220

ـ كما قلنا ـ أمرٌ عدميّ ملازم لهذا الجامع، وليس عين هذا الجامع، والملازمة تكون بنكتة كونهما معلولين لشيء واحد، لا بنكتة كون فعل المهمّ ـ مثلا ـ علّة لفوات القدرة، حتّى يقال أيضاً بحرمة فعل المهمّ بناءً على حرمة علّة الحرام.

وأمّا الصورة الرابعة، وهي فرض الأمر بالمهمّ مشروطاً بالعزم على ترك الأهمّ، فقد عرفت أنّه أشكل عليه بعدم صحّة الترتّب بالتقيّد بالعزم على ترك الأهمّ، بل يجب أن يكون متقيّداً بالترك، لا بالعزم عليه.

إلاّ أنّنا قد بنينا على أنّه لا بأس بتقييد الأمر بالمهمّ بالعزم على ترك الأهمّ، فهنا بالإمكان: الأمر بالمهمّ مشروطاً بالعزم على ترك حفظ القدرة مثلا.

المورد الثالث: هو ما إذا توقّف فعل الواجب على الحرام، وتقدّم على الحرام بالأهمّيّة، كما لو توقّف إنقاذ الغريق على المشي في الأرض المغصوبة. وقد اختار


والجواب: أنّ الدور إنّما يلزم لو قلنا بأنّ نفس التضادّ نكتة لتوقّف أحدهما على الآخر، فيقال: إنّ هذه النكتة مشتركة بينهما، فيلزم التوقّف من كلا الطرفين، وهذا يوجب الدور. لكنّ التوقّف في المقام ليس بنكتة التضادّ بين الضدّ الأوّل وحفظ القدرة، وإنّما هو بنكتة ضيق القدرة عن الجمع بين الضدّ الأوّل والضدّ الثاني الطوليّ، فيكون صرف القدرة في الأوّل تعجيزاً عن الثاني لا محالة، ونفياً لحفظ القدرة. وهذه النكتة إنّما تقتضي توقّف حفظ القدرة على ترك الضدّ الأوّل، ولا تقتضي توقّف الضدّ الأوّل على ترك حفظ القدرة حتّى يلزم الدور.

فالمهمّ في حلّ المشكل في المقام إنّما هو: أنّ الواجب الأوّل يعلّق وجوبه على ترك الواجب الثاني، ولا محرّكيّة ذاتيّة لوجوب حفظ القدرة بقطع النظر عن وجوب الثاني، حتّى تمنع عن الواجب الأوّل رغم فرض ترك الثاني، وإنّما المهمّ محرّكيّة وجوب الواجب الثاني، وقد فرض حلّ إشكالها بالترتّب بينهما.

221

المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في هذا المورد إمكان الترتّب(1).

وتحقيق الكلام في ذلك: أنّنا إمّا أن نقول بعدم وجوب مقدّمة الواجب أصلا، أو نقول بوجوبها مع اختصاص وجوبها أو إمكان اختصاصه بالموصلة، أو نقول بوجوبها مع عدم إمكان اختصاص وجوبها بالموصلة:

فإن قلنا بعدم وجوب مقدّمة الواجب، إذن لا يوجد في المقام إلاّ حكمان: أحدهما وجوب ذي المقدّمة الأهمّ، والثاني حرمة المقدّمة المهمّ. وحرمة المقدّمة لا تشمل المقدّمة الموصلة حتماً؛ لأنّ هذه الحرمة تزاحم بالأهمّ، وهو وجوب ذي المقدّمة، فيكون الانشغال بالأهمّ رافعاً لحرمتها لا محالة. ولا ينبغي الإشكال في حرمة المقدّمة غير الموصلة في الجملة؛ لعدم أداء حرمتها إلى فوت مزاحم أهمّ.

يبقى الكلام في أنّه هل يؤخذ قيد عدم الإيصال قيداً في الحرمة، فيتمّ الحكم الترتّبيّ، فكأنّ المولى يقول: لو تركت ذا المقدّمة الأهمّ فالمقدّمة محرّمة عليك، أو يؤخذ قيداً في الحرام، أي: أنّ المقدّمة غير الموصلة حرام بالفعل حرمةً في عرض وجوب ذي المقدّمة، لا مترتّبةً على ترك ذي المقدّمة، فهذه ليست حرمة ترتّبيّة؟

الصحيح هو الثاني، لا لاستحالة الترتّب هنا(2) في نفسه، بل لأنّه لا داعي إلى


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 383 ـ 391 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 320 ـ 326.

(2) الترتّب في روح الحكم وواقعه غير معقول في باب المحرّمات؛ فإنّ الحرمة ـ ولو فُرضت في صياغتها الإنشائيّة مشروطة ـ هي في روحها حرمة منجّزة للحصّة.

توضيح ذلك: أنّه مضى في الأبحاث السابقة أنّ الأمر المشروط في روحه أمرٌ بالجامع بين المأمور به وعدم الشرط، فكذلك نقول هنا: إنّ النهي المشروط يكون في روحه نهياً

222

أخذ قيد الترتّب في المقام؛ فإنّ مجرّد أخذ عدم الإيصال قيداً في الحرام يرفع محذور التزاحم، ولو اُخذ ذلك قيداً في الحرمة، فبالتالي يُقيَّد الحرام به أيضاً؛ لأنّ قيد الحكم يقيّد المتعلّق أيضاً لا محالة. إذن، فالمتيقّن هو تقيّد الحرام بعدم الإيصال، أمّا احتمال تقيّد الحرمة به فينفى بإطلاق الهيئة. هذا.

وفرض حرمة المقدّمة غير الموصلة ـ بنحو إرجاع القيد إلى المتعلّق ـ يمتاز عن فرض الحكم الترتّبيّ بأنّه يمكن امتثالها في عرض امتثال ذي المقدّمة، وذلك


عن الجمع بين المنهيّ عنه والشرط، وهذا عبارة اُخرى عن نهي تنجيزيٍّ عن المجموع. أو قل: عن الحصّة المقيّدة بالشرط.

وكان في باب الأمر يختلف الأمر بالجامع بين المأمور به وعدم الشرط في روحه، عن الأمر بالحصّة المقيّدة بالشرط، من ناحية أنّ الأمر بالجامع لا يتطلّب منه أن يوجِد الشرط ثمّ المأمور به، بل بإمكانه أن يترك الشرط فيترك الجزاء.

وهذا بخلاف ما لو اُمر بالحصّة المقيّدة بالشرط، فإنّ هذا يتطلّب منه أن يوجد الشرط ويوجد الجزاء.

وأمّا في جانب النهي، فحيث إنّه رجع في روحه إلى النهي عن الجمع بين المنهيّ عنه والجزاء، والحصّة المقيّدة تسبّب هذا الجمع، فلا محالة تكون الحصّة المقيّدة مبغوضة بالفعل، من دون أن يبقى أيّ فرق واقعيّ في روح الأمر بين جعل الشرط قيداً للمادّة أو للهيئة. نعم، في عالم الإنشاء يمكن فرض تقييد الهيئة وفرض إطلاقها، إلاّ أنّه لا قيمة لذلك في واقع الأمر، ولا تجري أيضاً مقدّمات الحكمة لإثبات إطلاق من هذا القبيل.

وقد ظهر بما ذكرناه: أنّه في باب المحرّمات يرجع دائماً شرط الاتّصاف بالملاك، إلى فعليّة اتّصاف الحصّة بالملاك. أو قل: فعليّة اتّصاف مجموع الحرام والشرط بالملاك، كما أنّ شرط اتّصاف الواجب بالملاك يرجع دائماً إلى فعليّة اتّصاف الجامع بين الجزاء وعدم الشرط بالملاك.

