295

فإن قيل بالأوّل ورد عليه: أنّ قوله: (أكرم كلّ عالم) لا يحتمل إلّا بيان وجوب واحد لكلّ فرد لا وجوبين. وإن قيل بالثاني انهدم موضوع الوجوب الظاهريّ، فإنّه إنّما يثبت وجوب إكرام زيد ظاهراً بقيام الأمارة على عدالته لو فرض أنّه على تقدير العدالة يجب إكرامه واقعاً، وأمّا لو فرض عدم وجوب إكرامه واقعاً حتّى على تقدير العدالة فلا معنى لوجوب إكرامه ظاهراً عند الشكّ في العدالة(1).

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال لا يرد على التقريب الثاني، فإنّ العامّ على التقريب الثاني لا يدلّ على حكمين وإنّما يدلّ على الحكم الواقعيّ، وإنّما يستفاد الحكم الظاهريّ من دليل جعل ظهور العامّ أمارة على العدالة لو كان.

وقد تحقّق بكلّ ما ذكرناه عدم حجّيّة العامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص المنفصل المردّد بين الأقلّ والأكثر.

 

موارد الاستثناء من عدم الحجّيّة في المقام:

نستثني من عدم الحجّيّة في المقام موردين:

الأوّل: ما إذا كان العامّ قضيّة خارجيّة وكانت الأفراد محدودة بنحو لا يكون علم المولى بحالها خلاف المتعارف، كما لو قال: (أكرم كلّ علماء البلد)، وعلمنا من الخارج أنّه لا يجب إكرام عالم فاسق، وكان علماء البلد محدودين بمقدار



(1) ويرد أيضاً على هذا الوجه: أنّ الظاهر من دليل حكم وجوب الإكرام مثلاً هو إرادة الحكم الواقعيّ فحسب، كما هو الأصل في جميع أدلّة الأحكام ما لم ينصّ على أخذ الشكّ في الحكم الواقعيّ في موضوعها، فلا دلالة للكلام على حكم ظاهريّ كي نكتشف من ذلك جعل العلم أمارة على العدالة أو عدم الفسق.

296

يحتمل بحسب المتعارف فحص المولى عن حالهم وثبوت عدالتهم عنده، فإنّه لا إشكال عندئذ في أنّ قوله: (أكرم كلّ علماء البلد) يدلّ على عدالتهم ويتمّ فيه التقريب الأوّل من التقريبات الثلاثة للتمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

الثاني: ما إذا كانت الشبهة في نفسها حكميّة وإن كان العامّ قضيّة حقيقيّة، توضيح ذلك: أنّه ربّما تكون الشبهة بلحاظ العموم والخصوص مصداقيّة لا مفهوميّة، أي: أنّها ناشئة من الشكّ في مصداق الخاصّ لا مفهومه، لكنّها بلحاظ نفسها تكون شبهة حكميّة لا موضوعيّة، مثاله: ما لو قال المولى: (توضّأ بأيّ ماء شئت)، ونحن نعلم أنّ الوضوء بالماء النجس غير صحيح، وشككنا في أنّ الماء الخارج من المعدن نجس أو لا؟ فهذه بلحاظ العموم والخصوص شبهة مصداقيّة لا مفهوميّة؛ إذ شبهة خروج ماء المعدن عن تحت العامّ بالتخصيص وعدمه ناشئة من الشكّ في مصداق النجس لا مفهومه، لكنّه بلحاظ نفسه شبهة حكميّة لا موضوعيّة، فإنّ النجاسة حكم من أحكام الشارع وقد شككنا في أنّه هل حكم الشارع بنجاسة المعدن أو لا؟

ونحوه ما لو قال: (صلّ في اللباس المساور لأيّ شخص)، وعلمنا أنّه لا تصحّ الصلاة في اللباس النجس، لكن شككنا في أنّه هل الكافر الكتابيّ نجس حتّى يكون الثوب المساور له نجساً أو لا؟

وهكذا أيضاً لو قال: (صلّ في اللباس المتّخذ من أيّ حيوان)، وعلمنا أنّه لا تجوز الصلاة في اللباس المتّخذ ممّا لا يقبل التذكية أو ممّا يحرم أكله، وشككنا في أنّ الحيوان الفلانيّ هل يقبل التذكية أو هل يحلّ أكله أو لا؟ فإنّ الشكّ في ذلك يكون بلحاظ المخصّص شكّاً في مصداقه لا مفهومه، لكنّه في نفسه شبهة حكميّة لا موضوعيّة، فإنّ حرمة الأكل وحلّيّته وكذا قبول التذكية وعدمه يكون من أحكام

297

الشارع وقد وقع الشكّ فيما جعله من الحكم في هذا القسم من الحيوان.

ونحوه ما لو قال المولى: (حجّ على أيّ حال)، وعلمنا أنّه لا يجب الحجّ مع الابتلاء بمزاحم أهمّ، وشككنا في أنّ أداء الدين المزاحم له أهمّ أو لا، فإنّ هذا شكّ في مصداق المخصّص لا مفهومه، لكنّه في نفسه شبهة حكميّة لا موضوعيّة، فإنّ الشكّ في أصل كون أداء الدين أهمّ شبهة حكميّة.

والخلاصة: مهما كان الشكّ ذا اعتبارين، أي: أنّه باعتبار المخصّص شبهة مصداقيّة وباعتبار نفسه شبهة حكميّة، يجوز التمسّك بالعامّ بالتقريب الأوّل من التقريبات الثلاثة لجواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة؛ لأنّ بيان الحكم في الشبهة الحكميّة من وظيفة الشارع ومن دأبه وديدنه وليس خلاف ما هو المتعارف بشأنه، فبمجرّد احتمال كونه في مقام بيان ذلك نأخذ بالعموم.

وممّا يمكن أن يدخل في هذا المورد ما ورد في صحيح زرارة في مَن جهر فيما ينبغي فيه الإخفات وبالعكس: من أنّه إن كان ذلك عن علم وعمد فعليه الإعادة، فإنّ هذا مخصَّص عقلاً بخروج فرض كون الانبغاء استحبابيّاً لا وجوبيّاً، فإذا ورد الدليل في مورد على انبغاء الجهر أو الإخفات وشككنا في أنّه انبغاء وجوبيّ أو استحبابيّ تمسّكنا بهذا العموم ـ بناءً على عدم عدّ هذا التخصيص متّصلاً ـ وثبت كونه وجوبيّاً؛ لأنّ الشبهة في نفسها حكميّة وإن كانت بالقياس إلى التمسّك بالعامّ في شبهة المخصّص مصداقيّة.

وأمّا على مبنى المحقّق النائينيّ(قدس سره) مثلاً الذي لا يقول بهذا الاستثناء فلا يجوز هنا التمسّك بالعامّ لإثبات كون الانبغاء وجوبيّاً.

هذا. ولكن يحتمل أنّه كان مقصود زرارة هو السؤال عن أنّ الموارد التي ينبغي فيها الجهر أو الإخفات هل ذلك فيه وجوبيّ أو استحبابيّ، وعلى هذا ففي مورد

298

الشكّ يثبت الوجوب بهذا الحديث على جميع المباني بلا إشكال، ويخرج هذا الحديث عمّا نحن فيه.

