86

الإسلام الناس إلى الفقهاء، وفتح باب الاجتهاد بمعنى بذل الجهد في استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنّة.

[كتاب الفتاوى الواضحة:]

والفتاوى الواضحة هي تعبير اجتهادي عن أحكام الشريعة الإسلامية التي جاء بها خاتِم النبيّين صلوات الله عليه وعلى الهداة الميامين من آله الطاهرين.

وقد بدأنا بكتابة هذا الموجز عن اُصول الدين في اليوم السابع والعشرين من ذي الحجّة 1396 هـ، وانتهينا منه عصر اليوم العاشر من محرّم الحرام 1397 هـ.

وقد فرغنا من كتابة السطور الأخيرة والألم يعصر القلب ويمزّق النفس؛ إذ نعيش في يوم عاشوراء ذكرى استشهاد بطل الإسلام الخالد الإمام الحسين ابن علي (عليهما السلام)، الذي بذل دمه الغالي في مثل هذا اليوم من أجل الصمود على خطّ المرسِل والرسول والرسالة، وواجه الموت بنفسه وكلّ أحبّته بشجاعة منقطعة النظير من أجل حماية هذه الرسالة وإقامة مقاييسها؛ للذبّ عن المظلومين والتخفيف عن المعذّبين على الأرض، وخرّ صريعاً مع الصفوة من ولده وصحبه بأيدي الطغاة دفاعاً عن الإسلام والمسلمين في كلّ مكان وزمان، وعن اُمّة أراد الطغاة أن يسلبوها إرادتها ويجمّدوا ضميرها الثوري وإحساسها بوجودها، فحرّك أبو الشهداء بدمه ضميرها، وبصموده إرادتها، وبفاجعته إحساسها الكبير.

فإليك سيّدي يا أبا عبد الله اُهدي ثواب هذه المقدّمة.

فبزخم دمك الطاهر حفظت كلّ هذه الصروح الفكرية الشامخة.

87

وبقدرة صوتك الثائر وصلت إلينا الرسالة سليمةً معطّرةً بدم الشهداء، بدمك ودماء بنيك الطاهرين على مرّ التاريخ.

عِبَاراتٌ متكرّرَة في الكتاب:

الواجب، اللازم: كلّ فعل يعاقب المكلّف على تركه كالصلاة.

الحرام: كلّ فعل يعاقب المكلّف على ممارسته، كشرب الخمر.

المستحبّ: كلّ فعل يُثاب المكلّف إذا أتى به من أجل الله تعالى، ولا يعاقب على تركه، كالسلام على الآخرين.

المندوب: هو المستحبّ.

سنن، آداب: مستحبّات ومندوبات.

مقدّمة الواجب: ما كان الواجب لا يوجد إلّا إذا وجدت، كواسطة السفر بالنسبة إلى الحجّ عادة.

يجزي: يكفي.

سائغ، يسوغ، لا يسوغ: جائز، يجوز، لا يجوز.

يرجّح، الأحسن، الأولى: عبارات تدلّ على الاستحباب، أو الاحتياط المستحبّ.

الضرر: أن يفقد الإنسان حياته، أو يصاب في شيء مهمٍّ بالنسبة إليه من المال، أو تتعرّض صحّته أو أمنه أو كرامته لعارض لا يستهين به العقلاء عادة.

الحَرَج: المشقة النفسية الشديدة التي لا يتحمّلها الناس عادةً.

الجاهل للحكم الشرعي: من لا يعلم به.

الناسي للحكم: من كان يعلم به ثمّ ذهب عن باله.

91

صورة فتوغرافية عن خطّ السيّد الشهيد (رحمه الله) حول الكتاب

93

أبْحَاث تَمهيديّة

2

مُقدّمة الطبعَة الاُولى

 

 

○  كيف نشأت الحاجة إلى الاجتهاد؟

○  كيف نشأت الحاجة إلى التقليد؟

○  حرمة التقليد في اُصول الدين.

○  الاجتهاد والتقليد مبدآن مستمرّان.

○  التركيز على العلماء في الشريعة.

○  الرسالة العمليّة أهمّيتها وتطويرها.

○  مصادر الفتوى.

○  التقسيم في هذه الرسالة.

95

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خاتِم الأنبياء محمّد وعلى آله الطاهرين وصحبه الميامين.

