان ـ عروض الفصل على الجنس مع كلّ ما يعرض على الجنس بتبع عروض الفصل عليه.

69

هذا، وقد اتّضح بما ذكرناه إلى الآن:

أوّلاً: أنّ لكلّ علم موضوعاً.

وثانياً: أنّ العلم يبحث عن العوارض الذاتيّة للموضوع إذا كان المطلوب هو اليقين البرهانيّ بالمعنى الذي يقوله الحكماء.

وثالثاً: أنّ العارض الذاتيّ ما يعرض بلا واسطة أو بواسطة مساو، والعارض الغريب ما يعرض بواسطة أعمّ أو واسطة أخصّ إلاّ الفصل أو ما يعرض على الجنس بتبع الفصل، فقد عرفت دخول ذلك في العارض الذاتيّ.

كما ظهر أيضاً من مجموع ما ذكرناه الحال في الخلاف المعروف بينهم من أنّ تمايز العلوم هل هو بتمايز الموضوعات أو بتمايز الأغراض؟ فإنّ هذا التقابل بين الموضوع والغرض مبنيّ على التفسير المشهور للعرض الذاتيّ، وهو الذاتيّة المحلّيّة، وأنّ المقصود بالموضوع هو محطّ الأعراض والمحمولات. وأمّا بناءً على إرادة الذاتيّة المنشَأيّة فلا تقابل بين الموضوع والغرض؛ إذ قد يكون نفس الغرض موضوعاً واحداً له المنشَأيّة لما يبحث عنه في العلم على حدّ منشَأيّة العلّة الغائيّة لمعلولها، فتمايز العلوم يكون دائماً بتمايز الموضوعات إلاّ أنّ الموضوع قد يكون هو الغرض نفسه.

هذا تمام ما أردنا بيانه فيما تكلّموا عنه مقدّمةً لبيان موضوع علم الاُصول.

 

تشخيص موضوع علم الاُصول

وأمّا موضوع علم الاُصول، فقد ذكر القدماء أنّه هو الأدلّة الأربعة بما هي أدلّة، أو بما هي هي.

وقد ناقش المتأخّرون في كلا الوجهين. وخلاصة المناقشات: أنّ موضوع

70

العلم يجب أن يكون منطبقاً على موضوعات مسائله. وكلا هذين الوجهين في تعريف الموضوع لا تتوفّر فيهما هذه النكتة، فترى أنّ موضوع الاُصول العمليّة هو الشكّ، وليس الشكّ داخلاً في الأدلّة الأربعة، وأبحاث الاستلزامات من قبيل بحث الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته موضوعها هو التكليف، وليس التكليف من مصاديق الأدلّة الأربعة، فكلّ هذه الأبحاث لا يكون موضوعها داخلاً في موضوع علم الاُصول بحسب هذا التعريف بكلا وجهيه. وأمّا مسائل الحجج فبعضها لا ينطبق عليه شيء من الوجهين أيضاً من قبيل مبحث حجّيّة الشهرة، فإنّ الشهرة ليست من مصاديق الأدلّة الأربعة، وبعضها لا ينطبق عليه الوجه الأوّل وينطبق عليه الوجه الثاني من قبيل حجّيّة ظواهر الكتاب مثلاً، فلو كان الموضوع هي الأدلّة بما هي أدلّة لزم خروج هذا البحث عن علم الاُصول؛ لأنّ دليليّة الدليل وحجّيّته اُخذت جزءاً أو قيداً في الموضوع، فيجب أن تكون مفروغاً عنها في العلم، ولا يبحث عن موضوع العلم في نفس العلم، ولو كان الموضوع هي الأدلّة بما هي كان ذلك منطبقاً على هذا البحث؛ لأنّ ظواهر الكتاب داخلة في الكتاب. وأمّا حجّيّة خبر الواحد فقد يقال: إنّها خارجة عن كلا الوجهين؛ لأنّ خبر الواحد ليس كتاباً ولا عقلاً ولا إجماعاً ولا سنّة؛ لأنّ السنّة إنّما هي نفس قول المعصوم وفعله وتقريره، لا الخبر الحاكي عنه، وقد يقال: إنّها خارجة عن الوجه الأوّل فقط؛ لأنّ البحث فيها عن دليليّة الدليل، ولكن الوجه الثاني ينطبق عليها؛ وذلك ببركة إحدى عنايات يذكرونها، لعلّ أسهلها هو توسيع نطاق السنّة للخبر الحاكي.

