الإسلام وضدّ الحكم الكافر، فهل يعدّ هذا قوّةً لبني اُميّة، أو دليلاً على قوّتهم، أو لا بل يدلّ على قوّة الإسلام في نفوسهم.
وأمّا ما يتعلّق بالنقطة الثانية، فإنّ الجواب عمّا ذكره الكاتب المذكور ـ من أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) لم يكن يعلم بأنّه سوف يقتل، بل كان يعمل لتحقيق الانتصار وإقامة الحكم الإسلاميّ، وكانت الأمارات دالّة على إمكانيّة تحقّق ذلك ـ يكمن في الجواب عن السؤال التالي: لماذا لم يتجنّب الإمام الحسين(عليه السلام) الشهادة ـ لما يترتّب عليها من مضرّة كما زعم هذا الكاتب ـ بعد أن تغيّرت أمارات الانتصار واختلّ ميزان القوّة لصالح عدوّه؟ ألم يكن مقتضى العمل بعلم الظاهر المكلّف به الأئمّة(عليهم السلام) هو أن يغيّر الإمام قناعاته بإمكانيّة الانتصار ويتجنّب القتل، وكان ظاهر الاُمور أنّ اُناساً طلبوا منه أن يأتي إلى العراق بعد أن بايعوه على النصرة ومجاهدة الظالمين، وبذلك تمّت الحجّة عليه بالمجيء إلى العراق، وقد جاء فعلاً، ولكن تبيّن له فيما بعد أنّ الاُمور قد تغيّرت، وأنّ الناس قد تبدّل موقفهم منه تحت تأثير سياسة ابن زياد القائمة على الترهيب والترغيب، فلماذا لم يتجنّب المواجهة التي فيها قتله وقتل أهل بيته وأصحابه وسبي نسائه بعد أن تغيّر ظاهر الأمر؟
إنّ الحقيقة قاطعة على أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) كان يعلم بأنّه سوف يقتل وتُسبى نساؤه، وغير مرّة كان قد صارح أصحابه بعاقبة القتل والشهادة، وقد خيّرهم بالانصراف عنه أو البقاء معه واستقبال هذه النتيجة، وعلى هذا الأساس استمرّ بالمسير إلى العراق برغم علمه
بمقتل رسوله إلى الكوفة ابن عمّه مسلم بن عقيل(عليه السلام)، وتغيّر الأوضاع في الكوفة، ألا يدلّ هذا على أنّ الإمام كان يعلم بمصيره وكان يطلبه وقد سعى إليه حثيثاً، إلى أن نال مرتبة الشهادة العظيمة، فكان دمه الطاهر ثورةً للأجيال منذ استشهاده وإلى ظهور ولده الحجّة عجّل الله فرجه.
وأمّا ما يتعلّق بنقطة الخلاف الثالثة، فقد استدلّ الكاتب المذكور ـ على اعتقاده بأ نّ ثمّة اُموراً استجدّت ولم يكن للإمام علم سابق بها، أعاقت حركة الثورة وأخلّت بميزان القوّة لصالح ابن زياد، فسبّبت خسارة المعركة ظاهريّاً للإمام ـ بذكر سببين:
الأوّل: ادّعاؤه بأنّ عبيد الله بن زياد أجبر مسلم بن عقيل(عليه السلام) على تزعّم الثورة عندما جابهه بالسيف في الوقت الذي لم يكن مسلم بن عقيل(عليه السلام) مكلّفاً بتزعّم الثورة والتخطيط لها، وإنّما كانت مهمّته ـ حصراً ـ هي استطلاع الأوضاع في الكوفة وإبلاغ الإمام بالنتائج التي يصل إليها ويشاهدها، لكن هذا التزعّم المفاجئ للثورة من قبل مسلم بن عقيل أدّى إلى تفجير الثورة قبل أوانها، وكان ذلك سبباً لفشلها وتحمّل الإمام الحسين(عليه السلام) عبء هذا الفشل!
الثاني: قيام جيش الحرّ بن يزيد الرياحي بمنع الإمام الحسين من الدخول إلى الكوفة والحيلولة دون تزعّمه الثورة، الأمر الذي أدّى إلى حصول انفصال بين القائد والقاعدة الجماهيريّة، فتبدّلت عندئذ مقاييس القوّة والنصر لصالح عبيد الله بن زياد.
وهذا الأمر أيضاً لم يكن في حسبان الإمام الحسين(عليه السلام).
والجواب عن هذين السببين هو: أنّنا وإن كنّا نعتبر الواقعتين
اللتين ذكرهما الكاتب آنفاً صحيحتين، إلّا أنّنا نخالفه بادّعاء أنّهما حدثتا على حين غرّة وقد فوجئ الإمام بهما؛ إذ إنّ من أوّليّات قيادة الثورات توقّع القائد إمكانيّة اندلاع الثورة قبل أوانها أو قبل ساعة الصفر التي تقرّرت لها، وهذا احتمال وارد بنسبة كبيرة؛ لأنّ السلطات غالباً ما تحرص على مواجهة الثورات مبكّراً لجرّها للمواجهة قبل اكتمال شروطها، وهذا ما يدعونا للاعتقاد بأنّ ما حدث لمسلم بن عقيل(عليه السلام) في الكوفة لم يكن صدفة وأمراً غير متوقّع، فالكوفة كانت تحت سلطان بني اُميّة، والإمام يعلم بذلك، وكان يتوقّع حدوث المواجهة بين السلطات وبين رسوله، ولهذا ما انفكّ الإمام يتابع أخبار ابن عمّه ويستبين اُموره إلى أن بلغه خبر قتله ـ في منطقة الثعلبيّة في طريقه إلى العراق ـ وانفضاض الناس من حوله، فحزن لذلك حزناً كبيراً، وواصل مسيره معتبراً أنّ ما حدث لم يكن صدفة وإنّما هو أمر متوقّع. وقد سأله بعض أصحابه عن موقفه بعد علمه بمقتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وفيما إذا كان ينوي الرجوع إلى مكّة أو الاستمرار بالمسير إلى العراق، فأجابهم الإمام بالاستمرار بالمسير إلى نهاية المطاف. وحتّى عندما بلغه خبر مقتل رسوله الثاني إلى الكوفة بعد مسلم بن عقيل (قيس بن مسهّر الصيداوي) أو (عبد الله بن يقطر) على اختلاف في التأريخ، لم يثنه هذا الحادث أو يضعف في عزيمته، وواصل مسيره إلى العراق بالبقيّة المخلصة من أصحابه بعد انفضاض نفر قليل عنه وإجازته ذلك لهم.