والشاهد على ما ذكرناه من الاحتمال هو: أنّ زرارة إن كان نظره إلى فرض العمد فوجوب الإعادة بترك الواجب في الصلاة عمداً من الواضحات ولا يحتاج إلى سؤال. وإن كان نظره إلى فرض غير العمد لم يناسب جواب الإمام(عليه السلام)عن فرض العمد. إذن فلعلّ المراد ما ذكرناه.

وأمّا احتمال كون سؤاله عن أنّ الجهر أو الإخفات هل هو قيد الصلاة أو واجب في واجب فبعيد جدّاً(1).

ثُمّ إنّ ما قلناه: من جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة في هذين الموردين إنّما هو مع فرض عدم نصب المولى قرينة على أنّه ليس في مقام الإخبار عن الموضوع، وإلّا فلا مجال للتمسّك به كما هو واضح.



(1) لا يخفى أنّ صحيح زرارة هذا هو ما رواه في الوسائل، ب 26 من القراءة في الصلاة، ح 1 نقلاً عن الصدوق في الفقيه بإسناده عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام)في رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه وأخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه فقال: «أيّ ذلك فعل متعمّداً فقد نقض صلاته وعليه الإعادة، فإن فعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو لا يدري فلا شيء عليه وقد تمّت صلاته».

والتعبير في هذا الحديث جاء بلسان (لا ينبغي) وليس بلسان (ينبغي) والفرق بينهما كبير، فإنّ (ينبغي) لا يدلّ على الوجوب ولكن (لا ينبغي) يدلّ على الامتناع إمّا تكويناً كما في قوله تعالى: (لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أنْ تُدرِكَ القَمَر﴾ أو تشريعاً كما في الأحكام، فالتمسّك بالحديث في مورد الشكّ في وجوب الجهر أو الإخفات يكون تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ وهو غير جائز يقيناً.

299

ونصب القرينة على ذلك تارةً يكون بالتصريح بذلك، واُخرى يكون بما يدلّ على ذلك من دون تصريح به، ومنه بيانه للمخصّص بعنوان التخصيص.

توضيح ذلك: أنّ المخصّص تارةً: يكون لبّيّاً، أي: أنّ الدالّ على التخصيص هو العقل، كما لو قال: (أكرم كلّ عالم من علماء هذا البلد)، وعلمنا أنّ المولى سنخ مولىً لا يحكم بإكرام الفسّاق، ويلحق بذلك الإجماع على بعض المباني في الإجماع. وهذا القسم من التخصيص لا يكون قرينة على عدم كون المولى في مقام بيان الموضوع.

واُخرى: يكون لفظيّاً، أي: أنّ المولى بنفسه صرّح بالمخصّص، وهذا على قسمين:

فإنّه تارةً: يصرّح بالمخصّص لكن لا بعنوان التخصيص، كما لو قال: (أكرم كلّ عالم من علماء هذا البلد)، وقال أيضاً: (أنا لا أرضى بإكرام فاسق قطّ)، بحيث لم نحتمل كون مقصوده عدم الرضا بإكرام الفاسق الجاهل فقط. وهذا القسم من التخصيص أيضاً ليس قرينة على عدم كونه في مقام بيان الموضوع.

واُخرى: يصرّح بالمخصّص بعنوان التخصيص، كما لو قال: (أكرم كلّ عالم من علماء هذا البلد)، وقال أيضاً: (لا تكرم فسّاق علماء هذا البلد). وهذا القسم من التخصيص يكون عرفاً قرينة على عدم كونه في مقام بيان الموضوع والإخبار عن عدالة علماء البلد، والوجه في ذلك بعض اُمور ثلاثة:

الأوّل: أن يقال: لو كان المولى بقوله: (أكرم كلّ علماء البلد) مخبراً عن عدالة الجميع لكان قوله: (لا تكرم فسّاق علماء البلد) لغواً.

وهذا إنّما يتمّ بضمّ ظهور عرفيّ يكمل دعوى اللغويّة، وإلّا أمكن أن يقال: إنّ اللغويّة غير ثابتة؛ إذ لعلّ قوله: (لا تكرم فسّاق علماء البلد) صدر منه بداعي بيان

300

مناط الحكم، وأنّه لا يرضى بإكرام الفاسق ولو كان عالم هذا البلد مثلاً، وهذالا يصبح لغواً بعلم المولى بعدالة جميعهم.

نعم، لو ضممنا مثلاً إلى مسألة اللغويّة ظهور المخصّص أحياناً ـ كما لو كان في مقام بيان حكم إلزاميّ ـ في كونه صادراً بداع مقدّميّ ناظراً إلى حكم خصوص الفرض في الخارج، لا لمجرّد بيان مناط الحكم تمّ هذا الوجه؛ إذ من الواضح أنّه مع فرض عدالة جميعهم في نظر المولى لا تعقل هذه المقدّميّة.

الثاني: أن يقال ابتداءً: إنّ قوله: (لا تكرم فسّاق علماء البلد) ظاهر عرفاً في أنّ المولى إن لم يكن عالماً بفسق بعضهم فلا أقلّ من أنّه ليس عالماً بعدالة جميعهم، فلا يحتمل كون قوله: (أكرم كلّ علماء البلد) إخباراً عن عدالة جميعهم. وهذا الوجه موافق للذوق العرفيّ ولا إشكال فيه.

الثالث: أن يقال: إنّ قوله: (لا تكرم فسّاق علماء البلد) مع قطع النظر عمّا مضى ـ من ظهوره في عدم علم المولى بعدالة الجميع ـ يكون بنفسه ظاهراً عرفاً في أنّ المولى بصدد بيان كبريات المطلب، وجعل تشخيص الموضوع على عاتق العبد. وهذا الوجه أيضاً موافق للذوق العرفيّ ولا إشكال فيه.

ثُمّ لو ثبت فسق بعض علماء البلد بالخصوص فبناءً على تماميّة الوجه الثالث لا يمكن أيضاً إثبات عدالة تمام الباقي بالعامّ. لكن لو اعتمدنا على الوجه الأوّل أو الثاني فحسب دون الثالث، فمع فرض ثبوت فسق بعضهم بالخصوص يمكن إثبات عدالة الباقي بالعامّ؛ لعدم جريان ذينك الوجهين في هذا الفرض كما هو واضح(1).

 


(1) لا يخفى أنّه إذا تمّ البناء ـ بعد أن ورد المخصّص بعنوان التخصيص ـ على عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص قبل معرفة فاسق فيهم مثلاً، فعدم

301

هذا تمام الكلام فيما هو المختار في التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص المنفصل.

 

الكلام في تفصيل الشيخ الأعظم في المقام:

وقد نقل عن الشيخ الأعظم(قدس سره) في ذلك تفصيل(1)، وهو: أنّ المخصّص إن كان لفظيّاً لم يجز التمسّك بالعامّ وإن كان لبّيّاً جاز التمسّك به.