فتحصّل: أنّ علم الاُصول بناءً على هذين الوجهين لتعريف موضوعه يخرج عنه كثير من أبحاثه. نعم، قد تدخل فيه مباحث الألفاظ من قبيل دلالة صيغة الأمر للوجوب، فإذا فرض أنّ موضوع مسألة دلالة الأمر على الوجوب مثلاً هو الأمر

71

الوارد في الكتاب والسنّة، انطبق عليه عنوان الأدلّة الأربعة.

ولأجل هذه الإشكالات ذهب بعض إلى أنّ علم الاُصول ليس له موضوع معيّن، وذهب بعض إلى أنّ موضوعه شيء غامض نشير إليه بعنوان إجماليّ كعنوان ما ينطبق على موضوعات مسائله، إلاّ أنّ هذه الإشكالات كأكثر الإشكالات السابقة نشأت من الجمود على الألفاظ والعناوين، وعدم الالتفات إلى روح المطلب.

وتوضيح عدم ورود هذه الإشكالات يكون ببيان عدّة اُمور تقدّم أكثرها:

الأوّل: أنّ الميزان في موضوع العلم ليس هو الاقتناص من موضوعات المسألة حسب تدوينها، وإلاّ لم ينطبق على الفلسفة العالية أيضاً، بل الميزان هو الاقتناص من روح العلم على ما تقدّم توضيحه.

الثاني: أنّ العلم وإن كان يبحث عن عوارض الموضوع لكن ليس المقصود من ذلك كون نسبة الموضوع إلى المحمولات نسبة المحلّ إلى العرض، بل المراد: العروض بلحاظ المنشَأيّة والاستتباع، ففي البحث عن النور مثلاً يُتكلّم عن آثاره ونتائجه ولو لم تكن أحوالاً ثابتة لنفس النور(1). وهذا أيضاً قد اتّضح ممّا سبق.

 


(1) لا يخفى: أنّ الحديث عن آثار النور ونتائجه إنّما يعتبر حديثاً عن النور وعلماً موضوعه النور حينما يكون الملحوظ في الحديث حيثيّة منشَأيّة النور لها، وهذه المنشَأيّة عارضة على النور عروض العرض على المحلّ.

صحيح: أنّ المقصود بالذاتيّة هو النشوء، لا كون نسبة الموضوع إلى المحمول نسبة المحلّ إلى العرض، لكنّ أصل فرض كون نسبة الموضوع إلى المحمول نسبة المحلّ إلى العرض يجب أن يكون مفروغاً عنه، وتزاد عليه الذاتيّة بمعنى المنشَأيّة، وإلاّ كانت الأدلّة الأربعة موضوعاً للفقه أيضاً كما فرضت موضوعاً للاُصول؛ لأنّها أيضاً منشأ لمسائل الفقه،

72

الثالث: أنّ مسائل الاُصول ـ كما بيّنّا في التعريف ـ عبارة عن القواعد المشتركة في القياس الفقهيّ، أي: ذلك القياس الذي ينجّز أو يعذّر عن الواقع، فالقواعد الاُصوليّة ليست عبارة عن نفس حجّيّة خبر الواحد أو البراءة أو الاستصحاب ونحو ذلك بوجودها الواقعيّ؛ لأنّها بوجودها الواقعيّ لا تنجّز ولا تعذّر، وإنّما القواعد الاُصوليّة عبارة عن إثباتات هذه العناوين، فإنّها إنّما تقع في قياس الاستنباط بوجودها الواصل لا بثبوتها في اللوح المحفوظ.

وبهذا يتّضح: أنّ كون موضوع علم الاُصول الأدلّة الأربعة في غاية الوجاهة، فإنّ تلك القواعد المشتركة التي تثبت في علم الاُصول لا تثبت طبعاً بنفس تلك القواعد؛ فإنّ هذا خلف، بل تثبت بمرجع فوقانيّ ثابتة حجّيّته قبل العلم، فيكون هو المصدر لإثبات القواعد المشتركة: إمّا مباشرة أو بالواسطة، وكان ذلك المصدر الفوقانيّ في نظرهم عبارة عن الأدلّة الأربعة، وإن كنّا نحن لا نقبل ذلك فعلاً في الإجماع، ونقول: إنّ حجّيّته ليست مفروغاً عنها قبل علم الاُصول، وإنّما هي من أبحاث علم الاُصول. وقد بيّنّا أنّ المحمول لا يلزم أن تكون نسبته إلى الموضوع نسبة الحال إلى المحلّ، بل قد تكون نسبة المعلول إلى العلّة، وهذه الأدلّة هي العلّة لإثبات القواعد المشتركة التي يتكلّم عنها في علم الاُصول، فكما يقال في


ولكان الله تعالى موضوعاً لكلّ العلوم التي تتحدّث عن أيّ شيء في العالم؛ لأنّ الله تعالى منشأٌ لها جميعاً.

