الإمام الحسن(عليه السلام)
حينما نتناول حياة الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام) السياسيّة يتمّ التركيز على قضيّة الصلح الذي اُبرم فيما بينه وبين معاوية بن أبي سفيان، وتُثار في هذا الإطار تساؤلات عن الأسباب التي دعت الإمام الحسن(عليه السلام) لمصالحة معاوية، وعن النتائج التي آل إليها الصلح، وعن جدوى المصالحة مع شخص مثل معاوية، وبالتالي يثار السؤال الرئيسي عن المنهج الذي انتهجه الإمام الحسن(عليه السلام) في هذه المسألة، واختلافه عن منهج أبيه وأخيه من بعده(عليهما السلام)؛ إذ كان منهجهما قائماً على الثورة وعدم مهادنة الظالمين.
ويبدو أنّ الكثير من هذه التساؤلات وأمثالها قد انطلقت على خلفيّة تصوّر غير ناضج ومفتقد للعلميّة ومنهج التفسير التأريخي الصحيح، فتصوّر أنّ الأئمّة(عليهم السلام) يمارسون قيادتهم للمجتمع ومواجهة الانحراف بنسق وطريقة واحدة تصوّرٌ خاطئ؛ لسبب بسيط هو: أنّ كلّ إمام منهم يواجه ظروفاً مختلفة تحكم بالضرورة لانتهاج ما يراه مناسباً لظرفه الخاصّ في إطار الهدف الأساسي الذي يسعى لتحقيقه جميع الأئمّة(عليهم السلام)، وبالتالي فإنّ هدف الأئمّة هو هدف واحد، ومنهجهم في العمل السياسيّ والاجتماعي أيضاً واحد، غاية الأمر أنّ منهج هذا الإمام المعصوم قد يظهر بصورة تبدو للوهلة الاُولى مختلفة عن الصورة التي تظهر في منهج الإمام اللاحق أو الآخر،
ومردّ هذا التصوّر الزائف هو استعجال النظرة وفقدانها للرؤية الاستراتيجيّة الكلّيّة لعمل وجهاد جميع الأئمّة(عليهم السلام). فصلح الإمام الحسن(عليه السلام) مع معاوية كان في حقيقة الأمر حرباً على معاوية ولكنّها كانت حرباً باردة؛ لأنّها كشفت زيف معاوية أمام الاُمّة، وأبطلت حججه واُسطورته في أذهان الكثيرين من المغفّلين به، وهذا الكشف حينما يوضع في إطار المعركة الشاملة التي قادها الأئمّة(عليهم السلام) مع الانحراف ومظاهره في المجتمع الإسلاميّ تكتمل الصورة؛ إذ يتناسق الموقف بصيغته اللاحقة مع ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) على يزيد بن معاوية، وهكذا إلى أن يتبلور الموقف النهائي للأئمّة(عليهم السلام) في إحكام الخطّ الإسلاميّ الصحيح في المجتمع، وتحصين وحفظ شيعتهم من الذوبان في الاتجاهات الاُخرى المنحرفة.
تفسير صلح الإمام الحسن(عليه السلام) مع معاوية:
لا بُدّ من تفسير الصلح لمعرفة دواعيه وغاياته والنتائج التي تمخّضت عنه، وفي الحقيقة هناك تفسيران يفسِّران إقدام الإمام(عليه السلام)على إبرام الصلح مع معاوية: أحدهما خاصّ والآخر عامّ:
أمّا التفسير الخاصّ، فهو ما بيّنه اُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره) حول المرض الذي كانت الاُمّة مبتلاة به، وهو مرض الشكّ؛ إذ كانت الاُمّة تشكّ في طبيعة الصراع الذي كان ناشباً بين الإمام الحسن(عليه السلام)ومعاوية، وتتصوّره صراعاً من أجل حيازة السلطة، وليس صراعاً بين الحقّ ممثّلاً بالإمام الحسن(عليه السلام) وبين الباطل ممثّلاً بمعاوية بن
أبي سفيان، وإنّما هو صراع بين سلطانين. ولم يكن أمام الإمام الحسن(عليه السلام) من سبيل لمعالجة هذا المرض إلّا بمصالحة معاوية؛ لأنّ الصلح وحده هو القادر على كشف حقيقة معاوية، وإذا ما كشفت الاُمّة حقيقة معاوية سوف تدرك أنّ حربه على الإمام الحسن(عليه السلام)إنّما هي حرب ظالمة، وأنّ الإمام الحسن(عليه السلام) إنّما يدافع عن الحقّ وعن الرسالة، وليس عن السلطان والجاه والرئاسة، وبالتالي فإنّه سوف يصار إلى تعرية بني اُميّة وكشف زيفهم وبطلانهم، وبهذا يُزال مرض الشكّ الذي كانت الاُمّة مبتلاة به، فلا تشكّ بعدئذ بحقّانيّة الأئمّة(عليهم السلام) في دفاعهم عن الرسالة، ولا تصدّق بشعارات بني اُميّة الكاذبة الزائفة.
وأمّا التفسير العامّ، فهو الذي يفسّر نهوض الأئمّة(عليهم السلام) بالأمر على أساس الأمر الواقع، فالإمام(عليه السلام) لا ينهض بالأمر إلّا عندما تتوافر لديه قوّة ومقدرة تكفي لإنجاح مهمّته وفق المقاييس المعقولة، ولا يشترط في هذه القوّة أن تكون أكبر من قوّة العدوّ من الناحية المادّيّة، بل يكفي أن تكون متوافرة على شروط القوّة المعنويّة التي قد تفوق على القوّة المادّيّة، والإمام الحسن(عليه السلام) لم يحصل على هذه القوّة حتّى بالحدّ الأدنى الذي يمكن أن تستمرّ بواسطته المجابهة، ولهذا اضطرّ إلى إيقاع الصلح مع معاوية.