223

بأن يأتي بالمقدّمة وبذيها، فيكون قد امتثل ذا المقدّمة، وامتثل في نفس الوقت حرمة المقدّمة غير الموصلة؛ إذ قد ترك غير الموصل. فإشكال المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) على الأمر الترتّبيّ بأنّه يلزم منه في فرض ترك الأهمّ، الأمر بالضدّين مع عدم قدرة المكلّف على امتثالهما معاً، لو تمّ هناك لا يرد على هذا الحكم.

وإن قلنا بوجوب مقدّمة الواجب مع إمكان اختصاص الوجوب بالموصلة، فأيضاً يكون الكلام نفس الكلام؛ إذ بالإمكان حرمة المقدّمة غير الموصلة في عرض وجوب ذي المقدّمة؛ إذ لا هي مفوّتة للأهمّ، ولا هي معارضة بوجوب المقدّمة؛ لإمكان اختصاصها بالموصل، وهذه الحرمة أيضاً تمتاز بنفس الامتياز الماضي، لإمكان امتثال كلا الحكمين جمعاً.

وأمّا إن قلنا بوجوب مقدّمة الواجب، وقلنا في نفس الوقت بمقالة المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): من عدم إمكان تخصيص الوجوب بالموصل، فلا يمكن فرض حرمة المقدّمة غير الموصلة مع فرض وجوب المقدّمة، سواءً فرضناها حرمة ترتّبيّة أو حرمة عرضيّة، بأن كان عدم الإيصال قيداً في الحرام لا في الحرمة، فإنّه على أيّ حال يلزم اجتماع الوجوب والحرمة على مصبّ واحد، وهذا مرجعه إلى باب التعارض، ولا معنى للترتّب فيه.

ولا يمكن أن يقال ـ لتصحيح الترتّب ـ بأنّ وجوب المقدّمة في عرض وجوب ذيها؛ لأنّهما مشتقّان من ملاك واحد، والحكم الترتّبيّ بحرمة المقدّمة يكون في مرتبة متأخّرة من الأمر بذي المقدّمة؛ لكونه مترتّباً على مخالفته بحسب الفرض، فهو في مرتبة متأخّرة عن وجوب المقدّمة أيضاً، فلا تنافي بينهما(1).


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 386 ـ 389 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 324 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

224

فإنّه يرد عليه:

أوّلا: النقاش في الصغرى؛ إذ لئن صحّ أنّ وجوب المقدّمة في عرض وجوب ذيها، وأنّ الأمر الترتّبيّ في مرتبة متأخّرة من الأمر الآخر الذي ترتّب هذا على مخالفته، فهذا لا ينتج أنّ الحكم بحرمة المقدّمة في مرتبة متأخّرة عن الحكم بوجوبها؛ إذ ليس كلّ ما كان متأخّراً رتبةً عن أحد العرضيّين فهو متأخّر عن الآخر.

وثانياً: النقاش في الكبرى؛ لما مضى من أنّ مجرّد تعدّد الرتبة لا يرفع محذور اجتماع الضدّين.

المورد الرابع: ما إذا وقع التلازم بين الواجب والحرام، وعندئذ إن كان التلازم بين معصية أحدهما وامتثال الآخر ثابتاً من الطرفين، أي: كما أنّ امتثال أحدهما يستلزم عصيان الآخر، كذلك عصيان أحدهما يستلزم امتثال الآخر، فلا محالة يبطل الترتّب؛ لأنّه عند معصية أحدهما يكون امتثال الآخر ضروريّاً، فلا معنى للأمر به(1).

وهذا راجع إلى فقدان الشرط الثاني من الشرطين اللذين ذكرناهما لإمكانيّة الترتّب.

أمّا إذا لم يكن التلازم من الطرفين فالترتّب معقول، ولكن لا داعي له؛ لما مضى في المورد الثالث من إمكان إرجاع القيد إلى الحرام وكفاية ذلك في حلّ الإشكال.

فتحقيق الكلام في كلّ موارد تزاحم الواجب مع الحرام ـ سواءً كان على


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 392 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 392 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

225

أساس مقدّميّة الحرام للواجب، أو على أساس التلازم بينهما ـ هو: أنّه لا توجد هنا حرمة مترتّبة على ترك الواجب، بل هناك حرمة فعليّة لتلك الحصّة من الحرام المقترنة بترك الواجب.

ولا يقال: إنّه لا مبرّر للالتزام بالحرمة الفعليّة؛ فإنّه إن قُصد بذلك أنّ ترك الواجب من شروط اتّصاف الفعل بالمفسدة، وشرط الاتّصاف يجب أن يكون قيداً للحكم لا للمتعلّق، فهو غير صحيح؛ فإنّ مفسدة الحرام ثابتة على كلّ حال، ولم تكن مشروطة بترك الواجب، وإن قدّمنا عليه الواجب بالأهمّيّة.

وإن قُصد بذلك أنّه لابدّ من تقيّد الحرمة بفرض ترك الواجب دفعاً للتزاحم، فهذا أيضاً غير صحيح؛ فإنّه يكفي في دفع التزاحم تقييد الحرام به؛ إذ بإمكانه حينئذ أن يمتثل كلا الحكمين، بأن يفعل الواجب ويترك الحرام المقترن بترك الواجب. بينما لم يكن يُعقل ذلك في الواجبين؛ فإنّه لو قيّد الواجب المهمّ بترك الأهمّ لا وجوبه، كان هذا تأكيداً للتزاحم لا علاجاً له؛ إذ يكون ذلك طلباً لترك الأهمّ، بينما هو يطلب فعل الأهمّ.

وإن قُصد بذلك أنّه كما يمكن علاج التزاحم بتقييد الحرام، كذلك يمكن علاجه بتقييد الحرمة، فلا معيّن للأوّل، قلنا: يوجد هنا معيِّن إثباتيّ له مطلقاً، ومعيِّن ثبوتيّ على تقدير القول باستحالة الترتّب:

أمّا المعيّن الإثباتيّ فهو إنّ قيد الحرمة قيدٌ للحرام لا محالة؛ إذ لا يعقل تقيّد الحرمة بفرض ترك الواجب ـ مثلا ـ مع أن يكون الحرام في نفس الوقت شاملا للحصّة المقترنة بفعل الواجب. إذن، فتقييد الحرام متيقّن، وتقييد الحرمة مشكوك يُنفى احتماله بالإطلاق.

وأمّا المعيّن الثبوتيّ بناءً على استحالة الترتّب فهو: إنّ برهان الاستحالة يبطل الحرمة الترتّبيّة في المقام، ولا يبطل فرض حرمة الحصّة المقترنة بترك الواجب؛

226

لإمكان الجمع بينهما وبين الأمر بالواجب في الامتثال، فبراهين المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)لإبطال الترتّب في الواجبين لا تأتي في المقام.

ومن هنا ذكر المحقّق العراقيّ(رحمه الله) محاولة في الواجبين، بإرجاع الأمر بالمهمّ إلى حرمة الترك، أو بتعبيره(رحمه الله) إلى سدّ باب العدم، حتّى يمكن التبعيض، فيفرض تحريم الترك المقترن بترك الأهمّ، أو وجوب سدّ هذا الباب من العدم، من دون أن يرد عليه إشكال الترتّب(1).

إلاّ أنّ هذا في الواجبين وإن كان معقولا، لكنّه بحسب الإثبات لا يساعد عليه ظاهر الدليل؛ إذ هو لم يدلّ إلاّ على الأمر بفعل المهمّ الذي ـ بحسب الفرض ـ لا يمكن أن يجتمع مع الأمر بالأهمّ.