وعليه، فالصحيح هو جعل موضوع علم الاُصول العناصر المشتركة للاستنباط كما ورد في الحلقات الثلاث لاُستاذنا الشهيد(قدس سره) لا خصوص الأدلّة الأربعة أو الثلاثة، فإنّ جميع ما في علم الاُصول هو بحث عن العوارض المشتركة.

73

المنطق: إنّ موضوعه المعلوم التصوّريّ أو التصديقيّ من حيث إنّه يوصل إلى المجهول التصوّريّ أو التصديقيّ، أي: أنّ المنطقيّ يبحث عن شؤون المعلوم التصوّريّ والتصديقيّ الراجعة إلى الجوانب الصوريّة المشتركة لإيصاله إلى المجهول التصوّريّ والتصديقيّ، لا الشؤون الاُخرى من قبيل كون المعلوم التصوّريّ والتصديقيّ أمراً معنويّاً مجرّداً عن المادّة مثلاً، كذلك نقول: إنّ موضوع علم الاُصول هو الأدلّة الأربعة أو الثلاثة ـ أي: باستثناء الإجماع ـ من حيث إنّها توصل إلى معرفة الأحكام، أي: أنّ الاُصوليّ يبحث عن شؤونها الراجعة إلى الجوانب الصوريّة المشتركة لإيصاله إلى معرفة الحكم، لا شؤونها الاُخرى ككون الكتاب معجزةً أو العقل مجرّداً عن المادّة مثلاً.

والظاهر: أنّ قولهم: « بما هي أدلّة » إشارة إلى هذه النكتة، أي: كون البحث عن الشؤون الراجعة إلى الإيصال إلى الحكم، لا الشؤون الاُخرى.

 

75

 

 

 

 

 

 

تقسيم الأبحاث الاُصوليّة

 

الجهة الثالثة ـ في تقسيم مباحث علم الاُصول:

ذكر السيّد الاُستاذ (دامت بركاته) أنّ قواعد الاُصول تنقسم إلى أربعة أقسام:

1 ـ القواعد التي تؤدّي إلى العلم الوجدانيّ بثبوت الحكم، وهي أبحاث الاستلزامات كالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته أو حرمة ضدّه.

2 ـ القواعد التي توجب العلم التعبّديّ بالحكم، ويدخل تحتها صنفان:

الأوّل: ما يكون البحث فيه عن صغرى الحجّة، كدلالة الأمر على الوجوب، والنهي على الحرمة، وظهور العامّ المخصّص في تمام الباقي.

والثاني: ما يكون البحث فيه عن كبرى الحجّيّة، كحجّيّة ظهور الكتاب أو الشهرة أو خبر الواحد ونحو ذلك.

3 ـ القواعد التي تقرّر الوظائف العمليّة الشرعيّة التي يرجع إليها الفقيه بعد العجز عن القسمين الأوّلين، كالبراءة الشرعيّة والاحتياط الشرعيّ.

4 ـ الاُصول العمليّة العقليّة التي ينتهي الفقيه إليها بعد العجز عن القسم الثالث

76

أيضاً، كقاعدة «قبح العقاب بلا بيان» وأصالة الاشتغال العقليّ(1).

أقول: إنّنا نتصوّر للتقسيم لحاظين:

اللحاظ الأوّل: هو لحاظ مراتب عمليّة الاستنباط بأن يقال: إنّ علميّة الاستنباط لها مراتب طوليّة لا تصل النوبة إلى بعضها مع التمكّن ممّا قبلها، فالقسم الأوّل عبارة عمّا يكون دخيلاً في المرتبة الاُولى من الاستنباط، والقسم الثاني عبارة عمّا يكون دخيلاً في المرتبة الثانية من الاستنباط، وهكذا.

فإن كان نظر السيّد الاُستاذ (دامت بركاته) إلى هذا اللحاظ كما لعلّه الظاهر من كلامه ورد عليه:

أوّلاً: عدم الترتّب في عمليّة الاستنباط بين القسمين الأوّلين بناءً على ما هو المشهور المنصور من أنّ حجّيّة الأمارات غير مشروطة بانسداد باب العلم. نعم، هذا الإشكال الأوّل لا يرد لو كان المراد الترتّب لا بلحاظ ما ذكرناه من عمليّة الاستنباط المشتملة على الفحص، بل بلحاظ الوصول إلى بعض المراتب بالفعل، فإنّه مع الوصول إلى العلم الوجدانيّ لا تصل النوبة إلى العلم التعبّديّ.

