205

الأمور وتقوم دولة كاملة الجهات، ذلك لأنهم يعلمون أن ولايتهم إنما هي في حدود مصالح الأمة الاسلامية واصلاح حالها لا افسادها، ويعلمون ما يترتب على الشقاق وعدم وحدة الكلمة من مفاسد وأخطار وانحطاط أمر المسلمين. فيتشاورون فيما بينهم ويوحدون كلمتهم، لا بمعنى أن يتوحد رأيهم في كل الأمور ودائماً، فإن هذا في كثير من الأحيان غير عملي، بل بمعنى أن يتوحد رأيهم أحياناً ويرفع بعضهم اليد عن رأيه ـ رغم إيمانه بصحته ـ أحياناً أخرى تفضيلاً لمصلحة وحدة الكلمة على مصلحة رأيه، أو أن يعينوا فيما بينهم نظاماً يتبعونه تفادياً للخلاف، من قبيل نظام الأكثرية، أو من قبيل أنهم متى ما اختلفوا أخذوا برأي فلان مثلاً الذي هو أفضلهم أو أذكاهم باتفاق الكل، أو يعين لكل واحد منهم حقل معين ويكون رأيه بعد المشورة هو المتبع في ذلك الحقل، أو يعين أحدهم رئيساً للدولة يجب على الباقين اتباع رأيه ما لم تر الأكثرية أو الاجماع خطأه، او نحو ذلك من القرارات.

ولو وجد فقيه واعٍ مخلص خارج عن دائرة أولئك القائمين بالأمر وكان تدخله بنقض حكم من أحكام رئيس الدولة أو الهيئة المشرفة يوجب الاختلاف في صفوف المسلمين وتترتب عليه مفاسد غالبة على مصلحة نقضه للحكم، لم يجز له ذلك وكان عليه السكوت والتسليم.

206

الوجه الثالث: أن يقال: ان اختلاف الفتاوى بين الفقهاء يوجب تشويش الأمر وعدم امكانية اقامة الدولة على نظام متسق.

ذلك: ان اختلاف الفقهاء في الفتوى تارة يكون في أحكام شخصية، من قبيل وجوب التسبيحات في الصلاة مرة واحدة أو ثلاث مرات، فهذا لا يوجب مشكلة في المقام، إذ كل فقيه يعمل برأيه وكل مقلد يعمل برأي من يقلده، ولا يترتب محذور اجتماعي على اختلاف الناس في عدد ما يقرأونه من التسبيحات في الصلاة مثلاً. وأخرى يكون في أحكام مرتبطة بنظام المجتمع العام، وهذا هو الذي قد يورث المشكلة في المقام. فمثلاً: نفترض أن الدولة الاسلامية بقيادة فقيه جامع للشرائط فرضت قانوناً اقتصادياً على المجتمع الإسلامي ورأت المصلحة في تنفيذ ذاك القانون على الكل، بينما الأمة مختلفة في التقليد: فمنهم من يقلد فقيهاً يرى صحة ذاك القانون، ومنهم من يقلد فقيهاً يرى خطأه؛ كما لو افترضنا أن الدولة فرضت الخمس على أموال اختلف الفقهاء في تعلق الخمس بها، فماذا نصنع في المقام؟!

الا أن هذه المشاكل تنحل عادة بمسألة نفوذ حكم الحاكم، فإن حاكم الدولة الاسلامية حينما يحكم بحكم من هذا القبيل فهو عادة لا يحكم بما يعتقد البعض حرمته كي لا ينفذ حكمه. وعليه فينفذ حكمه على الأمة، وحتى من لا يرى وجوب تخميس ماله

207

الفلاني مثلاً يجب عليه تخميسه، إذ ليس التخميس أمراً محرماً. كما أنه يجوز للآخرين أن يصبحوا طرفاً للمعاملة مع مال أخذ عن هذا الطريق، لأنه وإن فرض أخذه عن كره ـ بأن لا يرضى صاحب المال بذلك حتى بعد حكم الحاكم فيؤخذ منه اجباراً ـ ولكن هذا اكراه بحق صدر من ولي الاكراه.

