5

مباحث الألفاظ

4

 

 

المقصد الثالث: في المفاهيم

 

○ تمهيد.

○ الكلام في أقسام المفهوم.

 

 

 

7

 

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

 

تمهيد

قبل الشروع في بيان أقسام المفاهيم نقدّم أمرين:

 

تعريف المفهوم:

الأمر الأوّل: في تعريف المفهوم، وقد عُرّف بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: ما نقله المحقّق العراقيّ(رحمه الله) من أنّ المفهوم عبارة عمّا دلّ عليه اللفظ لا في محلّ النطق، والمنطوق عبارة عمّا دلّ عليه اللفظ في محلّ النطق(1).

وأورد هو(رحمه الله) على ذلك بأنّ هذا التعريف للمفهوم ليس مانعاً للأغيار؛ لأنّه يشمل جميع الدلالات الالتزاميّة ـ كدلالة الأمر بالشيء على وجوب المقدّمة مثلا ـ ممّا لا يعدّ من المفاهيم ولكنّ اللفظ قد دلّ عليه لا في محلّ النطق. بل لو



(1) راجع المقالات، ج 1، ص 395 ـ بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ ـ في المقالة الرابعة والعشرين، ونهاية الأفكار، ج 1 ـ 2، ص 468 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

8

بنينا على عدم ثبوت الواسطة بين المفهوم والمنطوق لاختلّ تعريف المنطوق أيضاً؛ لعدم كونه جامعاً للأفراد؛ لخروج الدلالات الالتزاميّة عنه(1).

أقول: يمكن الجواب عن ذلك بأنّ التعريف الماضي لا يقصد جعل مطلق الدلالات الالتزاميّة مفهوماً، وإنّما جعل الدلالة الالتزاميّة اللفظيّة على ما ليس في محلّ النطق مفهوماً. ومرادهم بالدلالة الالتزاميّة اللفظيّة ليست هي الدلالة الالتزاميّة باللزوم غير البيّن ـ كما في وجوب المقدّمة الثابت ببرهان عقليّ دقيق، فهذا لا يعتبر دلالة لفظيّة بالكامل، وإن كان يعتبر اللفظ جزء الدالّ عليه ـ بل المراد بالدلالة الالتزاميّة اللفظيّة الدلالة باللزوم البيّن أو خصوص البيّن بالمعنى الأخصّ(2).

وعليه فهذا التعريف يرجع في واقعه إلى التعريف الثاني والذي سيأتي تحقيقه إن شاء الله.

الوجه الثاني: ما عن المحقّق النائينيّ(قدس سره) من أنّه عبارة عمّا يفهم بالدلالة الالتزاميّة باللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ(3) على تشويش في عبارة التقريرات؛ إذ لم يعرف بوضوح هل يقصد(رحمه الله) خصوص البيّن بالمعنى الأخصّ، أو يقصد مطلق البيّن في مقابل مطلق اللزوم الشامل لغير البيّن؟

وعلى أ يّة حال يرد عليه: أنّ المفهوم من عبائر الاُصوليّين ليس هو تخصيص



(1) راجع المقالات بحسب الطبعة والصفحة السابقتين من المجلّد السابق.

(2) قد تعرّض الشيخ النائينيّ(رحمه الله) لهذا التوجيه للتعريف الأوّل فأرجعه إلى التعريف الثاني. راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 414 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 477 و478 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(3) راجع المصدرين الماضيين.

9

مصطلح المفهوم بما يكون لازماً بيّناً أو بيّناً بالمعنى الأخصّ، فتراهم مثلا يسمّون مفهوم الشرط بالمفهوم حتّى ولو فرض الدليل عليه دليلا عقليّاً فلسفيّاً دقيقاً، من قبيل: أنّ الواحد لا يصدر إلّا عن واحد ببعض معانيه، وقد استدلّ به بعضهم على مفهوم الشرط.

فمنهم مثلا مَن قال لإثبات مفهوم الشرط: إنّه لو كان هناك ما يقوم مقام هذا الشرط للزم أن يكون هذا الشرط في صورة اجتماعه مع القائم مقامه جزء العلّة؛ لاستحالة صدور الواحد عن علّتين، فعند الاجتماع قد سقط كلّ منهما عن العلّيّة وأصبح جزء علّة، في حين أنّ مقتضى إطلاق الجملة الشرطيّة كون الشرط دائماً علّة.

وآخر يقول: لو كان هناك شرط آخر يقوم مقام هذا الشرط لما كانت العلّة نفس عنوان هذا الشرط ولا ذاك بل الجامع بينهما؛ لاستحالة صدور الواحد عن الكثير، في حين أنّ ظاهر الكلام كون العلّة نفس عنوان هذا الشرط.

وهم لا يختلفون في أنّه حتّى لو كان الدليل على مفهوم الشرط هذا أو ذاك فهو في المصطلح الاُصوليّ يعتبر مفهوماً، وإنّما يختلفون في صحّة هذا الدليل في نفسه وعدمه.

ولذا لم يذكر مثل المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في الجواب على هؤلاء أنّ كلامنا في المفهوم، وليس هذا مفهوماً فهو خارج عن بحثنا، وإنّما أجاب على هذا الكلام بإبطال نفس الاستدلال مع التسليم بأنّه لو تمّ لثبت به مفهوم الشرط.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من أنّه عبارة عن حكم إنشائيّ أو إخباريّ تستتبعه خصوصيّة المعنى الذي اُريد من اللفظ بتلك الخصوصيّة ولو بقرينة الحكمة لا نفس المعنى، فمثلا مفهوم الشرط ـ وهو الانتفاء عند الانتفاء ـ ليس ممّا يستتبعه نفس معنى اللفظ، أعني: ترتّب الجزاء على الشرط، بل تستتبعه خصوصيّته، وهي كون ذاك الترتّب على نحو الترتّب العلّيّ الانحصاريّ.

10

وكأنّه(رحمه الله) أراد بذكر كونه مستفاداً من خصوصيّة المعنى لا من نفس المعنى دفع الإيراد بدخول جميع الدلالات الالتزاميّة، بأنّها من لوازم نفس المعنى لا خصوصيّته، فوجوب المقدّمة مثلا من لوازم نفس وجوب ذي المقدّمة المقصود باللفظ لا من لوازم خصوصيّة له.