إنّ هاتين الحادثتين، بالإضافة إلى حادثة منعه من دخول الكوفة
بعد أن أحال جيش الحرّ بن يزيد الرياحي بينه وبينها ـ وقد شبّه الكاتب المذكور هذه الأخيرة بحادث رفع المصاحف في معركة صفّين الذي وقع صدفة ـ إنّما تدلّ على عزيمة الإمام وإصراره على بلوغ هدفه النهائي وهو الشهادة، وكذلك تدلّ على وضوح رؤية الإمام للمواجهة والتحدّيات والمصاعب. وقد أمكنه من تجاوزها جميعاً وعدم الاكتراث بها إلّا بمقدار ما أبداه من عواطف تجاه المحن التي لاقته.
وتجدر الإشارة إلى أنّ ثمّة خطأ آخر وقع فيه هذا الكاتب عندما صوّر حادثة منع الإمام من الدخول إلى الكوفة بأنّها مصادفة بحت وتشبه إلى حدٍّ بعيد حادثة رفع المصاحف التي صادفت الإمام عليّ(عليه السلام) في معركة صفّين؛ إذ إنّ حادثة منع الإمام من الورود إلى الكوفة لا تشبه بأيّ حال من الأحوال حادثة رفع المصاحف؛ لأنّ الحادثة الاُولى هي من سنخ الحوادث المتوقّعة الواردة في احتمالات المواجهة بين قوّة معارضة وبين سلطة تخشى من امتدادات التأثير في أوساط المجتمع والقواعد الشعبيّة، فيما تعتبر حادثة رفع المصاحف من الحوادث غير المتوقّعة في تأريخ الثورات والأحداث السياسيّة، وبالخصوص في التأريخ الإسلاميّ؛ لعدم وجود سابق لها في الإسلام، ولهذا فلا تشابه بين الحادثتين وبين حكميهما.
وفي النتيجة النهائيّة يتبيّن أنّ الكاتب المذكور كان مخطئاً في جميع آرائه التي سبقت الإشارة إليها والمتعلّقة بالثورة الحسينيّة.
فيما تعتبر آراء اُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره) هي الصحيحة في تحليل الثورة الحسينيّة، والهدف الذي كانت تتوخّاه، والغاية التي ضحّى الإمام السبط من أجلها. وكانت هذه الغاية هي الدالّة الكبيرة على حكمة القائد وهدفيّته في سبيل إعادة الاُمّة إلى سابق عهدها وشجاعتها وأصالتها بعد أن غزا عقلها وروحها المرض نتيجة المؤامرات الكبيرة التي تعرّضت لها من قبل السلطات المنحرفة التي تسلّمت زمام التجربة الإسلاميّة بعد رحيل رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فكانت شهادة الإمام الحسين(عليه السلام) علاجاً ناجعاً في تخليص الاُمّة من مرض فقدان الإرادة وموت الضمير؛ إذ هبّت الاُمّة بعد حين تقارع الظالمين، وتنادي بتحكيم الإسلام المحمّدي، وظلّت هذه الروح سارية إلى يومنا هذا، وستبقى إلى أن يظهر المصلح من آل البيت(عليهم السلام)الإمام الحجّة عجّل الله فرجه.
الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)
على الرغم من أنّ الإمام عليّ بن الحسين(عليهما السلام) كان في زمن تصدّيه للإمامة غير مبسوط اليد إلّا أنّه نال منزلة رفيعة في نفوس أبناء الاُمّة لم ينلها أحد سواه في زمانه، وقصّة هشام بن عبد الملك معروفة عندما أقدم إلى مكّة ليحجّ وأراد أن يطوف بالكعبة ومن ثَمّ يستلم الحجر الأسود فلم يتمكّن من ذلك بسبب شدّة الزحام، ولكن عندما أقدم الإمام زين العابدين(عليه السلام) انشقّ الناس له سماطين،
وتمكّن من الوصول إلى الحجر الأسود بسهولة ومن غير حرج، الأمر الذي جعل هشام بن عبد الملك يتعجّب ويسأل عن هذا الذي انفرج الناس له محاولاً تجاهل الإمام، فعُرّف به وسكت.
إنّ هذه الواقعة وعشرات أمثالها تشير وتؤكّد مدى احترام الناس للإمام في الوقت الذي تزدري السلطان وتحتقره.
إنّ احترام الناس للإمام زين العابدين(عليه السلام) إنّما جاء نتيجة المعرفة الحقيقيّة بمنزلة الإمام ودوره الديني والاجتماعي، وبعبارة اُخرى: إنّ نمط قيادة الإمام للمجتمع هو الذي أدّى إلى حصول هذا التأثير الكبير في نفوس أبناء الاُمّة على الرغم من أنّه لم يكن مبسوط اليد وكان معزولاً من قبل السلطة الظالمة ومحارباً منها، وعلى الرغم من أنّ الاُمّة كانت تعاني من قسوة وتهوّر حكّام بني اُميّة من أمثال يزيد بن معاوية ـ الذي هدم الكعبة واستباح المدينة ثلاثة أيّام وعمل المنكرات ـ لكن ذلك لم يثنِ الإمام عن ممارسة دوره القيادي والاجتماعي، كما لم يثنِ الاُمّة من الانشداد للإمام(عليه السلام) والانقياد له.
لقد تميّز الدور القيادي للإمام(عليه السلام) بالعمل على تحقيق ثلاث مهمّات في آن واحد:
الاُولى: الاستمرار في سياسة فضح سلطة بني اُميّة والتعريف بحقيقتها.