بل الذي أقترحه في نظام حكومة اسلامية من هذا القبيل: هو أن تنظم جميع القوانين المدنية والأحوال الشخصية ونظم العبادات وسائر الأحكام في رسالة عملية موحدة تصدر من قبل هيئة من نخبة الفقهاء يتشاورون ويبحثون فيما بينهم في الفتوى ويستعينون في تشخيص الموضوعات وفي فهم المصالح التي يجب أن تلحظ عند ملء منطقة الفراغ في الشريعة الاسلامية بالخبراء الفنيين وذوي الاختصاص في كل شعبة من الشعب. وإذا وقع الاختلاف في الفتوى في مورد من الموارد ولم يرتفع حتى بعد المشورة والتفاهم، فبإمكانهم عادةً الأخذ بالاحتياط أو الأخذ برأي الأعلم، لو كان فيهم من يعترف كلهم بأعلميته بنحو تصبح فتواه هي الحجة على الأمة دون فتوى غيره، أو أن يقدم أحدهم لاصدار حكم ولايتي ـ بمقتضى كونه ولي الأمر ـ وذلك على طبق فتواه كي ينفذ حكمه على كل قطاعات الأمة. وبالتالي تصدر رسالة عملية واحدة يجب على الأمة جميعاً العمل بها.

208

ولاية الفقيه تسعد المجتمع

إن نفوذ الكلمة في الحكومات الوضعية ـ وحتى الانتخابية ـ لا يخلو من أن يكون بيد فرد واحد أو بيد أكثر من فرد كاثنين أو ثلاثة، وهكذا بقدر ما تنتخبه الأمة مثلاً؛ فإن كان بيد فرد واحد تمتع الحكم بالمركزية والقوة والسيطرة الكاملة، وهي مفيدة في تنظيم الدولة لكنه قد يبتلى بالاستبداد والعمل على إغفال الأمة. وكلما اتسعت دائرة من بيدهم الأمر ابتعد الحكم بذاك المقدار عن معرضيته للوقوع في الاستبداد، في حين ضعف تمتعه بتلك الدرجة من القوة والسيطرة والتنظيم.

أما الشكل الذي جاء به الاسلام لعصر غيبة الإمام المعصوم، وفق ما تنقح في بحثنا عن ولاية الفقيه، فهو شكل ثالث؛ إذ هو لم يجعل الولاية ـ في زمن الغيبة الكبرى ـ بيد شخص واحد مما يقرب النظام إلى الاستبداد، ولا بيد مجموع الفقهاء بأن يشغل كل واحد منهم جزءاً من منصب الولاية مما يؤدي إلى ضعف المركزية، بل جعلها بيد كل واحد من الفقهاء الجاميعن للشرائط، فكل واحد منهم حاكم مستقل. الا أنه إذا تقدم بعضهم للحكم والتنظيم لم يجز للآخرين شق صفوف المسلمين ويجب عليهم التسليم ما لم ينحرف الأول، ولم يتورط في أخطاء أشد من مفاسد شق الصفوف.

209

وبهذا الشكل احتفظ الاسلام بمزايا كل الشكلين من القوة والسيطرة الكاملة من ناحية، لأن الفقهاء الآخرين لا يبرزون الخلاف مادام القائمون بالأمر غير منحرفين ولا متورطين في أخطاء أكبر من مفاسد المخالفة، ومن الابتعاد عن الاستبداد من ناحية أخرى، لأن الفقهاء الآخرين أيضاً يتمتعون بنفوذ الكلمة ويراقبون الحاكم الأول ويقولون كلمتهم لو اقتضت المصلحة ذلك، وكان لابد من هذا الأسلوب مادام رئيس الدولة غير معصوم. وهذا من روائع حكم الاسلام ودلائل دقة تنظيمه.

هذا، وحينما يكون هذا النظام مقترناً بحواجز الورع والتقوى والموضوعية من ناحية، وبمراقبة الأمة للفقهاء ـ تلك الأمة العارفة باشتراط العدالة والكفاءة فيهم والمتربية على تعاليم السماء ـ من ناحية أخرى، وبالمشورة مع ذوي الاختصاص والخبرة في كل فن من الفنون من ناحية ثالثة، فإنه سيشكل خير نظام متصور للحكم في عصر غيبة الإمام المعصوم، بعيداً عن كل ألوان الاستبداد والظلم، يوجّه الناس نحو الاقتراب من رضا الله تبارك وتعالى، وهو الهدف الأقصى للاسلام الذي يسعد المجتمع البشري في الدنيا والآخرة.

خلاصة الكلام

1 ـ ان الحكومة الاسلامية في عصر الغيبة الكبرى ـ وفقاً

210

لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ـ مبتنية على أساس ولاية الفقيه.