وذكر(رحمه الله) بعد تعريف المفهوم بما عرفت قوله: «وافقه في الإيجاب والسلب أو خالفه»، وهذا منه(رحمه الله)تنبيه على أنّ التعريف يشمل مفهوم المطابقة والمخالفة معاً.

وهذا الأمر لم يكن ضروريّاً؛ فإنّ المقصود بالمفهوم المبحوث عنه في المقام إنّما هو مفهوم المخالفة، ولهذا لم يبحث القوم في هذا المقام مفهوم الموافقة.

وعلى أيّ حال فتعريفه للمفهوم بما عرّفه به مع افتراض دخول مفهوم المطابقة في المعنى المقصود بالمفهوم متهافتان؛ لأنّ مفهوم الموافقة كحرمة الشتم المستفادة من النهي عن قول (الاُفّ) مثلا من لوازم نفس المعنى، وهو حرمة (الاُفّ) دون خصوصيّتها.

وعلى أ يّة حال فيرد على أصل التعريف الذي ذكره: أنّه ربما يكون المفهوم ممّا يستلزمه إطلاق المنطوق، لا خصوصيّة داخلة في المنطوق بالوضع، وذلك كما لو قلنا بأنّ الانحصار في القضيّة الشرطيّة المستلزم للمفهوم ليس ممّا دلّت عليه القضيّة بالوضع، بل ممّا استلزمه إطلاق القضيّة كما ذهب إليه بعض.

وقد استدلّ البعض على مفهوم الشرط بأنّ إطلاق القضيّة يدلّ على الانحصار. ونقل المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) هذا الدليل وردّه بإبطال أصل الاستدلال، لا بأنّ هذا لا يكون مفهوماً فهو خارج عن بحثنا.

والخلاصة: أنّه لو سلّمت دلالة الإطلاق على الانحصار المستلزم للانتفاء عند الانتفاء فلا إشكال عندهم في كون هذا مفهوماً للقضيّة الشرطيّة، وإنّما الخلاف وقع في قبول دلالة الإطلاق على الانحصار وعدمه.

11

وعليه نسأل هل أنّ إطلاق الكلام يعتبره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من خصوصيّات المعنى التي قد تستتبع المفهوم، أو المقصود بخصوصيّة المعنى المستتبعة للمفهوم هي خصوصيّة داخلة في الوضع وليس منها إطلاق الحكم المستفاد بمقدّمات الحكمة؟

فإن فُرض الأوّل ـ كما يرشد إليه قوله: «بقرينة الحكمة» ـ لزم دخول بعض الدلالات الالتزاميّة في المفهوم، كوجوب المقدّمة المستفاد من الأمر بالشيء بناءً على أنّ دلالة الأمر بالشيء على الوجوب إنّما هي بالإطلاق. إذن فالمفاد الوضعيّ للّفظ إنّما هو مطلق المطلوبيّة، وأمّا المطلوبيّة على مستوى الوجوب فهي خصوصيّة للمعنى فُهمت بالإطلاق، وهي التي تستلزم وجوب المقدّمة.

وإن فُرض الثاني ورد عليه:

أوّلا: أنّ هذا خلاف ما صرّح به في كلامه بقوله: «ولو بقرينة الحكمة».

وثانياً: النقض بمثل ما عرفت من مفهوم الشرط بناءً على فهم الانحصار المستتبع للمفهوم من الإطلاق؛ إذ يلزم من ذلك عدم دخول ذلك بناءً على هذا المبنى في المفهوم المصطلح، في حين أنّه لا إشكال في دخوله فيه.

الوجه الرابع: ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) من أنّ المفهوم عبارة عن التابع في الانفهام مع فرض كون حيثيّة الانفهام مأخوذة في المنطوق(1).

وتوضيح ذلك: أنّه لا إشكال في أنّ المفروض دلالة المنطوق على المفهوم بالالتزام، سواء كان الملزوم عبارة عن نفس المعنى أو عن خصوصيّة له كما قاله



(1) تعليق الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) على تأليفه نهاية الدراية، راجع المجلّد الثاني من نهاية الدراية ص 411 تحت الخطّ، بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام).

12

المحقّق الخراسانيّ، والجهة التي تكون هي حيثيّة انفهام اللازم قد يدلّ عليها المنطوق وقد لا يدلّ، فإن دلّ عليها المنطوق سمّي ذاك اللازم مفهوماً، كما في القضيّة الشرطيّة الدالّة على المفهوم بسبب الانحصاريّة. فالمنطوق مشتمل على الدلالة على الانحصاريّة التي هي الحيثيّة التي تتمّ بها الدلالة المفهوميّة، وهذا بخلاف مثل وجوب المقدّمة المفهوم من دليل وجوب ذي المقدّمة بالملازمة من دون دلالة للمنطوق على الحيثيّة التي تتمّ بها هذه الدلالة.

ويرد عليه: أ نّا لا نتعقّل معنىً لحيثيّة انفهام اللازم إلّا نفس برهان الملازمة، وبرهان الملازمة مشتمل على صغرى وكبرى:

فإن اُريد بأخذ الحيثيّة في المنطوق أخذ الكبرى فيه، فكبرى الانتفاء عند الانتفاء غير مأخوذة في منطوق الجملة الشرطيّة مثلا.

وإن اُريد بذلك أخذ الصغرى فيه فقد تؤخذ الصغرى في المنطوق ولا يسمّى اللازم مفهوماً، كما لو قال المولى: (ائت بما يكون متوقّفاً على الوضوء)، فإنّ هذا الكلام مشتمل على صغرى وجوب المقدّمة وهي مقدّميّة الوضوء، ومع ذلك لا يسمّى وجوب الوضوء المستفاد من هذا الكلام مفهوماً.

والتحقيق في تعريف المفهوم هو: أن يقال: إنّه عبارة عمّا يلزم ربط الحكم المنطوقيّ بطرفه.

توضيح ذلك: أنّه تارةً: يكون الحكم المستفاد بالملازمة لازماً لأصل الحكم المذكور في المنطوق، بحيث لو غيّر الحكم لكان ربّما تنتفي الملازمة بين المنطوق وذلك الحكم، بخلاف ما لو غيّر طرف الحكم فيستحيل أن تنتفي الملازمة بينهما بتغيّر طرفه وإن أوجب تغييره تغييراً في طرف الحكم اللازم، وذلك كما في وجوب المقدّمة، فإنّه لازم لنفس وجوب ذي المقدّمة الذي هو عبارة عن الصلاة

13

مثلا، ولو غيّر الحكم بأن فرضت الصلاة مستحبّة مثلا انتفت الملازمة بين المنطوق ووجوب المقدّمة، لكن لو غيّر الطرف بأن فرض الواجب شيئاً آخر غير الصلاة فالملازمة بين المنطوق ووجوب المقدّمة باقية على حالها، وإن أوجب تغيّر الطرف في المنطوق تغيّره في الحكم اللازم، كما إذا فُرض مقدّمة الصلاة الوضوء وفُرضت مقدّمة ذلك الواجب الآخر شيئاً آخر.