الثانية: إعداد الاُمّة فكريّاً ونفسيّاً لتحمّل المسؤوليّات.
الثالثة: دعم ومساندة الحركات الثوريّة الشيعيّة.
أمّا الأساليب التي اتّبعها الإمام في تنفيذه لهذه المهمّات الثلاث، فهي:
أ ـ الاُسلوب العاطفي غير المباشر لفضح سلطة بني اُميّة:
ذلك من خلال إظهارالإمام(عليه السلام) الحزن العميق والبكاء على مصيبة أبيه الإمام الحسين(عليه السلام)، واستغلال الفرص والمناسبات لاستنفار عواطف الناس وأحاسيسها باتجاه الانشداد والولاء لآل البيت(عليهم السلام)، وكان هذا العمل يعني بشكل غير مباشر فضح الظالمين، ظالمي أئمّة آل البيت(عليهم السلام)، وبالخصوص حكّام بني اُميّة، وللمثال نذكر هذه الواقعة المشهورة: عندما رأى الإمام ذات يوم قصّاباً يهمّ بذبح كبش له، فاقترب الإمام من القصّاب وسأله: يا هذا هل سقيت الكبش ماءً قبل أن تذبحه؟ فأجابه القصّاب: نعم، نحن معاشر القصّابين لا نذبح الحيوان حتّى نسقيه ماءً. وهنا بكى الإمام وأخذ ينتحب ويندب أباه الإمام الحسين(عليه السلام)، وأخذ يعرّف بمصيبته؛ إذ قتل عطشاناً.
إنّ حادثةً مثل هذه تكشف عن دقّة الاُسلوب الذي اتّبعه الإمام(عليه السلام) للتأثير في نفوس الناس وعواطفهم ولشحذ هممهم ضدّ السلطات الكافرة.
ب ـ اُسلوب العبادات والأدعية للتأثير في الاُمّة نفسيّاً وفكريّاً:
لقد تميّز الإمام بكثرة الدعاء والصلاة وطول القنوت، واشتهر بالصحيفة السجاديّة، وهي مجموعة الأدعية التي كان يدعو بها والتي تحتوي على تراث غنيٍّ من المفاهيم التربويّة والأخلاقيّة ذات البعد التغييري.
أمّا أساليبه العباديّة الاُخرى ذات التأثير التغييري الكبير، فنذكر هذه الحادثة على سبيل المثال والشاهد لها، وهي موقف الإمام وأخلاقه الخاصّة مع عبيده وإمائه. فقد ورد: «كان عليّ بن الحسين(عليهما السلام) إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبداً له ولا أمة. وكان إذا أذنب العبد والأمة يكتب عنده أذنب فلان، أذنبت فلانة يوم كذا وكذا ولم يعاقبه، فيجتمع عليهم الأدب (يعني استحقاق التأديب)، حتّى إذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله، ثمّ أظهر الكتاب، ثمّ قال: يا فلان، فعلت كذا وكذا ولم اُؤدّبك أتذكر ذلك؟ فيقول: بلى يا بن رسول الله. حتّى يأتي على آخرهم ويقرّرهم جمعياً. ثمّ يقوم وسطهم ويقول لهم: ارفعوا أصواتكم وقولوا: يا عليّ بن الحسين، إنّ ربّك قد أحصى عليك كلّما عملت كما أحصيت علينا كلّ ما عملنا، ولديه كتاب ينطق عليك بالحقّ ﴿لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً﴾ ممّا أتيت ﴿إِلاَّ أَحْصَاهَا﴾، وتجد كلّ ما عملت لديه حاضراً كما وجدنا كلّ ما عملنا لديك حاضراً، فاعفُ واصفح كما ترجو من المليك العفو وكما تحبّ أن يعفو عنك، فاعفُ عنّا تجده عفوّاً وبك رحيماً ولك غفوراً ﴿وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾، كما لديك كتاب ينطق بالحقّ علينا لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً ممّا أتيناها إلَّا أحصاها، فاذكر يا عليّ بن الحسين ذلّ مقامك بين يدي ربّك الحَكَم العَدل الذي لا يظلم مثقال حبّة من خردل ويأتي بها يوم القيامة وكفى بالله حسيباً وشهيداً، فاعفُ واصفح يعفو عنك المليك ويصفح، فإنّه يقول: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾. وهو ينادي بذلك
على نفسه ويلقِّنهم، وهم ينادون معه وهو واقف بينهم يبكي وينوح، ويقول: ربّ إنّك أمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، فقد ظلمنا أنفسنا، فنحن قد عفونا عمّن ظلمنا كما أمرت، فاعف عنّا فإنّك أولى بذلك منّا ومن المأمورين، وأمرتنا أن لا نردّ سائلاً عن أبوابنا وقد أتيناك سؤّالاً ومساكين، وقد أنخنا بفنائك وببابك نطلب نائلك ومعروفك وعطاءَك، فامنن بذلك علينا ولا تخيّبنا، فإنّك أولى بذلك منّا ومن المأمورين، إلهي كرمت فأكرمني إذ كُنت من سُؤّالك وجدت بالمعروف فاخلطني بأهل نوالك يا كريم. ثمّ يُقبِل عليهم (أي على العبيد والإماء) فيقول: قد عفوت عنكم فهل عفوتم عنّي وممّا كان منّي إليكم من سوء ملكة، فإنّي مليك سوء لئيم ظالم مملوك لمليك كريم جواد عادل محسن متفضّل؟ فيقولون: قد عفونا عنك يا سيّدنا وما أسأت. فيقول لهم: قولوا اللهمّ اعف عن عليّ بن الحسين كما عفا عنّا، فأعتقه من النار كما أعتق رقابنا من الرقّ. فيقولون ذلك. فيقول: اللّهم آمين ربّ العالمين. اذهبوا فقد عفوت عنكم وأعتقت رقابكم رجاءً للعفو عنّي وعتق رقبتي. فيعتقهم، فإذا كان يوم الفطر أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عمّا في أيدي الناس. وما من سنة إلّا وكان يعتق فيها في آخر ليلة من شهر رمضان ما بين العشرين رأساً إلى أقلّ أو أكثر، وكان يقول: إنّ لله تعالى في كلّ ليلة من شهر رمضان عند الإفطار سبعين ألف ألف عتيق من النار كلاًّ قد استوجب النار، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق فيها مثل ما أعتق في جميعه، وإنّي لاُحبّ أن يراني الله وقد أعتقتُ رقاباً في ملكي في دار
الدنيا رجاء أن يعتق رقبتي من النار»(1).