2 ـ يشترط في ولاية الفقيه كونه عادلاً كفؤاً.

3 ـ يجب على الحكومة الاسلامية ـ في الحالات الاعتيادية ـ المشورة مع ذوي الاختصاص والرأي الحصيف في شتى مرافق الحياة.

4 ـ لو اقتضت مصلحة المجتمع الاسلامي ـ على أساس ظروفه الخاصة او الظروف العالمية التي يعيش المجتمع في ضمنها ـ اقامة الانتخابات لتعيين أعضاء مجلس المقننين أو المنفذين أو في أي مجال آخر أو أخذ آراء الناس بعين الاعتبار في بعض جوانب التقنين، وجب على الفقيه امضاء ذلك.

5 ـ نقترح توحيد البناء القانوني الذي يكشف عن آراء الاسلام في مختلف مرافق الحياة أو ما يسمى عند الشيعة بالرسالة العملية لعمل الأمة، وجعلها رسالة ناتجة عن هيئة من الفقهاء يعدونها بعد البحث والمشورة فيما بينهم والاستضاءة بأفكار الأخصائيين وذوي الرأي الحصيف فيما يرجع إلى تشخيص الموضوعات ومصالح المجتمع. وحينما لا يمكن رفع الخلاف بالبحث والنقاش ينتخب الفقهاء فيما بينهم أحد الآراء على أساس الأعلمية أو على

أساس حكم الحاكم أو يأخذون بالاحتياط.

6 ـ نقترح حذف مصطلح (الوطن) الموحي بمفاهيمه الغربية

211

وتبديله بالمصطلح الفقهي الاسلامي وهو دار الاسلام(1). أما الوطن فيبقى يستعمل في معنى آخر يرتبط بمسألة القصر والاتمام والصوم والافطار.

7 ـ رقعة عمل الحكومة الاسلامية نظرياً مطلق وجه الأرض، وعملياً تتحدد بحدود القدرة والاستطاعة.

8 ـ النظام المالي للحكومة الاسلامية يتأسس:

أولاً: على ممتلكات الحكومة أو الامامة، وهي المصطلح عليها في فقهنا الاسلامي بالأنفال، من قبيل: أراضي الموات (بل أكثر أنواع الأرض) والمعادن من النفط وغيره.

وثانياً: على الممتلكات العامة للأمة الاسلامية، من قبيل أراضي الخراج، وهي التي فتحها المسلمون بالجهاد المسلح بإذن الإمام. فالحكومة الاسلامية بوصفها ولياً على المجتمع الاسلامي تصرف هذه الممتلكات في مصارف المسلمين.

وثالثاً: على الضرائب الاسلامية الموجودة في الكتاب أو السنة، من قبيل الخمس والزكاة. فالحكومة الاسلامية بوصفها ولياً للمجتمع هي التي تصرفها في مصارفها المقررة في الفقه الاسلامي.

ورابعاً: على ضرائب تفرضها الحكومة الاسلامية ـ لو رأت



(1) راجع الملحق رقم (12).

212

المصلحة في ذلك ـ على أساس ولاية الفقيه(1).

9 ـ هدف الحكومة الاسلامية هو العمل بما يرضي الله تبارك وتعالى، وتقريب المجتمع نحو رضاه عز وجل. ونحن نعلم جميعاً أن رضا الله مشروط بإقامة العدل وإبادة الظلم والاستبداد وتطبيق كلمة الله ونظم السماء على وجه الأرض قدر المستطاع وإسعاد المجتمع تحت راية التوحيد.

وأخيراً نرفع يد الضراعة للباري جل وعلا داعين من أعماق القلب:

"اللهم أنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الاسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك".

"آمين يا رب العالمين".



(1) والواقع أن النظام المالي للحكومة الاسلامية بحاجة إلى دراسة مستقلة مفصلة، ومن أمنياتي أن يوفقني الله تعالى لدراسته في فرصة مقبلة ـ ان شاء الله تعالى ـ.