 


جواز التمسّك فيه بعد معرفة فاسق فيهم أوضح، من دون فرق بين أن يقرّب عدم جواز التمسّك بالوجه الأوّل أو الثاني أو الثالث. فالظاهر أنّ مقصود اُستاذنا(رحمه الله)هو الكلام عمّا إذا لم يرد مخصّص من هذا القبيل ولكن مع ذلك علمنا بتخصيص لبّيّ أو بتخصيص بغير لسان التخصيص أخرج الفاسق مثلاً عن الحكم، فبنينا على حجّيّة العامّ في الشبهة المصداقيّة، فترقَّبْنا أن يكون الكلّ عدولاً، ثُمّ اتّفق أنّنا علمنا بفسق أحدهم فقطعنا بخروجه من العامّ وشككنا في فسق آخر، فهل يبقى العامّ حجّة في الآخر وتثبت بالملازمة عدم فسقه أو لا؟

والجواب: إن وافقنا على الوجه الثالث من ظهور حال المخصّص في إلقاء تشخيص الموضوع على عاتق العبد، فنفس ظهور الحال هذا موجود في نفس العامّ بعد فرض علمه بوجود فاسق فيهم، فينغلق باب التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة في الشخص الثاني. أمّا لو لم نؤمن بالوجه الثالث وإنّما آمنّا بمسألة اللغويّة فمن الواضح أنّه لا لغويّة في المقام، أو آمنّا بمسألة ظهور المخصّص في جهل المولى فليس هنا مخصّص يكون ظاهراً في جهل المولى، فيبقى الباب مفتوحاً للتمسّك بالعامّ بشأن الشخص الثاني.

(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 474 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 536 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

302

وأحسن ما يقال في وجه ذلك: هو أنّ المخصّص إن كان لفظيّاً فالحجّة على التخصيص هو الظهور الذي ثبتت حجّيّته تعبّداً ببناء العقلاء، وإذا احتملنا فسق زيد العالم مع أنّ المولى قال: (لا تكرم فسّاق العلماء) فلا محالة نحتمل دخوله فيما هو الحجّة على التخصيص وهو ظهور الخاصّ، فلا يمكننا التمسّك بالعامّ المفروض عدم حجّيّته فيما يكون داخلاً في الحجّة على التخصيص؛ لمزاحمته مع الحجّة الأقوى.

وأمّا إن كان المخصّص هو حكم العقل أو الإجماع الحاكم بأنّ المولى لا يريد إكرام فسّاق العلماء فهذا ليس بنفسه حجّة تعبّداً، وإنّما يكون ملاك حجّيّته حصول القطع والحجّة في الحقيقة هو القطع، وعلى هذا فلو شككنا في فسق زيد وعدمه نقطع بأنّه غير داخل تحت الحجّة على التخصيص؛ إذ الحجّة على التخصيص إنّما هو القطع بالخروج، ومن الواضح أنّنا لا نقطع بخروج زيد. ففرقٌ واضح بين ما لو كانت الحجّة على التخصيص هو الظهور أو كانت الحجّة عليه هو القطع، فإنّ الظهور في خروج الفسّاق ينحلّ إلى ظهورات متعدّدة بعدد أفراد الفاسق الواقعيّ، وأمّا القطع والعلم بخروج الفسّاق فلا ينحلّ إلّا إلى علوم متعدّدة بعدد الأفراد المعلومة الفسق. وأمّا الفرد غير المعلوم الفسق فلا يسري إليه القطع بالخروج ولو كان في الواقع فاسقاً(1).



(1) إن قصد بالحجّيّة التنجيز والتعذير فالحجّيّة مخصوصة بالقدر المتيقّن سواءً في المخصّص اللفظيّ أو اللبّيّ. وإن قصد بها كاشفيّة المخصّص عن الحكم المخالف للعامّ كشفاً كبرويّاً بغضّ النظر عن التطبيق على الصغرى فالحجّيّة ثابتة بلحاظ تمام دائرة التخصيص الواقعيّ سواءً في المخصّص اللفظيّ أو اللبّيّ، وافتراض أنّ الكشف أو الحجّيّة تعبّديّة تارةً وعقليّة اُخرى لا يؤثّر في الحساب. وإن قصد بها الكشف عن الحكم المخالف صغرويّاً وبعد التطبيق فأيضاً الحجّيّة مخصوصة بالقدر المتيقّن بلا فرق بين القسمين.

303

ولكنّ التحقيق: أنّه لا يتمّ هذا التقريب سواءً سلكنا في مقام إثبات عدم حجّيّة العامّ في الشبهة المصداقيّة المسلك المختار أو سلكنا في ذلك المسلك المشهور، وبلا فرق بين القضايا الحقيقيّة والقضايا الخارجيّة:

أمّا في القضايا الحقيقيّة: فلا يجوز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة في غير ما استثنيناه ولو كان المخصّص لبّيّاً، ولا يتمّ فيها التقريب المذكور بلا فرق بين مسلكنا ومسلك المشهور:

أمّا بناءً على مسلكنا الذي كانت خلاصته أنّه لو اُريد التمسّك بالعامّ بلحاظ الشبهة الحكميّة كان معناه إثبات أنّه يجب إكرام زيد ولو كان فاسقاً وهذا مقطوع العدم، ولو اُريد التمسّك به بلحاظ الشبهة الموضوعيّة وإثبات أنّه يجب إكرام زيد لكونه عادلاً أو غير فاسق كان ذلك متوقّفاً على إعمال المولى علمه بالغيب في مقام الإخبار وليس هذا شأنه عند بيان الأحكام، فأنت ترى أنّ هذا الوجه يجري حتّى في المخصّص اللبّيّ، فإنّ المفروض حصول القطع بخروج الفاسق، وهذا القطع وإن لم يكن منحلاًّ على الأفراد المشكوكة الفسق، فزيد المشكوك فسقه غير داخل في القطع بالخروج، لكن مع ذلك لا يمكن إثبات وجوب إكرامه؛ لأنّ أصل الكبرى ـ وهي عدم وجوب إكرام الفاسق ـ مقطوع بها، فإن اُريد التمسّك بالعامّ بلحاظ الشبهة الحكميّة كان معناه إثبات وجوب إكرامه ولو كان فاسقاً وهذا مقطوع العدم. وإن اُريد التمسّك به بلحاظ الشبهة الموضوعيّة وإثبات وجوب إكرامه لعدالته أو عدم فسقه كان ذلك متوقّفاً على إعمال علم الغيب المفروض خلافه(1).



(1) خصوصاً في القضايا الحقيقيّة.

304

وأمّا بناءً على مسلك المشهور، وهو: أنّ موضوع الحكم أصبح مركّباً من جزءين والجزء الثاني مشكوك فيه، ومع الشكّ في الموضوع لا يمكن ثبوت الحكم، فأيضاً لا يجوز التمسّك به في المخصّص اللبّيّ؛ لجريان عين هذا الوجه فيه، فزيد المشكوك فسقه وإن لم يكن داخلاً في القطع بالخروج لكن لا يمكن مع ذلك إثبات وجوب إكرامه؛ لأنّ القطع بأصل الكبرى ـ وهي عدم وجوب إكرام الفاسق ـ ثابت، فقد علمنا لا محالة بتركّب الموضوع من جزءين والجزء الثاني مشكوك فيه على الفرض، فلا يمكن إثبات الحكم. وأيّ فرق بين أن يثبت جزءٌ مشكوك الحصول للموضوع بخبر الثقة أو يثبت ذلك بحكم العقل؟ هذا كلّه في القضايا الحقيقيّة.

