النهي إذا كان متعلّقاً بأثر المعاملة:
بقي الكلام فيما إذا كان النهي متعلّقاً بالأثر كالنهي عن أكل ثمن العذرة مثلا، فدلالته على الفساد إنّما تكون بأحد وجوه ثلاثة:
الأوّل: أن يكون النهي عنه عرفاً مستلزماً لفساد المعاملة، ولا يبعد ذلك في مثل فرض تعلّق النهي بأكل الثمن الذي هو عمدة أفراد الأثر.
الثاني: أن يكون النهي عنه مستلزماً لفساد المعاملة عقلا، وذلك بأحد وجهين:
الأوّل: أن يكون النهي متعلّقاً بتمام الأثر فيلغو عندئذ إمضاء أصل المعاملة، أو يكون متعلّقاً بجُلّ الآثار بحيث فُرض أنّ الباقي غير مقتض لجعل اعتبار المعاملة.
الثاني: أن يبنى على أنّ الأحكام الوضعيّة منتزعة عن الأحكام التكليفيّة كما ذهب إليه الشيخ الأعظم(رحمه الله)؛ فإنّه من الواضح على هذا المبنى أنّه لا يعقل تصحيح المعاملة مع تحريم الآثار.
الثالث: أن يبنى على أنّه مهما دار الأمر بين التخصيص والتخصّص كما لو قال المولى: (أكرم العلماء)، وقال: (لا تكرم زيداً)، ولم نعلم أنّه عالم أو لا؟ يقدّم التخصّص على التخصيص فيحكم بعدم كونه عالماً. وعليه فبما أنّه لو قيل بصحّة المعاملة مع حرمة الأثر كان ذلك تخصيصاً لما دلّ على أنّه مهما صحّت تلك المعاملة حلّ أثرها، ولو قيل ببطلانها كانت حرمة ذلك الأثر من باب التخصّص لا التخصيص، فلأجل تقدّم التخصّص على التخصيص يحكم بفساد هذه المعاملة.
هذا إذا لم يكن هنا عموم أو إطلاق دالّ على صحّتها، وإلاّ وقع التعارض بين ذاك العموم أو الإطلاق وبين العموم أو الإطلاق لدليل كون صحّة المعاملة محلّلة للآثار، فإن تقدّم أحدهما بالأقوائيّة ـ مثلا ـ كانت النتيجة وفق ما تقدّم، وإن تعارضا وتساقطا رجعنا إلى أصالة الفساد.
تنبيهان:
هل النهي يدلّ على الصحّة؟
التنبيه الأوّل: أنّ أبا حنيفة ذهب إلى أنّ النهي يدلّ على الصحّة. ونحن نوقع الكلام تارة في النهي عن العبادة، واُخرى في النهي عن المعاملة:
أمّا النهي عن العبادة فهنا نقصر النظر على ما مضى من الملاك الأوّل من ملاكات البطلان، وهو: أنّ تعلّق النهي بالعبادة يوجب المبعّديّة ومعه لا يمكن التقرّب بها، فنقول:
لا شكّ في أنّ تعلّق النهي بالعبادة المقرّبة بالفعل مستحيل؛ لاستلزامه لمبعّديّة ما هو مقرّب، فلا يتعلّق النهي بذلك حتّى يقال: إنّه يدلّ على الصحّة أو لا يدلّ، وأمّا تعلّقه بالعبادة بمعنى ما يكون مقرّباً لولا النهي فهذا معقول، ولكنّه لا يدلّ على الصحّة.
وأمّا النهي عن المعاملة فإنّما يدلّ على الصحّة لو فُرض تعلّقه بالمسبّب، أعني: خصوص الملكيّة الشرعيّة لا الأعمّ من الشرعيّة والعقلائيّة، ووجه دلالته على الصحّة في هذا الفرض: أنّه مع فرض فساد المعاملة لا يكون المكلّف قادراً على إيجاد المسبّب، ومن المعلوم أنّ متعلّق النهي لابدّ أن يكون مقدوراً.
وقد يجاب عن ذلك بأنّه يكفي كون متعلّقه ـ وهو إيجاد المسبّب ـ مقدوراً لولا النهي، ولا يلزم كونه مقدوراً حتّى مع فرض النهي.
إلاّ أنّ هذا الكلام غير صحيح؛ فإنّ الأمر بالعكس، أعني: أنّه يشترط في متعلّق النهي القدرة بعد النهي وفي وقت الامتثال أو العصيان، ولا أثر للقدرة قبل النهي أصلا، فلو فُرض كون تعلّق النهي بأمر داخل تحت القدرة موجباً لخروجه عنها
فمن المعلوم أنّ هذا زجر عن المحال وهو غير صحيح. ولو فُرض كون تعلّق النهيبأمر يعجز عنه المكلّف لشلل في يده ـ مثلا ـ رافعاً للعجز والشلل فمن المعلوم صحّة هذا النهي؛ لعدم كونه زجراً عن المحال.