213

الملاحق

215

الملحق رقم (1)

فإن قيل: ان مجرد عدم اشارة في الكلام من قريب أو بعيد إلى وجود ولي من هذا القبيل يؤخذ برأيه، ليس قرينة على نفي الاحتمال الثالث.. وذلك لأنه ـ وإن كان المفروض عادة في باب الاستشارة أنه يعمل بعد المشورة برأي ما ـ لكن هذا المفروض لم يكن مفروضاً في الكلام؛ أي لم يفهم من الكلام ضرورة العمل برأي ما حتى إذا لم يفرض في الكلام ولي ما. ولم يكن المستشيرون غير المستشارين تعين كون الرأي الذي يعمل به نفس رأي المستشارين أو أكثريتهم، أو رأي من يعينه المستشارون أو أكثريتهم، وإنما كنا نعلم من الخارج بأنه في باب المشورة لابد ـ بالتالي ـ من العمل برأي ما، وهذا لا يولد للكلام ظهوراً في ضرورة أخذ الرأي من نفس المشاورين أو من يعينه المشاورون.

216

قلنا: لئن تم هذا الاشكال فيما لو كان التعبير هكذا "شاوروا في أمركم" فإنه لا يتم في مثل قوله "وأمرهم شورى بينهم"؛ إذ هذا التعبير ليس مجرد أمر بالمشورة، وإنما حملت الشورى على الأمر، وهذا يعني أن أمرهم يدار بالشورى بينهم. إذن فقد فرضت في نفس الكلام ضرورة ادارة الأمر والأخذ بآراء محددة لتمشية الأمور، فنقول:

هل المقصود الأخذ بالرأي المستقى من الشورى أو المقصود الأخذ برأي ولي ما منفصلاً عن الشورى، وإنما الشورى أثرها هو انارة الطريق أمام ذاك الولي؟

طبعاً الأول هو الظاهر، لأن الآية إنما ذكرت الشورى ولم تذكر ولي الأمر، ففرض الرجوع إلى ولي الأمر غير المستقى ولايته من الشورى بحاجة إلى مؤونة زائدة، والسكوت عن ذكر ولي من هذا القبيل قرينة على أن المقصود هو الأول.

على أنه لا يبعد أن يقال: ان هذا الاشكال لا يتم حتى لو كان التعبير مقتصراً على الأمر بالمشورة بصياغة "شاوروا في الأمر"، وذلك لأن ارتكازية كون المشورة عادة مقدمة للعمل بقول المستشار لو لم يكن للمستشير رأي يرجحه عليه أو يساويه تعطي للآية الشريفة ـ الواردة في فرض لا يوجد تغاير بين المستشيرين والمستشارين ـ ظهوراً في كون المقصود الاحالة إلى رأي المستشارين.

217

هذا، وقد ظهر بكل ما ذكرناه هنا وفي الكتاب أن هذه الآية هي خير الادلة على مبدأ الشورى بالمعنى المقصود، وهي من حيث الدلالة تشتمل على نفس القوة التي افترضناها في رواية "أموركم شورى بينكم" مع عدم ابتلائها طبعاً بما ابتليت بها تلك الرواية من ضعف السند. بل يمكن ان يقال: انها من حيث الدلالة أيضاً اقوى من تلك الرواية؛ إذ:

أولاً: قد يدعى احتمال كون مقابلة جملة "اموركم شورى بينكم" بجملة "أموركم إلى نسائكم" قرينة على شمول كلمة "الأمور" للأمور الشخصية، بينما هذه النقطة غير موجودة في الآية الكريمة.

وثانياً: قد يقال: ان التعبير بالأمر كما في الآية أقوى دلالة على ارادة الأمور العامة من التعبير بالأمور كما في الرواية؛ إذ يقال: لو كان المقصود في الآية الأمور الشخصية لكان الأولى التعبير بشكل مقابلة الجمع بالجمع المناسبة مع التوزيع، بأن يقول "أمورهم شورى بينهم" بينما لم يأت التعبير هكذا، بل قال "أمرهم شورى بينهم".

وهذا بخلاف الرواية التي عبرت بصيغة الجمع حيث قالت "أموركم شورى بينكم".

هذا، ورغم كل ذلك قد وضحنا في الكتاب عدم تمامية الاستدلال بالآية الكريمة على نظام الشورى.

218

الملحق رقم (2)

وتحقيق الحال في ذلك ببيان واسع هو: أن الشورى على قسمين ـ كما اتضح مما سبق ـ:

القسم الأول: هو الشورى التي يكون المستشير فيها غير المستشار، أي الشورى في الأمور الشخصية مثلاً، فهناك شخص ما يهمه أمر فيستشير الآخرين في أمره.