وبعد، فإنّ الله سبحانه وتعالى حينما أنزل على خاتِم الأنبياء أشرف رسالات السماء ضَمِنَ انسجامها مع فطرة الإنسان، وانفتاحها على كلّ أبعاد وجوده، ورعايتها له من المهد إلى اللحد.

وقد انعكس ذلك بكلّ وضوح على الشريعة الإسلامية، فكانت شريعة الحياة في كلّ مناحيها، والقيّمة على توجيهها، مع أخذ كلّ خصائص الإنسان وظروفه الواقعية بعين الاعتبار.

كيف نشأت الحاجة إلى الاجتهاد؟

والمصدر الأساس للشريعة هو الكتاب الكريم والسنّة الشريفة، ولو كانت أحكام الشريعة قد اُعطيت كلّها من خلال الكتاب والسنّة ضمن صيغ وعبائر واضحة صريحة لا يشوبها أيّ شكٍّ أو غموض لكانت عملية استخراج الحكم الشرعي من الكتاب والسنّة ميسورةً لكثير من الناس. ولكنّها ـ في الحقيقة ـ

96

لم تُعطَ بهذه الصورة المحدّدة المتميزة الصريحة، وإنما اُعطيت منثورةً في المجموع الكلّي للكتاب والسنّة، وبصورة تفرض الحاجة إلى جهد علميّ في دراستها، والمقارنة بينها واستخراج النتائج النهائية منها، ويزداد هذا الجهد العلمي ضرورةً، وتتنوّع وتتعمّق أكثر فأكثر متطلّباته وحاجاته كلّما ابتعد الشخص عن زمن صدور النصّ وامتدّ الفاصل الزمني بينه وبين عصر الكتاب والسنّة بكلّ مايحمله هذا الامتداد من مضاعفات، كضياع جملة من الأحاديث، ولزوم تمحيص الأسانيد، وتغيّر كثير من أساليب التعبير وقرائن التفهيم والملابسات التي تكتنف الكلام، ودخول شيء كثير من الدسّ والافتراء في مجاميع الروايات، الأمر الذي يتطلّب عنايةً بالغةً في التمحيص والتدقيق.

هذا إضافةً إلى أنّ تطور الحياة يفرض عدداً كبيراً من الوقائع والحوادث الجديدة لم يرد فيها نصّ خاصّ، فلابدّ من استنباط حكمها على ضوء القواعد العامّة ومجموعة ما اُعطي من اُصول وتشريعات.

كلّ ذلك وغير ذلك ممّا لا يمكن استيعابه في هذا الحديث الموجز جعل التعرّف على الحكم الشرعي في كثير من الحالات عملا علمياً معقّداً، وبحاجة إلى جهد وبحث وعناء، وإن لم يكن كذلك في جملة من الحالات الاُخرى التي يكون الحكم الشرعي فيها واضحاً كلّ الوضوح.

كيف نشأت الحاجة إلى التقليد؟

وكانت لا تزال سنّة الحياة في كلّ ناحية من مناحيها تفرض موقفاً مشابهاً لما تقدم، فأنت أيّ مجال من الحياة لاحظته تجد أنّ ممارسته تتطلّب معرفةً معيّنةً، وأنّ جزءاً من هذه المعرفة قد يكون واضحاً ومتيسّراً على العموم، ولكنّ

97

الجزء الأكبر منها غير واضح ويتطلّب جهداً علمياً ومعاناةً في الدرس والبحث، ففي المجال الصحي ـ مثلا ـ يعلم كلّ إنسان ـ بحكم التجربة الساذجة في حياته ـ أنّه إذا تعرّض إلى مناخ بارد فجأةً فقد يصاب بأعراض حمّى، ولكنّ كثيراً من أساليب الوقاية والعلاج لا يعرفها إلّا عن طريق الطبيب، ولا يعرفها الطبيب إلّا بالبحث والجهد، وهكذا الحال في مجال التعمير والبناء، ومجالات الزراعة والصناعة على اختلاف فروعها.