وهناك نصوص وروايات تؤكّد هذه الحقيقة، حقيقة عدم امتلاك الإمام الحسن(عليه السلام) القوّة التي تمكّنه من الاستمرار في مواجهة معاوية، واضطراره لمصالحته، نختار منها نصّين:
أحدهما: خطاب له(عليه السلام) يخاطب به أصحابه ويبيّن فيه هذه المسألة: «أما والله ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلّة ولا قلّة، ولكن كنّا نقاتلهم بالسلامة والصبر، فشيب السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم تتوجّهون معنا ودينكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم، وكُنّا لكم وكُنتم لنا، وقد صرتم اليوم علينا، ثُمّ أصبحتم تصدّون قتيلين: قتيلاً بصفّين تبكون عليهم، وقتيلاً بالنهروان تطلبون بثأرهم، فأمّا الباكي فخاذل، وأمّا الطالب فثائر، وإنّ معاوية قد دعا إلى أمر ليس فيه عزّ ولا نَصَفَة، فإن أردتم الحياة قبلناه منه وأغضضنا على القذى، وإن أردتم الموت بذلناه في ذات الله وحاكمناه إلى الله، فنادى القوم بأجمعهم بل البقيّة والحياة»(1)!!
والنصّ الآخر رواية مرويّة عن زيد بن وهب الجهنيّ، قال: «لمّا طُعن الحسن بن عليّ(عليه السلام) بالمدائن أتيته وهو متوجّع، فقلت: ما ترى يا ابن رسول الله، فإنّ الناس متحيّرون؟ فقال: أرى والله معاوية خيراً لي من هؤلاء، يزعمون أنّهم لي شيعة، ابتغوا قتلي، وانتهبوا ثقلي، وأخذوا مالي، والله لئن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي وآمن به في أهلي خير من أن يقتلوني، فتضيع أهل بيتي وأهلي، والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتّى يدفعوني إليه سِلماً، فو الله لئن اُسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسيره، أو يمنّ عليّ فتكون سبّة على بني هاشم إلى آخر الدهر ومعاوية لا يزال يمنّ بها وعقبه
(1) البحار 44: 21 ـ 22، الحديث 5.
على الحيِّ منّا والميت»(1).
إنّ هذا النصّ وما قَبله يعطياننا فكرة واضحة عن مدى الصعوبات التي كانت تواجه الإمام الحسن(عليه السلام) والتي لم تترك أمامه خياراً سوى المصالحة مع خصمه اللدود، ليس اضطراراً فحسب، وإنّما دفعاً لخصمه نحو الزاوية الحرجة التي يضيق بها فكره وسلوكه أيضاً، فما لبث معاوية بعد حين إلّا ونقض الصلح وقد تهكّم عليه معلناً عن حقيقته، فكان هذا الأمر كاشفاً عن سياسة معاوية وبطلانه، ومؤكّداً حقّانيّة الإمام(عليه السلام) واستقامته وحكمته، وبذلك انتهى دور الإمام الحسن(عليه السلام) عند هذه المهمّة العظيمة التي مهّد بها السبيل لأخيهالإمام الحسين(عليه السلام).
الإمام الحسين(عليه السلام)
لقد توّج الإمام الحسين(عليه السلام) حياته السياسيّة بصنع حدث كبير هزّ الضمائر، وآل إلى تحولات عظيمة على صعيدَي الفكر والواقع الاجتماعي، فكانت الثورة هي ذلك الحدث الذي انطلق لمواجهة الانحراف الحكومي المتمثّل وقتئذ بيزيد بن معاوية، في وقت كانت الاُمّة قد بلغت حدّاً من النضج جعلها تدرك تلك الأوضاع، وتدرك ضرورة تغييرها، وتتأهّب للمواجهة لإعادة الاُمور إلى مجاريها
الصحيحة التي تعرفها أيضاً، فجاء الإمام الحسين(عليه السلام) لينقل هذا الوعي إلى ذروة المواجهة، وليعلن الثورة على الظالمين، مستعيداً سيرة جدّه رسول الله(صلى الله عليه وآله)، طالباً للإصلاح في اُمّته، ضارباً أروع الأمثلة للتضحية من أجل المبادئ، وبذلك أسّس الإمام الحسين وعياً سياسيّاً جديداً يأبى المصالحة مع الحاكم المنحرف، ويأبى السكوت على انحرافه، أو الركون إليه مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾(1).
آراء المفسّرين:
لقد دارت حول ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) آراء عديدة لتفسيرها ربّما تتناقض فيما بينها ويؤدّي بعضها إلى القول بأقوال غريبة أو غير معقولة، وقد تساهم في تشويه الهدف الذي نهض وثار من أجله الإمام(عليه السلام)، ولهذا سوف نستعرض نماذجَ مهمّةً من هذه الآراء لمناقشتها ونفي الفاسد منها وإثبات الصالح الموافق لطبيعة الثورة وأهدافها وغاياتها:
هناك رأيان أساسيّان يهيمنان على حدث الثورة لاستكناه أسبابها ودواعيها وغاياتها في الواقع الشيعي: الأوّل غير هادف، والثاني هادف، وينقسم الرأي الثاني بدوره إلى قسمين في تحقيق مصداقيّة الهدف من خلال تفاصيل حدث الثورة ونتائجها، وسوف
نستعرض ذلك تباعاً:
أمّا بالنسبة إلى الرأي غير الهادف والذي أنتجه العقل الشيعيّ الجمعيّ لعدد من سواد الناس، والفاقد للدليل والبرهان، فمفاده: أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) إنّما خرج وأعلن ثورته على يزيد بن معاوية لا لشيء إلّا ليُقتَل ويستشهد على أيدي الظالمين من أجل أن يصبح موضوعاً للتأسّي والألم والبكاء من قبل شيعته ومحبّيه، ولكي يكون ذلك سبباً لغفران ذنوبهم وتخليصهم من عقاب الآخرة وإدخالهم الجنّة.
ومن الواضح أنّ هذا التفسير يلغي هدفيّة الإمام الحسين بالشكل الذي يمكن للعاملين الهادفين الاقتداء به، ويجعل ذلك عملاً قائماً على أساس تعبّد بحت خاصٍّ به(عليه السلام)؛ لأنّنا لو كنّا وظاهر ما بأيدينا من نُظُم الشريعة، لقلنا بترتّب الإشكال الشرعي على التضحية التي قام بها الإمام؛ إذ إنّ السبب المذكور آنفاً يفتقد الملاك الشرعي الذي بموجبه يجوز إراقة الدم وتعريض النفس للهلاك.