واُخرى: يكون الحكم المستفاد بالملازمة لازماً لطرف الحكم المنطوقيّ بما هو طرف له، فكما أنّه ربما يوجب تغيّر الحكم انتفاء الملازمة ـ لخروج الطرف عن كونه طرفاً لذلك الحكم الأوّل ـ كذلك ربما يوجب تغيّر الطرف انتفاء الملازمة، وذلك كما في مفهوم الموافقة، مثلا: لو قال المولى: (يجب إكرام خدّام العلماء)، دلّ بمفهوم الموافقة على وجوب إكرام العلماء. ولو غيّر الحكم بأن قال مثلا: (يستحبّ إكرام خدّام العلماء)، أو غيّر طرف الحكم بأن قال مثلا: (تجب الصلاة) فمن المعلوم انتفاء الملازمة.

وثالثة: يكون الحكم المستفاد بالملازمة لازماً لربط الحكم المنطوقيّ بطرفه لا لنفس الحكم أو طرفه، بحيث لو غيّر الحكم أو طرف الحكم أو كلاهما لكانت الملازمة ثابتة على حالها، والحكم المستفاد بالملازمة بهذا النحو منحصر في اللازم الذي هو الانتفاء عند الانتفاء، فإنّه لو غيّر الحكم وجميع أطرافه في القضيّة الشرطيّة مع التحفّظ على نفس الربط تكون الملازمة بينها وبين الانتفاء عند الانتفاء ثابتة، وإن أوجب ذلك تغييراً في أطراف الانتفاء عند الانتفاء.

وهذا القسم من اللازم هو المفهوم المصطلح الذي يكون موضوعاً لمبحثنا هذا، بلا فرق بين كون اللازم بيّناً أو لا، وكون الملزوم نفس المعنى أو خصوصيّته، وكون حيثيّة الانفهام مأخوذة في المنطوق أو لا.

14

وأمّا القسم الأوّل من اللازم: فيبحث عنه في مباحث الملازمات العقليّة.

وأمّا القسم الثاني من اللازم ـ وهو مفهوم الموافقة ـ: فليس ممّا يستشكل فيه ويبحث عنه إلّا ببعض مراتبه وهو قياس الأولويّة. وهذا يذكر في مباحث القياس والأولويّة.

 

هل المفهوم حكم لموضوع غير مذكور أو حكم غير مذكور؟

المشهور أنّه من خاصّيّة المفهوم كونه حكماً على موضوع غير مذكور في المنطوق، وذكر المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)أنّه ليس حكماً على موضوع غير مذكور بل هو حكم غير مذكور.

والوجه فيما أفاده(رحمه الله) ـ من الرجوع عن التعبير الذي ذكروه إلى التعبير الآخر ـ هو: أنّ الموضوع في مفهوم المخالفة عين الموضوع في نفس المنطوق، فمثلا الموضوع في كلّ من المنطوق والمفهوم لقولنا: (إن جاءك زيد فأكرمه) هو زيد، وهو مذكور في المنطوق.

بل لعلّ نظره(رحمه الله) إلى الاستشكال في ذلك في مفهوم الموافقة أيضاً، حيث إنّه وإن كان ربما يختلف موضوع مفهوم الموافقة عن موضوع المنطوق، كقولنا: (أكرم خدّام العلماء) المقتضي بمفهومه وجوب إكرام العلماء، لكن ربما يكون موضوعهما شيئاً واحداً، كقوله تعالى: ﴿ولاَ تَقُل لَهُمَا اُفٍّ﴾ المقتضي بمفهومه حرمة ضربهما، فإنّ الموضوع في كليهما هو الأبوان، إلّا أن يسمّى نفس المتعلّق موضوعاً فينعكس الأمر، أعني: أنّ الموضوع للمنطوق والمفهوم في قولنا: (أكرم خدّام العلماء) واحد، وفي الآية الشريفة متعدّد.

وعلى أيّة حال فتحقيق الكلام في هذا المقام هو: أنّ ما أفاده المشهور إنّما يتمّ

15

بناءً على ما اختاره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ومَن في مدرسته من أنّ كلّ شرط يرجع إلى الموضوع؛ إذ من الواضح عندئذ أنّ الموضوع في منطوق قولنا: (إن جاءك زيد فأكرمه) هو زيد الجائي، والموضوع في مفهومه هو زيد غير الجائي وهو غير مذكور في اللفظ، وينبغي أن يكون مرادهم بعدم مذكوريّته في المنطوق عدم مذكوريّته فيه بما هو موضوع، بأن لا يكون موضوع المفهوم نفس موضوع المنطوق، حتّى لا يرد النقض بمثل قوله: ﴿أَتِمّوا الصِّيَام إلى اللَّيْل﴾ المقتضي بمفهومه انتفاء هذا الحكم عن الليل بناءً على خروج الغاية عن المغيّى، فإنّ موضوع المفهوم ـ وهو الليل ـ مذكور في المنطوق، لكن لا بعنوان الموضوعيّة للحكم بل بعنوان الحدّيّة له.

وأمّا بناءً على مبنى المحقّق العراقيّ(قدس سره) ـ وهو المختار ـ من أنّ الشرائط ليست دائماً راجعة إلى الموضوع، بل بعضها وإن كان مقوّماً للموضوع ولكن بعضها شرط لترتّب الحكم على الموضوع، فما أفاده المشهور غير تامّ؛ لإمكان أن يقال: إنّ الموضوع في المنطوق والمفهوم في قولنا مثلا: (إن جاءك زيد فأكرمه) هو زيد، ويكون المجيء شرطاً لترتّب حكم الوجوب على هذا الموضوع، وعدمه شرطاً لترتّب عدم الوجوب عليه.

هذا كلّه بناءً على كون المراد بالموضوع الموضوع في عالم الثبوت، لا الموضوع في مرحلة الإسناد في عالم الإثبات، وإلّا فدائماً يكون الموضوع نفس زيد في المنطوق والمفهوم معاً.