ومن هنا وجد كلّ إنسان أنّه لا يمكن عملياً أن يتحمّل بمفرده مسؤولية البحث والجهد العلمي الكامل في كلّ ناحية من نواحي الحياة؛ لأنّ هذا عادةً أكبر من قدرة الفرد وعمره من ناحية، ولا يتيح له التعمّق في كلّ تلك النواحي بالدرجة الكبيرة من ناحية اُخرى، فاستقرّت المجتمعات البشرية على أن يتخصّص لكّل مجال من مجالات المعرفة والبحث عدد من الناس، فيكتفي كلّ فرد في غير مجال اختصاصه بما يعلمه على البديهة، ويعتمد في ما زاد عن ذلك على ذوي الاختصاص؛ محمّلا لهم المسؤولية في تقدير الموقف، وكان ذلك لوناً من تقسيم العمل بين الناس سار عليه الإنسان بفطرته منذ أبعد العصور.

ولم يشذّ الإسلام عن ذلك، بل جرى على نفس الأساس الذي أخذ به الإنسان في كلّ مناحي حياته، فوضع مبدأي الاجتهاد والتقليد. فالاجتهاد: هو التخصص في علوم الشريعة، والتقليد: هو الاعتماد على المتخصّصين، فكلّ مكلف يريد التعرّف على الأحكام الشرعية يعتمد أوّلا على بداهته الدينية العامة، وما لا يعرف بالبداهة من أحكام الدين يعتمد في معرفته على المجتهد المتخصّص.

ولم يكلّف الله تعالى كلّ إنسان بالاجتهاد ومعاناة البحث والجهد العلمي من

98

أجل التعرّف على الحكم الشرعي توفيراً للوقت وتوزيعاً للجهد الإنساني على كلّ حقول الحياة. كما لم يأذن الله سبحانه وتعالى لغير المتخصّص المجتهد بأن يحاول التعرّف المباشر على الحكم الشرعي من الكتاب والسنّة ويعتمد على محاولته، بل أوجب عليه أن يكون التعرّف على الحكم عن طريق التقليد والاعتماد على العلماء المجتهدين، وبهذا كان التقليد أمراً واجباً مفروضاً في الدين.

والتقليد على هذا الأساس يعني تحميل المسؤولية، وإنّما سمّي تقليداً لأنّ المكلّف يضع عمله كالقلادة في رقبة المجتهد الذي يقلّده؛ تعبيراً رمزياً عن تحميله مسؤولية هذا العمل أمام الله سبحانه وتعالى، وليس التقليد هو التعصّب والاعتقاد بما يعتقده الآخرون جهلا وبدون دليل.

ففرقٌ بين أن يبدي شخص رأياً فتُسارِعُ إلى اليقين بذلك الرأي بدون أن تعرف دليلا عليه وتؤكّد صحته؛ وبين أن يبدي شخص رأياً فتتّبعه محمّلا له مسؤولية هذا الرأي بحكم كونه من ذوي الاختصاص والمعرفة؛ فالأول هو التقليد المذموم شرعاً وعقلا، والثاني هو التقليد الصحيح الذي جرت عليه سنّة الحياة شرعاً وعقلا.

وقد احتاطت الشريعة للتقليد احتياطاً كبيراً، ففرضت على المكلّف أن يقلّد أعلم المتخصّصين في حالة اختلاف آرائهم، وأن لا يقلّد إلّا من كان عادلا لا يميل عن الشرع إلى هواه خطوةً في كبيرة أو صغيرة؛ لكي يضمن المقلّد بذلك أكبر درجة ممكنة من الصواب في رأي مرجعه الديني، وأمرته في اللحظة التي يجد فيها الأكفأ والأعلم من مقلّده السابق أن يعدل إليه. كلّ ذلك للابتعاد بالتقليد من معنى المتابعة العمياء والتعصّب المذموم.

وعلى ذلك جرت سنّة المؤمنين والمسلمين منذ عصر الأئمّة (عليهم السلام) إلى

99

يومنا هذا، فقد كان الأئمّة (عليهم السلام) يوجّهون السائلين من أبناء الأمصار الاُخرى إلى تقليد الفقهاء من أبناء مدرستهم والرجوع إليهم، ولا يرون لهم عذراً في التسامح في ذلك.