ويرد على هذا الوجه: أنّ الأهداف التي أعلنها الإمام في خطبه وبياناته صادعة بأنّ للإمام هدفاً رئيسيّاً هو طلب الإصلاح في اُمّة جدّه رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وأنّ الروايات التي وردت تبشّر بالثواب الجزيل لمن يبكي على مصاب الإمام(عليه السلام)، لا يمكن أن يُقبل في تفسيرها أكثر من التأكيد على حصول الثواب، ولا يمكن قبول فرضيّة أنّ الحسين(عليه السلام) قُتل لكي تبكي عليه الشيعة ويوجب ذلك دخولهم الجنّة وغفران ذنوبهم مهما عظُم إجرامهم، فإنّ الاعتقاد
بمثل هذا الرأي يبطل الأهداف التغييريّة التي جاء بها الإسلام وعمل بها الرسول(صلى الله عليه وآله) والأئمّة(عليهم السلام) من بعده، فالتغيير لا يحصل إلّا باتِّباع جميع مقرّرات الشريعة ومن خلال العمل الصالح والإيمان واليقين.
أمّا بالنسبة إلى الرأي الهادف في تفسير ثورة الإمام الحسين(عليه السلام)، فهو الرأي الذي يتحرّك على أساس هدفيّة الإمام الحسين في إعلانه المعارضة على حكم يزيد والثورة عليه والتصدّي للظالمين. وفي دائرة هذا الرأي ثمّة اتجاهان يفسّران عمل الإمام الحسين:
الاتجاه الأوّل: هو الاتجاه الذي يذهب إلى أنّ هدف الإمام الحسين كان إقامة الحكومة الإسلاميّة، ولم يكن هدفه الاستشهاد، وإنّما شاءت الأقدار فاستشهد، فكانت شهادته خسارة عظيمة للإسلام ولم يكن فيها نفع، وقد يكون لهذا الرأي دعاته ومتبنّوه، ولكنّنا نختار نموذجاً واحداً هو صالحي نجف آبادي في كتابه (شهيد جاويد)، وهذا الكتاب فارسي.
الاتجاه الثاني: ـ ويمثّله اُستاذنا الشهيد(قدس سره) ـ أنّ الإمام الحسين(عليه السلام)خرج وهو يقصد الشهادة ويطلبها وكانت هي غايته النهائيّة، وكان الهدف منها هو إحداث هزّة عنيفة في نفوس وضمائر المسلمين، اُولئك الذين كانوا مبتلين بمرض «ضعف الإرادة» كما أسماه السيّد الشهيد(قدس سره)، فالاُمّة آنذاك وفي زمن الإمام الحسين(عليه السلام) بالذات كانت تعرف الحقّ وأهله وتعرف الباطل وأهله، تعرف انحراف يزيد وظلمه وعدم شرعيّته، وتعرف الإمام الحسين(عليه السلام) واستقامته وشرعيّته، ولكنّها كانت ضعيفة الإرادة خائفة لا تقدر أن تترجم
أحاسيسها ووعيها إلى أعمال ومواقف، ولهذا وجد الإمام الحسين(عليه السلام) أنّ أيّ عمل سيصبح عديم الجدوى مع اُمّة تعاني من وطأة هذا المرض الوبيل، وسوف لن يكون بمقدور أيّة حركة تصحيحيّة أن تجني ثمارها الواقعيّة بسبب ركود القاعدة وتصلّبها، كما أنّ استمرار هذا المرض وتفشّيه في الاُمّة سوف يؤدّي إلى موتها، وبالتالي انهيار كيانها وانعدام أيّة فرصة ضئيلة ممكنة لاستنهاضها في المستقبل، ولهذا وجد الإمام الحسين (عليه السلام) أنّ علاج وضع كهذا لن يكون إلّا بإحداث هزّة عنيفة تهزّ وجدان وضمائر الاُمّة وتبعث فيها الحيويّة والإقدام، وأنّ هذه الهزّة العظيمة لا تحدث إلّا بتضحية عظيمة، وقد رأى أن يكون هو(عليه السلام) الضحيّة التي سوف تهزّ الضمائر، ولم يكن أحد في الاُمّة مرشَّحاً لهذه المنزلة سواه، فأقدم على الشهادة، فكانت شهادته منعطفاً بارزاً وقويّاً في وعي الاُمّة وحياتها، وكان أثرها في النفوس عظيماً؛ إذ تحركت الحياة في الضمائر المريضة، وحدثت الانتفاضات والثورات من بعده إلى أن تقوّض حكم بني اُميّة، وظلّ دم الإمام الحسين(عليه السلام) منذ استشهاده وإلى اليوم محرِّكاً للثوار وملهماً لشيعة آل البيت في كلّ حين.
إنّ الكاتب (صالحي نجف آبادي) استدلّ على رأيه بالتصريحات والشعارات التي أطلقها الإمام الحسين كقوله(عليه السلام): «إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي(صلى الله عليه وآله)»(1). وكذلك استدلّ بالرسائل والكتب
(1) البحار 44: 329.
التي بعثها(عليه السلام) إلى أهل البصرة والكوفة والتي حثّهم فيها على نصرته، والتي كانت تعني فيما تعني أنّ الإمام(عليه السلام) عازم على إرساء قواعد حكم إسلامي صحيح بعد القضاء على الانحراف والظلم، هذا من جهة. ومن جهة اُخرى يؤكّد صالحي نجف آبادي على أنّ الوضع الاجتماعي وقتئذ كان يلحّ على الثورة، خصوصاً بعد بيعة أهل الكوفة وغيرهم له ومطالبتهم إيّاه الإسراع بالمجيء إلى العراق، الأمر الذي لم يبقَ أمام الإمام من خيار سوى الاستجابة لنداءات الثورة، وقد استجاب عندما بعث رسوله ابن عمّه مسلم بن عقيل(عليه السلام)لاستطلاع الوضع في الكوفة للتأكّد من مقوّمات النصر، وبعد أن مكث مسلم(عليه السلام) قرابة أربعين يوماً في الكوفة بعث إلى الحسين(عليه السلام): أن أقدم فإنّ هؤلاء جنود مجنّدة لك. وحينما رأى الإمام المؤشّرات الدالّة على النصر جدّ المسير إلى العراق، وحينما وصل مقصده حيل بينه وبين الدخول إلى الكوفة، وعُزل عن أنصاره، فاختلّ ميزان القوّة بينه وبين أعدائه لصالحهم، وحدثت المواجهة غير المتكافئة واستشهد الإمام الحسين(عليه السلام)، فكانت شهادته خسارة كبيرة للإسلام ونكبة عظيمة حلّت بالمسلمين، وإذن فإنّ شهادة الإمام الحسين(عليه السلام)حدثت بسبب اختلال ميزان القوّة بين الإمام وجيش عبيد الله بن زياد، وأنّ الأسباب التي أدّت إلى هذا الاختلال إنّما هي أسباب لم تكن في حسبان الإمام وقد فوجئ بها.
