807

ولكن بالإمكان في خصوص عدم خضوع المنكر لحكم القاضي بحجّة خطئه في التطبيق أن يقال: إنّ الارتكاز العقلائي يحكم بأنّ تشريع كبرى القضاء يقترن بتشريع وجوب الاستسلام من قبل المحكوم عليه حتى في المورد الذي يناقش المحكوم عليه في مشروعية صغرى من صغريات القضاء لفرضه للخطأ في التطبيق، وإلا لزم الهرج في باب القضاء؛ لأنّ المحكوم عليه سيدّعي في كثير من الأحيان خطأ القاضي في التطبيق، ولم يرد ردع عن هذا الارتكاز؛ إذاً فلا يجوز للمحكوم عليه عدم الاستسلام بأن يعارض المحكوم له، ولا يسلّم له الحقّ.

نعم، هذا لا يعني عدم جواز سعيه في إثبات خطأ القاضي، فهو يبقى مستسلماً للنتيجة قبل إثباته لخطأ القاضي، فإذا أثبت خطأه بحيث اقتنع نفس القاضي بالخطأ في التطبيق، فلا دليل على نفوذ هذا القضاء الخاطئ، ومقتضى القاعدة هو استئناف القضاء؛ لأنّ المقبولة والارتكاز بتقريبه السابق _ كما قلنا _ لا يأتيان هنا.

وإذا أثبت خطأه لدى قاضٍ آخر بإقامة دليل يقنع بطبعه القاضي الأول أيضاً لو عرض عليه، كما لو اعتمد القاضي الأول في عدالة البيّنة على حسن الظاهر بينما هذا أقام الشهود على فسقها، أو اعتمد القاضي الأول على تزكية البيّنة ببيّنة شهدت بعدالتها بينما هذا أثبت أنّ هذه البيّنة المزكِّية معارَضة ببيّنة جارحة، فالقاضي الثاني ينقض حكم القاضي الأول، فإنّ حاله حال القاضي الأول الذي لو كان لكان ينقض حكم نفسه.

أمّا إذا أثبت خطأه لدى قاضٍ آخر بإقناعٍ شخصي له بحيث قد لا يقتنع القاضي الأول بذلك، أو كان الخلاف بين القاضيين في مقاييس العدالة مثلاً، فهذا يُلحَق حُكماً بما سيأتي من القسم الثالث إن شاء اللّه.

القسم الثاني _ الخطأ الضروري في الكبرى، كما لو اعتقد القاضي خطأً أنّ البيّنة

808

على من أنكر واليمين على المدّعي فحكم على هذا الأساس، ولا إشكال في عدم نفوذ هذا القضاء، ولا مورد لما مضى من دعوى الارتكاز، ولا تُطبَّق المقبولة على المقام كما هو واضح.

القسم الثالث _ الاختلاف في الاجتهاد، كما لو كان من رأي القاضي أنّ نكول المنكر بلا إرجاعه لليمين على المدّعي يوجب الحكم ضدّ المنكر، بينما القاضي الثاني كان يرى أنّ هذا لا يوجب الحكم ضدّ المنكر، بل القاضي هو الذي يُرجع اليمين عندئذٍ على المدّعي، أو المنكر كان يرى اجتهاداً أو تقليداً ذلك، وهنا لا مجال للتمسّك بالمقبولة؛ لأنّ كون ما حكم به القاضي الأول من حكمهم (عليهم السلام) أول الكلام، ولا بالارتكاز بتقريبه السابق من ارتكاز أنّ مشروعية القضاء إنّما هي لفصل الخصومة، ولكن لا يبعد القول بأنّ الارتكاز العقلائي يقتضي في المقام النفوذ وعدم جواز النقض ما دام القاضي الأول كان واجداً لشرائط منصب القضاء في الشريعة، واجتهاده كان يعتبر اجتهاداً مقبولاً ومشروعاً في الإطار العامّ للشريعة، ولم يكن من قبيل الفرض الماضي في القسم الثاني من اعتقاد القاضي أنّ اليمين على المدّعي والبيّنة على من أنكر، ولم يردع عن هذا الارتكاز. فالنتيجة هي نفوذ القضاء في المقام، وعدم صحّة الاستئناف، وعدم جواز نقض حكم الحاكم فيه، والاستئناف ينحصر مورده بالقسم الأول والثاني.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.

قد وقع الفراغ من كتابة هذا البحث في يوم الاثنين المصادف للخامس والعشرين من شهر شعبان المعظّم من السنة 1406 الهجريّة القمريّة في قم المقدّسة.

أسأل اللّه تعالى أن يجعله خالصاً مخلصاً لوجهه الكريم، ويجعله ذخراً ليوم فاقتي، ويثيبني عليه بفضله وكرمه، إنّه سميع مجيب.

809

وصلّى اللّه على سيّدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

والحمد للّه أوّلاً وآخراً.