حرمة التقليد في اُصول الدين:

وفي الوقت الذي أوجبت فيه الشريعة التقليد بالمعنى الذي ذكرناه في فروع الدين من الحلال والحرام حرّمته في اُصول الدين، فلم تسمح للمكلف بأن يقلّد في العقائد الدينية الأساسية؛ وذلك لأنّ المطلوب شرعاً في اُصول الدين أن يحصل العلم واليقين للمكلف بربّه ونبيّه ومعاده ودينه وإمامه، ودعت الشريعة كلّ إنسان إلى أن يتحمّل بنفسه مسؤولية عقائده الدينية الأساسية، بدلا عن أن يقلّد فيها ويحمّل غيره مسؤوليتها.

وقد عنّف القرآن الكريم بأشكال مختلفة اُولئك الذين يبنون عقائدهم الدينية ومواقفهم الأساسية من الدين ـ قبولا ورفضاً ـ على التقليد للآخرين بدافع الحرص على طريقة الآباء ـ مثلا ـ والتعصّب لهم، أو بدافع الكسل عن البحث والهروب من تحمّل المسؤولية.

ومن الواضح أنّ العقائد الأساسية في الدين ـ اُصول الدين ـ لمّا كانت محدودةً عدداً من ناحية، ومنسجمةً مع فطرة الناس عموماً من ناحية اُخرى على نحو تكون الرؤية المباشرة الواضحة ميسورةً فيها غالباً، وذات أهمّية قصوى في حياة الإنسان من ناحية ثالثة كان تكليف الشريعة لكلّ إنسان بأن يبذل جهداً مباشراً في البحث عنها واكتشاف حقائقها أمراً طبيعياً، ولا يواجه غالباً صعوبةً كبيرة، ولا يؤثّر على المجرى العملي لحياة الإنسان؛ ولَئِن واجه أحياناً صعوبات

100

كذلك فالإنسان جدير ببذل الجهد لتذليل تلك الصعوبات؛ لأنّ عقيدة الإنسان هيأهمّ مافيه.

ومع ذلك فقد لاحظت الشريعة أيضاً اختلاف مستويات الناس الفكرية والثقافية، فلم تكلِّف كلّ إنسان بالنظر والبحث في اُصول الدين إلّا بالقدر الذي يتناسب مع مستواه، ويصل به إلى قناعة كاملة بالحقيقة، تطمئِنّ بها نفسه، ويعمر بها قلبه، ويتحمّل مسؤوليتها المباشرة أمام ربّه.

الاجتهاد والتقليد مبدآن مستمرّان:

ولمّا كانت مصادر الشريعة محفوظةً إلى يومنا هذا في الكتاب الكريم كاملا بدون نقصان وفي عدد كبير من أحاديث السنّة الشريفة فمن الطبيعي أن يستمرّ الاجتهاد ـ كتخصّص علميّ ـ في فهم تلك المصادر واستخراج الأحكام الشرعية منها. ومن الطبيعي أيضاً أن تنمو خبرات المجتهدين وتتراكم لفتاتهم وانتباهاتهم على مرّ الزمن، وتكوّن للمجتهد المتأخّر دائماً رصيداً أكبر وعمقاً أوسع بالاستنباط، وهذا من الأسباب التي تدعو إلى عدم جواز جمود المقلّدين على رأي فقيه من فقهاء عصر الغيبة طيلة قرن أو قرون؛ لأنّ ذلك كالجمود على رأي طبيب كذلك مع نموّ الطبّ بعده وتراكم الخبرات خلال تلك المدّة.

ومن هنا كانت رابطة المقلّد بالمرجع الديني رابطةً حيّةً متجدّدة باستمرار، ويزيدها قدسية مايتمثّل في المرجع من نيابة عامّة عن الإمام عليه الصلاة والسلام.

 

التركيز على العلماء في الشريعة:

 

وحينما وضعت الشريعة الاجتهاد والتقليد كمبدأين مستمرّين ما دام

101

الكتاب والسنّة، وفرضت المجتهد محوراً ومرجعاً للآخرين في شؤون دينهم، استعملت كلّ الأساليب الكفيلة بإنجاح هذين المبدأين وأدائهما لرسالتهما الدينية باستمرار.

فمن ناحية أوجبت الاجتهاد وجوباً كفائياً على ما يأتي في الفقرة (21) من باب التقليد والاجتهاد.

وحثّت على طلب العلم ودراسة علوم الشريعة، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾(1).

ومن ناحية اُخرى حثّت على التمسّك بالعلماء والسؤال منهم، قال تعالى: ﴿فَاسْألُوا أهْلَ الذّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾(2).