كما أنّه لا يصحّ الجواب أيضاً عن ذلك بأنّ المسبّب ـ الذي هو أمر بسيط ـ لا يتّصف بالصحّة والفساد وإنّما هو موجود أو معدوم. ولا أدري أنّ المُورد لهذا الإشكال لماذا لم يورده على من قال بدلالة النهي المتعلّق بالمسبّب على الفساد، وأورده على من قال بدلالته على الصحّة، مع أنّه لو تمّ لكان مشترك الورود؟ وعلى أيّ حال فهذا الإشكال غير وارد؛ لأنّ المراد بدلالة النهي المتعلّق بالمسبّب على الصحّة أو على البطلان: دلالته على صحّة السبب أو بطلانه، لا على صحّة نفس المسبّب أو بطلانه، هذا.
وتحقيق الكلام في هذا المقام: أنّه تارةً يُفرض هذا الكلام ـ أعني: تقريب القول بدلالة النهي عن المسبّب على الصحّة ـ في مقام الردّ على من قال بأنّ النهي المتعلّق بالمسبّب يقتضي الفساد، واُخرى يُفرض أنّه بعد الفراغ عن إبطال دليل القائل باقتضائه للفساد يستدلّ بهذا الكلام على دلالته على الصحّة:
فإن فُرض ذلك في مقام الردّ على من قال بأنّ النهي المتعلّق بالمسبّب يوجب الفساد، لم يكن صحيحاً، فإنّه لو تمّ دليل القائل باستحالة الصحّة مع فرض تعلّق النهي لابدّ أن يقال بأنّه لا يتعلّق النهي بخصوص الملكيّة الشرعيّة؛ لاستحالته، بل يتعلّق بما يعمّ الملكيّة الثابتة باعتبار العقلاء والعرف بما هم كذلك مع قطع النظر عن الشرع، فلو كان ظاهر الدليل تعلّق النهي بخصوص الملكيّة الشرعيّة فلابدّ من تأويله.
وإن فُرض ذلك في مقام إثبات دلالته على الصحّة بعد فرض إبطال دليل القول باستلزامه للفساد، فتحقيق الكلام في هذا المقام أن يقال: إنّه إذا تعلّق النهي بما يعمّ الملكيّة الثابتة باعتبار العقلاء لم يدلّ على الصحّة. وإذا تعلّق بخصوص الملكيّة الشرعيّة فلا محالة يدلّ على الصحّة، حيث إنّ المفروض كونه تحريميّاً
لا إرشاديّاً، فإنّه لا إشكال في اشتراط القدرة في متعلّق التكليف.
وما مضى منّا في المقام الثاني من الحكم ببطلان المعاملة في بعض الصور، كان مع قطع النظر عن هذه الجهة، وإلاّ فيتغيّر الأمر في بعض تلك الصور.
وتوضيح ذلك: أنّه لو فُرض تعلّق النهي بالمسبّب بمعنى خصوص الملكيّة الشرعيّة، فإن كان النهي ظاهراً في الإرشاد أو مجملا فالكلام فيه هو الكلام الذي مضى منّا فلا نعيده. وإن كان النهي ظاهراً في الحرمة فقد قلنا فيما مضى: إنّه لو كان لنا إطلاق أو عموم يدلّ على الصحّة أخذنا به وحكمنا بالصحّة والحرمة. ولو كان دليل الصحّة هو السيرة ولم نحتمل شيوع الحرمة في تلك الأزمنة حكمنا أيضاً بالصحّة والحرمة، وإلاّ فيحكم بالحرمة دون الصحّة إلاّ بناءً على جريان الاستصحاب في الشكّ في النسخ، فيجري استصحاب الإمضاء الثابت في أوّل الشريعة. ونقول هنا: إنّه في جميع هذه الصور تكون نفس الحرمة ـ مادمنا افترضناها متعلّقة بالمسبّب بمعنى خصوص الملكيّة الشرعيّة ـ دليلا على الصحّة.
الاستدلال بصحيحة زرارة على بطلان المعاملة بالنهي:
التنبيه الثاني: أنّه يمكن الاستدلال على بطلان المعاملة بصحيحة زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «سألته عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده. فقال: ذاك إلى سيّده إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما. قلت: أصلحك الله تعالى إنّ حكم بن عتيبة وإبراهيم النخعيّ وأصحابهما يقولون: إنّ أصل النكاح فاسد ولا يحلّ إجازة السيّد له. فقال أبو جعفر(عليه السلام): إنّه لم يعص الله، إنّما عصى سيّده، فإذا أجاز فهو له جائز»(1).