وثانياً: أنّه إذا كان الملحوظ الترتّب الطوليّ لمراتب عمليّة الاستنباط، وجب أن تجعل العلوم التعبّديّة التي جعلت قسماً ثانياً ذات مراتب أيضاً؛ لأنّ بعضها مترتّب على بعض آخر، فمثلاً التعبّد في جانب الدلالة مع قطعيّة السند مقدّم على التعبّد بالسند عندنا وعند السيّد الاُستاذ دامت بركاته.

وثالثاً: أنّ الاستصحاب هو في طول الأمارات، وقبل الاُصول، فلماذا جعل مع


(1) محاضرات الشيخ الفيّاض، ج 1، ص 6 ـ 8 بحسب الطبعة الثالثة لدار الهادىّ بقم، وكذلك ج 43 من موسوعة الإمام الخوئىّ، ص 1 ـ 4.

77

الاُصول؟

ورابعاً: أنّ كون الاُصول العقليّة بعد الاُصول الشرعيّة ليس صحيحاً على الإطلاق، بل يختلف ذلك باختلاف الاُصول، فحكم العقل بالاشتغال في أطراف العلم الإجماليّ حكماً تعليقيّاً ـ أي معلّقاً على عدم الترخيص ـ يكون في طول البراءة الشرعيّة، فإذا سقطت البراءة في الأطراف صار هذا الحكم فعليّاً، لكن أصالة البراءة تكون في طول حكم العقل بالاشتغال حكماً تنجيزيّاً، أي: أنّها مشروطة بعدمه، فلو حكم العقل بالاشتغال حكماً تنجيزيّاً لم يكن بالإمكان جريان البراءة الشرعيّة؛ لأنّها تُناقِض حكم العقل عندئذ.

اللحاظ الثاني: هو أن تلحظ في التقسيم المناسبات البحثيّة في نفسها بغضّ النظر عن عمليّة استنباط الفقيه، أي: أنّ كلّ فئة من قواعد الاُصول تحتاج إلى مبادئ تصوّريّة وتصديقيّة تمتاز بها عن الفئات الاُخرى تجعل قسماً مستقلاًّ، فإن فرض أنّ هذا هو الملحوظ في التقسيم، قلنا: من الواضح أنّه لم يتّبع هذا اللحاظ في هذا التقسيم، ولم يبيّن كيف يمتاز بعض الأقسام عن بعض بذلك، ولو أردنا أن نقسّم أبحاث الاُصول بهذا اللحاظ فالذي ينبغي أن يقال هو:

إنّ البحث في علم الاُصول إمّا عن ذات الحجّة، أو عن الحجّيّة، والبحث عن ذات الحجّة تحته ثلاثة أصناف:

1 ـ البحث عن ذات الحجج والأدلّة التي تكون دلالتها دلالة لفظيّة، كدلالة الأمر على الوجوب، والنهي على الحرمة، وظهور العامّ المخصّص في تمام الباقي، وما إلى ذلك. وهذا القسم يمتاز بمبادئ تصوّريّة وتصديقيّة معيّنة من قبيل: معنى الوضع، والدلالة، والظهور، وعلامة الحقيقة والمجاز، وما يميّز به الظاهر عن غيره، ولا يحتاج إلى هذه المبادئ سائر المباحث، كمبحث حجّيّة خبر الواحد أو

78

الاستلزامات العقليّة ونحو ذلك.

2 ـ البحث عن الحجج والأدلّة التي تكون دلالتها عقليّة برهانيّة، كالبحث عن الملازمات من قبيل الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته، وهذا القسم يمتاز بمبادئ تصوّريّة وتصديقيّة معيّنة لا يحتاج إليها سائر الأقسام من قبيل: معرفة معنى الحكم ومبادئه وحقيقته، وهل هناك تضادّ بين الأحكام أو لا، أو تماثل بينها أو لا؟

3 ـ البحث عن الحجج والأدلّة التي دلالتها ليست لفظيّة ولا عقليّة برهانيّة، بل من باب تراكم الاحتمالات والقرائن، كالبحث عن السيرة أو الإجماع، وهذا أيضاً له مبادئه التصوّريّة والتصديقيّة الخاصّة، كمعرفة: أنّ الاحتمالات كيف تتراكم؟ ومتى تتراكم؟ وما هي موانع تراكمها ومقتضياتها؟ وإن كان الأصحاب لم يبحثوها.

وأمّا البحث عن الحجّيّة فنجعله قسماً رابعاً في مقابل الأقسام الثلاثة السابقة، فإنّه بحاجة إلى مبادئ اُخرى لا يحتاجها سائر الأقسام من قبيل: تصوّر معنى الحجّيّة، والتنجيز والتعذير، والألسنة الممكنة للتنجيز والتعذير، وإمكان جعل الحكم الظاهريّ بنحو يجتمع مع الحكم الواقعيّ وعدمه. وهذا القسم يشمل البحث عن حجّيّة جميع الحجج على اختلافها وبكلا مرتبتيها: الأمارة والأصل.