وأمّا في القضايا الخارجيّة ـ كقوله: (أكرم كلّ عالم البلد) وقوله: (لا تكرم فسّاق علماء البلد) ـ: فإن كان المسلك في عدم حجّيّة العامّ في الشبهات المصداقيّة هو المسلك المختار فلا يأتي على التمسّك بالعامّ فيها هنا ـ مع فرض محدوديّة الأفراد بحيث يمكن عادةً إطّلاع المولى على حالهم ـ ما مضى من إشكال عدم كون بناء الشارع على إعمال علم الغيب، فيصحّ فيه التمسّك بالعامّ مع عدم نصب القرينة على عدم الإخبار عن حال الأفراد، لكن ملاك ذلك كون العامّ قضيّة خارجيّة فيمكن للمولى الالتفات إلى الأفراد، لا كون المخصّص لبّيّاً ويصحّ فيه التمسّك بالعامّ ولو كان المخصّص لفظيّاً ما لم تكن قرينة على عدم الإخبار عن حال الأفراد.

وأمّا إن كان المسلك في ذلك ما سلكه المشهور من أنّ الموضوع صار ذا جزء مشكوك التحقّق، فإن برهنّا على صيرورته ذا جزء وأنّ العامّ تعنون بعد التخصيص بعنوان وجوديّ أو عدميّ بما مضى منّا ـ من كون تبعيّة الأحكام للملاكات

305

مستلزمة لذلك ـ فيأتي عين الكلام في فرض كون المخصّص لبّيّاً، فإنّه بعد أن فرض القطع بخروج الفاسق، وأنّ خروجه يكون لاختصاص ملاك الإكرام بالعالم العادل أو العالم غير الفاسق يثبت ـ لا محالة ـ تعنون العامّ بعنوان وجوديّ أو عدميّ وثبوت جزء للموضوع مشكوك تحقّقه، فلا يمكن إثبات الحكم لفرض الشكّ في الموضوع.

وأمّا إن برهنّا على ذلك بما أفاده المحقّق النائينيّ(قدس سره) ـ من أنّ الإهمال غير معقول، والإطلاق يستلزم ثبوت الحكم بالنسبة لمَن هو فاسق وهو خلف، فتعيّن التقييد ـ فعندئذ نفصّل في القضيّة الخارجيّة بين ما لو علم بفسق بعض الأفراد أو احتمل عدالة الجميع:

فإنّه على الأوّل يأتي عين البرهان، وهو: أنّ الإهمال غير معقول، والإطلاق يستلزم ثبوت الحكم بالنسبة لمَن هو فاسق، فيثبت بهذا البرهان جزء للموضوع وهو مشكوك الحدوث، فلا يثبت الحكم سواءً كان المخصّص لفظيّاً أو لبّيّاً.

وأمّا إن احتملنا عدالة الجميع فيجوز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، لا لما مضى من البرهان على التفصيل بين المخصّص اللبّيّ واللفظيّ، بل يجوز التمسّك حتّى لو كان المخصّص لفظيّاً؛ وذلك لأنّه وإن ثبت عدم جواز إكرام العالم الفاسق وسمّينا ذلك بالتخصيص، مع أنّه من المحتمل كون جميع علماء البلد عدولاً، لكن لم يثبت جزء للموضوع ولم يثبت تعنون العامّ بعنوان؛ لأنّ البرهان على ذلك لم يكن إلّا أنّ الإهمال محال، والإطلاق مستلزم لوجوب إكرام الفرد الفاسق، وهذا التقريب ـ كما ترى ـ لا يأتي هنا؛ لأنّه لم يثبت كون الإطلاق مستلزماً لوجوب إكرام الفاسق؛ لأنّه من المحتمل أن لا يكون فيهم فرد فاسق.

ثُمّ إنّه تعارف التمثيل للمخصّص اللبّيّ بما ورد عن الإمام(عليه السلام)من قوله: «لعن

306

الله بني اُميّة قاطبة» مع جزم العقل بأنّ الإمام(عليه السلام) لا يلعن المؤمن، فيقال: إنّه يجوز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، أي: عند الشكّ في إيمان بعض أفراد بني اُميّة؛ لكون المخصّص لبّيّاً.

وأقول: إنّ الوجه في جواز التمسّك بالعامّ هنا هو كون العامّ قضيّة خارجيّة لا كون المخصّص لبّيّاً؛ فإنّ الظاهر أنّ لعنه(عليه السلام) كان لكلّ مَن وجد في ذلك الزمان من بني اُميّة، لا أنّه يفهم من ذلك الكلام لعن كلّ مَن سبق من بني اُميّة وكلّ مَن يوجد بعد ذلك وكلّ فرد مقدّر الوجود، فإنّ المفهوم عرفاً من ذاك الكلام ما ذكرناه.

 

الكلام في تفصيل المحقّق النائينيّ في التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص اللبّيّ:

ثمّ إنّ المحقق النائينيّ(قدس سره) ذهب في المخصّص اللبّيّ إلى تفصيل فقال بجواز التمسّك فيه بالعامّ في الشبهة المصداقيّة في بعض الموارد وعدم جوازه في بعض الموارد(1)، وتوضيح مقصوده يتوقّف على ذكر مقدّمة وهي:

أنّه لا إشكال في أنّ الحكم يكون مرتبطاً بأمرين: أحدهما: الموضوع بجميع خصوصيّاته، وثانيهما: الملاك، فكلاهما مشتركان في أنّ الحكم ينتفي بانتفائه، فمهما انتفى الملاك أو الموضوع ـ ولو ببعض خصوصيّاته ـ انتفى الحكم، ولكن بينهما فرق من جهة، وهي: أنّ الموضوع يؤخذ قيداً للحكم، فإذا كان موضوع



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 475 ـ 488 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 536 ـ 539 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

307

الحكم مثلاً هو العالم العادل يقول المولى مثلاً: (أكرم كلّ عالم عادل)، وهذا بخلاف الملاك، فإنّه لا يؤخذ قيداً للحكم بأن يقول المولى: (أكرم كلّ عالم عادل إن كان فيه ملاك)، فإنّ هذا رفع لليد عن مولويّته، فإنّ شغل المولى إحرازه بنفسه للملاك والحكم على طبق الملاك.

ويترتّب على هذا الفرق فرق آخر، وهو: أنّ الموضوع يكون ملقىً إلى المكلّف ويكون تشخيصه على عاتق المكلّف، ولا يمكن إحراز العلم أو العدالة بقول المولى: (أكرم كلّ عالم عادل). وأمّا الملاك فليس ملقىً إلى المكلّف وليس تشخيصه على عاتقه، بل نفس الحكم كاشف عن ثبوت الملاك.