المورد الخامس: مورد اجتماع الأمر والنهي بعنوانين مع عدم المندوحة، بناءً على إمكان اجتماعهما، أمّا بناءً على الاستحالة فهو راجع إلى التعارض.

وتحقيق الحال في ذلك: أنّ جواز اجتماع الأمر والنهي يبتني على أحد مبنيين:


(1) راجع المقالات، ج 1 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم، ص 343 ـ 344، ونهاية الأفكار، ج 1 ـ 2 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، ص 367 ـ 373 إلاّ أنّ هذا التفسير لكلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله)لا ينسجم مع عبائره. وقد مضى منّا ـ في تعليق لنا على بحث الجهة الثامنة من جهات البحث في الترتّب ـ بيانٌ آخر لما يقوله الشيخ العراقيّ(رحمه الله)، وذاك البيان الآخر هو صريح المقالات بل ونهاية الأفكار، ما عدا جملة وردت متكررّة في نهاية الأفكار توهم التفسير الذي ذكره اُستاذنا(رحمه الله) هنا، ومفاد تلك الجملة هو: توصيف الإيجاب الناقص بالذي لا يقتضي إلاّ المنع عن بعض أنحاء تروكه، وهو الترك في حال ترك الآخر، وهذه الجملة وإن كانت توهم هذا المعنى، ولكنّها حينما تجعل ضمن باقي عبائره يعرف أنّ المقصود ما ذكرناه في الجهة الثامنة من بحث الترتّب، لا ما ذكره اُستاذنا(رحمه الله) هنا، فراجع.

227

الأوّل: أنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد الوجود الخارجيّ.

والثاني: أنّ تعدّد العنوان يكفي في رفع غائلة اجتماع الضدّين، بالرغم من وحدة الفرد الخارجيّ؛ وذلك لأنّ الأحكام تقف على العناوين ولا تسري إلى الأفراد.

فإن بنينا على المبنى الأوّل كان هذا من تلازم الواجب والحرام الذي مضى الكلام فيه في المورد الرابع، وليست فيه نكتة جديدة يمتاز بها عن سائر موارد تلازم الواجب والحرام. وإن بنينا على المبنى الثاني انفتح هنا باب جديد لامتناع الترتّب بالأمر بالواجب على تقدير الإتيان بالحرام، وذلك بأحد تقريبين:

التقريب الأوّل: أن يقال بما نقلناه عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في المورد الثاني: من أنّ معصية الحكم المترتّب عليه إمّا أن تكون بامتثال الحكم المترتّب، أو بفعل آخر يضادّه، فغصبه للمكان مثلا: إمّا يكون بالصلاة، أو بفعل آخر يضادّ الصلاة، فعلى الأوّل لا معنى للأمر بالصلاة؛ لأنّها مفروضة الحصول، وعلى الثاني أيضاً لا معنى للأمر بالصلاة؛ لأنّها ممتنعة على هذا التقدير(1).

ولكن قد عرفت عدم صحّة ذلك؛ فإنّ الأمر بالصلاة إنّما يتقيّد بالجامع بين الصلاة وغيرها، والتقيّد بالجامع لا يوجب التقيّد بالخصوصيّات، فلا هو مقيّد بالصلاة حتّى يلزم طلب الحاصل، ولا بما يضادّ الصلاة حتّى يلزم طلب المحال.

التقريب الثاني: أن يقال بأنّ الجامع بين الصلاة وغير الصلاة هو جزء من الصلاة، فهي طبعاً مركّبة من الجامع وخصوصيّته الصلاتيّة، وحيث إنّه مفروض الحصول ـ لتقيّد الأمر به ـ إذن، لا يقع تحت الطلب. وعليه فالأمر بالصلاة المقيّد


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، الطبعة الماضية، ص 326 ـ 327، وفوائد الاُصول، ج 1، الطبعة الماضية، ص 392.

228

بالجامع ينصرف إلى الخصوصيّة فقط، بينما هذا خلاف ظاهر الأمر بالصلاة؛ فإنّ ظاهره هو الأمر بالجامع المتخصّص لا بالخصوصيّة، فالترتّب مع الحفاظ على ما هو المستفاد من دليل الأمر بالصلاة غير معقول؛ إذ لو اُبقي الجامع تحت الطلب فمع تقييد الأمر بحصول الجامع يلزم طلب الحاصل، ومع عدم تقييده يلزم طلب الجمع بين الصلاة وترك الغصب، وهو محال بحسب الفرض، ولو لم نُبق الجامع تحت الطلب كان هذا أمراً آخر غير ما دلّ عليه دليل الأمر بالصلاة.

ويرد عليه:

أوّلا: أنّ الأمر بالجامع الثابت عند الأمر بالصلاة، إنّما هو أمر ضمنيّ، والأمر الضمنيّ تحصيله ضمنيّ، وحصول الجامع الذي قُيِّد به الأمر هو حصولٌ استقلاليّ، وتعلّق التحصيل الضمنيّ بالمتحصّل الاستقلاليّ ليس مستحيلا، وإنّما المستحيل تعلّق التحصيل الاستقلاليّ بالمتحصّل الاستقلاليّ، أو تعلّق التحصيل الضمنيّ بالمتحصّل الضمنيّ.

وثانياً: أنّ ما يفهمه العرف من الأمر بالصلاة ليس هو خصوص طلب الجامع المتخصّص، بل ينسجم مع طلب الخصوصيّة أيضاً، فإنّه عند طلب الخصوصيّة يكون الخطاب بالجامع المتخصّص أمراً عرفيّاً أيضاً، فعدم معقوليّة الأمر بالجامع المتخصّص ـ سواءً فُرضت لأجل استحالة طلب الحاصل، أو لأجل لغويّته ـ لا تأتي في المقام؛ لانسجامه عرفاً مع فرض كون المطلوب الواقعيّ هو الخصوصيّة.

وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه: أنّه لا يشترط في إمكان الترتّب عدا شرطين:

أحدهما: عدم كون المترتّب المهمّ مشروطاً بالقدرة الشرعيّة، بمعنى عدم توجّه خطاب مزاحم إليه.

والثاني: عدم كون ترك الأهمّ مستلزماً لفعل المهمّ.

نعم، اتّضح ممّا مضى منّا ـ في المورد الثالث والرابع ـ أنّنا لا نقول في موارد تزاحم الواجب مع الحرام بالترتّب، لا للاستحالة، بل لعدم مبرّر له.

229

 

التزاحم بين الواجبين الضمنيّين:

الأمر الثاني: في أنّه هل يتصوّر التزاحم المستقلّ عن التعارض بين واجبين ضمنيّين، كما يتصوّر بين الاستقلاليّين، أو لا؟

فقد يقال: إنّ الواجبين الضمنيّين حالهما حال الاستقلاليّين، حيث إنّ كلّ واحد منهما في ذاته قد تعلّق به الخطاب، من دون أيّ منافاة بينه وبين الخطاب بالآخر في ذاته، وإنّما تنشأ المشكلة من ضيق في قدرة المكلّف وعجز ـ صدفةً ـ عن الجمع بينهما، كما أنّه في الواجبين الاستقلاليّين أيضاً كانت المشكلة مشكلة الضيق في قدرة المكلّف.

وقد ذهب إلى ذلك ـ أي: إلى تصوير التزاحم، وعدم رجوعه إلى التعارض في الواجبين الضمنيّين ـ المحقّق النائينيّ(رحمه الله). وذهب السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ إلى عدم تصوير التزاحم بين واجبين ضمنيّين، ورجوعه إلى التعارض.