ويتساءل هذا الكاتب ويستفهم ويقول: ما معنى اعتبار قتل الحسين(عليه السلام) انتصاراً للإسلام؟ هل يسبّب قتله هداية الناس أو أنّ
وجوده حيّاً بين الناس هو الذي يؤدّي إلى هدايتهم؟ وهل أدّى مقتل الإمام الحسين(عليه السلام) إلى فضح يزيد بن معاوية وهو المفضوح بشرب الخمر والفجور والفسوق؟ وهل أدّى مقتل الإمام الحسين(عليه السلام) إلى قوّة الشيعة وحركاتهم الثائرة كحركة التوّابين وحركة المختار الثقفي وحركة سليمان بن صُرَد الخزاعي، وهي جميعها قد اُجهضت وقُتل قادتها ولم تحقّق جميعاً أهدافها؟
ثُمّ ينتهي الكاتب المذكور إلى نتيجة أنّ مقتل الإمام الحسين كان خسارة للإسلام ومفسدة للمسلمين، وأنّ الإمام الحسين(عليه السلام) لو كان يعلم ظاهريّاً أنّه سيقتل لما جاز له الخروج، ولكنّه خرج على خلفيّة أمر ثُمّ تبيّن له خلافه، وعندئذ طلب من جيش ابن زياد السماح له بالرجوع، ولكنّهم منعوه وأبوا إلّا أن يفرضوا عليه الحصار لإيصاله إلى النتيجة التي آلت إلى استشهاده مع جميع أصحابه.
أمّا اُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره)، فإنّه كان يرى أنّ الاُمّة كانت مصابة بمرض الشكّ في زمن معاوية بن أبي سفيان، وقد عالجه الإمام الحسن(عليه السلام) بالصلح مع معاوية، أمّا في زمن يزيد، فإنّ الاُمّة برأت من ذلك المرض، وكانت تعرف الحقّ وأهله، وتعرف الباطل وأهله، ولكنّها اُصيبت بمرض آخر هو مرض فقدان الإرادة أو فقدان الضمير، وهذا المرض لم يكن له من علاج لكي تبرأ الاُمّة منه سوى أن يقدم الإمام الحسين (عليه السلام) على التضحية بنفسه وأهل بيته وأصحابه؛ لكي يهزّ بها الضمائر الميّتة ويبعث الشجاعة والإرادة فيها، وهذا ما حدث فعلاً، وحصلت تبعاً لذلك النتائج المتوقّعة.
فشهادة الإمام الحسين(عليه السلام) كانت انتصاراً كبيراً للإسلام وقد حقّقت أهدافاً عظيمة. أمّا ظواهر النصوص التي كانت تصدر عن الحسين (عليه السلام) ممّا يشير إلى أنّ الهدف هو إقامة الحكم الإسلاميّ، فقد وجّهها اُستاذنا الشهيد (قدس سره) بالتوجيه التالي وهو: أنّ الإمام الحسين(عليه السلام)حينما كان هدفه من الشهادة هو هزّ ضمير الاُمّة وشحذ إرادتها، فلا فائدة عندئذ من عنونة عمله بالشهادة فقط؛ لأنّ عنوان الشهادة لا يكفي بمفرده تحقيق ذلك الهدف، وكان ممكناً أن يقال عنه بأنّه ذهب لكي ينتحر، أمّا لو رأت الاُمّة إنساناً مخلصاً للإسلام كالإمام الحسين(عليه السلام) وقد تحرّك نحو هدف إقامة النظام الإسلاميّ الأصلح، ومن أجل كلمة الله، وقد ضحّى بنفسه من أجل هذا الهدف، عندئذ تدرك الاُمّة أنّ السعي للهدف الذي ضحّى من أجله الإمام الحسين(عليه السلام) يعدّ من أقدس الواجبات، ويستحقّ التضحية كما ضحّى له الإمام الحسين(عليه السلام)، ولهذا فالإمام الحسين(عليه السلام) عندما خرج معلناً الثورة على يزيد أعلن عن هدفه ومبرّرات خروجه والغاية التي ينشدها، واتّضح من مجموع خطاباته وأقواله وبياناته أنّه كان يريد تصحيح الأوضاع المنحرفة، وتشييد نظام صالح تقام فيه الشريعة وتصان فيه الحقوق ويحكمه الأخيار المنتجبون.
وحقّاً أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) قد خرج من أجل هذه الأهداف، ولكنّه كان يعلم سابقاً بأنّه لا يستطيع تحقيقها، وأنّه سيُقتل وتُسبى نساؤه ومع ذلك خرج ليؤكّد مبدأ الشهادة من أجل الأهداف الصالحة، وليهزّ بذلك ضمير الاُمّة ويحرك وجدانها وإرادتها، وهذا
ما حصل؛ إذ تحركت الاُمّة على خطى الإمام الشهيد(عليه السلام)، وحصلت الثورات المعروفة في التأريخ.