وبعد هذه المقدّمة نقول: إنّ المحقّق النائينيّ(قدس سره) ذهب إلى التفصيل في المخصّص اللبّيّ بين ما لو علمنا بالتخصيص من ناحية العلم بثبوت جزء زائد للموضوع لم يذكر في كلام المولى، فكلّ ما لا يوجد فيه ذلك الجزء لا يوجد فيه الحكم، وما لو علمنا بالتخصيص بخروج بعض من جهة عدم وجدانه للملاك لا من جهة فقدانه لجزء الموضوع، فإن كان من قبيل الأوّل لا يمكن التمسّك بالعامّ عند الشكّ؛ للشكّ في الموضوع، وإحراز الموضوع يكون على عاتق العبد ولا يُحرَز بنفس الحكم. وإن كان من قبيل الثاني فعند الشكّ نتمسّك بالعامّ؛ لأنّ شكّنا إنّما هو في الملاك لا الموضوع، ونفس الحكم كاشف عن الملاك.

وقد مثّل(رحمه الله) لذلك بما ورد عن الإمام(عليه السلام) من قوله: «لعن الله بني اُميّة قاطبة»، بدعوى أ نّا نقطع بخروج الاُمويّ المؤمن لا من باب العلم بثبوت جزء للموضوع غير متحقّق في الاُمويّ المؤمن، بل من باب العلم بأنّ ملاك لعنه(عليه السلام) ـ وهو بغضهم لأهل البيت(عليهم السلام) ـ غير موجود في الاُمويّ المؤمن، ومَن شككنا منهم في بغضه وعدمه نتمسّك في حقّه بالعامّ ونثبت بذلك ثبوت الملاك فيه وهو البغض.

308

أقول: إنّ هذا التفصيل لولا أنّه صدر من المحقّق النائينيّ(قدس سره) لم يكن مستحقّاً للذكر. والإنصاف أنّه من غرائبه(قدس سره)؛ وذلك لأنّ ثبوت الملاك في بعض أفراد الموضوع دون بعض لا يعقل إلّا بأن يكون للموضوع جزء لم يتحقّق في ذلك الفرد، فالشكّ في الملاك دائماً يرجع إلى الشكّ في الموضوع.

وأغرب من هذا تمثيله(قدس سره) لذلك بمثال اللعن وجعل بغضهم لأهل البيت(عليهم السلام)ملاكاً للّعن، فإنّ البغض يكون من حالاتهم لا ملاكاً للعنهم، كيف! مع أنّ الملاك عبارة عن العلّة الغائيّة التي هي مؤخّرة في الوجود الخارجيّ ومقدّمة بحسب عالم الذهن، وهي الغرض من جعل الحكم، فملاك اللعن هو ترويج أهل البيت مثلاً لا بغضهم لأهل البيت، فإنّ بغضهم لأهل البيت ليس مؤخّراً عن اللعن في الوجود الخارجيّ بل مقدّم عليه، ومعنى كون بغضهم لأهل البيت ملاكاً للّعن أن يكون الغرض من اللعن حصول البغض، وهذا لا معنى له.

 

الكلام في التمسّك باستصحاب العدم الأزليّ لإثبات حكم العامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص:

بقي الكلام في التعويض عن العامّ باستصحاب العدم الأزليّ.

فقد وقع الكلام بين المحقّقين ـ قدّس الله أسرارهم ـ في أنّه بعد أن لم يجز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة هل يجوز التمسّك باستصحاب العدم الأزليّ لإثبات حكم العامّ أو لا؟

وتوضيح الكلام: أنّ عدم الوصف لشيء تارةً يعلم ثبوته في السابق في زمان وجود الموصوف، كما لو قال: (أكرم كلّ عالم)، وقال: (لا تكرم فسّاق العلماء)، واُريد استصحاب عدم فسق زيد الثابت ولو في حال صغره، وهذا لا يسمّى

309

باستصحاب العدم الأزليّ. واُخرى لا يكون هذا العدم معلوماً إلّا بلحاظ ما قبل وجود الموصوف كعدم القرشيّة، وهذا هو المسمّى باستصحاب العدم الأزليّ.

وعمدة البحث بعد عدم صحّة التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة إنّما هي في إمكان التمسّك باستصحاب العدم الأزليّ وعدمه. وأمّا التمسّك باستصحاب العدم غير الأزليّ ـ كما في مثال إخراج الفسّاق بالتخصيص ـ فلا تكون فيه عمدة بحث، وإن كان هو بحاجة إلى بحث في الجملة ويعلم حاله من طيّ كلماتنا إن شاء الله. هذا.

وقد ذهب المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) إلى صحّة التمسّك باستصحاب العدم الأزليّ لإثبات حكم العامّ(1)، ووافقه على ذلك السيّد الاُستاذ(2) دامت بركاته، وخالفه المحقّق النائينيّ(3)(قدس سره) والمحقّق العراقيّ(رحمه الله)(4) على تقدير.

وهناك فرق بين إشكال المحقّق النائينيّ على استصحاب العدم الأزليّ وإشكال



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 346 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 464 ـ 471 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، والمحاضرات للفيّاض، ج 5، ص 207 ـ 232 بحسب طبعة مطبعة صدر بقم.

(3) راجع فوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 530 ـ 536 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، الطبعة التي أشرنا إليها، ص 464 ـ 474.

(4) راجع المقالات، ج 1، ص 445 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ، ونهاية الأفكار، ج 1 ـ 2، ص 528 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وفوائد الاُصول، ج 4 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، ص 506 ـ 507 تحت الخطّ.

310

المحقّق العراقيّ عليه على تقدير، وهو: أنّ إشكال المحقّق النائينيّ إنّما يأتي علىالاستصحاب في خصوص ما نحن فيه، أعني: استصحاب عدم عنوان الخاصّ لإثبات حكم العامّ، ونحوه استصحاب عدم عنوان المقيّد لإثبات حكم المطلق. وأمّا لو اُريد استصحاب عدم عنوان الخاصّ لا لإثبات حكم العامّ بل لنفي حكم الخاصّ، أو لم يكن لنا عامّ وخاصّ، كما لو قال: (يحرم إكرام العالم الاُمويّ) واُريد استصحاب عدم اُمويّة هذا العالم لنفي الحرمة من دون وجود عامّ في المقام، فإشكال المحقّق النائينيّ(قدس سره) لا يأتي عليه، لكن إشكال المحقّق العراقيّ(قدس سره)على التقدير الخاصّ ثابت في جميع الصور الثلاث.

نعم، للمحقّق النائينيّ(قدس سره) إشكال آخر في استصحاب العدم الأزليّ غير مربوط بما نحن فيه، وهو مختصّ بالصورتين الأخيرتين، وهو الذي ذكره هو(قدس سره) في رسالة اللباس المشكوك في مقام دفع القول باستصحاب العدم الأزليّ لوصف من الأوصاف لنفي حكمه، وسنذكره ـ إن شاء الله ـ بعد انتهاء كلامنا مع المحقّق النائينيّ(قدس سره) فيما نحن فيه.

ثُمّ لا إشكال في أنّ الاستصحاب إنّما يجري فيما يكون حكماً شرعيّاً أو موضوعاً لحكم شرعيّ، وعلى هذا فلو بنينا على مبنى المحقّق العراقيّ(قدس سره) ـ من عدم تعنون العامّ بعد التخصيص بعنوان ـ لا معنى لاستصحاب عدم عنوان الخاصّ لإثبات حكم العامّ ولو كان عدماً غير أزليّ؛ لأنّ المستصحب ليس بنفسه حكم العامّ ولا موضوعه.