والقسم الثاني: هو الشورى التي يكون المستشيرون فيها عين المستشارين، أي أن الشورى تكون بين جماعة في أمور ترتبط بهم جميعاً من سن قوانين وتعيين ولي الأمر ونحو ذلك.

فلو طبق الأمر بالشورى في هذه الآية على القسم الأول فلا يخلو الحال من أحد فرضين:

الأول: أن يحمل الأمر بالشورى على مجرد الاستضاءة بأفكار الآخرين من دون أن يكون امراً بالأخذ برأيهم على كل تقدير، وهذا هو المحتمل الثالث من محتملات الشورى.

الثاني: أن يحمل الأمر بالشورى على أنه أمر بأصل المشورة وبالأخذ برأي المستشار تعبداً. وهذا يحتاج إلى قرينة، إذ مجرد الأمر بالشورى لا يدل عليه، لأن الأخذ برأي المستشار أمر زائد على أصل الشورى.

219

وعلى أي حال فحينما يحمل الأمر بالشورى على هذا المعنى لابد من حمله بمناسبات الحكم والموضوع على مجرد الأمر بالأخذ برأي الغير في الأمور المباحة دون الترخيص في مخالفة الأوامر الالزامية ولو كانت أوامر ظاهرية ودون سائر شعب الولاية، فإن الأمر بالعمل برأي المستشار ليس إلا كالأمر بالعمل برأي الوالد أو باليمين أو النذر، فكل هذه أوامر ثانوية واردة في الشريعة بعد فرض اكتمال الأوامر الأولية الواقعية والظاهرية، أي أنه أخذ في موضوعها مشروعية المتعلق. وهذا هو المحتمل الثاني من محتملاتنا الثلاثة في الشورى.

وما ذكرناه من نكتة وحدة المستشارين والمستشيرين في قوله "أمرهم شورى بينهم" يبطل أصل تطبيق الأمر بالشورى في هذه الآية على القسم الأول، وهو الشورى في قضايا يكون المستشير فيها غير المستشار، سواء أرجع ذلك إلى المحتمل الثالث أو إلى المحتمل الثاني.

أما إذا طبق الأمر بالشورى فيها على القسم الثاني ـ أعني الأمور التي يكون المستشيرون فيها عين المستشارين ـ فقد افترضنا أنه لا يتأتى الفرض الأول، وهو الحمل على مجرد الاستضاءة بأفكار الغير، بل لابد من حمله على كونه أمراً بالمشورة وبأخذ الرأي من المستشارين. وهذا يعني أن المحتمل الثالث لا يأتي هنا، الا أنه يبقى الكلام في دائرة الشورى والأخذ بالرأي هل هي في دائرة

220

المباحات فقط ـ وهذا هو المحتمل الثاني ـ أو في دائرة أوسع من ذلك، كأن يشمل مثلاً دائرة الترخيص في الأوامر الالزامية الظاهرية، أو في تمام مساحة دائرة الولاية المبحوث عنها بلا فرق بين دائرة المباحات أو الترخيص في الالزاميات الظاهرية فيما يمكن، أو الواقعية أيضاً في مورد يمكن تبديل الموضوع بالولاية أو تعيين الولي أو اجراء الحدود او نحو ذلك. وهذا هو المحتمل الأول من محتملاتنا الثلاثة.

والاطلاق ومقدمات الحكمة يعين هنا طبعاً المحتمل الأول، فإن المحتمل الثاني ـ وهو حصر الولاية في دائرة المباحات ـ تقييد بلا مقيد، وهنا لا يأتي ما ذكرناه من مناسبات الحكم والموضوع التي قلنا في القسم الأول انها تخرج الترخيص في مخالفة الأوامر الالزامية الظاهرية، بل مناسبات الحكم والموضوع هنا تقتضي العكس؛ فإنه إذا كان مصب الشورى عبارة عن الأمور العامة للمسلمين وبهدف حل مشاكل المجتمع الاسلامي وادارة شؤونهم لا عن الأمور الخاصة التي يكون المستشيرون فيها غير المستشارين وبهدف مجرد استرشاد بعض بفكر البعض الآخر، فهذا لا يكون الا بالولاية العامة التي قلنا انها أساس نظام الحكم.

221

الملحق رقم (3)

ويؤيد ذلك أننا نحتمل أن تكون عبارات "لم يقبل" و "استخف" و "رد" صيغاً مبنية للفاعل يرجع ضميرها إلى المتخاصم الذي حكم عليه.