وأمّا ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من أنّ المفهوم حكم غير مذكور في المنطوق، فإن أراد بذلك عدم مذكوريّة الحكم المفهوميّ بشخصه في المنطوق فهو صحيح في مفهومي الموافقة والمخالفة معاً كما لا يخفى.

16

وإن أراد بذلك عدم مذكوريّته بنوعه فهو صحيح في مفهوم المخالفة؛ لأنّ نوع الحكم في المفهوم يختلف عن نوعه في المنطوق، ولا يعقل أن يكون كلاهما من نوع الوجوب مثلا؛ فإنّ المفروض أنّ مفهوم إيجاب شيء مشروطاً بشيء انتفاء الوجوب عند انتفاء الشرط. وغير صحيح في مفهوم الموافقة؛ لأنّ الحكم المنطوقيّ في الآية الشريفة مثلا ـ وهو حرمة قول (الاُفّ) ـ والحكم المفهوميّ فيها ـ وهو حرمة الضرب ـ من نوع واحد، وهو الحرمة كما هو واضح.

هذا لو اعتبرنا النوعيّة من حيث ذات الحكم بما هو.

وأمّا نوعيّة الحكم حتّى بالنظر إلى متعلّقه، بأن يكون الحكم والمتعلّق في المفهوم كلاهما متماثلين مع الحكم والمتعلّق في المنطوق، فأيضاً قد يتّفق ذلك، كما لو قال المولى: (أكرم خدّام العلماء)، فإنّ مفهومه وجوب إكرام العلماء، والحكم فيه يكون من نوع الحكم في المنطوق حتّى بلحاظ متعلّقه.

بل ربما تتّفق المماثلة بلحاظ نفس الحكم ومتعلّقه وموضوعه جميعاً، ويكون الاختلاف في الشرط، كما لو قال المولى: (أكرم زيداً إن جاهد مع المجتهد العادل) الدالّ بمفهومه على وجوب إكرامه إن جاهد مع الإمام المعصوم(عليه السلام).

هذا إجمال الكلام في المقام.

 

تفصيل الكلام في كون موضوع المفهوم أو حكمه مذكوراً في المنطوق أو لا:

وإن أردت تحقيق الكلام على وجه التفصيل قلنا: تارةً: يقع الكلام في مفهوم الموافقة ـ وإن كان في الحقيقة خارجاً عن المبحث ـ واُخرى: في مفهوم المخالفة:

أمّا مفهوم الموافقة: فتارة: يقع الكلام في أنّه هل يكون الحكم المفهوميّ ـ بسنخه أو شخصه ـ مذكوراً في المنطوق أو لا؟ واُخرى: في أنّه هل يكون موضوع المفهوم مذكوراً في المنطوق أو لا؟

17

أمّا الحكم المفهوميّ بشخصه: فمن الواضح أنّه ليس مذكوراً في المنطوق، وإلّا لكان منطوقاً لا مفهوماً.

وأمّا سنخ الحكم المفهوميّ: فهل يكون مذكوراً في منطوق الجملة الدالّة على مفهوم الموافقة أو لا؟

التحقيق: هو التفصيل في ذلك، بيانه: أنّ مفهوم الموافقة يكون مدركه فهم العرف من الكلام أنّ المولى إنّما نبّه على قسم خاصّ لأجل كونه أخفى الأفراد من حيث الحكم، أو لكونه هو محلّ الابتلاء مثلاً، لا لكونه بالخصوص مركز نظر المولى.

وذلك القسم الخاصّ: تارةً: يكون عبارة عن نفس الحكم، كما لو قال المولى: (لا يستحبّ إكرام الفسّاق) الدالّ بمفهومه على عدم وجوب إكرامهم، واُخرى: يكون عبارة عن متعلّق الحكم، كقوله تعالى: ﴿لاَ تَقُل لَهُمَا اُفٍّ﴾ الدالّ بمفهومه على حرمة الضرب، وثالثة: يكون عبارة عن موضوع الحكم، كما لو قال: (أكرم خدّام العلماء) الدالّ بمفهومه على وجوب إكرام العلماء، أو قال: (يحرم على المحدث بالحدث الأصغر مسّ الكتاب) الدالّ بمفهومه على حرمة مسّ الكتاب على المحدث بالحدث الأكبر، ورابعة: يكون عبارة عن شرط الحكم بناءً على عدم رجوعه إلى الموضوع، كما لو قال: (أكرم زيداً إن جاهد مع المجتهد العادل) الدالّ بمفهومه على وجوب إكرامه إن جاهد مع الإمام المعصوم(عليه السلام)، فهذه أربعة أقسام:

ففي القسم الأوّل ليس سنخ الحكم بمعنى من المعاني مذكوراً في المنطوق. وفي القسم الثاني يكون سنخ الحكم مذكوراً في المنطوق بمعنى مماثلته للحكم المنطوقيّ في نفس كون كلّ منهما وجوباً مثلا مع قطع النظر عن المتعلّق، وموضوع المفهوم أيضاً مذكور في المنطوق. وفي القسم الثالث تكون السنخيّة بين الحكم

18

المفهوميّ والمنطوقيّ محفوظة حتّى بالنظر إلى المتعلّق. وفي القسم الرابع تكون السنخيّة بينهما محفوظة حتّى بالنظر إلى المتعلّق والموضوع كليهما.

وأمّا موضوع مفهوم الموافقة: فإن كان المراد بالموضوع متعلّق المتعلّق ـ كالفسّاق في المثال الأوّل، والأبوين في المثال الثاني، والعلماء في المثال الثالث، والمحدث بالحدث الأكبر في المثال الرابع، وزيد في المثال الخامس ـ فموضوع المفهوم مذكور في المنطوق في القسم الأوّل والثاني والرابع من أقسام مفهوم الموافقة، وغير مذكور في القسم الثالث إن كان المراد بمذكوريّته مذكوريّته بما هو موضوع بأن يكون موضوعاً للمنطوق، وإلّا فربّما يكون مذكوراً فيه.

وإن كان المراد بالموضوع متعلّق الحكم فهو مذكور في القسم الأوّل والرابع، وغير مذكور في القسم الثاني، وأمّا في القسم الثالث فإن كان المراد بالمتعلّق مطلق المتعلّق فهو مذكور فيه، وإن كان المراد به المضاف إلى الموضوع الخاصّ فغير مذكور فيه.