ونحن نذكر هنا صيغاً أربع فنّيّة لإثبات عدم تصوير التزاحم بين واجبين ضمنيّين، ثمّ نذكر شبهة يُهدف من ورائها إبطال كلّ تلك الصيغ، وإثبات تصوير التزاحم في الواجبين الضمنيّين، ثمّ ندرأ تلك الشبهة بتعميق تلك الصيغ، وبذلك ننتهي إلى القول بعدم تصوير التزاحم بين واجبين ضمنيّين وفاقاً للسيّد الاُستاذ دامت بركاته:

الصيغة الاُولى: أن يقال: إنّه بحسب الحقيقة لا يوجد إلاّ أمر واحد بمجموع الأجزاء، وإن كان ينحلّ بالتحليل العقليّ إلى أجزاء بعدد أجزاء الواجب. وهذا الأمر الواحد لا محالة يسقط بالعجز عن متعلّقه، سواءً كان ذلك بالعجز عن جميع الأجزاء، أو بالعجز عن مجموعها، باعتبار العجز عن أحدها المعيّن، أو باعتبار العجز عن أحدها غير المعيّن، أي: العجز عن الجمع بين جزءين مثلا، فإنّه على كلّ

230

تقدير قد أصبح متعلّق الأمر غير مقدور، فقد سقط الأمر.

فإن لم نكن نعلم من الخارج بتوجّه أمر آخر إلينا بعد سقوط الأمر بتمام الأجزاء، إذن لا يثبت أيّ وجوب آخر علينا. وإن علمنا من الخارج بذلك، كما في الصلاة ـ حيث إنّ الصلاة لا تترك بحال ـ فنبقى مردّدين بين أن نكون مأمورين بالمشتمل على الجزء الأوّل من الجزءين اللذين عجزنا عن الجمع بينهما، أو بالمشتمل على الجزء الثاني، أو بالجامع بينهما، وعلى كلّ تقدير لا يوجد أمران ضمنيّان يقع التزاحم بينهما، فإن فُرض أنّ دليل جزئيّة الجزء الأوّل للصلاة كان منفصلا عن دليل جزئيّة الجزء الثاني لها، وقع التعارض بينهما بعد أن عرفنا أنّ الصلاة لا تترك بحال.

الصيغة الثانية: أن يقال: إنّ الجزءين اللذين عجزنا عن أحدهما: لا يخلو الأمر في هذا الحال عن أن يكونا معاً دخيلين في ملاك الصلاة مثلا، أو أن يكون الجامع بينهما دخيلا في ملاكها، أو أن يكون أحدهما المعيّن دخيلا فيه، أو أن لا يكون شيء منهما دخيلا فيه:

فعلى الأوّل يتعيّن عدم وجوب الصلاة؛ لعدم إمكان تحصيل ملاكها. وعلى الثاني يتعيّن ثبوت الأمر بالجامع، وعلى نحو التخيير بين الفردين. وعلى الثالث يتعيّن الأمر بذاك الجزء الدخيل معيّناً. وعلى الرابع يتعيّن الأمر بما عدا الجزءين. وعلى أيّ تقدير لا يوجد هنا أمران ضمنيّان متزاحمان وفعليّتان متطاردتان.

الصيغة الثالثة: أن يقال: إنّ الأمر الضمنيّ بأحد الجزءين إن كان مشروطاً بترك الجزء الآخر ـ على ما هو المفروض الذي على أساسه تصوّرنا التزاحم مستقلاًّ عن التعارض: من أنّ الواجب يكون مشروطاً بالقدرة التي تحصل بترك الآخر ـ كان هذا الشرط شرطاً للأمر الاستقلاليّ بالأجزاء العشرة مثلا؛ لأنّ الأمر الضمنيّ بحكم ضمنيّته لا تكون مشروطيّته إلاّ في ضمن مشروطيّة الأمر الاستقلاليّ،

231

وليس له موضوع مستقلّ عن موضوع الأمر الاستقلاليّ، وإلاّ لأصبح أمراً استقلاليّاً. فإذا كان الأمر الضمنيّ الآخر أيضاً مشروطاً بترك هذا الجزء، كان معنى ذلك أيضاً أنّ الأمر الاستقلاليّ مشروط بذلك، و هذا ينتج الأمر بالأجزاء العشرة مشروطاً بترك الجزءين منها، وهذا كماترى غير معقول.

الصيغة الرابعة: أن يقال: إنّ الواجبين المتزاحمين اللذين يشرط أحدهما بترك الآخر، لو أنّ المكلّف تركهما معاً أصبح كلاهما فعليّاً؛ ولهذا قال منكر الترتّب: بأنّ ذلك غير معقول؛ لعدم القدرة على الإتيان بهما معاً. وأجاب القائل بصحّة الترتّب: بأنّ كلّ واحد من الأمرين وحده ليس طلباً للجمع الذي هو غير مقدور؛ إذ لم يتعلّق إلاّ بأحدهما، والجمع بين الأمرين لا ينتج طلب الجمع؛ لأنّ أحدهما مشروط بترك الآخر.

فإذا أردنا أن نطبّق هذه الفكرة ـ أعني: فعليّة الأمرين عند الترك ـ في المقام، كان معنى ذلك أنّه لو ترك كلا الجزءين فقد أصبح كلا الأمرين فعليّاً، وبما أنّ الأمرين ضمنيّان كان معنى ذلك تعلّق أمر واحد بمجموع الجزءين، وهذا طلب للجمع بعنوانه. بينما في الأمرين الاستقلاليّين لم يكن يلزم ذلك؛ لأنّ مرجع الأمرين لم يكن إلى أمر واحد بالمجموع؛ لأنّ المفروض استقلال كلٍّ من الأمرين عن الآخر.

هذه هي الصيغ الفنّيّة الأربع لإثبات عدم إمكان التزاحم بين واجبين ضمنيّين.

إلاّ أنّ هناك شبهة تقول: بالإمكان أن نفترض فرضيّة، وهي أن يكون الأمر المتعلّق بالصلاة غير متعلّق من أوّل الأمر بالأجزاء العشرة ـ مثلا ـ بهذا العنوان، بل يكون متعلّقاً بعنوان ما هو مقدور من تلك الأجزاء العشرة، وهذا عنوان مطّاط، فحينما تكون كلّ الأجزاء مقدورة ينطبق على كلّ الأجزاء، وحينما يكون جزء معيّن منها غير مقدور ينطبق على مجموع الأجزاء الباقية، وحينما يكون أحد

232

الجزءين غير مقدور، فترك المكلّف لأحدهما يحقّق القدرة على الجزء الآخر. وبهذه الفرضيّة يمكن الإجابة على كلّ الصيغ الأربع:

أمّا الصيغة الاُولى، وهي: أنّ هناك أمراً واحد متعلّقاً بمجموع الأجزاء العشرة، وقد سقط بالعجز عن مجموعها، فلا يبقى إلاّ احتمال أمر جديد، وهو شكٌّ في أصل الجعل، وأين هذا من التزاحم الذي يعني العلم بأصل الجعل، والدوران في مرحلة الفعليّة؟

فجوابها: أنّه بناءً على تلك الفرضيّة لم يكن الأمر متعلّقاً بمجموع الأجزاء العشرة بعنوانها، حتّى يكون ساقطاً بالعجز عنها، وإنّما كان الأمر متعلّقاً بما هو المقدور منها، وهذا الأمر لا يزال باقياً، وقد وقع التزاحم في داخله بين أمرين ضمنيّين؛ حيث إنّ ترك أيّ واحد من الجزءين يحقّق القدرة على الجزء الآخر، التي بها يتّجه الأمر الضمنيّ إلى ذلك الجزء الآخر. وهذا تماماً كالواجبين المستقلّين اللذين يكون ترك كلّ واحد منهما محقّقاً للقدرة على الآخر وفعليّة الأمر به، فأصل الجعل معلوم والدوران يكون في مرحلة الفعليّة.