فهذا هو تقسيم مباحث علم الاُصول على أساس مناسبات الحكم والموضوع البحثيّة، باعتبار امتياز كلِّ قسم بما يحتاج إليه كلّ واحد من أبحاثه من مبادئ معيّنة كلاًّ أو جلاًّ.

 

79

المقدّمة

2

 

 

 

 

 

 

الوضع

 

 

 

○ حقيقة الوضع.

○ تشخيص الواضع.

○ الأقسام الممكنة للوضع.

○ ما هو الواقع من الأقسام الممكنة للوضع.

 

81

 

 

 

 

 

 

الأمر الثاني: في الوضع.

والكلام فيه يقع في أربع جهات:

1 ـ في حقيقة الوضع.

2 ـ في تشخيص الواضع.

3 ـ في الأقسام الممكنة للوضع.

4 ـ فيما هو الواقع من تلك الأقسام الممكنة.

 

حقيقة الوضع

 

أمّا الجهة الاُولى: وهي في حقيقة الوضع، فتوضيح المقصود: أنّه لا إشكال في أنّ انتقاش صورة اللفظ في ذهن العالم باللغة سبب حقيقي للوجود الذهني للمعنى، كما لا إشكال في أنّ هذه السببيّة ليست سببيّة ذاتيّة لا تحتاج إلى أمر خارجيّ، وإلاّ لما اختلف الناس في فهمهم للمعنى باختلاف علمهم باللغة وجهلهم بها. إذن، فيوجد حتماً أمر خارجيّ انضمّ إلى اللفظ، فأوجب انضمامه إليه صيرورة اللفظ سبباً لانتقاش المعنى في الذهن. وذلك الأمر الخارجيّ هو الذي نسمّيه بالوضع،

82

والذي نبحث في هذه الجهة عن اكتشاف حقيقته.

وهنا توجد ثلاثة مسالك:

1 ـ مسلك التعهّد.

2 ـ مسلك الاعتبار.

3 ـ مسلك الجعل الواقعيّ.

 

مسلك التعهّد:

أمّا المسلك الأوّل: وهو مسلك التعهّد، فهو الذي اختاره السيّد الاُستاذ دامت بركاته(1) وجماعة من المحقّقين من قبله(2). وحاصله: أنّ هذا الأمر الخارجيّ عبارة عن تعهّد من قبل الإنسان اللغويّ بقضيّة شرطيّة، وهي: أنّه متى ما قصد تفهيم المعنى الفلانيّ أتى باللفظ الفلانيّ(3).


(1) راجع المحاضرات للشيخ الفيّاض، المجلّد الأوّل، ص 44 فصاعداً، وراجع أجود التقريرات، المجلّد الأوّل، ص 12 تحت الخطّ.

وهذا التفسير للوضع يفهم أيضاً من كلام الشيخ الحائريّ(رحمه الله) في كتاب الدرر، الجزء الأوّل ص 35.

(2) يشهد لوجود القول بمسلك التعهّد قبل السيّد الخوئيّ نقل الشيخ النائينيّ(رحمه الله) ذلك عمّن قبله. راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 12 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ، وفوائد الاُصول للشيخ الكاظميّ، ج 1، ص 29 ـ 30 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم. وراجع أيضاً نهاية الدراية، ج 1، ص 47 بحسب طبعة آل البيت، فإنّه ورد فيه نقل مسلك التعهّد عن بعض أجلّة العصر، وذكر المخرّج تحت الخطّ أنّ المقصود به الملاّ عليّ النهاونديّ صاحب تشريح الاُصول(رحمه الله).

(3) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 12 بحسب الطبعة التي أشرنا إليها، ومحاضرات الشيخ الفيّاض، ج 43 من موسوعة الإمام الخوئيّ، ص 48 ـ 53.

83

وهذا التعهّد معقول في نفسه؛ لأنّه تعهّد بأمر اختياريّ له، وبإمكان كلّ إنسان أن يتعهّد بأمر داخل تحت اختياره. ونضمّ إلى هذا التعهّد أصالة وفاء العقلاء بتعهّداتهم، فتحصل الملازمة بين اللفظ والمعنى، بمعنى: أنّه متى ما قال: « أسد » مثلاً عرفنا بمقتضى تعهّده وأصالة الوفاء بالتعهّد أنّه أراد الحيوان المفترس، وقصد تفهيمه.