هذا. وقبل أن ننتقل إلى مفهوم المخالفة نشير إلى أنّ ما قلناه بالنسبة للقسم الرابع ـ من أنّ موضوع المفهوم بمعنى متعلّق المتعلّق مذكور في المنطوق ـ صحيح؛ لأنّه كان المفروض عدم رجوع الشرط إلى الموضوع. وأمّا إذا رجع إلى الموضوع فقد رجع هذا القسم إلى القسم الثالث، فيكون موضوع المفهوم غير مذكور في المنطوق.

وأيضاً نشير إلى أنّ ما مضى منّا لدى إجمال الكلام من التفصيل في الموضوع بالنظر إلى عالم الثبوت وعالم الإثبات يجري بالتبع في المتعلّق إن اُريد به المتعلّق المضاف إلى الموضوع الخاصّ.

وثالثة: نشير إلى أنّ ما ذكرناه من أقسام مفهوم الموافقة إنّما هي بلحاظ ما لو كان المفهوم بالنظر إلى خصوص الحكم أو المتعلّق أو الموضوع أو الشرط. أمّا لو

19

فُرض مفهوم بالنظر إلى أمرين من هذه الاُمور الأربعة مركّباً، كما لو قال مثلا: (يجب السلام على خدّام العلماء) الدالّ بمفهومه على وجوب ردّ سلام العلماء، فعندئذ يلحقه حكم كلّ من القسمين في عدم مذكوريّة ما هو مذكور في المفهوم في المنطوق.

ورابعة: نشير إلى أنّ الضابط الكلّيّ في جميع ما ذكرناه بالنسبة لمفهوم الموافقة هو: أنّ ما يكون المفهوم بلحاظه لا يعقل أن يكون مذكوراً في المنطوق فهو ليس بمذكور في المنطوق والباقي مذكور فيه.

وأمّا مفهوم المخالفة: فلا إشكال في أنّ الحكم المفهوميّ غير مذكور في منطوقه لا بشخصه ولا بسنخه: أمّا الأوّل فلما هو واضح من أنّه لو كان مذكوراً بشخصه لكان منطوقاً لا مفهوماً. وأمّا الثاني فلما هو واضح أيضاً من أنّ الاتّحاد السنخيّ ينافي فرض مخالفة المفهوم للمنطوق في الكيف.

وأمّا موضوعه: فالتحقيق في كونه مذكوراً في المنطوق وعدمه هو التفصيل بين أقسام المفاهيم:

أمّا مفهوم الشرط: فالأمر فيه دائر مدار رجوع الشرط إلى الموضوع وعدمه، فإن رجع إليه فموضوع المفهوم غير مذكور في المنطوق بلحاظ عالم الثبوت، ومذكور فيه بلحاظ عالم الإسناد، وإلّا فهو مذكور فيه مطلقاً.

هذا إذا كان المراد بالموضوع متعلّق المتعلّق.

وأمّا إذا كان المراد به نفس المتعلّق من حيث هو فالمتعلّق في المفهوم عين المتعلّق في المنطوق.

وأمّا إن كان المراد به المتعلّق المضاف إلى الموضوع الخاصّ فحاله حال ذلك الموضوع الخاصّ.

20

وأمّا مفهوم الوصف: فبما أنّ الوصف دائماً يكون داخلا في الموضوع يكون موضوع المفهوم غير مذكور في المنطوق إن كان المراد بالموضوع متعلّق المتعلّق أو المتعلّق المضاف إلى الموضوع الخاصّ. وإن كان المراد نفس المتعلّق من حيث هو فهو مذكور فيه.

وأمّا مفهوم الغاية: فبما أنّ الحكم في منطوقه محدّد بتلك الغاية في آخره، والحكم في مفهومه محدّد بتلك الغاية في أوّله يستحيل أن يكون موضوع المفهوم مذكوراً في المنطوق بعنوان كونه موضوعاً له، لكنّه مذكور فيه بعنوان الحدّ إن كانت الغاية خارجة عن المغيّى.

هذا إذا كان المراد بالموضوع متعلّق المتعلّق.

وأمّا إن كان المراد به نفس المتعلّق بما هو فالموضوع في المفهوم والمنطوق واحد.

وإن كان المراد المتعلّق المضاف إلى الموضوع الخاصّ فحاله حال الموضوع الخاصّ.

وأمّا مفهوم الحصر: فالحقّ فيه التفصيل: فإنّ الحصر تارةً: يكون باعتبار ذات الحكم، كأن يقال: (إنّما إكرام زيد واجب)، واُخرى: يكون باعتبار متعلّقه، كأن يقال: (إنّما الواجب بشأن زيد هو الإكرام)، وثالثة: يكون باعتبار متعلّق المتعلّق، كأن يقال: (إنّما الذي يجب إكرامه هو زيد)، ورابعة: يكون باعتبار الشرط، كأن يقال: (زيدٌ إنّما يجب إكرامه إن جاءك).

ففي الأوّل يكون موضوع المفهوم عين موضوع المنطوق مطلقاً.

وفي الثاني يكون موضوع المفهوم عين موضوع المنطوق لو اُريد بالموضوع متعلّق المتعلّق لا المتعلّق.

21

وفي الثالث يكون موضوع المفهوم عين موضوع المنطوق لو اُريد بالموضوع المتعلّق من حيث هو، لا متعلّق المتعلّق ولا المتعلّق المضاف إلى الموضوع.

وفي الرابع يكون موضوع المفهوم عين موضوع المنطوق لو اُريد بالموضوع المتعلّق من حيث هو، وأمّا لو اُريد به متعلّق المتعلّق أو المتعلّق المضاف إلى الموضوع الخاصّ فلو لم نُرجع الشرط إلى الموضوع فهو عين موضوع المنطوق، ولو أرجعناه إليه فهو غيره في عالم الثبوت وعينه في عالم الإثبات.

وأمّا مفهوم اللقب: فالموضوع فيه عين الموضوع في المنطوق لو كان المراد بالموضوع المتعلّق من حيث هو، وأمّا لو كان المراد به متعلّق المتعلّق أو المتعلّق المضاف إلى الموضوع الخاصّ فهو غيره.