تقييم الرأيين:
اختلف الرأيان في أغلب النقاط المثارة حول الثورة الحسينيّة إلى الدرجة التي جعلت لكلٍّ من اُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره) والكاتب (صالحي نجف آبادي) أرضيّته التي يقف عليها وينطلق منها، ولم يكن بينهما من قدر مشترك فيما أورداه من آراء سوى مسألة واحدة، وهي اتفاقهما على القول بأنّ الإمام الحسين(عليه السلام) قد عنون معارضته لحكم يزيد وخروجه بالثورة عليه بعنوان طلب الحكم الإسلاميّ: «إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً... وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي(صلى الله عليه وآله)»، بيد أنّ الاختلاف متضمّن أيضاً في توجيه هذا الادّعاء لكلٍّ من الطرفين، فاُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره) يؤكّد أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) إنّما خرج لطلب الشهادة وهو يعلم بأنّه يستشهد، وأنّ إطلاقه عنوان طلب الحكم الإسلاميّ كان مجرّد شعار تعبوي وتغييري، بينما الكاتب (صالحي نجف آبادي) يؤكّد أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) لم يكن يقصد في خروجه طلب الشهادة ولكنّه كان يقصد طلب الحكم الإسلاميّ، بل ولم يكن يعلم ظاهريّاً بأنّه سوف يُستشهد، وإلّا فلماذا أرسل ابن عمّه مسلم بن عقيل(عليه السلام) إلى الكوفة لكي يطلعه على أوضاع الناس ومقدار ولائهم واستعدادهم لمناصرته؟ ولماذا طلب من الحرّ بن يزيد الرياحي حينما كان آمراً
على جيش عبيد الله بن زياد أن يفكّ الحصار عنه ويسمح له بالرجوع من حيث أتى؟ ولماذا كرّر الإمام الحسين(عليه السلام) الطلب يوم عاشوراء؟
ألا يعني ذلك أنّ الإمام لم يكن قاصداً الشهادة وإنّما كان قاصداً الثورة على يزيد وقلب نظام الحكم وتأسيس حكومة إسلاميّة صحيحة برئاسته؟
وفي الحقيقة أنّ هذا الاستدلال الذي أورده هذا الكاتب سرعان ما يبطل وينهار؛ للسبب الذي ذكره اُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره)، وهو: أنّ طرح عنوان الشهادة بمفرده لا يهزّ الضمائر، ولا يؤثّر في النفوس، ولا يؤدّي الأغراض التي استهدف الإمام(عليه السلام) تحقيقها، وعندئذ يكون من الطبيعيّ أن يرسل رسوله إلى الكوفة مسلم بن عقيل(عليه السلام)لكي يستطلع الاُمور له، ومن الطبيعيّ أيضاً أن يطالب الحرّ بن يزيد الرياحي حينما كان آمراً لجيش ابن سعد بفكّ الحصار عنه، أو يطالب أهل الكوفة المعسكرين حوله بالسماح له بالعودة؛ لأنّ غرض الإمام المعلن إنّما هو إقامة الحكومة العادلة وكان هذا شعار ثورته.
إنّ رأي صالحي نجف آبادي السالف الذكر وإن كان خيراً من الفكرة اللاواعية المتعارفة لدى بعض الناس والتي مفادها أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) ما خرج إلّا لكي يقتل، ولكي يكون مقتله مصاباً يستثير شيعته ويُبكيهم، وبالتالي يكون بكاؤهم عليه شفيعهم يوم القيامة وماحياً ذنوبهم ومُدخلهم الجنّة، ولكنّه لا يصلح رأيه أبداً للمقاومة
في مقابل رأي اُستاذنا الشهيد(قدس سره) على ما يتّضح من تقييم المفردات التي اختلفا عليها، فما ذكرناه الآن إنّما كان في دائرة الرأي الذي اتفقا عليه جزئيّاً.
أمّا الآراء التي اختلفا فيها بشكل كامل، فهي:
أوّلاً: أنّ الكاتب ( صالحي نجف آبادي ) يرى أنّ شهادة الإمام الحسين(عليه السلام) ألحقت خسارة كبيرة بالإسلام ولم تكن في صالحه أبداً؛ إذ إنّ مصلحة الإسلام تقتضي أن يبقى الإمام الحسين(عليه السلام) حيّاً وأن يمارس عمله في قيادة الاُمّة وهدايتها لا أن يموت ويُقتل.
وفي المقابل يرى اُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره) أنّ شهادة الإمام الحسين(عليه السلام) قد أحيت الإسلام، وكانت شجرة الإسلام بحاجة إلى أن تروى بدم كدم الحسين(عليه السلام) وقد اُرويت بهذا الدم المبارك.
ثانياً: أنّ الكاتب ( صالحي نجف آبادي ) يؤكّد أنّ الإمام لم يكن يعلم بأنّه سوف يستشهد، بل كان يتراءى له أنّه سوف ينتصر ويُقيم الدولة الإسلاميّة، وفي مقابل ذلك يؤكّد اُستاذنا الشهيد أنّ الإمام(عليه السلام)كان يعلم بأنّه سوف يستشهد وقد أقام عمله على أساس ذلك.
ثالثاً: أنّ الكاتب ( صالحي نجف آبادي ) يعتقد أنّ خسارة الإمام الحسين(عليه السلام) للمعركة ظاهريّاً لم تكن قابلةً للرصد والتخمين للإنسان الاعتيادي منذ البدء، وإنّما حصلت نتيجة توارد اُمور وعقبات صادفت حركة الثورة، فأعاقتها وأخلّت بميزان القوّة لصالح جيش ابن سعد، الأمر الذي أدّى إلى استشهاد الإمام وأهل بيته وأصحابه.
وفي مقابل ذلك يرى اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) أنّ الاُمور منذ بدء حركة
الإمام(عليه السلام) لم تكن في صالح الانتصار الظاهريّ، ولم تكن تجري بالشكل الذي يكون في صالح إقامة الحكم الإسلاميّ. وبعبارة اُخرى: إ نّ الإمام(عليه السلام) كان يعلم حتّى بالحساب الظاهريّ لدى كلّ إنسان خبير بأنّه سيكون مغلوباً ومقتولاً، واُستاذنا الشهيد(قدس سره) يؤكّد أنّ هذه النتيجة هي في صالح الإسلام بحدّ ذاتها.
هذه هي النقاط الثلاث الخلافيّة بين وجهتَي نظر السيّد الشهيد(قدس سره)والكاتب (صالحي نجف آبادي). ولدى مناقشتنا لهذه الآراء نكتشف أنّ آراء الكاتب المذكور لا تصمد أمام الدليل ويبطل تأثيرها، فيما تكون آراء اُستاذنا(قدس سره) حائزة على أكبر قدر من المصداقيّة؛ لتماسّها مع الواقع وكشفها عنه.
فأمّا ما يتعلّق بالنقطة الاُولى، فقد استدلّ الكاتب المذكور على الرأي الذي طرحه في خصوص مسألة شهادة الإمام الحسين(عليه السلام) من أنّها كانت خسارة كبيرة للإسلام، بدليلين:
الدليل الأوّل: ما هو مدى انتفاع الإسلام من شهادة الإمام الحسين(عليه السلام)؟ وماذا تقتضي المقارنة بين أن يكون الإمام(عليه السلام) حيّاً بين الناس يهديهم إلى الإسلام ويعلّمهم أحكام الدين ويقودهم، وبين أن يكون ميّتاً لا يفعل شيئاً من ذلك؟ واستنتج أنّ مصلحة الاُمّة والرسالة ليست في موت الإمام وإنّما هي في بقاء الإمام حيّاً لكي ينتفع الإسلام به.