وهذا المبنى يستخلص منه:

أوّلاً: أنّ الملازمة قائمة بين طرفين: أحدهما اللفظ، والآخر قصد تفهيم المعنى؛ لأنّ هذين الأمرين هما طرفا التعهّد.

وثانياً: ـ وهو مترتّب على الأوّل ـ أنّ الدلالة التي نشأت ببركة هذا التعهّد ليست مجرّد دلالة تصوّريّة، بل دلالة تصديقيّة؛ فإنّ الدلالة التصوّريّة هي انتقاش المعنى من اللفظ في الذهن ولو صدر عن حجر، والدلالة التصديقيّة هي دلالة اللفظ على قصد تفهيم المعنى وإخطاره، وطرف الملازمة كان هو الثاني. إذن، فالوضع يتكفّل بالدلالة التصديقيّة، وطبعاً يوجد في ضمنها الدلالة التصوّريّة.

وثالثاً: أنّ كلّ من كان من أهل اللغة فهو واضع، وليس الواضع عبارة عن شخص واحد؛ إذ الوضع عبارة عن التعهّد، والتعهّد لا يتعلّق إلاّ بما يكون تحت اختيار المتعهّد وهو استعماله، لا استعمال الأجيال المتأخّرة إلى يوم القيامة، فالتعهّد يجب أن يكون من قبل كلّ أصحاب اللغة، فكلّهم واضعون لكن أحدهم واضع أصليّ(1) والآخرون واضعون بالتبع والمشايعة.


(1) وإن شئت فاجعل الوضع اسماً لخصوص التعهّد الأصليّ، فيكون الواضع إنساناً واحداً. وهذا مجرّد نقاش لفظيّ وبحث في التسمية، ولبّ المقصود واحد.

84

هذه خلاصة توضيح مبنى التعهّد، ولنا حول هذا المبنى ثلاث كلمات:

الكلمة الاُولى: أنّ هذا المبنى كان عبارة عن دعوى التعهّد بقضيّة شرطيّة، وببركته توجد الملازمة بين الشرط والجزاء، وعليه نقول: إنّ هذه القضيّة الشرطيّة المتعهّد بها والتي أوجدت الملازمة بين شرطها وجزائها تتصوّر على أنحاء ثلاثة:

1 ـ أن يكون الشرط عبارة عن قصد تفهيم المعنى، والجزاء هو الإتيان باللفظ، وهذا هو المطابق لظاهر كلمات السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ(1) وهذا أمر عقلائيّ في نفسه لكنّه لا يفيد المقصود، وهو دلالة اللفظ على المعنى؛ فإنّ التعهّد بقضيّة شرطيّة إنّما يوجب دلالة الشرط على الجزاء لا دلالة الجزاء على الشرط، والشرط هنا هو قصد تفهيم المعنى، والجزاء هو الإتيان باللفظ، فلو عرفنا صدفة أنّ هذا الإنسان قاصد لتفهيم معنىً دلّنا ذلك على أنّه سوف يأتي باللفظ، وأمّا الإتيان باللفظ فليس دليلاً على أنّه قصد المعنى؛ إذ قد يكون الإتيان باللفظ لازماً أعمّ لقصد المعنى.

والحاصل: أنّه لم يتعهّد بأنّه متى ما أتى باللفظ قصد المعنى حتّى يكون إتيانه باللفظ دليلا على قصد المعنى.

2 ـ عكس الأوّل، وذلك بأن يكون الشرط هو الإتيان باللفظ، والجزاء هو قصد تفهيم المعنى، فهو متعهّد بأنّه متى ما أتى باللفظ قصد تفهيم المعنى، وحتّى لو صدر عنه اللفظ غفلةً فسوف يُحدث في نفسه قصد تفهيم المعنى وفاءً بتعهّده. وهذا يفيد المقصود ويوجب دلالة اللفظ على المعنى، لكنّه ليس أمراً عقلائيّاً؛ فإنّ التلفّظ هو


(1) ولكن صريح كلامه(قدس سره) في بحث الاشتراك هو المعنى الثاني، راجع المحاضرات، ج 1، ص 202 بحسب طبعة مطبعة النجف.

85

الذي يكون في طول قصد تفهيم المعنى، وليس قصد تفهيم المعنى في طول اللفظ، وأيّ عاقل يُلزِم نفسه بأن يُحدث قصد تفهيم المعنى عندما يصدر عنه اللفظ ولو غفلة؟!