وأمّا مفهوم العدد: فجميع الخصوصيّات فيه مشتركة بين المنطوق والمفهوم إلّا العدد الخاصّ، فذلك العدد أيّ شيء فُرض يكون ذلك الشيء في المفهوم غيره في المنطوق، وباقي الخصوصيّات المفهوميّة مع قطع النظر عن الإيجاب والسلب ثابتة في المنطوق.

هذا ضابط الكلام في مفهوم العدد، وتعرف جزئيّات الكلام في موارده بالتأمّل في هذا الضابط.

 

الضابط في اقتناص المفهوم:

الأمر الثاني: في بيان ما هو الضابط في اقتناص المفهوم الذي يكون همّ القائلين بالمفهوم إثباته وهمّ المنكرين له نفيه.

وكان المناسب بيان ذلك مستقلاًّ وقبل البحث عن كلّ واحد واحد من المفاهيم من مفهوم الشرط وغيره، إلّا أنّ المحقّق الخراسانيّ وكذا المحقّق النائينيّ(رحمهما الله)

22

بحثاه في خصوص عنوان مفهوم الشرط ويظهر الحال في باقي المفاهيم بالقياسبذلك.

وبما أنّنا نحاول تسهيل تناول ما نبيّنه بشأن كلامي العلمين نجري البحث في ذلك في دائرة الجملة الشرطيّة ويقاس عليها باقي المفاهيم. فنقول:

إنّ أساطين الفنّ سلكوا في المقام مسلكين متعاكسين، فالمشهور جعلوا مركز دوران المفهوم وجوداً وعدماً مداره أمراً، مع افتراض أمر آخر مسلّماً بين القائلين بمفهوم الشرط والمنكرين له، والمحقّق العراقيّ(رحمه الله) عكس الأمر فجعل مركز دوران مفهوم الشرط وجوداً وعدماً مداره ذاك الأمر الثاني، مع افتراض الأمر الأوّل مسلّماً بين القائلين بالمفهوم وعدمه.

فعلى الإجمال نقول: الضابط في اقتناص المفهوم في نظر المشهور دلالة الشرطيّة على أنّ الشرط علّة منحصرة للجزاء، فعندئذ ينتفي الجزاء عند انتفاء الشرط مع فرض الفراغ عن أنّ ما رتّب على الشرط سنخ الحكم لا شخصه.

والضابط في اقتناص المفهوم في نظر المحقّق العراقيّ(رحمه الله) هو أن يكون المعلّق ـ أي: المرتّب على الشرط ـ سنخ الحكم لا شخصه، مع فرض الفراغ عن العلّيّة الانحصاريّة للشرط بالنسبة للجزاء.

ويظهر من ذلك: أنّ الضابط فيه عند كلا الفريقين في الحقيقة واحد مركّب من أمرين: أحدهما العلّيّة الانحصاريّة للشرط بالنسبة لما علّق أو رتّب عليه. والثاني أن يكون ما علّق عليه سنخ الحكم لا شخصه، إلّا أنّ الفريقين اختلفا فيما هو المسلّم من الأمرين، وما هو موضوع البحث بين القائلين بالمفهوم ومنكريه.

والكلام تارةً: يقع فيما أفاده المشهور، واُخرى: فيما أفاده المحقّق العراقيّ(رحمه الله)فنقول:

أمّا ما هو الضابط لاقتناص المفهوم في نظر المشهور ـ وهو كون الشرط علّة

23

منحصرة للجزاء ـ فهذا في الحقيقة ينحلّ إلى اشتراط اُمور ثلاثة أو أربعة في الدلالة على المفهوم:

فالمحقّق النائينيّ(قدس سره) ذكر في المقام شرائط ثلاثة:

الأوّل: أن تكون القضيّة لزوميّة لا اتّفاقيّة. أمّا لو كانت اتّفاقيّة فمن المحتمل أن يقترن الجزاء صدفة بشرط آخر أيضاً اتّفاقاً كما اقترن بهذا الشرط اتّفاقاً.

والثاني: أن يكون اللزوم ترتّبيّاً، بأن يكون الجزاء معلولا للشرط لا العكس، ولا أن يكونا معلولين لشيء ثالث، فلو كان الجزاء هو العلّة فلا مانع من افتراض كونه علّة لأمرين: أحدهما هذا الشرط، والثاني شيء آخر، ولو كانا معلولين لشيء ثالث فلا مانع من أن يولّد الشيء الثالث أحياناً أمراً آخر يقترن بالجزاء.

والثالث: أن يكون الشرط علّة منحصرة للجزاء؛ إذ لو كان علّة غير منحصرة لولد الجزاء أيضاً لدى بديل تلك العلّة، وهذا يعني انتفاء الدلالة على المفهوم.

والمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) ذكر شرائط أربعة:

الأوّل: عين ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أن تكون القضيّة الشرطيّة لزوميّة لا اتّفاقيّة.

والثاني: أن يكون اللزوم ترتّبيّاً، ولكن لم يقصد بذلك ما قصده الشيخ النائينيّ(رحمه الله) من كون الجزاء معلولا للشرط، أي: لم ينتقل ابتداءً إلى شرط معلوليّة الجزاء للشرط، بل قصد مطلق أن يكون الجزاء مترتّباً على الشرط، بأن لا يكونا في عرض واحد ولا يكون الشرط مترتّباً على الجزاء، ومن هنا احتاج إلى ذكر شرط ثالث كالتالي:

والثالث: أن يكون الترتّب على نحو ترتّب المعلول على علّته.

24

والرابع: هو الشرط الثالث للمحقّق النائينيّ(رحمه الله) من كون العلّة علّة منحصرة.

والعمدة في كلا البيانين هي الشرط الأخير وهو كون العلّة علّة منحصرة، وباقي الشروط مقدّمة له.

هذا. وصياغة الشيخ النائينيّ(رحمه الله) للمطلب أتقن من صياغة الشيخ الخراسانيّ(رحمه الله)ولا حاجة إلى أكثر من شرائط الشيخ النائينيّ(رحمه الله).

ويحتمل فيما أراده الشيخ الخراسانيّ من شرطه الثالث ـ وهو كون الترتّب من قبيل الترتّب على العلّة ـ أحد اُمور ثلاثة أو اثنان منها أو جميعها:

الأوّل: أن يكون ذلك في قبال الترتّب الزمانيّ.

والثاني: أن يكون ذلك في قبال الترتّب الطبعيّ، أعني: ترتّب الشيء على جزء علّته.

