استصحاب جزء الموضوع
التبيه العاشر: في تحقيق حال استصحاب جزء الموضوع. فإنّه يوجد في إجراء الاستصحاب في جزء من أجزاء موضوع الحكم إشكالان:
1 ـ أنّ جزء الموضوع ليس هو حكماً شرعياً، ولا يترتّب عليه حكم شرعي؛ إذ الحكم يترتّب على تمام الموضوع، فوجوب التقليد يترتّب على الفقاهة والعدالة مثلاً، لا على أحدهما، فكيف يستصحب أحدهما؟
وهذا الإشكال بعد التعميق قد يتحوّل إلى ما يستعصي على الحلّ، كما سيتضح ممّا يأتي.
2 ـ أنّه لو سلم جريان استصحاب جزء الموضوع في ذاته، أي: إنّنا أجبنا على الإشكال الأوّل، بقي إشكال آخر، وهو أنّ الموضوع هو المجموع المركّب من الجزئين، وهذان الجزءان وإن أثبتنا أحدهما بالوجدان والآخر بالتعبّد، لكن إثبات عنوان المجموع لكي يترتّب عليه الحكم تمسّكٌ بالأصل المثبت.
وفي الكفاية ذكر هذا الإشكال الثاني في بحث الاستصحاب المثبت(1)، ولم يذكر الإشكال الأوّل، ونحن بما أنّنا أردنا الجمع بين الإشكالين عقدنا تنبيهاً مستقلاً لذلك.
فنقول: أمّا الإشكال الأوّل، فقبل تحقيق الحال فيه نشير إلى أصل كيفيّة تصوير الاستصحاب في موضوعات الأحكام، فنقول: إنّ هنا اتّجاهين رئيسيين في تصوير استصحاب موضوع الحكم:
الأوّل: هو الاتّجاه السائد في علم الاُصول، وهو: أنّ استصحاب موضوع الحكم يعبّدنا بفعلية الحكم بلسان من الألسنة التي تذكر في المقام من جعل الطريقية، أو المنجّزية، والمعذّرية، أو الحكم المماثل، أو غير ذلك.
والثاني: الاتّجاه الصحيح، وهو: أنّ استصحاب الموضوع يعبّدنا بنفس الموضوع، ويكون التعبّد بالموضوع الذي هو صغرى منضماً إلى علمنا بالكبرى، وهو الجعل كافياً في
(1) راجع الكفاية ج2 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليق الشيخ المشكيني ص335 و337.
التنجيز العقلي، ولا يوجد عندنا مجعول وفعلية للحكم وراء الجعل نتعبّد به باستصحاب الموضوع مثلاً.
إذا عرفت ذلك قلنا: إنّه بناءً على الاتّجاه الثاني الذي أوضحناه فيما مضى لا موضوع لهذا الإشكال الأوّل في المقام أساساً ؛ إذ ليس المقصود باستصحاب جزء الموضوع إثبات حكم حتّى يقال: إنّ جزء الموضوع لا حكم له، وإنّما المقصود به إثبات هذا الجزء من الموضوع، لكي ينضمّ إلى الجزء الثاني المعلوم بالوجدان، وإلى الجعل الشرعي للحكم المعلوم بالوجدان أيضاً، لكي يترتّب على ذلك كلّه التنجيز العقلي.
وإنّما الإشكال يكون على الاتّجاه الأوّل الذي هو عبارة عن أنّ استصحاب الموضوع يكون مفاده التعبّد بالحكم، فعندئذ يتوجّه السؤال عن أنّ استصحاب جزء الموضوع يُثبت أيّ حكم من الأحكام؟
وهذا السؤال يمكن أن يقدّم عليه أحد أجوبة ثلاثة، وبإبطالها جميعاً يتحوّل السؤال الى مشكلة قد تستعصي على الحلّ:
الجواب الأوّل، أن يقال: إنّ استصحاب جزء الموضوع يُثبتُ نفس الحكم الثابت شرعاً لذاك الموضوع.