(1) وسائل الشيعة، ج 21 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء.
ولم يبيّن في لسان الحديث الوجه الفنّيّ لإشكال حكم بن عتيبة وإبراهيم النخعيّ وأصحابهما في موضوع هذا النكاح، ولا الوجه الفنّيّ لجواب الإمام(عليه السلام). وأظهر الاحتمالات في ذلك أحد أمرين:
الأوّل: أن يكون إشكالهم هو أنّ معصية السيّد كمعصية الله، وكما أنّ معصية الله تعالى لا تخرج عن كونها معصية، كذلك الحال في معصية السيّد، فأجاب الإمام(عليه السلام)بأنّه لم يعص الله الذي لا يغيّر حكمه بعد المعصية، وإنّما عصى سيّده الذي يمكن أن يجيز ويرضى بعد العمل رغم أنّه لم يكن راضياً قبل ذلك، فإذا أجاز جاز.
والثاني: أن يكون الإشكال في نظرهم أنّ معصية السيّد معصية لله تعالى، ومعصيته تعالى لا تخرج عن كونها معصية بعد العمل، فمنع الإمام(عليه السلام) عن ذلك وقال: (ما عصى الله وإنّما عصى سيّده).
وهناك احتمالات اُخرى خلاف الظاهر، وتحقيق الحال في ذلك موكول إلى محلّه.
والذي نريد أن نقوله هنا في توجيه الاستدلال بهذه الرواية على كون النهي التكليفيّ عن المعاملة موجباً لفسادها: أنّ ذلك يكون على أساس دعوى ظهورين:
الأوّل: أنّ ظاهر الحديث هو أنّ المعاملة إذا كانت معصية لله كانت باطلة، وهذا الظهور ممّا لا إشكال فيه، فإنّه(عليه السلام) ذكر في وجه الصحّة: «إنّه لم يعص الله»، فيعلم أنّ معصيته مبطلة لها.
الثاني: أنّ ظاهر المعصية المذكورة في الحديث هي مخالفة الحكم التكليفيّ لا الوضعيّ، فإنّ معصية المولى عبارة عن التمرّد عليه، والتمرّد عليه إنّما يتحقّق إذا كان مقامه موجباً لتحرّك العبد نحو شيء من فعل أو ترك، فإذا خالف كان طاغياً عليه ومتمرّداً وعاصياً، واستيجابه لذلك إنّما يكون بالحكم التكليفيّ، هذا.
مضافاً إلى أنّ المراد بالمعصية في قوله(عليه السلام): «لم يعص الله» وفي قوله(عليه السلام): «عصى سيّده» شيء واحد، ومن المعلوم أنّه ليس لسيّده حكم وضعيّ، فعصيانه
عصيان للحكم التكليفيّ فكذلك المقصود بمعصية الله.
والمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) أنكر هذا الظهور الثاني، ووجهه ـ على ما يظهر من مجموع كلامه في الكفاية وفي حاشيته في مقام شرح ما ذكره هنا في المتن ـ هو: أنّه ليس المراد بمعصية العبد لسيّده مخالفته لنهيه؛ فإنّه لم يُفرض في الحديث نهي السيّد له عن النكاح، بل المراد هو العمل بدون إذنه، فإنّه أيضاً معصية له؛ لحصول التمرّد بذلك؛ لأنّ مقتضى مقام العبوديّة والمولويّة على ما يحكم به العقل هو أن لا يفعل شيئاً بدون إذن مولاه وترخيصه، فإن فعل لم يكن قد تحرّك على طبق ما اقتضاه مقام المولى بل تحرّك نحو الخلاف، فهو متمرّد وعاص للمولى، وبما أنّ الظاهر هو أنّ مراده(عليه السلام) بالمعصية في قوله: «لم يعص الله»، وفي قوله: «عصى سيّده» شيء واحد نقول: إنّ المراد بمعصية الله هو العمل بدون إذنه، فيكون بطلان المعاملة من ناحية عدم إذنه تعالى وإمضائه لتلك المعاملة، وهذا غير مربوط بما نحن فيه(1).