هذه قصّة واحدة من عشرات القصص التي تروى من عبادات الإمام عليّ بن الحسين(عليهما السلام) والتي تستبطن توجيهاً أخلاقيّاً فريداً للمجتمع.
ج ـ دعم ومساندة الحركات الثوريّة الشيعيّة:
لقد حفل تأريخ الإمام عليّ بن الحسين(عليهما السلام) بمواقف مؤيّدة ومناصرة للحركات الثوريّة الشيعيّة التي ظهرت في أعقاب شهادة الإمام الحسين(عليه السلام) ترفع لواء الثأر من قتلة الإمام الشهيد، وكان الإمام زين العابدين(عليه السلام) يستهدف من وراء دعمه لهذه الثورات والحركات استثمار الحالة التي خلقتها واقعة كربلاء في نفوس الاُمّة، وتوجيهها نحو الأهداف التي استشهد من أجلها الإمام الحسين(عليه السلام)، والشواهد على دعم الإمام لهذه الثورات كثيرة نختار منها قصّة دعمه لثورة المختار الثقفي:
فقد ورد: إنّ اُناساً من أنصار المختار اجتمعوا عند عبد الرحمن بن شريح، فقالوا له: «إنّ المختار يريد الخروج بنا للأخذ بالثأر، وقد بايعناه ولا نعلم أرسله إلينا محمّد بن الحنفية أم لا (يظهر أنّ الأمر كان ملتبساً على الشيعة آنذاك، ولم يكن واضحاً لديهم مَن هو الإمام بعد الحسين(عليه السلام)، أهو محمّد بن الحنفية أم عليّ بن الحسين(عليه السلام))،
فانهضوا بنا إليه نخبره بما قَدِمَ به علينا، فإن رخّص لنا اتّبعناه، وإن نهانا تركناه»، فخرجوا وجاؤوا إلى ابن الحنفية، فسألهم عن الناس، فخبّروه وقالوا: «لنا إليك حاجة»، قال: «سرّ أم علانية؟»، قلنا: «بل سرّ»، قال: «رويداً إذن»، ثمّ مكث قليلاً وتنحّى ودعانا، فبدأ عبد الرحمن بن شريح بحمد الله والثناء، وقال: «أمّا بعد، فإنّكم أهل بيت خصّكم الله بالفضيلة وشرّفكم بالنبوّة وعظّم حقّكم على هذه الاُمّة، وقد اُصبتم بحسين مصيبة عمّت المسلمين، وقد قدم المختار يزعم أنّه جاء من قبلكم، وقد دعانا إلى كتاب الله وسنّة نبيّه والطلب بدماء أهل البيت، فبايعناه على ذلك، فإن أمرتنا باتّباعه اتّبعناه، وإن نهيتنا اجتنبناه».
فلمّا سمع كلامه وكلام غيره حمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ وقال: «أمّا ما ذكرتم ممّا خصّنا الله، فإنّ الفضل لله ﴿يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾، وأمّا مصيبتنا بالحسين، فذلك في الذكر الحكيم، وأمّا الطلب بدمائنا قوموا بنا إلى إمامي وإمامكم عليّ بن الحسين». فلمّا دخل ودخلوا عليه أخبر خبرهم الذي جاؤوا لأجله، قال: «يا عمّ، لو أنّ عبداً زنجيّاً تعصّب لنا أهل البيت لوجب على الناس مؤازرته، وقد ولّيتك هذا الأمر فاصنع ما شئت»، فخرجوا وقد سمعوا كلامه وهم يقولون: «أذن لنا زين العابدين(عليه السلام)ومحمّد بن الحنفية»(1). وخرجوا مع المختار إلى آخر القصّة.
(1) البحار 45: 364 ـ 365.
ويظهر من هذه القصّة كيف أنّ الإمام يدعم الحركات المناوئة لبني اُميّة والمطالبة بالحقّ لأهل البيت(عليهم السلام)؟
تقييم الثورات الشيعيّة:
إنّ الحديث عن الثورات الشيعيّة وموقف الأئمّة منها لابدّ وأن يجرّ إلى الحديث عن اتجاهات هذه الثورات وولائها للأئمّة؛ إذ إنّ الروايات تتضارب بشأن الأهداف التي تبنّتها هذه الثورات الشيعيّة المعارضة للحكّام، وهل حقّاً تنطبق هي مع الشعار الذي رفعته بعض هذه الثورات وهو تسليم الأمر إلى الرضا من آل محمّد(صلى الله عليه وآله)، أو أنّ هذا مجرّد ادعاء استفادت منه القيادات في تحريض الناس وتعبئتهم لغرض استلام السلطة، كما في بعض الثورات التي قادها بعض أحفاد الإمام الحسن(عليه السلام) وكانوا في حقيقة الأمر يطلبون الأمر لأنفسهم؟
وعلى أيّة حال فإنّ تفسير ظاهرة الثورات في ذلك العصر يقبل ثلاثة احتمالات:
أحدها: ـ وقد مال إليه اُستاذنا الشهيد(قدس سره)، ويستشفّ من بعض محاضراته ـ أنّ هذه الثورات كانت مرضيّة من قبل أئمّتنا(عليهم السلام)، وأنّ الأئمّة كانوا يشجّعون على أعمال من هذا القبيل، كما يستفاد من قول الإمام الصادق(عليه السلام): « لا أزال وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمّد، ولوددت أنّ الخارجي من آل محمّد خرج وعليّ نفقة عياله»(1).