وأمّا الصيغة الثانية، وهي: أنّه لو كان كلّ واحد من الجزءين دخيلا في الملاك، إذن لا يمكن تحصيل الملاك. ولو كان الجامع دخيلا أو أحدهما دخيلا، فالواجب هو الجامع أو أحدهما. ولو لم يكن شيء منهما دخيلا فالواجب هو الباقي.

فالجواب على ذلك: أنّنا نختار الشقّ الأوّل، وهو أنّ كلّ واحد منهما دخيل في الملاك لكنّه مشروطاً بالقدرة الشرعيّة، فدخل كلّ واحد منهما في الملاك مقيّد بعدم الانشغال بالآخر، فلا يلزم من ذلك عدم إمكان تحصيل الملاك.

وأمّا الصيغة الثالثة، وهي: أنّ شرط الوجوب الضمنيّ شرطٌ للوجوب الاستقلاليّ، فيلزم الأمر بالأجزاء العشرة مشروطاً بترك جزءين منها.

فجوابها: أنّ هذا إنّما يلزم لو فُرض ترك أحد الجزءين قيداً لوجوب الجزء

233

الآخر، لكنّ المفروض كونه قيداً للواجب؛ حيث إنّ الوجوب تعلّق بالأجزاء المقدورة، فترك أيّ واحد من الجزءين يؤدّي إلى انطباق هذا العنوان على الجزء الآخر، فيكون هو الواجب، من دون أن يكون ترك ذاك الجزء شرطاً للوجوب، كي يرجع إلى اشتراط وجوب الأجزاء العشرة به.

وأمّا الصيغة الرابعة، وهي: أنّه مع ترك كليهما يتعلّق الأمر بهما، لفعليّة كلا الشرطين، وبما أنّ كلاًّ منهما واجب ضمنيّ، فهناك أمر واحد متعلّق بهما معاً، وهذا معناه طلب الجمع بعنوانه.

فالجواب: أنّ القدرة ـ التي هي شرط في المقام ـ ليست فقط بمعنى ترك المزاحم، بل بمعنى القدرة التكوينيّة أيضاً، وهو تكويناً غير قادر على الجمع، فلم يتعلّق الأمر بهما جمعاً، وإنّما تعلّق بالمقدار المقدور الذي لا ينطبق ـ في دائرة هذين الجزءين ـ على أزيد من أحدهما.

فتحصّل بهذا أنّ التزاحم بين الواجبين الضمنيّين معقول.

إلاّ أنّ هذا نوع تزاحم لا يجري فيه شيء من مرجّحات باب التزاحم.

أمّا الترجيح بالقدرة العقليّة فلا مجال له في المقام؛ إذ لابدّ في المقام من أن تكون القدرة في كلا الجزءين شرعيّة؛ إذ لو كانت عقليّة في كليهما، بأن كان كلّ منهما غير دخيل في الملاك ـ وحتّى القدرة بمعنى عدم الانشغال بالآخر ـ لزم العجز عن تحصيل الملاك، وسقط الواجب رأساً. ولو كانت عقليّة في أحدهما دون الآخر لم يعقل الأمر بالآخر مطلقاً، أي: حتّى على تقدير ترك الجزء الأوّل؛ إذ على هذا التقدير لا يعقل حصول الملاك لفواته بترك الجزء الأوّل.

وأمّا الترجيح بالأهمّيّة فقد أثبتنا فيما مضى أنّه لا مجال له في المشروطين بالقدرة الشرعيّة، وقد عرفت أنّهما مشروطان بالقدرة الشرعيّة دفعاً للصيغة الثانية من صِيغ الإشكال على التزاحم بين الواجبين الضمنيّين.

234

وأمّا الترجيح بعدم البدل على ما له البدل، فقد عرفت أنّه يرجع بروحه إلى الترجيح بالأهمّيّة الذي لا مجال له في المقام.

وأمّا الترجيح بالتقدّم الزمانيّ: فإن قُصد بذلك تقدّم الوجوب، فمن الواضح عدم تأتّيه هنا؛ إذ الوجوبات الضمنيّة متعاصرة حتماً؛ لكونها أجزاء لوجوب واحد. وإن قُصد بذلك تقدّم الواجب، فأيضاً لا معنى للترجيح بالتقدّم مع افتراض أمرين متزاحمين؛ إذ على فرض تعيّن الإتيان بالمتقدّم لا يُعقل الأمر بالمتأخّر مطلقاً، أي: حتّى على تقدير ترك الأوّل؛ إذ على تقدير ترك الأوّل فقد فات الملاك حتماً. هذا.

والتحقيق: عدم معقوليّة التزاحم بين واجبين ضمنيّين؛ وذلك لأنّ القدرة إمّا أن يُفرض دخلها في كلّ واحد من الجزءين بنحو شرط الوجوب، أو يُفرض دخلها فيهما بنحو قيد الواجب؛ لأنّ الواجب هو المقدار المقدور، كما فُرض لدفع الإشكالات الأربعة. فإن فُرض الأوّل رجع الإشكال بكلّ الصيغ الأربع التي بيّنّاها. وإن فُرض الثاني قلنا: إنّه لا يتأتّى في المقام البيان الذي به استطعنا أن نتصوّر باب التزاحم بنحو يكون مستقلاًّ عن باب التعارض، وهو أنّ كلّ تكليف يكون مقيّداً ـ بقيد لبّيّ كالمتّصل ـ بعدم الانشغال بضدّ أهمّ أو مساو، فلا تعارض بين دليلي الحكمين؛ إذ لا إطلاق في كلّ واحد منهما لصورة الانشغال بالآخر لو كان مساوياً أو أهمّ.

أمّا في المقام فقد فُرض أنّ القيد قيد في الواجب لا في الوجوب، وهذا تصرّف في ظهور الدليلين؛ فإنّه إذا افترضنا دليلا دلّ على وجوب القيام مثلا، ودليلا آخر دلّ على وجوب القراءة، والمفروض العجز عن الجمع بينهما، وفُرض عدم تقيّد وجوب أحدهما بترك الآخر، ولكن فُرض تقيّد الواجب بذلك، فلا إشكال في أنّ هذا غير ذاك الذي اقتضاه المقيّد اللبّيّ، وإنّما هو تصرّف جديد في الدليلين، فلا محالة يقع التعارض بينهما بعد فرض العلم بعدم سقوط الصلاة ووجوب المقدار المقدور من أجزائها.

ولو سُلّم إمكان التزاحم بين الوجوبين الضمنيّين، فهو خارج عن مصبّ حاجة

235

الفقيه في مقام الاستنباط؛ وذلك لأنّ الفقيه حينما يتعامل مع دليلي الجزءين ـ لو كان لكلّ منهما دليل مستقلّ ـ فهو لا يتعامل مع ما يكون مفاده الوجوب الضمنيّ الذي هو جزء تحليليّ من الأمر بالكلّ، وإنّما الدليلان كلّ منهما يرشد إلى الجزئيّة، وحتّى لو كان بلسان الأمر فالأمر في الأجزاء والشرائط للمركّب الارتباطيّ إنّما هو إرشاد إلى الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة والقاطعيّة. ولا توجد أيّ منافاة بين كون هذا جزء وذاك أيضاً جزء في عرض واحد، بالرغم من عدم القدرة على الجمع بينهما؛ إذ غاية ما يقتضيه ذلك سقوط الواجب، لا أنّ اجتماع جزئيّة هذا مع جزئيّة ذاك من المستحيلات، إذن لا مبرّر لوقوع التزاحم بينهما، فليكن هذا جزءاً وذاك جزءاً والواجب ساقطاً، فلو علمنا من الخارج بعدم سقوط الواجب وعدم جزئيّة أحدهما إجمالاً فلا محالة يقع التعارض بين الدليلين(1).