فكلامنا في استصحاب العدم الأزليّ بالنسبة لباب العامّ والخاصّ إنّما هو بعد فرض البناء على تعنون العامّ؛ لما عرفت من أنّه بناءً على مبنى المحقّق العراقيّ لا مجال لهذا البحث بالنسبة لهذا الباب. نعم، له مجال واسع بالنسبة لباب المطلق والمقيّد؛ لأنّه لا إشكال في أنّ المطلق يعنون بعنوان خاصّ بعد التقييد.

311

ولكن للمحقّق الخراسانيّ(قدس سره) في الكفاية كلام يظهر منه جريان البحث بالنسبة لباب العامّ والخاصّ حتّى بناءً على عدم تعنون العامّ بعد التخصيص بعنوان، حيث قال ما لفظه:

«لا يخفى أنّ الباقي تحت العامّ بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتّصل لمّا كان غير معنون بعنوان خاصّ بل بكلّ عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاصّ كان إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعيّ في غالب الموارد إلّا ما شذّ ممكناً، فبذلك يحكم عليه بحكم العامّ...».

ومقصوده(قدس سره) بهذا الكلام: أنّه لو كان العامّ معنوناً بسبب التخصيص بعنوان كان إثبات ذلك العنوان باستصحاب العدم الأزليّ محتاجاً إلى بحث في أنّ ذاك العنوان ما هو؟ وربّما لا يثبت بذلك البحث كونه عنواناً قابلاً لإحرازه باستصحاب العدم الأزليّ، لكن العامّ لم يعنون بسبب التخصيص بعنوان خاصّ حتّى نقع في هذا الإشكال، بل جميع العناوين كانت داخلة فيه، فإنّ العامّ يدلّ على استيعاب الحكم لتمام ما تحته بأيّ عنوان من العناوين.

فقوله: (أكرم كلّ عالم) دلّ على وجوب إكرام كلّ عالم موصوف بكونه قرشيّاً، وعلى وجوب إكرام كلّ عالم موصوف بكونه غير اُمويّ، وعلى وجوب إكرام كلّ عالم غير موصوف بكونه اُمويّاً، وعلى وجوب إكرام كلّ عالم موصوف بكونه اُمويّاً وغير ذلك من العناوين. وإذا ورد: (لا تكرم العلماء الاُمويّين) فقد خرج بالتخصيص العنوان الأخير وبقيت العناوين الثلاثة السابقة؛ لكون بعضها ضدّ عنوان الخاصّ وبعضها نقيضه، فلا معنى لخروجها بهذا التخصيص، وإذا كان كذلك قلنا: إنّ العنوان الأوّل والثاني وإن لم يمكن إحرازه باستصحاب العدم الأزليّ لكنّ العنوان الثالث ـ أعني: عدم اتّصافه بالاُمويّة ـ يحرز باستصحاب العدم الأزليّ.

312

أقول: يرد على ما أفاده(قدس سره): أنّ العامّ إنّما يدلّ على ثبوت الحكم للأفراد ولا يدلّ على دخل العناوين الخاصّة في ذلك وكونها الجزء المتمّم للموضوع، بل ذهب بعض إلى أنّه يدلّ على خلاف ذلك، أي: أنّه يدلّ على أنّ الحكم ثابت للأفراد بما هي فرد لعنوان العامّ دون غير ذلك.

 

تحقيق الكلام في المسألة:

وأمّا تحقيق أصل المطلب فنقول:

إنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) والسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ اختلفا في جواز التمسّك باستصحاب العدم الأزليّ لإثبات حكم العامّ وعدمه، لكنّهما متّفقان في الكبريات وإنّما اختلافهما في الصغرى، فإنّ كليهما متّفقان في تعنون العامّ بعد التخصيص بعنوان خاصّ، وفي أنّ العدم الذي صار جزءاً للموضوع إن كان عدماً محموليّاً جاز استصحاب العدم الأزليّ، وإن كان عدماً نعتيّاً لم يجز، ومقصودهما من العدم المحموليّ ما لو كان عدم الاُمويّة مثلاً ملحوظاً بحدّ ذاته بدون نظر إلى صيرورته وصفاً للعالم، ومن العدم النعتيّ ما لو كان ملحوظاً بما هو نعت. وبكلمة اُخرى: تارةً يكون الموضوع العالم غير المتّصف بالاُمويّة، واُخرى يكون الموضوع العالم المتّصف بعدم الاُمويّة، فالأوّل يسمّى عدماً محموليّاً والثاني عدماً نعتيّاً. وبحسب الاصطلاح المنطقيّ يكون العدم المحموليّ من باب السلب التحصيليّ، والعدم النعتيّ من باب الإيجاب المعدول المحمول.

فإن كان من قبيل الأوّل جاز استصحاب العدم الأزليّ؛ لأنّ العدم كان ثابتاً ولو من باب السالبة بانتفاء الموضوع، وإن كان من قبيل الثاني لم يجز؛ لأنّ اتّصافه بعدم الاُمويّة قبل وجوده غير معقول، وإثبات العدم النعتيّ باستصحاب العدم المحموليّ تعويل على الأصل المثبت.

313

هذا كلّه ما اتّفق عليه المحقّق النائينيّ(قدس سره) والسيّد الاُستاذ، ووقع الخلاف بينهما في أنّ المحقّق النائينيّ أثبت بالبرهان كون العدم المأخوذ نعتيّاً، والسيّد الاُستاذ أبطل ذلك البرهان وأثبت كونه محموليّاً بالاستظهار العرفيّ.

وقال المحقّق النائينيّ(قدس سره): إنّه مهما كان الموضوع مركّباً من جزءين فتارةً: يكون الجزءان عبارة عن عَرَض ومحلّه، واُخرى: لا يكون كذلك، كما لو كان عبارة عن جوهرين أو عَرَضين لمحلّين أو لمحلّ واحد أو جوهر وعرض لمحلّ آخر:

فإن كان من قبيل الثاني: فالنعتيّة غير معقولة؛ لعدم إمكان صيرورة جوهر وصفاً لجوهر آخر، أو صيرورة عرض وصفاً لعرض آخر، أو صيرورة عرض لمحلّ وصفاً لجوهر آخر، فلابدّ من أن يكون كلّ من الجزءين بالنسبة للآخر محموليّاً، فإذا كان أحدهما عدميّاً أمكن إثباته باستصحاب عدمه الثابت قبل الجزء الآخر إلّا مع فرض التقيّد بمثل عنوان المقارنة.

(ونؤجّل بيان ما ذهب إليه(قدس سره) في هذا القسم من كيفيّة تصوير كون الموضوع مركّباً من هذين الأمرين وجريان استصحاب العدم السابق على الجزء الآخر في ذلك وعدمه إلى محلّه وهو أحد تنبيهات الاستصحاب. والسيّد الاُستاذ وافق شيخه النائينيّ في عدم تصوّر النعتيّة في هذا القسم).

وإن كان من قبيل الأوّل: فمن المتصوّر أن يلحظ العرض نعتيّاً كما أنّه من المتصوّر أن يلحظ بحيال ذاته.