3 ـ أن يكون الشرط عبارة عن عدم كونه قاصداً لتفهيم المعنى، والجزاء عبارة عن عدم التلفّظ باللفظ. فهو يتعهّد مثلاً بأنّه لو لم يرد معنى الحيوان المفترس لا يستعمل كلمة « أسد »، وعندئذ يصبح استعمال كلمة « أسد » دالاًّ على إرادة المعنى على أساس: أنّ انتفاء الجزاء يدلّ على انتفاء الشرط. وهذا يكون أمراً عقلائيّاً في نفسه، ويكون مفيداً للمقصود، ويصبح اللفظ على أساسه دالاًّ على قصد تفهيم المعنى، إلاّ أنّ هذا غير واقع خارجاً؛ فإنّ هذا لا ينسجم مع الاستعمال المجازيّ الذي هو باب من أبواب اللغة، والواضع حتّى حين الوضع بان على الاستعمال المجازيّ، أو على الأقلّ يحتمل أنّه سوف يستعمل ذلك، والعاقل الباني على الاستعمال المجازيّ كيف يتأتّى منه التعهّد بعدم استعمال كلمة « أسد » مثلاً إلاّ حين إرادة تفهيم الحيوان المفترس؟!

والخلاصة: أنّ هذه الصيغة الثالثة للتعهّد تستلزم التعهّد الضمني بعدم الاستعمال المجازيّ، فلا يعقل صدوره من واضع بان ولو احتمالاً على الاستعمال المجازيّ.

وقد ذكرت هذا الإشكال على مبنى التعهّد بصيَغه الثلاث للسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ فذكر في مقام الجواب صيغةً رابعة أو تعديلاً للصيغة الثالثة، وذلك بأن يقال: إنّ الواضع يتعهّد بأن لا يأتي باللفظ إلاّ إذا قصد المعنى الحقيقيّ، ويستثنى من ذلك فرض إقامة القرينة. وبكلمة اُخرى: أنّه يتعهّد بأن لا يأتي بلفظة « أسد » مثلاً إلاّ في إحدى حالتين:

الاُولى: أن يقصد تفهيم الحيوان المفترس.

86

والثانية: أن يقصد تفهيم الرجل الشجاع مع انضمام القرينة، فإذا لم يأت بقرينة على المعنى المجازيّ تعيّن قصده لتفهيم المعنى الحقيقيّ.

ويرد على هذه الصيغة الرابعة:

أوّلاً: أنّه سواء اُريد بالقرينة القرينة المتّصلة أو اُريد بها الأعمّ من القرينة المتّصلة والمنفصلة لا تكفي هذه العناية ـ أعني: عناية استثناء فرض إقامة القرينة ـ لتصحيح مبنى التعهّد؛ لوضوح: أنّ المستعمل اللغويّ قد يستعمل المجاز بلا قرينة حينما يتعلّق غرضه بالإجمال أو الإهمال، فهذا التعهّد خلف بنائه ولو احتمالاً على الاستعمال المجازيّ بلا قرينة. فهذا المقدار من العناية لا يفي بتصحيح التعهّد ما لم تبذل عنايات إضافيّة اُخرى(1).

وثانياً: أنّه هل المراد بالقرينة خصوص القرينة المتّصلة أو الأعمّ من القرينة المتّصلة والمنفصلة؟ فإن اُريد خصوص القرينة المتّصلة كان هذا تعهّداً ضمنيّاً بإلغاء القرائن المنفصلة. ومن الواضح: أنّه كثيراً ما يعتمد على القرينة المنفصلة، ولا يعقل صدور هذا التعهّد ممّن هو بان ولو احتمالاً على الاستعمال المجازيّ معتمداً على القرينة المنفصلة في بعض الأحيان. وإن اُريد الأعمّ من القرينة المتّصلة والمنفصلة لزم من ذلك أنّه متى ما سمعنا كلاماً من المتكلّم واحتملنا أنّه سوف يقيم قرينة منفصلة على إرادة المعنى المجازيّ لم يجز حمل كلامه على المعنى الحقيقيّ، ولم نحرز دلالة اللفظ على معناه الموضوع له؛ وذلك لأنّ الدلالة على المعنى الموضوع له فرع التعهّد، والتعهّد بذلك قد قيّد بحالة عدم القرينة ولو


(1) كأن يستثنى أيضاً فرض تعلّق غرضه بالإجمال أو الإهمال، ويستعان في مقام تتميم الدلالة بالبناء على عدم إرادة الإجمال أو الإهمال على أساس ندرة هذه الحالة.

87

المنفصلة، فمع احتمال ورود القرينة المنفصلة في المستقبل لا نجزم بالتعهّد بإرادة المعنى الموضوع له، فلا نجزم بالدلالة(1)، مع أنّه لا إشكال في هذه الحالة في حمل الكلام على المعنى الموضوع له.