وقدّمتهم إلى الناس بوصفهم ورثةً للأنبياء، فقد جاء في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنّ « العلماء ورثة الأنبياء »(3)، وجاء عنه أنّه قال: « اللهمّ ارحم خلفائي » فقيل له: يا رسول الله، ومن خلفاؤك؟ قال: « الذين يأتون من بعدي، يروون عنّي حديثي وسنتي، فيعلّمونها الناس من بعدي »(4).

وفي رواية عن الإمام أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) أنّه قال: « مجاري الاُمور على أيدي العلماء بالله، الاُمناء على حلاله وحرامه »(5). إلى غير ذلك من


(1) التوبة: 122.
(2) النحل: 43.
(3) الكافي 1: 34، الحديث 1.
(4) وسائل الشيعة 18: 66، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 53 مع اختلاف يسير.
(5) تحف العقول: 238 وفيه: « مجاري الاُمور والأحكام...».
102

الأحاديث والروايات.

ورغّبت الشريعة بشتّى الأساليب في التقرّب من العلماء والاستفادة منهم، حتّى جعلت النظر إلى وجه العالم عبادةً؛ للترغيب في الرجوع إليهم والأخذ منهم.

وبقدر عظمة المسؤولية التي أناطتها الشريعة بالعلماء شدّدت عليهم، وتوقّعت منهم سلوكاً عامراً بالتقوى والإيمان والنزاهة، نقيّاً من كلّ ألوان الاستغلال للعلم؛ لكي يكونوا ورثة الأنبياء حقّاً.

فقد جاء عن الإمام العسكريّ (عليه السلام) في هذا السياق قوله: « فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوامّ أن يقلّدوه »(1).

وفي رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: « من استأكل بعلمه افتقر »، فقيل له: إنّ في شيعتك قوماً يتحمّلون علومكم، ويبثّونها في شيعتكم، ويتلقّون منهم الصلة، فقال: « ليس اُولئك بمستأكلين، إنّما ذاك الذي يُفتي بغير علم ولا هدىً من الله ليُبطِل به الحقوقَ طمعاً في حطام الدنيا »(2).

وفي حديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: « الفقهاء اُمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا »(3).

وقد جاء في الأحاديث التأكيد على المعنى العملي لاستمرار مبدأ الاجتهاد


(1) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): 300.
(2) وسائل الشيعة 18: 102، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 12.
(3) الكافي 1: 46، الحديث 5.
103

إضافةً إلى استمراره الشرعي، وعلى أنّ الدين لن يعدم أبداً العلماء القادرين على استيعابه والتفقّه فيه، وتفهيمه للآخرين، ورفع الشبهات عنه.

فقد جاء في الحديث الشريف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: « يحمل هذا الدين في كلّ قرن عدول، ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين كما ينفي الكِير(1) خبث الحديد »(2).

الرسالة العملية أهمّيتها وتطويرها:

وقد كانت الرسائل العملية التي يكتبها المجتهدون لمقلِّديهم هي الأساس لتعرّف المقلَّدين على فتاوى من يقلِّدون، وبالتالي على ما يحتاجون إليه من الأحكام الشرعية.

وقد قامت الرسائل العملية بدور مهمٍّ وجليل في هذا المجال، ولكن على الرغم ممّا تمتاز به عادةً من الدقّة في التعبير والإيجاز في العبارة توجد فيها ـ على الأغلب ـ ملاحظتان تستدعيان التغيير والتطوير:

الملاحظة الاُولى: أنّ هذه الرسائل تخلو غالباً من المنهجية الفنّية في تقسيم الأحكام وعرضها، وتصنيف المسائل الفقهية على الأبواب المختلفة.

ومن نتائج ذلك حصل ما يلي:

أوّلا: أنّ كثيراً من الأحكام اُعطيت ضمن صور جزئية محدودة تبعاً للأبواب، ولم تُعطَ لها صيغة عامة يمكن للمقلّد أن يستفيد منها في نطاق


(1) وهو زقّ أو جلد غليظ ذو حافّات يُنفَخ فيه. مجمع البحرين: (مادة كَيَر). (لجنة التحقيق).
(2) وسائل الشيعة 18: 109، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 43.
104

واسع.

ثانياً: أنّ عدداً من الأحكام دُسّ دسّاً في أبواب أجنبية عنه لأدنى مناسبة؛ حرصاً على نفس التقسيم التقليدي للأبواب الفقهية.