وقد يورد على الاستدلال بهذه الرواية ـ سواء بالجملة الأولى أو الثانية ـ بإيرادين آخرين:

1 ـ أن يقال: ان هذه الرواية لو تمت دلالةً فإنما تدل على نيابة الفقيه من قبل الإمام الصادق (عليه السلام)، وتنتهي النيابة بموته، فنحن بحاجة إلى اثبات النيابة من قبل الإمام صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف).

ولكن يتخلص من ذلك بأحد طريقين: اما بدعوى استظهار عدم الفارق من هذه الناحية، فلئن كان الإمام الصادق (عليه السلام) في عصر الحضور قد جعل الفقيه نائباً عنه، فالإمام صاحب الزمان في عصر الغيبة بطريق أولى جعله نائباً عنه. واما بدعوى استظهار أن هذا لم يكن اتخاذاً للنائب كي ينتهي أمده بموته (عليه السلام)، بل إعمالاً للولاية في إعطاء الولاية للفقيه، فيبقى نافذ المفعول ما لم يثبت إعمال ولاية أخرى في رفع ولاية الفقيه.

وهذا الاشكال وجوابه ساريان في كل روايات ولاية الفقيه غير

222

ما كان وارداً عن الإمام صاحب الزمان أرواحنا فداه.

2 ـ أن يقال: ان كلمة "الحكم" كانت تستعمل كثيراً ما في عصر صدور النص بمعنى القضاء، فلو صح هذا كان بنفسه مانعاً عن انعقاد الاطلاق في هذه الرواية.

وأوضح من هذه الرواية في عدم الاطلاق لغير باب القضاء الروايات التي عبرت بتعبير "جعلته قاضياً"، من قبيل ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن أبي الجهم عن أبي خديجة، قال: بعثني أبو عبد الله (عليه السلام) إلى أصحابنا فقال: قل لهم: اياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شيء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق! اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا فإني قد جعلته عليكم قاضياً، وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر(1).

وفي السند أبو الجهم، وهو مشترك، ويحتمل انطباقه على ثوير ابن أبي فاختة، ولم يعلم أن أبا الجهم الذي روى عنه ابن أبي عمير ينطبق على أبي الجهم الذي روى هذه الرواية، كي تثبت بذلك وثاقته، فلعل راوي هذه الرواية هو ثوير بن أبي فاختة، والذي روى عنه ابن أبي عمير بعنوان أبي الجهم هو بكير بن أعين كما قد تؤيده رواية ابن أبي عمير عن بكير بن أعين.



(1) الوسائل ج18 الباب11 من أبواب صفات القاضي ج6ص100.

223

وما رواه الصدوق بإسناده عن أحمد بن عائذ عن أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال قال: قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): إياكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإني قد جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه.

ورواه الكليني "ره" عن الحسين بن محمد عن معلى بن محمد عن الحسن بن علي عن أبي خديجة مثله، إلا أنه قال: شيئاً من قضائنا.

ورواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن محمد مثله(1).

والسند الأول تام (بناءً على تصحيح أبي خديجة).

هذا، وأيضاً يحمل على القضاء ما رواه الكليني "ره" عن عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن محمد بن عيسى عن أبي عبد الله المؤمن عن ابن مسكان عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: اتقوا الحكومة، فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين، لنبي (كنبي خ ل) أو وصي نبي.

ورواه الصدوق بإسناده عن سليمان بن خالد.

ورواه الشيخ بإسناده عن سهل بن زياد مثله(2).

وسند الصدوق تام.



(1) الوسائل ج18 الباب1 من أبواب صفات القاضي ح5 ص4.

(2) الوسائل ج18 الباب3 من أبواب صفات القاضي ح3 ص7.

224

والحكومة إن لم نقل بظهورها في نفسها بملاحظة عصر الصدور في القضاء، حيث كانت تستعمل في هذا المعنى لا في معنى الولاية العامة) فلا أقل من حملها على هذا المعنى بقرينة قوله "للإمام العالم بالقضاء".

على أنه قد أخذ في موضوع استحقاق الحكومة في هذا الحديث الإمامة، ولم يعلم كون مطلق الفقيه مصداقاً لها. بل لو كان المقصود من الإمامة هي الإمامة بالمعنى المصطلح عند الشيعة ـ كما تؤيده نسخة "لنبي أو وصي نبي" ـ فمن الواضح عدم كون الفقيه مصداقاً لها.