فإن قلت: إنّ احتمال مجيء القرينة المنفصلة في المستقبل ينفى بأصالة عدم القرينة المنفصلة؛ ومن المعلوم أنّ أصالة عدم القرينة أصل عقلائيّ نحرز بها قيد التعهّد، وبذلك يثبت التعهّد، فتتمّ الدلالة.

قلت: إنّ هذا الأصل أصل عقلائيّ، والعقلاء ليست لهم اُصول تعبّديّة، بل اُصولهم اُصول استظهاريّة، فأصالة عدم القرينة إنّما يبنون عليها من باب: أنّ القرينة المنفصلة على خلاف ظهور اللفظ ودلالته، فيجب أن نفرغ في المرتبة السابقة عن دلالة اللفظ، ولا معنى لنشوء الدلالة من أصالة عدم القرينة.

الكلمة الثانية: أنّنا لو غضضنا النظر عن الكلمة الاُولى، وفرضنا تماميّة إحدى الصيغ الأربع الماضيّة للتعهّد، قلنا: إنّ تفسير الوضع بالتعهّد غير محتمل خارجاً. وتوضيح ذلك: أنّ فهم المعنى من اللفظ على أساس التعهّد عمليّة استدلاليّة مبنيّة على التمسّك بقانون: أنّه متى ما كان شيء مستتبعاً لشيء ووجد الشيء الأوّل وجد الثاني أيضاً من قبيل: أنّنا إذا رأينا إنساناً شرب السمّ جعلنا شربه للسمّ دليلاً على أنّه سوف يموت، ففهم المعنى من اللفظ يرجع إلى الاستدلال بأحد المتلازمين على الآخر على أساس: أنّه لو ثبت الأوّل ثبت الثاني. ومن الواضح:


(1) إلاّ أن يدّعى أنّ التعهّد مقيّد بفرض عدم القرينة المتّصلة وبفرض عدم إرادة الإجمال أو الإهمال ولو الموقّت، أي: خصوص ساعة الكلام، ويستعان أيضاً في مقام تتميم الدلالة بالبناء على عدم إرادة الإجمال أو الإهمال ولو الموقّت على أساس ندرة هذه الحالة.

88

أنّه يحصل عند الطفل فهم جملة من الكلمات كالاُمّ والحليب مثلاً قبل تحقّق أيّ قدرة له على الاستدلال والاستنتاج، ولا يمرّ على ذهن الطفل ( بل ولا على ذهن الكبير ) حين فهم المعنى من اللفظ أنّه بما أنّ اُمّي تعهّدت مثلاً بأن لا تقول كلمة الحليب إلاّ حين تريد معناها، وأنّها تفي بعهدها، إذن فكلمة الحليب تدلّ على معناها. ولا ندري كيف يستكشف الطفل تعهّد الاُمّ بإرادة معنى الحليب مثلاً لدى ذكر كلمة الحليب؟! وقد قالوا: إنّ فهم المعنى من اللفظ متوقّف على العلم بالوضع، ومن الواضح: أنّ الطفل في بداية عمره إذا سمع اللفظ مستعملاً في معنىً معيّن مراراً عديدة انتقل ذهنه بعد ذلك من اللفظ إلى المعنى، فهل يقال: إنّه استكشف التعهّد من قبل المتكلّم بإرادة معنى الحليب عند التكلّم بلفظ الحليب مثلاً، واستنتج من هذا التعهّد وجود الملازمة بين الشرط والجزاء، فأخذ يستدلّ بوجود أحدهما على الآخر؟! طبعاً لا. فبهذا يتّضح: أنّ الانتقال له نكتة محفوظة بقطع النظر عن العلم بالتعهّد والملازمة. أمّا ما هي هذه النكتة؟ فسيأتي بيانها في آخر المسألة إن شاء الله.

الكلمة الثالثة: أنّ هناك إشكالاً مشهوراً اُورد على مذهب التعهّد، وهو إشكال الدور(1)، حيث يقال: إنّ التعهّد بإتيان اللفظ عند قصد المعنى معناه: إرادة الإتيان باللفظ عند قصد المعنى، وعندئذ نقول: إنّ إرادة الإتيان باللفظ هل هي إرادة مقدّميّة تنشأ من إرادة المعنى، أو إرادة نفسيّة غير مترشّحة من إرادة المعنى؟

فإن قيل: إنّها إرادة مقدّميّة تنشأ من إرادة المعنى لزم الدور؛ لأنّ ترشّح إرادة اللفظ من إرادة المعنى فرع كون اللفظ دالاًّ على المعنى، ودلالة اللفظ على المعنى


(1) راجع المحاضرات للشيخ الفيّاض، المجلّد الأوّل، ص 45 ـ 46.