الدليل الثاني: ما هو مدى تأثير استشهاد الإمام(عليه السلام) على الحكم الاُموي وعلى الفتوحات التي حصلت بعد استشهاده، كفتح بخارى
وسمرقند وأندونيسيا؟ لاشكّ في أنّ الحكم الاُموي كان قويّاً قبل شهادة الإمام الحسين(عليه السلام)، وظلّ قويّاً بعده، والدليل على ذلك هو قيامهم بالفتوحات المذكورة مباشرة بعد استشهاد الإمام، كما أنّ شهادة الإمام(عليه السلام) لم تزد في فضيحة بني اُميّة؛ إذ كانوا مفضوحين لدى الاُمّة من قبل، وقد سبق القول من معاوية لأهل العراق: «ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا... ولكنّي قاتلتكم لأتأمَّرَ عليكم»(1)!
بل على العكس، فبنو اُميّة تمكّنوا من توطيد حكمهم بقتلهم الإمام الحسين(عليه السلام) لتخلّصهم من قوّة معارضة كبيرة.
إنّ الكاتب ( صالحي نجف آبادي ) لم يقرّ بنتيجة إيجابيّة أسفرت عن شهادة الإمام سوى قوله بحصول فوائد جانبيّة، منها: تحوّل شهادة الإمام الحسين إلى مدرسة سيّارة عمّقت حبّ الحسين(عليه السلام) في قلوب محبّيه، وألهمتهم دروس التضحية والفداء، وعلّمتهم أحكام وأخلاق دينهم نتيجة مظلوميّته وتضحيته العظيمة في سبيل الإسلام.
إنّ الجواب عن هذه الاستدلالات يكمن في الرأي الذي طرحه اُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره) والذي سبق ذكره من أنّ ثمّة فائدة عظيمة ترتّبت على شهادة الإمام الحسين، ألا وهي علاجه للمرض الذي كانت الاُمّة مبتلاةً به، وهو مرض فقدان الإرادة أو فقدان الضمير؛ إذ كانت الاُمّة بحاجة إلى علاج جذري لإعادة إرادتها وثقتها بنفسها إليها، ولكي لا تستسلم أكثر لمؤامرات حكّام بني اُميّة، فجاءت شهادة الإمام الحسين(عليه السلام) كعلاج للاُمّة من هذا المرض الوبيل، وفعلاً بعد شهادة الإمام استعادت الاُمّة ثقتها بنفسها، ونهضت معلنة صرخة
(1) البحار 44: 49.
الرفض لكلّ أشكال الحكم المنحرف، وحدثت ثورة التوّابين، وثورة المختار الثقفي، وثورة زيد بن عليّ وغيرها من الثورات، وكانت تعبّر هذه الثورات برغم انتكاستها عن مدى التأثير الذي أحدثته شهادة الإمام الحسين(عليه السلام) في نفوس أبناء الاُمّة، وكانت تدلّل في الوقت نفسه على دخول الاُمّة في عهد جديد من أبرز ملامحه: المعارضة والثورة والعصيان، وهذا ما لم يحدث من قبل شهادة الإمام، كما أنّ ثمّة تأثيرات واستجابات حصلت لدى حكّام بني اُميّة نتيجة تصاعد هذه الروح، منها: استجابة الحاكم الاُموي عمر بن عبد العزيز وإصداره الأوامر برفع سبّ أمير المؤمنين من على منابر المسلمين، وكذلك الضعف الذي دبّ في أوصال حكم بني اُمّية، والذي أدّى تدريجيّاً إلى تقويضهم نهائيّاً.
أمّا ما ورد في ثنايا رأي الكاتب المذكور من أنّ علامة قوّة بني اُميّة بعد استشهاد الإمام الحسين(عليه السلام) قد تمثّلت بالفتوحات الإسلاميّة في بخارى وسمرقند وأندونيسيا، فإنّ هذا الادّعاء غير صالح البتة؛ وذلك لأنّ فتح هذه البلدان وإن كان صحيحاً قد حصل في زمن حكم بني اُميّة، لكنّه لا يدلّ بحال على قوّة بني اُميّة، وإنّما يدلّ على قوّة الإسلام في نفوس المسلمين، وأنّ مسألة فتح البلدان تعدّ من الاُمور التي يتّفق عليها جميع المسلمين حتّى المعارضين لحكم بني اُميّة؛ لأنّه يدخل في إطار محاربة الكفّار ونصرة الإسلام وتوسيع رقعة الحقّ، حتّى أنّ بعض حكّام بني اُميّة كان ينال الدعم من قبل بعض أئمّتنا(عليهم السلام) في مقابل الحكومات الكافرة بالتخطيط لصالح
الإسلام وضدّ الحكم الكافر، فهل يعدّ هذا قوّةً لبني اُميّة، أو دليلاً على قوّتهم، أو لا بل يدلّ على قوّة الإسلام في نفوسهم.
وأمّا ما يتعلّق بالنقطة الثانية، فإنّ الجواب عمّا ذكره الكاتب المذكور ـ من أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) لم يكن يعلم بأنّه سوف يقتل، بل كان يعمل لتحقيق الانتصار وإقامة الحكم الإسلاميّ، وكانت الأمارات دالّة على إمكانيّة تحقّق ذلك ـ يكمن في الجواب عن السؤال التالي: لماذا لم يتجنّب الإمام الحسين(عليه السلام) الشهادة ـ لما يترتّب عليها من مضرّة كما زعم هذا الكاتب ـ بعد أن تغيّرت أمارات الانتصار واختلّ ميزان القوّة لصالح عدوّه؟ ألم يكن مقتضى العمل بعلم الظاهر المكلّف به الأئمّة(عليهم السلام) هو أن يغيّر الإمام قناعاته بإمكانيّة الانتصار ويتجنّب القتل، وكان ظاهر الاُمور أنّ اُناساً طلبوا منه أن يأتي إلى العراق بعد أن بايعوه على النصرة ومجاهدة الظالمين، وبذلك تمّت الحجّة عليه بالمجيء إلى العراق، وقد جاء فعلاً، ولكن تبيّن له فيما بعد أنّ الاُمور قد تغيّرت، وأنّ الناس قد تبدّل موقفهم منه تحت تأثير سياسة ابن زياد القائمة على الترهيب والترغيب، فلماذا لم يتجنّب المواجهة التي فيها قتله وقتل أهل بيته وأصحابه وسبي نسائه بعد أن تغيّر ظاهر الأمر؟
إنّ الحقيقة قاطعة على أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) كان يعلم بأنّه سوف يقتل وتُسبى نساؤه، وغير مرّة كان قد صارح أصحابه بعاقبة القتل والشهادة، وقد خيّرهم بالانصراف عنه أو البقاء معه واستقبال هذه النتيجة، وعلى هذا الأساس استمرّ بالمسير إلى العراق برغم علمه
بمقتل رسوله إلى الكوفة ابن عمّه مسلم بن عقيل(عليه السلام)، وتغيّر الأوضاع في الكوفة، ألا يدلّ هذا على أنّ الإمام كان يعلم بمصيره وكان يطلبه وقد سعى إليه حثيثاً، إلى أن نال مرتبة الشهادة العظيمة، فكان دمه الطاهر ثورةً للأجيال منذ استشهاده وإلى ظهور ولده الحجّة عجّل الله فرجه.