ثالثاً: أنّ جملةً من الأحكام لم تذكر نهائياً؛ لأنّها لم تجد لها مجالا ضمن التقسيم التقليدي.

رابعاً: أنّه لم يبدأ في كلّ مجال بالأحكام العامة ثم التفاصيل، ولم تربط كلّ مجموعة من التساؤلات بالمحور المتين لها، ولم تُعطَ المسائل التفريعية والتطبيقية بوصفها أمثلةً صريحةً لقضايا أعمّ منها لكي يستطيع المقلّد أن يعرف الأشباه والنظائر.

خامساً: افترض في كثير من الأحيان وجود صورة مسبقة عن العبادة أو الحكم الشرعي، ولم يبدأ العرض من الصفر؛ اعتماداً على تلك الصورة المسبقة.

سادساً: انطمست المعالم العامّة للأحكام عن طريق نثرها بصورة غير منتظمة، وضاعت على المكلّف فرصة استخلاص المبادئ العامة منها.

الملاحظة الثانية: أنّ الرسائل العملية لم تَعُدْ تدريجاً بوضعها التأريخي المألوف كافيةً لأداء مهمّتها؛ بسبب تطور اللغة والحياة؛ ذلك أنّ الرسالة العملية تعبّر عن أحكام شرعية لوقائع من الحياة، والأحكام الشرعية بصيغها العامة وإن كانت ثابتةً ولكنّ أساليب التعبير تختلف وتتطور من عصر إلى عصر آخر؛ ووقائع الحياة تتجدّد وتتغيّر، وهذا التطور الشامل في مناهج التعبير ووقائع الحياة يفرض وجوده على الرسائل العملية بشكل وآخر.

فاللغة المستعملة تأريخياً في الرسائل العملية كانت تتّفق مع ظروف الاُمّة

105

السابقة، إذ كان قرّاء الرسالة العملية مقصورين غالباً على علماء البلدان وطلبة العلوم المتفقّهين؛ لأنّ الكثرة الكاثرة من أبناء الاُمّة لم تكن متعلّمة، وأمّا اليوم فقد أصبح عدد كبير من أبناء الاُمّة قادراً على أن يقرأ ويفهم ما يقرأ، إذا كتب بلغة عصره وفقاً لأساليب التعبير الحديث، فكان لابدّ للمجتهد المرجع أن يضع رسالته العملية للمقلّدين وفقاً لذلك.

والمصطلحات الفقهية التي تعتمد عليها الرسائل العملية ـ غالباً ـ للتعبير عن المقصود قد كان من مبرّراتها تأريخياً اقتراب الناس سابقاً من تلك المصطلحات في ثقافتهم، بينما ابتعد الناس عنها اليوم، وتضاءلت معلوماتهم الفقهية، حتّى أصبحت تلك المصطلحات على الأغلب غريبةً تماماً.

وعرض الأحكام من خلال صور عاشها فقهاؤنا في الماضي كان أمراً معقولا، فمن الطبيعي أن تعرض أحكام الإجارة ـ مثلا ـ من خلال افتراض استئجار دابّة للسفر، ولكن إذا تغيّرت تلك الصور فينبغي أن يكون العرض لنفس تلك الأحكام من خلال الصور الجديدة، ويكون ذلك أكثر صلاحيةً لتوضيح المقصود للمقلِّد المعاصر.

والوقائع المتزايدة والمتجدّدة باستمرار بحاجة إلى تعيين الحكم الشرعي، ولَئِن كانت الرسائل العملية تأريخياً تفي بأحكام ما عاصرته من وقائع فهي اليوم بحاجة إلى أن تبدأ تدريجاً باستيعاب غيرها ممّا تجدّد في حياة الإنسان.

والأحكام الشرعية على الرغم من كونها ثابتةً قد يختلف تطبيقها تبعاً للظروف من عصر إلى عصر، فلابدّ لرسالة عملية تعاصر تغيّراً كبيراً في كثير من الظروف أن تأخذ هذا التغيير بعين الاعتبار في تشخيص الحكم الشرعي. فمثلا: الشرط الضمني ـ على حدّ تعبير الفقهاء ـ واجب ونافذ، وهو: كلّ شرط دلّ عليه

106

العرف العامّ وإن لم يصرَّح به في العقد ولكنّ نوع هذه الشروط ـ لمّا كان العرف هو الذي يحدّدها ـ تختلف، فقد يكون شيء ما شرطاً ضمنياً مع العقد في عصر دون عصر.