وهنا يقيم الشيخ النائينيّ(رحمه الله) برهاناً على النعتيّة من دون تفريق بين جانب الوجود من العرض وجانب العدم، ويبطل السيّد الاُستاذ ذاك البرهان ويقيم برهاناً آخر على النعتيّة في خصوص فرض كون الجزء الثاني وجود العرض لا عدمه.

314

 

الكلام فيما اتّفق عليه المحقّق النائينيّ(رحمه الله) والسيّد الاُستاذ:

ثُمّ إنّ تحقيق ما توافق عليه هذان المحقّقان ـ من أنّ العدم إذا اُخذ نعتيّاً لم يجر استصحاب العدم الأزليّ ـ يتوقّف على تعمّق في حقيقة النعتيّة، وحقيقة النعتيّة لدى السيّد الاُستاذ ـ بحسب تصريحه في رسالته في اللباس المشكوك ـ هو الوجود الرابط(1) (والذي يقال عنه: إنّه أخسّ أقسام الوجود، حيث يقال: إنّ أقوى الوجودات هو الوجود لنفسه بنفسه في نفسه وهو واجب الوجود، وبعده وجود العرض، وبعده الوجود الرابط(2)).

وذكر السيّد الاُستاذ: أنّه لابدّ من إرجاع العدم النعتيّ إلى أمر وجوديّ، بأن يفرض مثلاً في مثال عدم الاُمويّة أنّ جزء الموضوع هو الكَرَم الملازم لعدم الاُمويّة وليس نفس عدم الاُمويّة، والوجه في ذلك: أنّ الوجود الرابط ـ وهو أمر وجوديّ ـ ليس ثابتاً في نفسه بل هو ثابت في غيره، نظير قيام العرض بمحلّه،



(1) لعلّه إشارة إلى قول السيّد الخوئيّ(رحمه الله): «أمّا في المركّب من العرض ومحلّه فلا مناص فيه من اعتبار العرض نعتيّاً، ضرورة أنّ العرض وجوده في الخارج لا ينفكّ عن وجود نسبة بينه وبين موضوعه، فإنّ وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه، فإذا اُخذ في الموضوع فإمّا أن يؤخذ بنحو النعتيّة ـ أعني بها: وجوده بما هو عرض وقائم بالغير ـ أو بما هو شيء في نفسه مع إلغاء جهة النسبة والنعتيّة: فعلى الأوّل لا مناص عن أخذ الموضوع متّصفاً به، فإنّه معنى النعتيّة». رسالة في اللباس المشكوك للسيّد الخوئيّ(رحمه الله)،ص 49 بحسب طبعة المطبعة العلميّة في النجف الأشرف.

(2) المفروض أن يقال: إنّ أقوى الوجودات هو الوجود لنفسه بنفسه في نفسه وهو واجب الوجود، وبعده وجود الجوهر، وبعده وجود العرض، وبعده الوجود الرابط.

315

فلابدّ من أن يكون طرفاه وجوديّين؛ لعدم معقوليّة قيام وجود بعدم(1).

وبناءً على ما أفاده ـ دامت بركاته ـ من كون النعتيّة عبارة عن الارتباط بالوجود الرابط وإرجاع جزء الموضوع إلى أمر وجوديّ يصبح من الواضح عدم إمكان إحرازه باستصحاب العدم الأزليّ؛ لعدم ثبوت هذا الأمر الوجوديّ في الأزل.

لكن يرد عليه:

أوّلاً: ما حقّقناه في بحث المعاني الحرفيّة وهو مختاره ـ دامت بركاته ـ هناك: من إنكار الوجود الرابط رأساً.

وثانياً: أنّه لو سلّمناه فإنّما نسلّمه في الأعراض المقوليّة الحقيقيّة، ولكن ربّما يكون موضوع الحكم الشرعيّ مركّباً من المحلّ والعرض غير الحقيقيّ بأن يكون اعتباريّاً أو انتزاعيّاً، كما لو جعل موضوع الحكم المرأة مع كونها مطلّقة وجوداً، بأن كان الشرط عبارة عن كونها مطلّقة، أو عدماً، بأن كان الشرط عبارة عن عدم كونها مطلّقة.

وثالثاً: أنّ السيّد الاُستاذ وافق المحقّق النائينيّ في أنّه لو اُخذ وجود العرض جزءاً للموضوع وكان الجزء الآخر محلّه لابدّ من أخذه على نحو النعتيّة لا المحموليّة، لكنّه خالف في كيفيّة الاستدلال على ذلك، فالشيخ النائينيّ ساق الدليل بشكل لو تمّ لأتى حتّى في جانب العدم، ولذا التزم بالنعتيّة في جانب العدم،



(1) لعلّه إشارة إلى قول السيّد الخوئيّ(رحمه الله) في نفس المصدر في الصفحة 56 ـ 57: «لا معنى لارتباط العدم بشيء إلّا بأخذ خصوصيّة فيه ملازمة لعدم العرض، وإلّا فلا معنى لانتساب العدم وارتباطه، فإنّهما من شؤون الوجود».

316

والسيّد الاُستاذ استدلّ بما يكون مختصّاً بجانب الوجود، ولكن لو تمّ تفسير النعتيّة بمعنى الوجود الرابط بين العرض ومحلّه لم يبق مجال لدعوى ضرورة النعتيّة في العرض الوجوديّ؛ إذ بالإمكان عدم أخذ هذا الوجود الرابط دخيلاً في موضوع الحكم.

وأمّا ما يظهر من المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في رسالته في اللباس المشكوك فهو عبارة عن أنّ النعتيّة عبارة عن نفس توصيف المحلّ بعرضه، فهو لا يقول بأنّ الوصف يرتبط بالموصوف بواسطة الوجود الرابط حتّى يرد عليه استحالة الوجود الرابط، بل يقول بأنّ الوصف يرتبط بنفسه بالمحلّ، وهو تارةً: يلحظ بحيال ذاته مع قطع النظر عن قيامه بغيره وارتباطه به فيكون محموليّاً، واُخرى: يلحظ بما هو مرتبط بغيره وحاصلٌ في محلّه فيكون نعتيّاً(1).

إلّا أنّ هذا الكلام ـ كما ترى ـ لو تمّ في جانب وجود الوصف لا يتمّ في جانب العدم؛ لأنّ العدم غير محتاج إلى المحلّ، بل وكذلك لا يتمّ في جانب وجود الوصف على الإطلاق؛ لأنّ الوصف الاعتباريّ أو الانتزاعيّ لا يقوم بالمحلّ.

هذا كلّه بناءً على أن يراد بالنعتيّة الارتباط بالمحلّ إمّا بالوجود الرابط وإمّا بنفسه.

وهناك فرضان آخران في تفسير النعتيّة:

أحدهما: أن يكون المراد بنعتيّة الوصف أو عدمه كون جزء الموضوع خصوص الوصف المقارن أو عدمه المقارن لوجود الجزء الآخر.



(1) راجع رسالة اللباس المشكوك للشيخ النائينيّ(رحمه الله)، ص 284 بحسب طبعة المطبعة الرضويّة في النجف الأشرف.

317

ومن الواضح على هذا المعنى عدم جريان استصحاب العدم الأزليّ؛ لأنّ العدم المقارن لم يكن ثابتاً في الأزل ولا يثبت بالاستصحاب إلّا بالملازمة.