وأمّا ما يتعلّق بنقطة الخلاف الثالثة، فقد استدلّ الكاتب المذكور ـ على اعتقاده بأ نّ ثمّة اُموراً استجدّت ولم يكن للإمام علم سابق بها، أعاقت حركة الثورة وأخلّت بميزان القوّة لصالح ابن زياد، فسبّبت خسارة المعركة ظاهريّاً للإمام ـ بذكر سببين:
الأوّل: ادّعاؤه بأنّ عبيد الله بن زياد أجبر مسلم بن عقيل(عليه السلام) على تزعّم الثورة عندما جابهه بالسيف في الوقت الذي لم يكن مسلم بن عقيل(عليه السلام) مكلّفاً بتزعّم الثورة والتخطيط لها، وإنّما كانت مهمّته ـ حصراً ـ هي استطلاع الأوضاع في الكوفة وإبلاغ الإمام بالنتائج التي يصل إليها ويشاهدها، لكن هذا التزعّم المفاجئ للثورة من قبل مسلم بن عقيل أدّى إلى تفجير الثورة قبل أوانها، وكان ذلك سبباً لفشلها وتحمّل الإمام الحسين(عليه السلام) عبء هذا الفشل!
الثاني: قيام جيش الحرّ بن يزيد الرياحي بمنع الإمام الحسين من الدخول إلى الكوفة والحيلولة دون تزعّمه الثورة، الأمر الذي أدّى إلى حصول انفصال بين القائد والقاعدة الجماهيريّة، فتبدّلت عندئذ مقاييس القوّة والنصر لصالح عبيد الله بن زياد.
وهذا الأمر أيضاً لم يكن في حسبان الإمام الحسين(عليه السلام).
والجواب عن هذين السببين هو: أنّنا وإن كنّا نعتبر الواقعتين
اللتين ذكرهما الكاتب آنفاً صحيحتين، إلّا أنّنا نخالفه بادّعاء أنّهما حدثتا على حين غرّة وقد فوجئ الإمام بهما؛ إذ إنّ من أوّليّات قيادة الثورات توقّع القائد إمكانيّة اندلاع الثورة قبل أوانها أو قبل ساعة الصفر التي تقرّرت لها، وهذا احتمال وارد بنسبة كبيرة؛ لأنّ السلطات غالباً ما تحرص على مواجهة الثورات مبكّراً لجرّها للمواجهة قبل اكتمال شروطها، وهذا ما يدعونا للاعتقاد بأنّ ما حدث لمسلم بن عقيل(عليه السلام) في الكوفة لم يكن صدفة وأمراً غير متوقّع، فالكوفة كانت تحت سلطان بني اُميّة، والإمام يعلم بذلك، وكان يتوقّع حدوث المواجهة بين السلطات وبين رسوله، ولهذا ما انفكّ الإمام يتابع أخبار ابن عمّه ويستبين اُموره إلى أن بلغه خبر قتله ـ في منطقة الثعلبيّة في طريقه إلى العراق ـ وانفضاض الناس من حوله، فحزن لذلك حزناً كبيراً، وواصل مسيره معتبراً أنّ ما حدث لم يكن صدفة وإنّما هو أمر متوقّع. وقد سأله بعض أصحابه عن موقفه بعد علمه بمقتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وفيما إذا كان ينوي الرجوع إلى مكّة أو الاستمرار بالمسير إلى العراق، فأجابهم الإمام بالاستمرار بالمسير إلى نهاية المطاف. وحتّى عندما بلغه خبر مقتل رسوله الثاني إلى الكوفة بعد مسلم بن عقيل (قيس بن مسهّر الصيداوي) أو (عبد الله بن يقطر) على اختلاف في التأريخ، لم يثنه هذا الحادث أو يضعف في عزيمته، وواصل مسيره إلى العراق بالبقيّة المخلصة من أصحابه بعد انفضاض نفر قليل عنه وإجازته ذلك لهم.
إنّ هاتين الحادثتين، بالإضافة إلى حادثة منعه من دخول الكوفة
بعد أن أحال جيش الحرّ بن يزيد الرياحي بينه وبينها ـ وقد شبّه الكاتب المذكور هذه الأخيرة بحادث رفع المصاحف في معركة صفّين الذي وقع صدفة ـ إنّما تدلّ على عزيمة الإمام وإصراره على بلوغ هدفه النهائي وهو الشهادة، وكذلك تدلّ على وضوح رؤية الإمام للمواجهة والتحدّيات والمصاعب. وقد أمكنه من تجاوزها جميعاً وعدم الاكتراث بها إلّا بمقدار ما أبداه من عواطف تجاه المحن التي لاقته.
وتجدر الإشارة إلى أنّ ثمّة خطأ آخر وقع فيه هذا الكاتب عندما صوّر حادثة منع الإمام من الدخول إلى الكوفة بأنّها مصادفة بحت وتشبه إلى حدٍّ بعيد حادثة رفع المصاحف التي صادفت الإمام عليّ(عليه السلام) في معركة صفّين؛ إذ إنّ حادثة منع الإمام من الورود إلى الكوفة لا تشبه بأيّ حال من الأحوال حادثة رفع المصاحف؛ لأنّ الحادثة الاُولى هي من سنخ الحوادث المتوقّعة الواردة في احتمالات المواجهة بين قوّة معارضة وبين سلطة تخشى من امتدادات التأثير في أوساط المجتمع والقواعد الشعبيّة، فيما تعتبر حادثة رفع المصاحف من الحوادث غير المتوقّعة في تأريخ الثورات والأحداث السياسيّة، وبالخصوص في التأريخ الإسلاميّ؛ لعدم وجود سابق لها في الإسلام، ولهذا فلا تشابه بين الحادثتين وبين حكميهما.