وهذا الاحتمال وارد جدّاً، فسياسة الأئمّة(عليهم السلام) كانت تناسب تبنّي هذه الثورات سرّاً وتوجيهها بشكل غير مباشر، لتفادي المواجهة المباشرة مع السلطات، وبهذا الاُسلوب أمكن للأئمّة(عليهم السلام) المحافظة على روح الثورة في الاُمّة، وفي نفس الوقت أمكن لهم الاحتفاظ بمكانتهم الشخصيّة في المجتمع من أجل المحافظة على مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) كمدرسة حيّة ومعطاءة.
ثانيها: أنّ قيادات هذه الثورات كانوا يخرجون ـ باستثناء زيد بن عليّ، وحسين بن عليّ صاحب الفخّ ـ بغير رضا أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) إمّا لأنّهم لم يكونوا يؤمنون بإمامتهم(عليهم السلام)، وإمّا لأنّ الأئمّة(عليهم السلام) لم يكونوا يرون أنّ الأوضاع تناسب الثورة آنذاك.
ثالثها: أنّ الأئمّة(عليهم السلام) كانوا يؤيّدون أصل حدوث هذه الثورات، أي: يؤيّدونها مبدئيّاً، لكنّهم في الوقت ذاته كانوا يعارضون قياداتها التي تدّعي الإمامة لأنفسها.
أمّا بالنسبة إلى الروايات الواردة بشأن الثورات الشيعيّة وهي تمدح بعض هذه الثورات وتذمّ وتقدح ببعضها الاُخرى، فتوجد عدّة روايات ذامّة بشأن عبد الله وابنه محمّد، وإبراهيم ويحيى، وتوجد روايات مادحة بشأن الحسين بن عليّ صاحب الفخّ، إلّا أنّ هذه الروايات وردت في مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الإصفهاني، وأبو الفرج الإصفهاني متّهم بالزيديّة، فتكون رواياته كذلك متّهمة.
أمّا بالنسبة إلى زيد بن عليٍّ(رحمه الله)، فتوجد روايات مادحة له كثيرة، بيدَ أنّ ثمّة روايات اُخرى تشير إلى عدم رضا أئمّتنا(عليهم السلام) بثورته
وبالثورات الاُخرى التي هي مثل ثورة زيد بن عليّ. ولهذا سوف نقتصر على ذكر روايتين من الروايات المادحة لثورة زيد بن عليّ(رحمه الله)، ثمّ نشير إلى الروايات التي تذمّها، لنستنتج أخيراً الموقف الصحيح من مجموع هذه الروايات المتضاربة:
الرواية الاُولى: ما وردت في قصّة ولادة زيد(رحمه الله) وهي: «عن الثمالي قال: كنت أزور عليّ بن الحسين في كلّ سنة مرّة في وقت الحجّ، فأتيته سنةً من ذاك وإذا على فخذيه صبيٌّ، فقعدت إليه، وجاء الصبيّ فوقع على عتبة الباب فانشجّ، فوثب إليه عليّ بن الحسين(عليهما السلام)مهرولاً، فجعل ينشّف دمه بثوبه ويقول له: يا بني، اُعيذك بالله أن تكون المصلوب في الكُناسة. قُلت: بأبي أنت واُمّي أيّ كُناسة؟ قال: كناسة الكوفة. قلت: جُعلت فداك، ويكون ذلك؟ قال: إي والذي بعث محمّداً بالحقّ إن عشتَ بعدي لترينّ هذا الغلام في ناحية من نواحي الكوفة مقتولاً مدفوناً، منبوشاً مسلوباً، مسحوباً مصلوباً في الكُناسة، ثمّ يُنزّل فيحرق ويُدقّ ويُذرّى في البرّ. قلت: جُعلت فداك، وما اسم هذا الغلام؟ قال: هذا ابني زيد، ثمّ دمعت عيناه، ثمّ قال: ألا اُحدّثك بحدث ابني هذا؟ بينا أنا ليلة ساجد وراكع إذ ذهب بيَ النوم من بعض حالاتي، فرأيت كأنّي في الجنّة، وكأنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وعليّاً وفاطمة والحسن والحسين قد زوّجوني جاريةً من حور العين فواقعتها، فاغتسلت عند سدرة المنتهى وولّيت وهاتف بي يهتف ليهنئك زيد، ليهنئك زيد، ليهنئك زيد، فاستيقظت فأصبت جنابة، فقمت فتطهّرت للصلاة وصلّيت صلاة الفجر، فُدقّ الباب وقيل لي: على الباب رجل يطلبك. فخرجت فإذا أنا برجل معه
جارية ملفوف كمّها على يده، مخمّرة بخمار، فقلت: ما حاجتك؟ فقال: أردت عليّ بن الحسين(عليه السلام). قلت: أنا عليّ بن الحسين. فقال: أنا رسول المختار بن أبي عبيد الثقفي يُقرئك السلام ويقول: وقعت هذه الجارية في ناحيتنا فاشتريتها بستّ مئة دينار، وهذه ستّ مئة دينار فاستعِن بها على دهرك. ودفع إليّ كتاباً، فأدخلت الرجل والجارية وكتبت له جواب كتابه، وتثبّت الرجل، ثمّ قلت للجارية: ما اسمك؟ قالت: حوراء. فهيّؤوها لي وبِتّ بها عروساً، فعلقت بهذا الغلام فسميّته زيداً، وهو هذا، سترى ما قلت لك.
قال أبو حمزة: فوالله ما لبثت إلّا برهةً حتّى رأيت زيداً بالكوفة في دار معاوية بن إسحاق، فأتيته فسلّمت عليه ثمّ قلت: جُعلت فداك، ما أقدمك هذا البلد؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فكنت أختلف إليه، فجئت إليه ليلة النصف من شعبان، فسلّمت عليه ـ وكان ينتقل في دور بارق وبني هلال ـ فلمّا جلست عنده قال: يا أبا حمزة، تقوم حتّى نزور قبر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام). قلت: نعم جُعلت فداك. ثمّ ساق أبو حمزة الحديث حتّى قال: أتينا الذكوات البيض فقال: هذا قبر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام). ثمّ رجعنا فكان من أمره ما كان، فوالله لقد رأيته مقتولاً مدفوناً، منبوشاً مسلوباً، مسحوباً مصلوباً قد اُحرق ودقّ في الهواوين وذُرّي في العريض من أسفل العاقول»(1).