ولكن هذا المعنى خلاف المفروض عندهم؛ إذ مفروضهم أنّ النعتيّة تكون بمعنى لا تتصوّر إلّا في العرض ومحلّه، وهذا المعنى ـ كما ترى ـ يتصوّر في باقي الأقسام أيضاً، فبالإمكان مثلاً أن يجعل جزء الموضوع وجود زيد أو عدمه المقارن لوجود الجزء الآخر.

ثانيهما: أن يكون المراد بالنعتيّة التضييق الحاصل للوصف من جانب نفس الجزء الآخر في الرتبة السابقة على الوجود، وذلك بأن يضيّق الوصف ويخصّص بموصوفه ثُمّ يضاف الوجود إلى الحصّة فيقال مثلاً: إنّ العدالة على قسمين: عدالة العالم، وعدالة غير العالم، والوجود يطرأ على الحصّة وهي عدالة العالم المفروض كونها جزءاً للموضوع، فجزء الموضوع تارةً: يفرض مطلق العدالة، بأن يجب إكرام العالم إذا وجدت عدالة في الخارج وإن كانت وصفاً للجاهل، وهذا يكون محموليّاً. واُخرى: يفرض خصوص عدالة العالم، وهذا يكون نعتيّاً.

وهذا المعنى ـ كما ترى ـ يختصّ بباب العرض ومحلّه ولا يتعقّل في غير ذلك؛ لعدم إمكان تخصيص جوهر مثلاً بجوهر آخر أو عرض بعرض آخر ونحو ذلك إلّا بواسطة لحاظ مثل نسبة المقارنة، والمفروض عدم لحاظها وإلّا رجعنا إلى الوجه السابق.

ولا يخفى أنّ التخصيص بهذا المعنى وإن كان ممكناً في جانب الوصف لكنّه غير ممكن في ذات العدم إلّا بلحاظ متعلّقه، فإنّ ذات عدم العدالة لا يحصّص إلى حصّتين: حصّة للعالم وحصّة للجاهل، وإنّما يتمّ التحصيص من ناحية متعلّق العدم فيقال: إنّ عدم العدالة على قسمين: عدم عدالة العالم، وعدم عدالة الجاهل، فتارةً:

318

يكون جزء الموضوع مطلق عدم العدالة، واُخرى: يكون جزء الموضوع خصوص عدم عدالة العالم، فعدم عدالة العالم ليس صفة بهذا المعنى بل عدمٌ لصفته، وأنت ترى أنّه كما يكون مطلق عدم العدالة ثابتاً في الأزل كذلك يكون عدم عدالة العالم ثابتاً في الأزل قبل وجود العالم، فلا معنى لعدم إمكان إحرازه باستصحاب العدم الأزليّ.

هذا مضافاً إلى أنّه لو سلّمنا تعقّل هذا التحصيص في نفس العدم وصيرورة العدم نعتاً بهذا المعنى لم يكن هذا كافياً في عدم جريان استصحاب العدم الأزليّ، بل لابدّ هنا من تفصيل بيانه: أنّ الوصف (وكذلك عدمه بناءً على إمكان صيرورة عدمه نعتاً بهذا المعنى) تارةً: يؤخذ نعتاً للشيء بعد فرض وجود ذلك الشيء ـ والغالب بيان ذلك بلسان النسبة التامة، بأن يقال مثلاً: (مهما وجد عالم وكان عادلاً وجب إكرامه) ـ واُخرى: يؤخذ نعتاً للشيء في الرتبة السابقة على وجود ذلك الشيء، ويطرأ الوجود على الشيء الموصوف بذلك الوصف، والغالب بيان ذلك بلسان النسبة الناقصة، بأن يقال مثلاً: (مهما وجد عالم عادل وجب إكرامه).

وبكلمة اُخرى: إنّ الوصف تارةً: يحصّص بالموصوف الموجود بعد الفراغ عن فرض وجوده، واُخرى: يحصّص بذات الموصوف مع قطع النظر عن وجوده ويطرأ الوجود على الذات الموصوف بالوصف الكذائيّ.

وما ذكرناه في جانب الوصف واضح، وأمّا في جانب عدمه فإنّما لا يأتي ذلك لما عرفت من عدم معقوليّة أصل تحصيص العدم مباشرة بالموصوف، وأمّا على فرض معقوليّته وصيرورته نعتاً له بهذا المعنى فيأتي فيه عين هذا الكلام ويقال: إنّه تارةً: يكون المتّصف بعدم العدالة العالم المفروض وجوده، واُخرى: يكون المتّصف به ذات العالم ويطرأ الوجود على العالم المتّصف بعدم العدالة.

319

فتحصّل: أنّ هذين القسمين يتصوّران في جانب الوصف وفي جانب عدمه أيضاً (ولا ثمرة بينهما في جانب الوصف، خلافاً للمحقّق العراقيّ(قدس سره) الذي سيأتي ـ إن شاء الله ـ كلامه مع جوابه)، وتثبت الثمرة بينهما في جانب العدم، فإنّ العدم المفروض كونه وصفاً للعالم بعد فرض وجوده لا يكون ثابتاً قبل وجود العالم حتّى يستصحب، وأمّا العدم المفروض كونه وصفاً لذات العالم في الرتبة السابقة على العالم فهو ثابت قبل وجود العالم فيستصحب.

إن قلت: اتّصاف ذات العالم قبل وجوده بعدم العدالة غير معقول، كما اشتهر: أنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له.

قلت: هذا الكلام المشتهر صحيح ومعناه: أنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له بالنحو المفروض في جانب ما يَثبُت له. مثلاً: لو كان ثبوت ما يَثبُت لذلك الشيء ويتّصف ذلك الشيء به ذهنيّاً لا خارجيّاً لم يكن من اللازم ثبوت المثبَت له خارجيّاً، بل من اللازم ثبوته ذهنيّاً. والخلاصة: أنّ ثبوت المنعوت لابدّ أن يكون من سنخ ثبوت النعت، فلو فرض أنّ النعت ليس له سنخ من الثبوت بل هو عدم محض ـ كما فيما نحن فيه ـ فلا مانع من كون المنعوت أيضاً عدماً محضاً، فالعالم قبل وجوده يكون متّصفاً بعدم العدالة كما يكون متّصفاً بعدم نفسه في لوح الواقع، ولو اُخبر عنه بعدمه أو عدم العدالة كان الخبر صادقاً.

وقد تحصّل من جميع ما ذكرناه: أنّ العدم النعتيّ بمعنى لا يصحّ إثباته باستصحاب العدم الأزليّ غير متصوّر بوجه من الوجوه، ومهما كان العدم جزءاً للموضوع فلابدّ أن يكون عدماً محموليّاً.

فالذي ينبغي هو تغيير عنوان النزاع بأن يقال: إذا ورد مثل قوله: (أكرم كلّ عالم) وخصّص بمثل قوله: (لا تكرم العالم الاُمويّ) فهل العامّ يتعنون بنقيض عنوان الخاصّ وهو عدم الاُمويّة الممكن إثباته بالاستصحاب، أو يتعنون بضدّه