 

تطبيق قوانين التزاحم على مثال الحجّ والنذر:

الأمر الثالث: نتكلّم فيه في تطبيق قوانين باب التزاحم على مثال الحجّ والنذر، فلو نذر أو حلف قبل الاستطاعة أن يزور الحسين(عليه السلام) في يوم عرفة، أو ما شابه ذلك ممّا يزاحم الحجّ فأيّهما يتقدّم؟


(1) هذا إذا كان دليل جزئيّة كلّ منهما مستقلاًّ عن الآخر. أمّا مع فرض الاتّصال وذكرهما في دليل واحد، فلا محالة يكون هذا الدليل مجملا. وأمّا لو استفيدت جزئيّة الجامع بينهما من مثل (الصلاة لا تترك بحال)، فهذا دليل آخر يؤخذ به بلا أيّ تزاحم أو تعارض. وخلاصة الكلام: أنّه لو سلّمنا وقوع التزاحم بين وجوبين ضمنيّين، فلا شغل للفقيه أصلا بالوجوبين الضمنيّين؛ لعدم تطلّب الوجوب الضمنيّ بوحده امتثالا، وإنّما له شغل بالجزئيّتين أو الشرطيّتين مثلا، ولا تزاحم بين الجزئيّتين أو الشرطيّتين، وإنّما الذي يتعقّل بين الجزئيّتين أو الشرطيّتين هو التعارض بين دليليهما.

236

الصحيح هو: تقدّم الحجّ. ونوضّح ذلك من ناحية المباني الاُصوليّة تاركين تفصيل الكلام عن الجوانب الفقهيّة للمطلب، فنقول: إنّه بالإمكان تقريب ما ذكرناه من تقدّم الحجّ بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: أن نفترض أنّ القدرة في النذر عقليّة، وأن نفترض أنّ القدرة في الحجّ أيضاً عقليّة، وأن نفترض أنّ الحجّ أهمّ من النذر، أو محتمل الأهمّيّة، أو أنّ احتمال أهمّيّته أقوى. فإن تمّت هذه الفروض الثلاثة فلا إشكال في تقدّم الحجّ؛ لما مضى فيما سبق من كون الأهمّيّة واحتمال الأهمّيّة في أحد المتزاحمين المشروطين بالقدرة العقليّة من المرجّحات.

يبقى الكلام في إثبات هذه الفروض فنقول:

أمّا الفرض الأوّل: وهو افتراض أنّ القدرة في النذر عقليّة لا شرعيّة فلا يحتاج إلى برهان؛ إذ هو أسوء التقديرين بالنسبة لتقديم الحجّ، فإنّه لو فُرضت القدرة في النذر شرعيّة لكان تقديم الحجّ عليه أوضح.

وأمّا الفرض الثاني: وهو كون القدرة في الحجّ عقليّة، بمعنى عدم ثبوت دخل ترك الواجب الآخر في ملاكه، فلأنّه لا مبرّر لدعوى دخله في ملاكه إلاّ أخذ الاستطاعة في لسان الدليل، حيث قال الله تعالى: ﴿لِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ بدعوى أنّ أخذ القدرة في لسان الدليل دليل على أنّها شرعيّة، إلاّ أنّ الاستطاعة لا تدلّ على أكثر من القدرة التكوينيّة، مع توسعتها لِما يُخرج العسر الشديد؛ لصدق عدم القدرة عرفاً عنده. فلو كانت القدرة دخيلة في الملاك فإنّما هي القدرة التكوينيّة بالمعنى العرفيّ الشامل لعدم العسر الشديد، لا عدم الانشغال بواجب آخر.

وقياسه بالوجدان في آية الوضوء، المحمول على ما يشمل مطلق المانع، بقرينة عطف المريض ـ على ما يقوله المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ـ في غير محله؛ لأنّ القرينة التي

237

ذكرها المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في آية الوضوء لو تمّت فهي غير موجودة في المقام؛ إذ لا يوجد هنا ذكر المريض في الآية.

على أنّ ذكر المريض أيضاً لا يدلّ على أكثر من إرادة معنى من عدم الوجدان ينسجم مع السفر والمرض معاً، ويكفي في ذلك فرض القدرة بمعنى يشمل عدم الحرج والضيق الشديدين اللذين قد يقترنان مع المرض، ولا وجه لحمل الوجدان في الآية على ما هو أوسع من ذلك ممّا يشمل عدم الانشغال بواجب آخر مضادّ له، أو عدم الخطاب بذلك.

هذا كلّه بغضّ النظر عن النصّ الخاصّ المفسِّر للاستطاعة في الآية بالزاد والراحلة. أمّا بالنظر إلى ذلك فمن الواضح عدم شمول الاستطاعة الدخيلة في الملاك ـ بمقتضى الآية ـ لعدم الانشغال بواجب آخر.

وأمّا الفرض الثالث: فهو المستظهر من الروايات الواردة في باب الحجّ في التشديد فيه، وكونه أحد أركان الإسلام، وكون تركه موجباً للكفر، ونحو ذلك ممّا لم يرد مثله في النذر، وهذا يوجب الجزم بأهمّيّة الحجّ أو احتمالها على الأقلّ(1).

الوجه الثاني: أنّ القدرة في النذر شرعيّة؛ لما ورد في الوجوبات التي يكون موضوعها جعل الإنسان، كالشرط والنذر واليمين والتجارة ونحو ذلك: من أنّ «شرط الله قبل شرطكم»، إذن فقد اُخذ في موضوعه أن لا ينافي شرطاً من شروط الله، بينما القدرة في الحجّ عقليّة؛ لما عرفت. والمشروط بالقدرة العقليّة مقدّم على المشروط بالقدرة الشرعيّة، على ما مضى توضيح ذلك في مرجّحات التزاحم.


(1) جاء في كتاب السيّد الهاشميّ حفظه الله: إنّ هذا الوجه للترجيح يتمّ حينما يكون طرف المزاحمة للنذر أصل الحجّ، أمّا إذا كانت طرف المزاحمة له فوريّة الحجّ فقد لا يتمّ هذا الوجه.

238

الوجه الثالث: أنّه لو تنزّلنا وفرضنا أنّ القدرة في الحجّ أيضاً شرعيّة، قلنا: إنّه قد مضى أنّ القدرة الشرعيّة لها معنيان: أحدهما عدم الانشغال بواجب آخر. والثاني عدم المانع بالمعنى الذي ينتفي بمجرّد وجود الخطاب الآخر بالضدّ حتّى لو لم ينشغل به.

والقدرة المأخوذة في الحجّ ـ بعد التسليم ـ إنّما هي القدرة بالمعنى الأوّل، فإنّه مع عدم الانشغال بواجب آخر لا ريب في صدق عنوان الاستطاعة، بينما القدرة المأخوذة في النذر هي القدرة بالمعنى الثاني، حيث قال: «شرط الله قبل شرطكم»، فمجرّد وجود شرط الله المنافي لشرط العبد يمنع عن تحقّق شرط العبد(1). وقد مضى أنّ المشروط بالقدرة الشرعيّة بالمعنى الأوّل مقدّم على المشروط بالقدرة الشرعيّة بالمعنى الثاني.