ولو كان المقصود منها الولاية، فهذا بنفسه قرينة على ان الحكومة كانت بمعنى القضاء لا الولاية. أما أن هذه الولاية لمن؟ فهذا غير مذكور في الحديث.

وقد يقال ـ بناءً على كون الإمامة هنا بمعنى الولاية ـ ان هذا الحديث دل على أن منصب القضاء إنما هو لمن كان له منصب الولاية، وقد عرفنا بروايات أخرى أن الفقيه له منصب القضاء، فنعرف بمجموع هذين الأمرين أن الفقيه له منصب الولاية.

ولكن هذه الاستفادة أيضاً غير صحيحة، إذ ان أدلة اعطاء منصب القضاء للفقيه إنما تدل على أن الإمام (عليه السلام) جعله بالولاية أو بالاستنابة قاضياً، لا أنه بنفسه له حق القضاء، بينما من المحتمل أن يكون قوله في هذه الرواية "فإن الحكومة إنما هي للإمام"

225

ناظراً إلى بيان القانون الأساسي في الاسلام، أي بيان من له منصب القضاء في الاسلام، لا بيان من قد يعطى له منصب القضاء من قبل من له منصب القضاء والولاية في الاسلام.

الملحق رقم (4)

قد تؤيد وثاقة اسحاق بن يعقوب بأن اسحاق بن يعقوب أخو محمد بن يعقوب الكليني (رحمه الله) على ما ادعاه صاحب كتاب "قاموس الرجال"(1) مستشهداً على ذلك بما نقله عن كتاب "اكمال الدين" في ذيل التوقيع من قوله (عليه السلام) "والسلام عليك يا اسحاق بن يعقوب الكليني".

ولكن ما راجعته من نسخة كتاب "اكمال الدين (ط. دار الكتب الاسلامية/ طهران) ليس فيه كلمة "الكليني" وإنما العبارة هكذا "والسلام عليك يا اسحاق بن يعقوب وعلى من اتبع الهدى"(2).

كما أن السيد الخوئي ـ دامت بركاته ـ في كتاب "معجم رجال الحديث"(3) لم يذكر توصيفاً للرجل بالكليني رغم نظره إلى كتاب "اكمال الدين".



(1) ج1 ص507.

(2) اكمال الدين وأتمام النعمة ص485.

(3) ج3 ص73.

226

وقد يستدل على وثاقة اسحاق بن يعقوب ببيان: أن الشيخ الطوسي (رحمه الله) شهد في كتاب "الغيبة" بأن التوقيعات إنما كانت ترد أيام الغيبة الصغرى على الثقات، فيقال: ان هذا يؤيد عدم احتمال الكذب في أصل التوقيع، فهذه الشهادة من قبل الشيخ الطوسي، تعني أن التوقيع في ذاك الزمان كانت له قدسيته الخاصة، فانتحال شخص لتوقيع ما إلى نفسه كذباً يعني خبثاً أعظم من مجرد خبث الكذب على الإمام، إذن فأمر اسحاق بن يعقوب يدور بين أن يكون في درجة عالية من الخبث أو أن يكون ثقة، لأن التوقيع لا يرد الا على الثقات، ولا يحتمل أن يكون انساناً عادياً غير خبيث وغير ثقة. وحينئذ فمن البعيد وقوع الكليني (رحمه الله) في الغفلة أو عدم التمييز لحال هذا الشخص الدائر أمره بين طرفي النقيض، أو قل عدم التفاته إلى خبثه رغم كونه في درجة عالية من الخبث. فإذا ثبت صدق أصل التوقيع ثبتت وثاقته، لأن التوقيع كان لا يرد إلا على الثقات، وإذا ثبتت وثاقته نفينا بذلك احتمال الكذب في الخصوصيات أيضاً.

الا أن هذا البيان غير صحيح، وتوضيحه: إني لم أر في كتاب "الغيبة" ما يمكن توهم دلالته على ذلك الا قوله:

"وقد كان في زمان السفراء المحمودين أقوام ثقات ترد عليهم

227

التوقيعات من قبل المنصوبين للسفارة من الأصل"(1).

