المسألة السادسة:
المسألة السادسة: لو علم المولّى عليه بخطأ الولي في حكمه فهل تجوز له المخالفة في ذلك، أو يجب عليه الاتباع رغم قطعه بخطأ الوليّ؟
الحكم الولائي والحكم الكاشف:
الصحيح هو التفصيل بين قسمين من الأحكام الصادرة من الوليّ الفقيه، وهما: الحكم الولائي، والحكم الكاشف، فيجب اتباعه حتى مع العلم بالخطأ في القسم الأوّل دون القسم الثاني.
وهذا التقسيم منشؤه هو اختلاف ما يقصده الحاكم بالحكم، فقد يرى الحاكم أنّ هناك حقيقة ثابتة قبل إعماله هو للولاية، ولا يقصد من إعماله للولاية عدا تنجيز تلك الحقيقة على الناس كي يعمل بها أولئك الذين لم تصلهم تلك الحقيقة، فلولا إعمال الحاكم للولاية لما عملوا بها، مثال ذلك: الحكم بالهلال، فالولي يعتقد مثلا ثبوت الهلال ووجوب الصوم أو وجوب الإفطار ويحكم بذلك،ولا يقصد بحكمه هذا إنشاء تكليف واقعي على الأُمّة، بل ينظر إلى نفسالحكم الواقعي ويقصد إيصاله أو إيصال موضوعه إلى الأُمّة بهدف تنجيز نفسذاك الحكم الواقعي عليهم ورفع عذر الجهل عنهم، فهذا في الحقيقة حاله حال
كلّ حكم ظاهري ينظر إلى الواقع، وتكون حجيته مغيّاة بالشكّ كما هو الحال في كلّ حكم ظاهري، فمع القطع بالخطأ لا مورد لاتّباعه.
وقد يقصد الحاكم إنشاء تكليف واقعي على المجتمع لا خصوص تنجيز الواقع، وذلك لأحد أمرين:
الأوّل: أن يفترض أنّه لا واقع يهدف تنجيزه، مثاله: ما لو رأى الحاكم ضرورة تحديد الأسعار فحكم بذلك، فالمقصود بهذا الحكم ليس هو تنجيز حكم واقعي على الأُمّة؛ لأنّ الالتزام بسعر محدّد ليس بحسب الحكم الأوّلي واجباً حيث إنه حتى لو كان فيه ملاك الإلزام أحياناً لم يكن بالإمكان تحصيل هذا الملاك أو لم يكن بالإمكان إيصاله إلى الناس من قبل الشريعة بنحو لا يزاحم مصلحة عدم الإلزام الثابتة أحياناً أُخرى إلاّ عن طريق إعطاء زمام الإلزام بيد الوليّ.
وقد يفرض: أنّ الملاك ليس في متعلّق الحكم مباشرة، بل هو في توحيد موقف الأُمّة، فالولي يحكم بتعيين موقف معيّن، لا لكونه أفضل من موقف آخر كي يفترض وجود ملاك إلزامي فيه يوجبه شرعاً قبل حكم الوليّ، بل لتوحيد موقف كلّ أفراد الأُمّة الذي لم يكن يمكن أن يتحقق إلاّ بتعيين أحد الموقفين لهم ولو من دون ترجيح.
الثاني: أن يفترض أن الحاكم يرى حكماً واقعياً إلزامياً، لكن هدفه من إعمال الولاية ليس مجرّد تنجيز ذلك الحكم بل يهدف إنشاء حكم واقعي على الأُمّة كي يتنجز حتى على من لا يمكن تنجيز الحكم الأوّلي عليه لقطعه بالخلاف، مثاله: ما لو حكم الوليّ بالجهاد معتقداً أنّ الجهاد اليوم مشتمل على ملاك إلزامي، فهو واجب واقعاً، ولكنه لا يقصد بحكمه بالجهاد مجرّد تنجيز الواقع؛ لأنّه لو قصد ذلك
لكان نفوذه على الشاكّين في هذا الواقع فحسب دون القاطعين بالخلاف، وتقاعس القاطعين بالخلاف عن الجهاد يؤثّر لا محالة في درجة احتمال نجاح الحرب في تحقيق أهدافها أو يؤثر في درجة النجاح، بل يقصد بحكمه إنشاء حكم واقعي فينفذ ذلك حتى لدى القاطع بالخلاف؛ لأن هذا القطع بالخلاف ليس بمعنى القطع بمخالفة حكم الحاكم للواقع؛ إذ لم يؤخذ هذا الحكم مجرّد طريق إلى الواقع، بل كان هو الواقع.