الرواية الثانية: قصّة وقعت بين المأمون وبين الإمام الرضا(عليه السلام)
حول زيد بن موسى بن جعفر الذي خرج على المأمون واعتقل من قبله. وتقول الرواية: «لمّا حُمل زيد بن موسى بن جعفر إلى المأمون ـ وقد كان خرج بالبصرة وأحرق دور ولد العباس ـ وهب المأمون جرمه لأخيه عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام) وقال له: يا أبا الحسن،لئن خرج أخوك وفعل ما فعل لقد خرج قبله زيد بن عليّ فقتل، ولولا مكانك منّي لقتلته، فليس ما أتاه بصغير. فقال الرضا(عليه السلام): يا أمير المؤمنين، لا تقس أخي زيداً إلى زيد بن عليّ(عليه السلام)؛ فإنّه كان (يعني زيد بن عليّ) من علماء آل محمّد، غضب لله عزّ وجلّ، فجاهد أعداءه حتّى قُتل في سبيله، ولقد حدّثني أبي موسى بن جعفر(عليه السلام): أنّه سمع أباه جعفر بن محمّد يقول: رحم الله عمّي زيداً، إنّه دعا إلى الرضا من آل محمّد، ولو ظفر لَوفى بما دعا إليه، وقد استشارني في خروجه، فقلت له: يا عمّ، إن رضيت أن تكون المقتول المصلوب بالكُناسة فشأنك. فلمّا ولّى قال جعفر بن محمّد: ويل لمن سمع واعيته فلم يجبه. فقال المأمون: يا أبا الحسن، أليس قد جاء في من ادّعى الإمامة بغير حقّها ما جاء؟! فقال الرضا (عليه السلام): إنّ زيد بن عليّ(عليه السلام) لم يدّعِ ما ليس له بحقّ، وإنّه كان أتقى لله من ذاك، إنّه قال: أدعوكم إلى الرضا من آل محمّد، وإنّما جاء ما جاء فيمن يدّعي أنّ الله نصّ عليه ثمّ يدعو إلى غير دين الله، ويضلّ عن سبيله بغير علم، وكان زيد والله ممّن خوطب بهذه الآية: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ﴾»(1).
(1) المصدر السابق: 174 ـ 175، الحديث 27.
وتوجد في قبال هاتين الروايتين اللتين وردتا بشأن زيد بن عليّ(رحمه الله) تمدحانه، روايات تذمّ زيد بن عليّ، وتذمّ ثورات اُخرى حصلت بعد زيد بن عليّ. وحينما نستقرئ الروايات الذامّة نجدها على قسمين، ويمكن تفسير كلّ قسم بتفسير معيّن:
أمّا القسم الأوّل من الروايات الذامّة، فقد وردت تذمّ أصل الثورات بغضّ النظر عن قياداتها والأشخاص القائمين بها. نذكر منها رواية واحدة، وهي عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «اتقوا الله (خطاب موجّه لاُناس عزموا الخروج على السلطة وقتئذ) وانظروا لأنفسكم، فإنّ أحقّ من نظر لها أنتم (أي: لا يصلح خروجكم قبل التثبّت من شرعيّة الخروج)، لو كان لأحدكم نفسان فقدّم إحداهما وجرّب بها استقبل التوبة بالاُخرى كان، ولكنّها نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة. إن أتاكم منّا آت يدعوكم إلى الرضا منّا، فنحن نستشهدكم أ نّا لا نرضى، إنّه لا يطيعنا اليوم وهو وحده، فكيف يطيعنا إذا ارتفعت الرايات والأعلام؟!»(1).
إنّ تفسير هذا النوع من الروايات يمكن من خلال الجمع بينها وبين الروايات المادحة للثورات، فمن المستبعد أ ن تكون الروايات الواردة في تأييد الثورات الشيعيّة كاذبة، سواء افترضنا صدورها عن محبّ لأهل البيت(عليهم السلام) ومن ثقاتهم، أم افترضنا أنّها صدرت عن أعداء أهل البيت(عليهم السلام) وهي من مفترياتهم؛ لأنّ شيعة أهل البيت(عليهم السلام)
لا يُحتمل منهم الافتراء والكذب على الأئمّة(عليهم السلام) بما يورّطهم في الهلاك، وذلك بأن ينسبوا إليهم كذباً تأييد الثورات؛ ولأنّ أعداء أهل البيت لا يؤمنون بالثورة عادة، بل ويتعاونون مع السلطة الظالمة، وحينما يريدون الكذب والافتراء على الأئمّة(عليهم السلام) فلا بُدّ أن يكون كذبهم في صالح السلطة وليس ضدّها، فمدح هذه الثورات المناهضة للسلطات الظالمة لا يحتمل صدورها عن أعداء أهل البيت(عليهم السلام)، كما أنّ هذه الروايات غير مرويّة عن طريق الزيديّة كروايات مقاتل الطالبيين حتّى نقول: إنّ الزيديّة كذبوا واخترعوها.
وإذن ففي أغلب الظنّ أنّ الروايات المادحة هي صادقة، أمّا الروايات الذامّة ـ كالرواية السابقة ـ فعلى كلا التقديرين ـ أي: سواء افترضنا وصولها عن طريق اُناس غير ثقات، أو عن طريق اُناس ثقات ـ فإنّ تفسيرها واضح، فلو كانت صادرة عن غير الثقات، فهي من مفترياتهم على الأئمّة(عليهم السلام)، وتصبّ في صالح السلطة، وهذا أمر مألوف وقتئذ؛ إذ كانت السلطات الظالمة تجنّد الكاذبين لخدمة مصالحها.