الوجه الرابع: أنّنا لو تنزّلنا أيضاً وفرضنا القدرة الشرعيّة في الحجّ بالمعنى الثاني كما في النذر، قلنا: إنّ القدرة المأخوذة في الحجّ إنّما هي بمعنى عدم وجود خطاب بالمزاحم بالفعل؛ فإنّ كلّ عنوان مأخوذ في الدليل يكون الأصل فيه حمله على الفعليّة. وأمّا القدرة المأخوذة في النذر فهي بمعنى عدم المانع اللولائيّ، لا المانع الفعليّ ـ أي: عدم وجود الخطاب بالمزاحم بغضّ النظر عن هذا


(1) ومن هنا يفتى بأنّه لو نذر زيارة عرفة ـ مثلا ـ للحسين(عليه السلام)، ثمّ استطاع للحجّ بطل نذره، فحتّى ولو ترك الحجّ عصياناً لم يجب عليه الوفاء بنذره.

إلاّ أنّ هذا عندي مشكل؛ فإنّ المتيقّن من مثل: «شرط الله قبل شرطكم»، ليس أكثر من أنّ قبليّة شرط الله أوجبت على الإنسان تقديمه على شرط نفسه المزاحم لشرط الله. أمّا لو عصى ولم يعمل بشرط الله فإنّ عدم وجود المزاحم الذي أوجبه على نفسه ـ بشرط أو نذر أو نحو ذلك ـ غير واضح من هذا النصّ.

239

الخطاب ـ وذلك استظهاراً من قوله: «شرط الله قبل شرطكم»، أي: إنّه بغضّ النظر عن شرطكم، وفي المرتبة السابقة على شرطكم، يكون شرط الله ثابتاً، فهو يمنع عن شرطكم. وقد أثبتنا فيما مضى: أنّ المشروط بعدم المانع الفعليّ مقدّم على المشروط بعدم المانع اللولائيّ.

وقد يذكر وجهان لتقديم الحجّ على النذر غير الوجوه التي نحن ذكرناها:

الوجه الأوّل: أنّ القدرة في الحجّ عقليّة، وفي النذر شرعيّة، فيقدّم الحجّ على النذر. أمّا كون القدرة في الحجّ عقليّة؛ فلبعض ما مضى منّا. وأمّا كون القدرة في النذر شرعيّة؛ فلأنّ الناذر طبعاً لا يُتعقّل نذره بأمر غير مقدور؛ فإنّ العاقل لا ينذر الإتيان بشيء غير مقدور له، إذن فالقدرة داخلة في متعلّق النذر. وإذا كان الأمر كذلك فلا محالة تكون القدرة دخيلة في الملاك؛ فإنّ وجوب العمل بالنذر إنّما هو بملاك الوفاء وكون الإنسان باقياً على عهده، وهذا يتحدّد لا محالة بحدود متعلّق النذر، فمع انتفاء القدرة لا ملاك؛ لأنّه لا نذر، فقد اتّضح بذلك كون القدرة شرعيّة.

ويرد عليه: أنّ القدرة التي نجزم بدخلها في متعلّق النذر إنّما هي القدرة التكوينيّة، وأمّا القدرة بمعنى عدم الانشغال بواجب آخر، فلا، بل قد يتعمّد الناذر إطلاق النذر لهذا الفرض برجاء إمضاء الشارع لذلك، وصيرورته عذراً له في مقام الانصراف عن ذلك الواجب الآخر. وقد مضى فيما سبق أنّ كون القدرة شرعيّة ـ بمعنى دخل مجرّد القدرة التكوينيّة في الملاك ـ لا يوجب تقدّم الواجب الآخر الذي لا يفرض دخل القدرة في ملاكه عليه.

الوجه الثاني: كأنّه يُذكر بعد التنزّل عن الوجه الأوّل، وافتراض كون القدرة في كليهما شرعيّة بنحو واحد، فيقال: إنّ وجوب الوفاء بالنذر إنّما يصبح فعليّاً حين حلول وقت العمل، بناءً على استحالة الواجب المعلّق مثلا، في حين أنّ الخروج مع الرفقة إلى الحجّ ـ مثلا ـ يجب قبل يوم عرفة، فيتقدّم على زيارة الحسين(عليه السلام) في

240

يوم عرفة بالترجيح بالتقدّم الزمنيّ(1).

ويرد عليه: أنّه إن فُرض وجوب الخروج مع الرفقة وجوباً غيريّاً شرعيّاً على حدّ وجوب مقدّمة الواجب عند وجوب ذيها، كان معنى ذلك الالتزام بالوجوب التعليقيّ في الحجّ، فإذا أمكن الوجوب التعليقيّ في الحجّ فلماذا لا يمكن في النذر؟! فلنقل في النذر أيضاً بتقدّم زمان وجوبه. وإن فرض وجوبه من باب وجوب المقدّمات المفوّتة عقلا، فهذا خلف كون الحجّ مشروطاً بالقدرة الشرعيّة؛ فإنّه إذا كانت القدرة دخيلة في الملاك، فتفويت المقدّمات المفوّتة ليس تفويتاً للملاك، بل هو إعدام لموضوعه(2)، ولا بأس بذلك، ومورد التقديم بالأسبقيّة زماناً


(1) لا يخفى أنّه قد ينعكس الأمر، فيكون العمل بالنذر متوقّفاً على مقدّمة سابقة على مقدّمات الحجّ. وقد يكونان متوقّفين على مقدّمات متقارنة، فليست نتيجة هذا الوجه تقديم الحجّ دائماً.

ثمّ الذي يبدو أنّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) صاغ الوجه وصاغ جوابه أيضاً على صياغة كون المراد بالترجيح بالتقدّم الزمنيّ هو الترجيح بتقدّم الوجوب زماناً.

(2) هذا الجواب كما قلنا مصوغ بصياغة فرض البحث على مبنى كون الترجيح لأسبقيّة زمان الوجوب.

ولعلّ الأولى التشقيق بالكلام على كلا الفرضين، وذلك بأن يقال: تارةً يتكلّم بناءً على الترجيح بسبق الوجوب، واُخرى يتكلّم بناءً على الترجيح بسبق زمان الواجب:

فإن بُني على الأوّل وقيل: إنّ مقدّمة الحجّ سبق وجوبها وجوبَ الوفاء بالنذر، فترجّح عليه، قلنا: خير ما يمكن أن يقال في تقريب الترجيح بأسبقيّة الوجوب، دعوى استظهار دخل القدرة في الملاك، بمعنى يشمل عدم الانشغال بإفراغ الذمّة عن وجوب سابق أو مقارن.

241


وهذا جوابه ـ بعد فرض تسليم هذا الاستظهار ـ أحد أمرين:

الأوّل: إنّ هذا الاستظهار لو تمّ، فإنّما يتمّ بلحاظ وجوب يقبل التنجّز ويُشغل الذمّة، فيقال: إنّ شغل الذمّة رافع للقدرة مثلا، أمّا وجوب المقدّمة ـ كالخروج مع الرفقة ـ الذي ليس له تنجيز ولا تعذير، فلا يرفع القدرة إلاّ بلحاظ وجوب ذيها، والمفروض أنّ وجوب ذيها مع وجوب المزاحم الآخر مقترنان.

والثاني:ما ورد في المتن من أنّه إن قُصد بوجوب مثل السير مع الرفقة الوجوب الغيريّ الشرعيّ على حدّ وجوب مقدّمة الواجب عند وجوب ذيها، كان هذا رجوعاً إلى استظهار الوجوب التعليقيّ والذي يمكن أن يقال به في النذر أيضاً، كما يقال به في الحجّ. وإن قُصد به الوجوب العقليّ للمقدّمات المفوّتة من قِبَل وجوب ذيها، فهذا خلف فرض دخل القدرة في الملاك؛ لأنّه على تقدير دخل القدرة في الملاك يجوز تفويتها بترك المقدّمات المفوّتة.