وبكلمة أُخرى: لم يكن هذا الحكم حكماً ظاهرياً كي يمكن افتراض إمكان الخطأ فيه، بل كان حكماً واقعياً على أساس إعمال الولاية، وإنّما معنى القطع بالخلاف هنا أنّ الشخص قطع بأن الحاكم أخطأ في الملاك الذي تخيّله، أي أن حكمه بالجهاد مثلا كان على أساس اعتقاده بمصلحة في الجهاد في حين أنه يرى هذا الشخص أن الحاكم أخطأ في تقديره للمصلحة، وهذا النمط من القطع بالخلاف لا يضرّ بحجية حكم الولي، فإنّ معنى ولاية الوليّ الثابتة بنصّ أو التي تكون بنفسها من الأُمور الحسبية هو تقدّم رؤيته على رؤية المولّى عليه، ولم يكن الحكم ظاهرياً كي يقال: إنه مغيّاً بالقطع بالخلاف، وأنه يعقل فيه الخلاف بمعنى مخالفة الواقع.
إن قلت: إنّ تقسيم حكم الحاكم إلى حكم كاشف يسقط عن الحجّيّة بالعلم بالخلاف، وحكم ولائيّ لا يسقط عن الحجّيّة بالعلم بالخلاف غير صحيح؛لأنّ دليل الولاية فيهما واحد، وهو إمّا أن يدلّ على حكم ظاهري، أي يجعل حكم الوليّ حجّة ظاهريّة من قبيل الأمارات أو الأُصول، أو يدلّ على أنّ متابعة الولي واجبة وجوباً واقعيّاً، ولا يمكن افتراض دلالته في أحد القسمين على حكم
ظاهري، وفي الآخر على حكم واقعي؛ لأنّ دليل الولاية إن كان لفظيّاً فافتراض دلالته على هذين الأمرين يكون من سنخ استعمال اللفظ في معنيين، وإن كان عقليّاً فمن أين حكم العقل تارةً بالحكم الواقعي وأُخرى بالحكم الظاهري؟!
قلت: ليس الاختلاف في دلالة دليل الولاية سواء كان لفظيّاً أو عقليّاً وإنّما الدليل دلّ على نفوذ حكم الوليّ بمقدار ما له من قابليّة النفوذ، وإنما الاختلاف في نفس حكم الوليّ، فتارةً يقصد الوليّ تنجيز الواقع، أي أنّه يخلق حكماً ظاهريّاً، وأُخرى يقصد خلق الواقع بالشرح الذي عرفته، وكلّ منهما ينفذ بقدر ما يناسبه من النفوذ، ومن الطبيعي أنّ الأوّل لا يكون نافذاً إلاّ على من يحتمل موافقته للواقع، وأنّ الثاني يكون نافذاً على الكلّ؛ إذ لا يوجد واقع تُتوقّع موافقة حكم الحاكم أو مخالفته له، والحكم الذي صدر منه هو الواقع الذي يجب اتباعه،ولو كان الحكم الأولي هو الجواز فقد تبدلّ الجواز بسبب حكم الحاكم إلى الوجوب أو الحرمة.
حالة العلم بالحرمة:
نعم لو اعتقد الشخص أنّ حكم الوليّ إلزامٌ بأمر محرّم، كما لو اعتقد أنّ الجهاد حرام عليه؛ لأنّ الحرب فعلا حرب يائسة مثلا، وأنّ الدماء التي تراق تراق بلا فائدة، وأنّ حكم الوليّ لم يوجب تبدّل موضوع الحرمة عليه بافتراض أنّ المفاسد ستقع على أيّ حال سواء اتبعه هذا الشخص المعتقد بالحرمة أو لا؛ لأنّ الآخرين سيتّبعونه، واتباع هذا الشخص سوف لن يزيد في المفسدة، بل لعلّ مخالفته تزيد في المفسدة على أساس كونه سبباً لاختلاف الكلمة.