وأمّا إذا كانت هذه الروايات صادرةً عن الأئمّة(عليهم السلام) حقّاً، فإنّه من الطبيعي أن يمارس الإمام المعصوم معها اُسلوب التقيّة لكي لا تُنسب إليه ولا يكون مسؤولاً عنها، ولو تصوّرنا أ نّ الإمام المعصوم يرضى بنسبة الثورات الشيعيّة إلى شخصه، لكان من الأولى عليه أن يثور هو كما ثار الإمام الحسين (عليه السلام)، لكن حينما لا يريد المعصوم أن تنسب هذه الثورات إليه فمن الطبيعي أن يقول: أنا غير راض عن
الذين يدعون إلى الرضا من آل محمّد (صلى الله عليه وآله). فالإمام الذي يريد أن يفصل بينه وبين هذه الثورات ـ كي يجمع بين شيئين في آن واحد، بين سلامة نفسه وإيفاء دوره في قيادة الاُمّة وهدايتها، وبين الثورات ضدّ الظلم ـ يكون من المتوقّع صدور مثل هذه الروايات عنه، على العكس من الروايات المادحة لهذه الثورات، فمن المتوقّع عدم وصولها إلينا بسبب ظروف التقيّة حيث يمتنع الإمام من التصريح أمام الناس، وقد يكتفي بالتصريح أمام الخواصّ من أصحابه لكي يمنحها الشرعيّة على خلاف الروايات الذامّة، فظرف التقيّة يجعل الإمام يصرّح بذمّها أمام عموم الناس، وهذا هو الذي أفهمه واُقدّره من مجمل هذه الروايات المتعارضة.
وأمّا القسم الثاني من الروايات الذامّة ـ بحسب تقسيمنا الثنائي لها ـ فهي التي تحكي خلافاً فكريّاً بين أئمّتنا(عليهم السلام) وبين الثائرين حول مبدأ الإمامة ومصداقها، فأئمّتنا كانوا يعتقدون أنّهم الأئمّة المنصوص عليهم والمنصَّبون من قبل الله تعالى، فيما كان قادة الثورات الشيعيّة يرون أنّهم هم الأئمّة؛ لاعتقادهم أنّ الإمام إنّما هو القائم الثائر، والجالس في بيته لا يمكن أن يكون إماماً للناس!
وفي هذا الاتجاه نذكر بعض الروايات التي تحكي وجود الخلاف الفكري حول مسألة الإمامة بين الأئمّة(عليهم السلام) وبين الثائرين:
منها: رواية نأخذ منها محلّ الشاهد، وهو نقاش دار بين زيد بن عليّ وبين أخيه الإمام الباقر(عليه السلام)، يقول زيد ـ بعدما رفض الإمام الباقر تأييد ثورته والالتحاق بها وقد غضب زيد بحسب ما تقول
الرواية ـ: «ليس الإمام منّا من جلس في بيته وأرخى ستره وثبّط عن الجهاد، ولكنّ الإمام منّا من منع حوزته وجاهد في سبيل الله حقّ جهاده، ودفع عن رعيّته وذبّ عن حريمه»(1).
ومنها: رواية اُخرى تحكي قصّة طريفة حول مُحاججة وقعت بين زيد بن عليّ وبين مؤمن الطاق(2): «قال (أبان بن تغلب): أخبرني الأحول أبو جعفر محمّد بن النعمان الملقّب بمؤمن الطاق: أنّ زيد بن عليّ بن الحسين(عليهما السلام) بعث إليه... فقال لي: يا أبا جعفر، ما تقول إن طرقك طارق منّا أتخرج معه؟ قال: قلت له: إن كان أبوك أو أخوك خرجت معه. قال: فقال لي: فأنا اُريد أن أخرج اُجاهد هؤلاء القوم فاخرج معي. قال: قلت: لا أفعل جُعلت فداك. قال: فقال لي: أترغب بنفسك عنّي؟ قال: فقلت له: إنّما هي نفس واحدة، فإن كان لله عزّ وجلّ في الأرض معك حجّة (أي إمام معصوم)، فالمتخلّف عنك ناج، والخارج معك هالك، وإن لم يكن لله معك حجّة، فالمتخلّف عنك والخارج معك سواء. قال: فقال لي: يا أبا جعفر، كُنت أجلس مع أبي على الخوان (أي: على مائدة الطعام)، فيلقمني اللقمة السمينة، ويبرّد لي اللقمة الحارّة حتّى تبرد من شفقته عليّ ولم يشفق عليّ من حرّ النار إذ أخبرك بالدين ولم يخبرني به.
(1) البحار 46: 203 ـ 204.
(2) وسمّي أيضاً شيطان الطاق، والأحول، والشيعة يسمّونه مؤمن الطاق، ونسبة الطاق إليه لأنّ دكّانه كان تحت الطاق، وكان معروفاً بقوّة المحاجّة، وله باع طويل فيها مع أبي حنيفة وغيره.
قال: فقلت له: من شفقته عليك من حرّ النار لم يخبرك، خاف عليك أن لا تقبله فتدخل النار، وأخبرني فإن قبلته نجوت، وإن لم أقبل لم يبالِ إن أدخل النار، ثمّ قلت له: جُعلت فداك، أنتم أفضل أم الأنبياء؟ قال: بل الأنبياء. قلت: يقول يعقوب ليوسف: ﴿لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً ﴾، ثمّ لم يخبرهم حتّى لا يكيدونه ولكن كتمهم، وكذا أبوك كتمك؛ لأنّه خاف عليك. قال: فقال: أما والله لئن قلت ذاك لقد حدّثني صاحبك (يعني الإمام الباقر) بالمدينة: أ نّي اُقتل واُصلب بالكُناسة، وإنّ عنده لصحيفة فيها قتلي وصلبي. فحججت (أي: مؤمن الطاق)، فحدّثت أبا عبد الله(عليه السلام) بمقالة زيد وما قلت له، فقال (أي: الإمام الصادق(عليه السلام)) لي: أخذته من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن يساره، ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه، ولم تترك له مسلكاً يسلكه»(1).