وهكذا ينبغي للرسالة العملية أن تأخذ العرف المتطور بعين الاعتبار في تحديد ذلك القسم من الأحكام الذي يرتبط بالعرف.

وقد وجدت محاولات منذ زمن للتطوير والتجديد في الرسائل العملية، وكان لكلّ محاولة أهمّيتها وقيمتها.

وحينما صدرت تعليقتنا العملية على منهاج الصالحين أحسست إحساساً واضحاً من خلال مراجعات القارئين وأسئلة السائلين، بما كنت على إيمان به من ضرورة الأخذ بالملاحظتين السابقتين في وضع رسالة عملية تتقيّد بمنهج سليم في العرض من الناحية الفنية، وتلتزم بلغة مبسّطة حديثة، وتبدأ في العرض من الصفر، وتحاول أن تعرض الأحكام من خلال صور حيّة وتطبيقات منتزعة من واقع الحياة، وتتجه إلى بيان الحكم الشرعي لما يستجدّ من وقائع.

وهذه «الفتاوى الواضحة» تحقيق لذلك بالقدر الذي اتّسع له المجال وأتاحته الفرصة، ونسأل المولى القدير سبحانه وتعالى أن يتقبّلها بلطفه، وينفعَ بها إخواننا المؤمنين.

مصادر الفتوى:

ونرى من الضروريّ أن نشير أخيراً بصورة موجزة إلى المصادر التي اعتمدناها بصورة رئيسية في استنباط هذه الفتاوى الواضحة، وهي ـ كما ذكرنا في مستهلّ الحديث ـ عبارة عن الكتاب الكريم، والسنّة الشريفة المنقولة عن

107

طريق الثقات المتورّعين في النقل مهما كان مذهبهم، أمّا القياس والاستحسان ونحوهما فلا نرى مسوّغاً شرعياً للاعتماد عليها.

وأمّا ما يسمّى بالدليل العقلي الذي اختلف المجتهدون والمحدّثون في أنّه هل يسوغ العمل به أو لا؟ فنحن وإن كنّا نؤمن بأنّه يسوغ العمل به ولكنّا لم نجد حكماً واحداً يتوقّف إثباته على الدليل العقلي بهذا المعنى، بل كلّ مايثبت بالدليل العقلي فهو ثابت في نفس الوقت بكتاب أو سنّة.

وأمّا ما يسمّى بالإجماع فهو ليس مصدراً إلى جانب الكتاب والسنّة، ولا يُعتمَد عليه إلّا من أجل كونه وسيلة إثبات في بعض الحالات.

وهكذا كان المصدران الوحيدان هما: الكتاب والسنّة، ونبتهل إلى الله تعالى أن يجعلنا من المتمسّكين بهما، ومن استمسك بهما ﴿فَقَد اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَميِعٌ عَلِيمٌ﴾(1).

التقسيم في هذه الرسالة:

وقد بدأنا في هذه الرسالة العملية بالتقليد، فذكرنا أحكام التقليد، وأحكام الاجتهاد والاحتياط، وتكلّمنا بعد ذلك عن التكليف وشروطه، ثمّ صنّفنا الأحكام إلى أربعة أقسام:

القسم الأول: العبادات.

القسم الثاني: الأموال، ويشتمل على الأموال العامّة والأموال الخاصّة.

القسم الثالث: السلوك الخاصّ.

 


(1) البقرة: 256.
108

القسم الرابع: السلوك العامّ.

وسيأتي توضيح ما هو المقصود بكلّ واحد من هذه الأقسام في نهاية الحديث عن التكليف وشروطه.

ونسأل المولى القدير تعالى السداد والاعتصام، وما توفيقي إلّا بالله عليه توكّلت وإليه اُنيب، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربّ العالمين.

 

محمّد باقر الصدر

النجف الأشرف

26 محرّم الحرام (1396 هـ)

109

أبْحَاث تَمهيديّة

3

التقليد والاجتهاد

 

 

○  تمهيد.

○  التقليد.

○  الاجتهاد.

○  الاحتياط.