ويرد عليه:
أوّلا: أنّ كون مراده(عليه السلام) بمعصية الله العمل بدون إذنه الوضعيّ غير معلوم، بل بناءً
(1) راجع الكفاية، ج 2، ص 254 مع ما تحت الخطّ من تعليق نفس المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) وفق الطبعة التي حقّقها الخفاجيّ. ولعلّ المقصود: أنّ مالك العبد وإن لم يكن له نهي وضعيّ ولكنّ المسألة في المقام ليست عبارة عن النهي الوضعيّ لمالك العبد، بل عبارة عن عدم إذنه في زواج العبد ممّا يحكي عن عدم رضاه بالنتيجة وهي تحقّق الزوجيّة، فالمالك وإن لم يكن له حكم وضعيّ بأن يحكم ببطلان الزوجيّة أو قل: بطلان النتيجة، ولكن له كراهة النتيجة وعدم الرضا بها، ويُترجَم ذلك في طرف المولى الحقيقيّ بعدم إمضائه للنتيجة وإبطاله لها الذي هو حكم وضعيّ.
ولو كان المقصود هو هذا الذي ذكرناه لم يرد عليه شيء من الإشكالين المذكورين في المتن.
على ما ذكره من التقريب يستظهر خلافه، فإنّ موضوع ما مضى من حكم العقل إنّما هو الإذن التكليفيّ لا الوضعيّ، وإلاّ لزم أن تكون جميع معاملات العبيد باطلة عندهم ولو مع إذن السيّد؛ لأنّ سيّدهم إنّما أذن لهم بالإذن التكليفيّ، وأمّا الإذن الوضعيّ فهو فعل الشارع. ولو كان الموضوع للإذن الوضعيّ من قِبَل الشارع له هو الإذن والترخيص التكليفيّ من قِبَل المالك فبما أنّ المراد من المعصية في المقامين شيء واحد لابدّ أن يقال: إنّ المراد بمعصية الله هو العمل من دون ترخيصه المساوق للحرمة التكليفيّة.
وثانياً: أنّ كون صدور أيّ عمل من العبد بدون إذن سيّده حتّى مثل التكلّم بأيّ كلام كإجراء الصيغة يعدّ تمرّداً على السيّد ممنوع، فإجراء العبد للصيغة ليس تمرّداً، وأمّا المسبّب فالمفروض أنّه لا يحصل بدون إذن السيّد أو إجازته، هذا.
والتحقيق: منع الظهور الثاني، لا لما ذكره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) بل لوجه آخر، وهو: أنّ ظاهر قوله(عليه السلام): (عصى سيّده، فإذا أجاز جاز) هو أنّ المراد بمعصية السيّد معنى حدث أوّلا ثُمّ زال بإجازة السيّد، وهذا قرينة على أنّه ليس المراد بالمعصية كون الفعل مخالفاً لنهي السيّد أو غير صادر عن إذنه، فإنّ المعصية بهذا المعنى لا تخرج عن كونها معصية بلحوق الإجازة، بل المراد بالمعصية هو كون الفعل بحيث ليس له استناد إلى السيّد، وهذا ينتفي بلحوق الإجازة، فإنّه بمجرّد لحوقها يستند الفعل إليه بوجه مّا، على ما بيّناه في بحث الفضوليّ: من أنّ الإجازة تجعل العقد مستنداً بوجه مّا إلى المالك، وتكون صحّة الفضوليّ على طبق القاعدة، فالفعل بعد أن لم يكن مستنداً إليه انقلب إلى كونه مستنداً إليه. وليس حال هذا الاستناد الاعتباريّ حال التكوينيّات التي نقول فيها: إنّ انقلاب الشيء عمّا وقع عليه محال، وتمام الكلام في ذلك موكول إلى بحث الفضوليّ.
وإذا كان المراد بالمعصية في قوله: «عصى سيّده» ذلك فبما أنّ ظاهر الحديث كون المراد بالمعصية في المقامين شيئاً واحداً قلنا: إنّ المراد بمعصية الله هو كون هذه المعاملة بحيث لا يستند بوجه إلى الله تعالى، ومع فرض الإمضاء الوضعيّ يكون مستنداً إليه بوجه، فإنّما يدلّ الحديث على بطلان المعاملة مع فرض عدم الإذن الوضعيّ من جانبه تعالى لا على البطلان بصرف الحرمة التكليفيّة، فالمقصود من جواب الإمام(عليه السلام): أنّ العبد لم يأت بما لا يكون مستنداً إلى الله تعالى حتّى يقال ببطلانه لعدم لحوق الإجازة ولو وضعيّة، وإنّما أتى بما لا يكون مستنداً إلى السيّد فيصحّ بإجازته، وهذا غير مربوط بما هو المقصود من كون الحرمة التكليفيّة لا تجتمع مع الصحّة.
هذا تمام الكلام في دلالة النهي في المعاملات على الفساد وعدمها.