هذه من الروايات التي تحكي عدم إيمان زيد بن عليّ بإمامة أخيه الإمام الباقر(عليه السلام) واعتقاده بإمامة نفسه، لكن ثمّة روايات اُخرى تحكي العكس، أي: إيمان زيد بإمامة الأئمّة، نذكر منها هذه الرواية: «عن عمرو بن خالد قال: قال زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب(عليهم السلام): في كلّ زمان رجل منّا أهل البيت يحتجّ الله به على خلقه، وحجّة زماننا ابن أخي جعفر بن محمّد لا يضلّ من تبعه ولا يهتدي من خالفه»(2).
(1) البحار 46: 180 ـ 181.
(2) المصدر السابق: 173.
فهذه الرواية تدلّ صراحةً على إيمان زيد بإمامة ابن أخيه، وهناك رواية تدلّ على إيمان زيد بإمامة جميع الأئمّة(عليهم السلام): «عن يحيى بن زيد قال: سألت أبي عن الأئمّة، فقال: الأئمّة اثنا عشر، أربعة من الماضين، وثمانية من الباقين. قلت: فسمِّهم يا أبة. قال: أمّا الماضين فعليّ بن أبي طالب والحسن والحسين وعليّ بن الحسين، ومن الباقين أخي الباقر وبعده جعفر الصادق ابنه، وبعده موسى ابنه، وبعده عليّ ابنه، وبعده محمّد ابنه، وبعده عليّ ابنه، وبعده الحسن ابنه، وبعده المهديّ ابنه. فقلت له: يا أبة، ألست منهم؟ قال: لا، ولكنّي من العترة. قلت: فمن أين عرفت أساميهم؟ قال: عهد معهود عهده إلينا رسول الله(صلى الله عليه وآله)»(1).
وعلى أيّة حال، فالذي أفهمه من القسم الثاني من الروايات الذامّة للثورات والتي تحكي خلافاً فكريّاً بين الأئمّة(عليهم السلام) والثوار ـ سواء افترضنا أنّ زيداً كان أحدهم أم لم يكن ـ أنّ هذه الروايات لا تريد أن ترفض أصل الثورة على الظالمين أو معارضتها، وإنّما هي ترفض وتعارض أمرين:
الأمر الأوّل: هو الخطأ العقائدي الذي ارتكبه قادة بعض الثورات الشيعيّة، وهو تصوّرهم أنّ الإمام هو الخارج بالسيف فقط، بينما الإمام إمام قائماً كان أم قاعداً، فالرسول(صلى الله عليه وآله) قال: «الحسن
والحسين إمامان قاما أو قعدا»(1)، وعلى هذا فالإمام هو وحده الذي يقدّر المصلحة في العمل بإحدى الصيغتين: القيام بالسيف أو التقيّة، ولا يقدح ذلك بمنصبه كإمام معصوم مفترض الطاعة.
الأمر الثاني: التحاق ومشاركة أكبر عدد من شيعة الأئمّة(عليهم السلام) في هذه الثورات؛ إذ إنّ الإمام لو كان يمنح تأييداً تامّاً لهذه الثورات عندئذ كانت تتّسع المشاركة فيها من قبل الشيعة، وهذا ما لا يريده الأئمّة(عليهم السلام) حقناً لدماء شيعتهم وحفظاً لهم من الفناء.
وللشاهد على ما ذكرناه من أنّ الهدف لم يكن رفض أصل الثورات نذكر روايةً مرويةً عن الإمام الصادق(عليه السلام)، قال: «لا أزال وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمّد، ولوددت أنّ الخارجي من آل محمّد خرج وعليَّ نفقة عياله»(2).
وبهذا يتأكّد لنا أنّ الأئمّة(عليهم السلام) وبسبب ظروف التقيّة ومهمّات قيادة الاُمّة وقفوا من هذه الثورات موقفاً هو بمنزلة أمر بين أمرين؛ إذ لم يعارضوا الثورات الشيعيّة المناهضة للسلطات الظالمة؛ لأنّها بنظرهم تعبّر عن جزء من أهدافهم، وكذلك لم يساندوها كلّيّاً؛ لأنّها لم تكن نقيّة وصحيحة من الناحية العقائديّة والمذهبيّة، أو لمراعاتهم لمتطلّبات قيادة الاُمّة التي لم تكن ظروفها تسمح بإعلان الثورة الشاملة وتعبئة جميع الشيعة لها؛ لضعفهم وقوّة السلطات، وهذا هو
الذي دعا الأئمّة(عليهم السلام) للتظاهر بمعارضة الثورات، وبهذا أمكن لهم من ضبط المسافة الفاصلة بين شيعتهم وبين هذه الثورات من جهة، وبين السلطات الظالمة من جهة اُخرى، فاحتفظت الاُمّه بروحها الثوريّة، فيما أمكن للثورات أن تؤدّي واجبها في الوقت نفسه، وبهذا يثبت لدينا أنّ الأئمّة(عليهم السلام) لم يعترضوا على الثورات الشيعيّة المناهضة للسلطات الظالمة بما هي حركات ثائرة، وإنّما اعترضوا على الأخطاء العقائديّة والمذهبيّة التي وقع فيها قادة بعض هذه الثورات، ولو كان الأئمّة(عليهم السلام) قد شجبوا أهل هذه الثورات، لكان يعني هذا اعترافهم الضمني بالسلطات الظالمة، ولأدركت السلطات هذا المعنى ولقيّمته على نحو التقرّب من الأئمّة(عليهم السلام) أو تكريمهم، أو على أقلّ تقدير كانت تعدّل من سلوكها وتلين معهم، لكنّ شيئاً من ذلك لم يحصل، ولم يصل إلينا ما يؤكّده، بينما الذي وصل إلينا هو العكس تماماً، حيث العداء المستحكم بين السلطات والأئمّة(عليهم السلام)، والمطاردة والسجون والقتل، فلم يبق إمام معصوم إلّا وهو محبوس في بيته أو في طامورة مظلمة، ولم يمت منهم أحد إلّا مسوماً أو مقتولاً.