أقول: لو اعتقد الشخص الحرمة حتى بعد لحاظ صدور الحكم لم ينفذ عليه الحكم؛ لأنّ نفوذ حكم الوليّ إنّما هو في دائرة حفظ الأحكام الإلزاميّة للشريعة، فمن اعتقد بخروج حكم الوليّ عن هذه الدائرة لم يجز له اتباعه.
بقي هنا أمران لا بأس بالتنبيه عليهما:
حالة العلم بخطأ المستند:
الأمر الأوّل: قد عرفت أنّ الحكم الكاشف حكم ظاهريّ يسقط عن الحجّية لدى العلم بالخلاف، ويقع الكلام هنا في ما لو فرض أنّ الحكم الكاشف لم يعلم بمخالفته للواقع، ولكنه علم بخطأ مستنده فهل يكون نافذاً أو لا؟ مثاله ما لو حكم الحاكم بالهلال، ولم يعلم المكلّف بالخلاف ـ أي لم يعلم بعدم الهلال ـ لكنّه علم بخطأ مستند الحاكم ـ أي علم أنّ الحاكم اعتمد خطأً على بينة غير عادلة مثلا ـ فهل ينفذ الحكم هنا كما كان يقول بذلك أُستاذنا الشهيد (قدس سره)، أو لا؟ يمكن تقريب نفوذه ببيان أنّ نفوذ حكم الحاكم لم يكن على أساس الأمارية بنظر المولّى عليه كي يقال بسقوطه لدى انتفاء كاشفيّته بنظر المولّى عليه، بل كان على أساس الولاية غاية ما هناك أن الحكم لمّا كان ظاهرياً لم يمكن نفوذه مع العلم بالخلاف، والمفروض هنا عدم العلم بالخلاف، فلا مانع من نفوذه.
ولكن بالإمكان أن يقال بعدم النفوذ ببيان: أنّ الوليّ إذا كان لا ينظر إلاّ إلى تنفيذ الواقع وحفظه، فهو لا يريد حفظ الواقع بأكثر مما يحفظه حافظه ـ وهو المدرك الذي اعتمد عليه ـ فمع علم المكلف بخطأ ذاك المدرك لا مبرّر لنفوذ الحكم عليه.
وبكلمة أُخرى: كأنّ حكم الحاكم لم يكن طريقاً بالمباشرة إلى الهلال بل كان طريقاً إلى البيّنة العادلة التي هي طريق إلى الهلال، وقد انكشف لنا خطأ ذاك الطريق ومخالفته للواقع، فلا يثبت به الطريق إلى الهلال.
حالة العلم بخطأ القاضي:
الأمر الثاني: أنّ حكم القاضي في المرافعات يكون عادة بروح الحكم الكاشف، أي أنّ القاضي يريد تطبيق الحق ولا يريد إنشاء الحقّ وإيجاده، ولذا لو كان يعلم أحد المترافعين أنّه هو الظالم، ولكن تمّت المقاييس الظاهرية لدى القاضي بنحو حكم لصالح ذاك الظالم لم تجز له الاستفادة من حكم القاضي لصالح نفسه، بل يجب عليه إرجاع الحقّ إلى صاحبه، ولكن رغم أنّ هذا الحكم حكم كاشف لا حكم ولائي لا إشكال في نفوذه على المحكوم عليه ولو كان يقطع المحكوم عليه بأنه هو المظلوم، وأنّ هذا الحاكم لم يصب الواقع، والسرّ في ذلك هو أنّ لنفوذه دليلا خاصاً به غير أدلّة الولاية الدالّة عليه بالإطلاق، وذاك الدليل ظاهر في تنفيذ حكم القاضي خصماً للنزاع، ولا يتمّ خصم النزاع بغير هذا المستوى من النفوذ، ولم يكن ذاك الدليل ناظراً إلى مجرّد جعل حكم ظاهري يسقط بالعلم بالخلاف.
وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.
17 / ربيع الثاني / 1410 هـ. ق
المصادف 26 / 8 / 68 هـ. ش
كاظم الحسيني الحائري