وهذا الكلام ـ وإن كان يتبادر إلى الذهن أن المقصود من ورود التوقيعات عليهم ورودها من الإمام (عليه السلام) إليهم ـ ولكن من يراجع باقي عبارة الشيخ يراها صريحة في أن المقصود ليس هو هذا، وإنما المقصود هو ورود التوقيعات الحاكية عن شأنهم والدالة على وثاقتهم، ذلك لأنه (رحمه الله) بعد هذه العبارة مباشرة يذكر بعض المصاديق لهذه العبارة بعنوان: "منهم، ومنهم…" وكل ما ذكره إنما هو من هذا القبيل لا من ذاك القبيل؛ أي ان التوقيعات واردة إلى غيرهم بشأنهم وعلى ثقاتهم لا إليهم. وإليك نص عبارة الشيخ في (الغيبة) بكاملها كي تلحظها:

قال (رحمه الله):

"وقد كان في زمان السفراء المحمودين أقوام ثقات ترد عليهم التوقيعات من قبل المنصوبين للسفارة من الأصل".

"منهم: أبو الحسين محمد بن جعفر الأسدي (رحمه الله)؛ أخبرنا أبو الحسن بن أبي جنيد القمي عن محمد بن الوليد عن محمد بن يحيى العطار عن محمد بن أحمد بن يحيى عن صالح بن أبي صالح قال: سألني بعض الناس في سنة تسعين ومائتين قبض شيء، فامتنعت من ذلك وكتبت



(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص257 ط مطبعة النعمان في النجف الأشرف.

228

استطلع الرأي، فأتاني الجواب: بالري محمد بن جعفر الأسدي فليدفع إليه، فإنه من ثقاتنا".

"وروى محمد بن يعقوب الكليني "ره" عن أحمد بن يوسف الساسي قال: قال لي محمد بن الحسن الكاتب المروزي وجهت إلى حاجز الوشاء مائتي دينار، وكتبت إلى الغريم بذلك، فخرج الوصول وذكر أنه كان قبلي ألف دينار وأني وجهت إليه مائتي دينار، وقال: أن أردت أن تعامل أحداً فعليك بأبي الحسين الأسدي بالري، فورد الخبر بوفاة حاجز رضي الله عنه بعد يومين أو ثلاثة فأعلمته بموته، فاغتم، فقلت: لا تغتم، فإن لك في التوقيع إليك دلالتين: إحداهما....

اعلامه إياك أن المال ألف دينار، والثانية أمره إياك بمعاملة أبي الحسين الأسدي لعمله بموت حاجز".

"وبهذا الاسناد عن أبي جعفر محمد بن علي بن نوبخت، قال: عزمت على الحج وتأهبت فورد علي: نحن لذلك كارهون. فضاق صدري واغتممت، وكتبت: أنا مقيم بالسمع والطاعة، غير أني مغتم بتخلفي عن الحج. فوقع: لا يضيقن صدرك فإنك تحج من قابل. فلما كان من قابل استأذنت، فورد الجواب، فكتبت: اني عادلت محمد بن العباس، وأنا واثق بديانته وصيانته. فورد الجواب: الأسدي نعم العديل، فإن قدم

229

فلا تختر عليه. قال: فقدم الأسدي فعادلته".

"محمد بن يعقوب عن علي بن محمد عن محمد بن شاذان النيشابوري قال: اجتمعت عندي خمسمائة درهم ينقص عشرون درهماً، فلم أحب أن ينقص هذا المقدار، فوزنت من عندي عشرين درهماً ودفعتها إلى الأسدي ولم أكتب بخبر نقصانها وإني أتممتها من مالي، فورد الجواب: قد وصلت الخمسمائة التي لك فيها عشرون".

"ومات الأسدي على ظاهر العدالة، لم يتغير ولم يطعن عليه في شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة".

"ومنهم: أحمد بن اسحاق وجماعة، خرج التوقيع في مدحهم".

"وروى أحمد بن ادريس عن أحمد بن محمد بن عيسى عن أبي محمد الرازي قال: كنت وأحمد بن أبي عبد الله بالعسكر، فورد علينا رسول من قبل الرجل فقال: أحمد بن أسحاق الأشعري، وابراهيم بن محمد الهمداني، وأحمد بن حمزة بن اليسع ثقات"(1).

انتهى كلام الشيخ (رحمه الله)، وهو كما ترى صريح فيما قلناه، ولا دلالة فيه على أن التوقيع لم يكن يرد إلا إلى الثقات.



(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص257ـ258.