وفي النتيجة النهائيّة يتبيّن أنّ الكاتب المذكور كان مخطئاً في جميع آرائه التي سبقت الإشارة إليها والمتعلّقة بالثورة الحسينيّة.
فيما تعتبر آراء اُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره) هي الصحيحة في تحليل الثورة الحسينيّة، والهدف الذي كانت تتوخّاه، والغاية التي ضحّى الإمام السبط من أجلها. وكانت هذه الغاية هي الدالّة الكبيرة على حكمة القائد وهدفيّته في سبيل إعادة الاُمّة إلى سابق عهدها وشجاعتها وأصالتها بعد أن غزا عقلها وروحها المرض نتيجة المؤامرات الكبيرة التي تعرّضت لها من قبل السلطات المنحرفة التي تسلّمت زمام التجربة الإسلاميّة بعد رحيل رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فكانت شهادة الإمام الحسين(عليه السلام) علاجاً ناجعاً في تخليص الاُمّة من مرض فقدان الإرادة وموت الضمير؛ إذ هبّت الاُمّة بعد حين تقارع الظالمين، وتنادي بتحكيم الإسلام المحمّدي، وظلّت هذه الروح سارية إلى يومنا هذا، وستبقى إلى أن يظهر المصلح من آل البيت(عليهم السلام)الإمام الحجّة عجّل الله فرجه.
الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)
على الرغم من أنّ الإمام عليّ بن الحسين(عليهما السلام) كان في زمن تصدّيه للإمامة غير مبسوط اليد إلّا أنّه نال منزلة رفيعة في نفوس أبناء الاُمّة لم ينلها أحد سواه في زمانه، وقصّة هشام بن عبد الملك معروفة عندما أقدم إلى مكّة ليحجّ وأراد أن يطوف بالكعبة ومن ثَمّ يستلم الحجر الأسود فلم يتمكّن من ذلك بسبب شدّة الزحام، ولكن عندما أقدم الإمام زين العابدين(عليه السلام) انشقّ الناس له سماطين،
وتمكّن من الوصول إلى الحجر الأسود بسهولة ومن غير حرج، الأمر الذي جعل هشام بن عبد الملك يتعجّب ويسأل عن هذا الذي انفرج الناس له محاولاً تجاهل الإمام، فعُرّف به وسكت.
إنّ هذه الواقعة وعشرات أمثالها تشير وتؤكّد مدى احترام الناس للإمام في الوقت الذي تزدري السلطان وتحتقره.
إنّ احترام الناس للإمام زين العابدين(عليه السلام) إنّما جاء نتيجة المعرفة الحقيقيّة بمنزلة الإمام ودوره الديني والاجتماعي، وبعبارة اُخرى: إنّ نمط قيادة الإمام للمجتمع هو الذي أدّى إلى حصول هذا التأثير الكبير في نفوس أبناء الاُمّة على الرغم من أنّه لم يكن مبسوط اليد وكان معزولاً من قبل السلطة الظالمة ومحارباً منها، وعلى الرغم من أنّ الاُمّة كانت تعاني من قسوة وتهوّر حكّام بني اُميّة من أمثال يزيد بن معاوية ـ الذي هدم الكعبة واستباح المدينة ثلاثة أيّام وعمل المنكرات ـ لكن ذلك لم يثنِ الإمام عن ممارسة دوره القيادي والاجتماعي، كما لم يثنِ الاُمّة من الانشداد للإمام(عليه السلام) والانقياد له.
لقد تميّز الدور القيادي للإمام(عليه السلام) بالعمل على تحقيق ثلاث مهمّات في آن واحد:
الاُولى: الاستمرار في سياسة فضح سلطة بني اُميّة والتعريف بحقيقتها.
الثانية: إعداد الاُمّة فكريّاً ونفسيّاً لتحمّل المسؤوليّات.
الثالثة: دعم ومساندة الحركات الثوريّة الشيعيّة.
أمّا الأساليب التي اتّبعها الإمام في تنفيذه لهذه المهمّات الثلاث، فهي:
أ ـ الاُسلوب العاطفي غير المباشر لفضح سلطة بني اُميّة:
ذلك من خلال إظهارالإمام(عليه السلام) الحزن العميق والبكاء على مصيبة أبيه الإمام الحسين(عليه السلام)، واستغلال الفرص والمناسبات لاستنفار عواطف الناس وأحاسيسها باتجاه الانشداد والولاء لآل البيت(عليهم السلام)، وكان هذا العمل يعني بشكل غير مباشر فضح الظالمين، ظالمي أئمّة آل البيت(عليهم السلام)، وبالخصوص حكّام بني اُميّة، وللمثال نذكر هذه الواقعة المشهورة: عندما رأى الإمام ذات يوم قصّاباً يهمّ بذبح كبش له، فاقترب الإمام من القصّاب وسأله: يا هذا هل سقيت الكبش ماءً قبل أن تذبحه؟ فأجابه القصّاب: نعم، نحن معاشر القصّابين لا نذبح الحيوان حتّى نسقيه ماءً. وهنا بكى الإمام وأخذ ينتحب ويندب أباه الإمام الحسين(عليه السلام)، وأخذ يعرّف بمصيبته؛ إذ قتل عطشاناً.
إنّ حادثةً مثل هذه تكشف عن دقّة الاُسلوب الذي اتّبعه الإمام(عليه السلام) للتأثير في نفوس الناس وعواطفهم ولشحذ هممهم ضدّ السلطات الكافرة.
ب ـ اُسلوب العبادات والأدعية للتأثير في الاُمّة نفسيّاً وفكريّاً:
لقد تميّز الإمام بكثرة الدعاء والصلاة وطول القنوت، واشتهر بالصحيفة السجاديّة، وهي مجموعة الأدعية التي كان يدعو بها والتي تحتوي على تراث غنيٍّ من المفاهيم التربويّة والأخلاقيّة ذات البعد التغييري.