وإن بُني على الثاني وقيل: إنّ مقدّمات الحجّ واجبة ومقدّمة زماناً على زيارة عرفة مثلا، فتترجّح عليها بالتقدّم الزمنيّ، قلنا: إنّ للترجيح بسبق زمان الواجب أحد تقريبين:

التقريب الأوّل: استظهار دخل القدرة في الملاك بمعنى يشمل عدم الانشغال بواجب مقارن أو سابق، والواجب الأوّل هو الذي يكون الانشغال به انشغالا بواجب سابق على الواجب الثاني، وليس الثاني سابقاً على الأوّل ولا مقارناً له.

وإسراء ذلك إلى ما نحن فيه يكون ببيان: أنّ العبرة في الترجيح ليست بنفس عنوان تقدّم الواجب، حتّى يقال مثلا: إنّ المهمّ هو نفس الواجب النفسيّ الذي له تنجّز وتعذّر، لا المقدّمة، والواجبان النفسيّان في المقام متقارنان. وإنّما العبرة في الترجيح بأن يكون ظرف ضرورة انشغال العبد بأحد الواجبين ـ من مبدأ التنجيز والتعذير ـ قبل ظرف انشغاله بالآخر، وهذا ثابت في المقام؛ فإنّ انشغاله بمقدّمة الحجّ السابق زمناً على الزيارة، انشغالٌ

242


بامتثال واجب نفسيّ له تنجيز وتعذير سابق على زمان امتثال الآخر؛ فإنّ المقدّمة وإن لم يستمدّ تنجّزها من الأمر بها، ولكن الانشغال بها انشغالٌ بامتثال وجوب ذي المقدّمة، وشروعٌ في التحرّك من مبدأ منجّزيّة وجوب ذي المقدّمة، ويكفي هذا للترجيح، أو قل: إنّ هذا بحكم تقدّم نفس الواجب النفسيّ.

التقريب الثاني: استظهار دخل القدرة التكوينيّة في الملاك بمعنى القدرة على الواجب في زمانه، لا القدرة التكوينيّة عليه مطلقاً ولو بلحاظ القدرة على المقدّمات المفوّتة قبل زمان الواجب. فالواجب السابق يتقدّم؛ لأنّه لو أتى به فقَدَ القدرة على الواجب الثاني في زمانه، وبذلك ارتفع موضوعه.

وهذا التقريب الثاني ـ لو تمّ في نفسه ـ قد لا يصحّ تطبيقه على المقام؛ وذلك لأنّنا لو استظهرنا دخل القدرة في الملاك في الواجبين ـ بمعنى القدرة في وقت العمل ـ لم يجب خروج الرفقة، ولا سائر المقدّمات المفوّتة للحجّ، وهذا خلف.

إلاّ أن يفترض أنّ هذا الاستظهار نقبله في باب النذر، وأمّا في باب الحجّ فقد قامت الضرورة الدينيّة على وجوبه حتّى على النائين المحتاجين إلى مقدّمات مفوّتة، وهذا دليل على عدم دخل القدرة التكوينيّة في خصوص ظرف الواجب في ملاك الحجّ.

وعلى أيّ حال، فلو تمّ أحد التقريبين في ذاته، ورد على تطبيقه على المقام: أنّنا ننكر سبق مقدّمة الحجّ بنحو موجب للترجيح بسبق أحد الواجبين. وتوضيح ذلك: أنّ الانشغال بمقدّمة الحجّ إلى حين لا يورث العجز من الزيارة ـ كالخروج مع الرفقة قبل شهر مثلا، والسير إلى مدّة يمكن الرجوع إلى كربلاء ودرك زيارة عرفة ـ لا يحلّ المشكل؛ لأنّه مادامت القدرة على كلا الواجبين موجودة، فالمزاحمة باقية على حالها، ولا مبرّر لفرض ترجيح أحدهما بسبق الواجب؛ لأنّ الاشتغال بالسابق لم يسلب القدرة عن اللاحق؛ إذ

243

إنّما هو المشروطان بالقدرة الشرعيّة(1).

وقد يذكر وجهان لتقديم الوفاء بالنذر على الحجّ:

الوجه الأوّل: أن يقال: إنّ القدرة في الحجّ شرعيّة؛ لأنّها اُخذت في لسان الدليل في قوله: ﴿لِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾، ولكنّها في النذر عقليّة؛ لأنّها لم تؤخذ في لسان الدليل.والمشروط بالقدرة العقليّة يقدّم على المشروط بالقدرة الشرعيّة.

وقد بينّا سابقاً: أنّ مجرّد عدم ذكر القدرة في لسان الدليل ليس دليلا على كونها عقليّة، وعدم دخلها في الملاك، فليكن المقصود هنا ما وضّحناه فيما سبق من أنّه حينما يقاس ما لم تؤخذ القدرة في لسان دليله بما ثبت كون القدرة فيه شرعيّة، يثبت بإطلاق دليل الأوّل لفرض الانشغال بالثاني كون قدرته عقليّة، أي: أنّ ملاكه لا ينتفي موضوعاً بالانشغال بالثاني، على بيان وتوضيح مضى.

إلاّ أنّك قد عرفت: أنّ الأمر تماماً على العكس، أي: أنّ القدرة في النذر


بالإمكان العدول ـ بحسب الفرض ـ إلى الواجب الآخر، وفي الوقت الذي تصل النوبة إلى صرف القدرة في أحدهما بالخصوص ـ الموجب لانسلاب القدرة على الآخر ـ يكون الواجبان بما لهما من مقدّمات مفوّتة متقارنين.

ولعلّ هذا هو السرّ فيما يبدو من عدول سيّدنا الاُستاذ(رحمه الله) في صياغة أصل الترجيح وإبطاله من الترجيح بتقدّم زمان الواجب إلى الترجيح بتقدّم الوجوب.

(1) أمّا المشروطان بالقدرة العقليّة فليس السابق منهما رافعاً لموضوع الآخر. وأمّا لو كان أحدهما مشروطاً بالقدرة العقليّة والآخر مشروطاً بالقدرة الشرعيّة، فالمشروط بالقدرة العقليّة هو الذي يرفع موضوع الآخر، سواء تقدّم زماناً أو تأخّر، فلا أثر للترجيح بالسبق الزمنيّ.

244

شرعيّة، وأنّه لم يؤخذ في لسان دليل الحجّ عدم الواجب الآخر، أو عدم الانشغال به.

الوجه الثاني: أنّ النذر كان مقدّماً على الاستطاعة، فيقدّم عليه بالترجيح بالأسبقيّة زماناً، بناءً على أنّ القدرة في كليهما شرعيّة وبنحو احد.

ويرد عليه: أنّه على القول بالترجيح بالأسبقيّة، إنّما يرجّح ما كان وجوبه أو زمان الواجب فيه أسبق، بدعوى انصراف القدرة الشرعيّة إلى القدرة حين الوجوب أو في وقت الواجب، أمّا تقدّم السبب فلا عبرة به على كلّ حال(1).

 

 


(1) قد يُفرض أنّ وجوب الوفاء بالنذر غير المعلّق على شيء يكون ثابتاً من حين النذر بنحو الوجوب التعليقيّ، فلو صحّ هذا الفرض لم يتأتّ هذا الجواب. نعم، المهمّ أنّ أصل فرض مرجّحيّة مجرّد تقدّم الوجوب ضعيف.