والثالث: أن يكون ذلك في قبال ما لو كان الجزاء معلولا لما يلازم الشرط، فينحفظ الترتّب بين الشرط والجزاء بناءً على أنّ ما يكون متأخّراً عن شيء فهو متأخّر عمّا يكون في رتبة ذاك الشيء، ولكن لم تنحفظ علّيّة الشرط للجزاء، فهذا الفرض لم يخرج بالشرط الثاني فأخرجه بالشرط الثالث.

فإن أراد الأوّل ـ وهو إخراج الترتّب الزمانيّ ـ ورد عليه: أنّ الترتّب الزمانيّ خرج بالشرط الأوّل وهو كون الشرطيّة لزوميّة لا اتّفاقيّة، فإنّ الانفكاك الزمانيّ بعد فرض اللزوم محال، سواء كان هذا علّة لذاك أو العكس أو كانا معلولين لشيء ثالث، وذلك لقاعدة استحالة تخلّف المعلول عن العلّة.

هذا مضافاً إلى أنّه لو كان المراد بالشرط الثاني ما يعمّ الترتّب الزمانيّ ـ ولذا احتاج إلى إخراجه بالشرط الثالث ـ فدخل الشرط الثاني في حصول الانتفاء عند الانتفاء ممنوع.

25

وإن أراد الثاني ـ وهو إخراج كون الشرط جزء العلّة ـ ورد عليه: أنّ إخراج ذلك بلا موجب، فإنّ الشرط إذا كان منحصراً لا بديل له في تحقيق المعلول ثبت المفهوم سواءً فرض تمام العلّة أو جزءها، فالانتفاء إنّما يستند إلى الاُمور الثلاثة من تلك الاُمور، أعني: ما عدا الأمر الثالث.

وإن أراد الثالث ـ وهو إخراج ما لو كان الجزاء معلولا لما يلازم الشرط، باعتبار أنّه لم يخرج بالشرط الثاني وهو الترتّب؛ لأنّ المتأخّر عن المقارن متأخّر عن المقارن الآخر، أو قل: ما مع المتقدّم متقدّم ـ ورد عليه:

أوّلا: منع كون ما مع المتقدّم متقدّماً، فالشرط الثالث لا مورد له.

وثانياً ـ بعد تسليم قاعدة (ما مع المتقدّم متقدّم) ـ: أنّه لو اُريد بالشرط الثاني ـ وهو الترتّب ـ ما يصدق على الترتّب بهذا النحو لا خصوص ترتّب المعلول على علّته التامّة أو الناقصة فالشرط الثالث في محلّه لأجل إخراج ذلك، لكن كون الترتّب بذاك المعنى دخيلا في الانتفاء عند الانتفاء ممنوع، فالشرط الثاني لا مورد له.

ولو أراد بالشرط الثاني الترتّب بهذا المعنى العامّ، وبالشرط الثالث أحد المعنيين الأوّلين كان الشرط الثاني والثالث كلاهما مخدوشاً.

ولو أراد بالشرط الثالث اثنين من هذه الاحتمالات أو جميعها ورد عليه إشكال اثنين منها أو جميعها.

هذا. ومن المسلّم عندهم ـ كما مضى ـ أنّ المعلّق على الشرط لو كان هو شخص الحكم لم يتحقّق المفهوم ولو فرض تحقّق هذه الاُمور الأربعة أو الثلاثة.و سيأتي إن شاء الله تحقيق الكلام في ذلك عند الكلام حول ما أفاده المحقّق العراقيّ(رحمه الله). أمّا هنا فنتكلّم في فرض كون المعلّق على الشرط هو سنخ الحكم

26

لا شخصه بعد فرض تسليم ما أفادوه من مسلّميّة كون المعلّق على الشرط هو سنخ الحكم.

والتحقيق: أنّه لا يتوقّف كون القضيّة ذات مفهوم على ثبوت كون الشرط علّة منحصرة للجزاء، بل الذي يوجب إفادتها للمفهوم هو إثبات إفادتها لكون ثبوت الجزاء منحصراً في فرض ثبوت الشرط، والذي يدّعي المفهوم للقضيّة الشرطيّة ليس أمره محصوراً في الاعتراف بتلك الاُمور الثلاثة أو الأربعة، بأن لا يتعقّل الإيمان بالانحصار إلّا بعد الإيمان بتلك المقدّمات السابقة. نعم، مع فرض تماميّة أحد اُمور ثلاثة نحتاج إلى تلك المقدّمات:

الأوّل: أن يقال: إنّ صرف انحصار الجزاء في فرض ثبوت الشرط لا يوجب الانتفاء عند الانتفاء ما لم نثبت كون الشرط علّة منحصرة للجزاء.

وهذا ـ كما ترى ـ بديهيّ البطلان.

الثاني: أن يقال: إنّ انحصار الجزاء في فرض ثبوت الشرط يكون في عالم الثبوت منحصراً في فرض كون الشرط علّة منحصرة للجزاء.

ويرد عليه: أنّه كما يمكن ذلك في هذا الفرض، كذلك يمكن ذلك في فرض انتفاء الشرط الرابع، بأن يُفرض أنّ الشرط وإن كان علّة غير منحصرة لكنّ العلّة الاُخرى لا توجد في الخارج، فينحصر الجزاء في فرض وجود الشرط، فالمفهوم ثابت رغم انتفاء الشرط الرابع؛ إلّا أن يكون مرادهم بالشرط الرابع ما يعمّ الانحصار بهذا المعنى، لكنّه خلاف ظاهر كلماتهم.

أو يفرض أنّ الشرط جزء لا بديل له لعلّة منحصرة أو غير منحصرة مع فرض اشتراك جميع تلك العلل في ذلك الجزء، فالمفهوم ثابت رغم انتفاء الشرطين الأخيرين.

27

أو يفرض أنّ الشرط والجزاء معلولان لعلّة واحدة منحصرة أو غير منحصرة مع فرض اشتراكهما بالنسبة لجميع تلك العلل، فانتفاء الشرط مساوق لانتفاء العلّة المنحصرة أو تلك العلل المساوق لانتفاء الجزاء، فالمفهوم ثابت رغم انتفاء الشروط الثلاثة الأخيرة.

أو يفرض أنّ انحصار الجزاء في الشرط يكون من باب الاتّفاق البحت، فالمفهوم ثابت رغم انتفاء جميع تلك الشروط الأربعة.

ولا يخفى أنّ ما ذكرناه من تصوير انتفاء خصوص الشرطين الأوّلين إنّما كان بناءً على كون المراد بالشرط الثالث ما يخرج به عدم كون الشرط علّة تامّة، أمّا لو اُريد به ما يُخرج ترتّب الجزاء على ما يلازم الشرط بعد تسليم أنّ ما مع المتقدّم متقدّم فيمكن أيضاً فرض انتفاء خصوص الشرطين الأوّلين، كما لو فُرض أنّ علّة الجزاء ليست إلّا معلولة لعلّة الشرط، وليست لها علاوة على العلّة المشتركة علّة غير مشتركة، وليس للجزاء علّة غير معلولة لعلّة الشرط، فيثبت المفهوم رغم انتفاء الشرطين الأوّلين.

وأمّا لو اُريد بالشرط الثالث خصوص ما يخرج الترتّب الزمانيّ فقد عرفت أنّه في الحقيقة ليس شرطاً على حدة.

الثالث: أن يقال: إنّه وإن كان انحصار الجزاء في فرض تحقّق الشرط في عالم الثبوت له ملاكات خمسة، لكن بحسب عالم الإثبات لا يمكن دعوى استفادة المفهوم من الجملة الشرطيّة إلّا بدعوى إفادتها لكون الشرط علّة منحصرة للجزاء.

ويرد عليه: أنّه كما يمكن أخذ المفهوم من الجملة الشرطيّة بدعوى إفادتها لكون الشرط علّة منحصرة، كذلك يمكن أخذ المفهوم بدعوى كون أداة الشرط موضوعة لحصر الجزاء في فرض تحقّق الشرط، أو بإثبات أنّ ما هو المعلّق على

28

الشرط يكون بحكم الإطلاق عبارة عن مطلق وجود الحكم لا صرف وجوده، فمهماكان الحكم ثابتاً كان ثبوته مقارناً لثبوت الشرط، وهذا ـ كما ترى ـ يستلزم الانتفاء عند الانتفاء ولو فرض عدم كون الشرط علّة منحصرة. فمدّعي المفهوم لو أثبت إحدى هذه الدعاوى الثلاث ـ أي: العلّيّة الانحصاريّة للشرط، أو وضع الأداة لحصر الجزاء في فرض الشرط، أو تعليق طبيعيّ الحكم بحسب الإطلاق على الشرط ـ كفاه في إثبات دعواه في المفهوم وليس أمره منحصراً في إثبات الدعوى الاُولى.

وأمّا ما هو الضابط لاقتناص المفهوم في نظر المحقّق العراقيّ(رحمه الله) ـ وهو كون المعلّق على الشرط هو سنخ الحكم لا شخصه بعد فرض مسلّميّة كون الشرط علّة منحصرة للجزاء ـ فاعلم أنّ المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في الحقيقة له دعاوى أربع:

الاُولى: توقّف المفهوم على كون الشرط علّة منحصرة للجزاء كما قال المشهور أيضاً بذلك.

الثانية: أنّ كون الشرط على نحو العلّيّة المنحصرة مسلّم حتّى عند المنكرين للمفهوم ولو ارتكازاً.

الثالثة: أنّه لو كان المعلّق على الشرط هو شخص الحكم لما كان للقضيّة مفهوم؛ بداهة أنّ غاية ما تقتضي الجملة حينئذ انتفاء شخص الحكم عند انتفاء الشرط.

الرابعة: أنّه لو كان المعلّق على الشرط سنخ الحكم كانت القضيّة ذات مفهوم؛ لأنّ المفروض أنّ الشرط علّة منحصرة، فبانتفائه ينتفي سنخ الحكم.

وقد ذكر(رحمه الله) في وجه مسلّميّة كون الشرط على نحو العلّيّة المنحصرة: أنّ كلتا الطائفتين ـ أعني: القائلين بالمفهوم والمنكرين له ـ سلّموا في باب المطلق والمقيّد فيما إذا كانا مثبتين كقوله: (أعتق رقبة) و(أعتق رقبة مؤمنة) أنّه لو علم كون الحكم الذي في نظر المولى ـ المبيّن تارةً في ضمن المطلق واُخرى في ضمن المقيّد ـ واحداً، ولم نحتمل أنّ مقصوده بالكلام المطلق بيان حكم ومقصوده بالكلام المقيّد

29

بيان حكم آخر غير ذلك الحكم فلا محالة يحمل المطلق على المقيّد. ولا وجه لذلك سوى أنّ انتفاء القيد ـ وهو الإيمان في المثال المذكور ـ موجب لانتفاء الحكم، وبما أنّ الحكم في كليهما واحد وليس هنا حكمان فبانتفاء القيد ينتفي الحكم المذكور في المطلق.

فظهر: أنّ المطلق محمول على المقيّد، ولا وجه لانتفاء الحكم في المقيّد بانتفاء قيد الإيمان ـ مع أنّهم ذكروا أنّ الوصف ليس له مفهوم ـ إلّا أنّ القيد يكون علّة منحصرة لشخص الحكم، وإلّا لما استحال ثبوت الحكم مع انتفائه؛ لإمكان قيام علّة اُخرى مقامه.

فظهر: أنّ القيد والشرط والغاية ونحو ذلك يكون من المسلّم كونه من قبيل العلّة المنحصرة، فلا محالة يثبت الانتفاء عند الانتفاء، فإن كان المعلّق عليه سنخ الحكم فقد تحقّق المفهوم؛ لانتفاء سنخ الحكم بانتفاء العلّة المنحصرة، وإن كان المعلّق عليه شخص الحكم لم يلزم من ذلك سوى انتفاء شخصه ولا يتحقّق المفهوم.

والحاصل: أنّ العلّيّة المنحصرة مسلّمة كما يظهر من كلامهم في باب المطلق والمقيّد، فلم يبق فيما نحن فيه ما نبحث عنه سوى أنّه هل المعلّق هو سنخ الحكم أو شخصه.

أقول: لا يخفى أنّ ما أفاده المحقّق العراقيّ(رحمه الله) هنا من كون ملاك حمل المطلق على المقيّد هو العلم الخارجيّ بوحدة الحكم المقصود في الكلامين هو ما جرى عليه المحقّق الخراسانيّ ومَن في مدرسته ومنهم المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، إلّا أنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ومَن في مدرسته لم يجروا هذا المجرى(1).

 



(1) فإنّهم يذكرون في المقام تفصيلا آخر غير التفصيل بين العلم الخارجيّ بوحدة