وهذا الجواب بهذا المقدار يكون عدم الاقتناع به واضحاً ؛ إذ ذلك الحكم حكم لتمام الموضوع لا لجزئه، فما معنى كون استصحاب جزئه تعبّداً بهذا الحكم؟ وقد يُتمّم هذا الوجه بماقد يقال في بحث الترتّب، من أنّ الحكم الموقوف على شرائط عديدة يخرج عن كونه موقوفاً على بعض تلك الشرائط حينما يتحقّق ذلك الشرط خارجاً، وإنّما يبقى موقوفاً على باقي الشرائط التي لم تحصل بعدُ، فبما أنّ أحد جزئي الموضوع في المقام حاصل بالوجدان يكون الحكم موقوفاً على الجزء الآخر، فيثبت باستصحاب ذلك الجزء.
وجوابه ما نقحّوه في بحث الترتّب من أنّ هذا الكلام خلط بين التوقّف بمعنى ثبوت الحالة الانتظارية والتوقف بمعنى الشرطية والموضوعية، فالمشروط بتحقّق شرطه لا يخرج عن كونه مشروطاً. نعم، يخرج عن كوننا بلحاظه في حالة الانتظار بالنسبة لهذا الشرط.
الجواب الثاني، أن يقال: إنّ استصحاب جزء الموضوع يُثبت من الحكم المقدار المرتبط به.
وهذا خلط بين موضوعات التكليف ومتعلّقاته، ففي المتعلّق يمكن أن يقال: إنّ كلّ حصّة منه تنال حصّة من الحكم، فالحمد له حصّة من الوجوب، والسورة لها حصّة اُخرى، وهكذا، لكن هذا الكلام بالنسبة لأجزاء الموضوع غير معقول، فليست مثلاً الفقاهة تنال
حصّة من وجوب التقليد، والعدالة تنال حصّة اخرى.
الجواب الثالث، وهو أحسن الأجوبة أن يقال: إنّ الإجتهاد وإن كان جزءاً لموضوع الحكم بوجوب التقليد منجّزاً مثلاً، لكن هنا حكم آخر تكون الفقاهة تمام موضوعه، وهو الحكم بوجوب التقليد المشروط بالعدالة.
وهذا الجواب ـ أيضاً ـ غير صحيح ؛ إذ الشارع جعل وجوب التقليد على مجموع الجزئين، ولم يجعل الوجوب المشروط بأحد الجزئين على الجزء الآخر، على أنّ هذا الكلام غير معقول بالنسبة لمدرسة المحقّق النائيني (رحمه الله) ؛ إذ هي في بحث الاستصحاب التعليقي أنكرت استصحاب هذه القضيّة الشرطية بحجّة أنّها انتزاعية، وليست شرعية، فليس لها أن تلتزم هنا باستصحاب موضوع تلك القضية الشرطية لإثباتها.
فتحصّل: إنّ هذا الإشكال مستعص على الحلّ بناءً على الاتّجاه الأوّل، وهذا بنفسه برهان نقضي على صحّة الاتجاه الثاني؛ إذ القائل بالاتّجاه الأوّل يضطرّ إمّا إلى أن يجنح إلى أحد هذه الأجوبة الباطلة، أو إلى إنكار جريان الاستصحاب في جزء الموضوع، وهو لا يلتزم بذلك.
ويمكن أن يقال بناءً على ما اخترناه في بحث الاستصحاب التعليقي ـ خلافاً لمدرسة المحقق النائيني(رحمه الله) ـ من أنّه يجري الاستصحاب إذا كانت نفس القضية الشرطية مجعولة على الموضوع: إنّه هنا ـ أيضاً ـ في هذا الفرض يتمّ الجواب الثالث، ويجري الاستصحاب ؛ فإنّه من الممكن أن يجعل الشارع الاجتهاد مثلاً تمام الموضوع لقضية شرطية، وهي وجوب التقليد إن كان عادلاً، فإذا جعل هكذا فلا مانع من إجراء استصحاب الاجتهاد لتثبت هذه القضية الشرعية.
إلاّ أنّ هذا الكلام ـ أيضاً ـ غير صحيح ؛ وذلك لإنّنا وإن اخترنا في بحث الاستصحاب التعليقي جريان استصحاب تلك القضية الشرطية، لكن قد مضى هناك إشكال على هذا الاستصحاب، وهو أنّ التنجيز إنّما يترتّب على هذه القضية الشرطية إذا صارت فعليّة بفعليّة الشرط، وصيرورتها فعليّة بفعليّة الشرط إنّما هي أمر عقلي، فالتعويل على هذا الاستصحاب تعويل على الاستصحاب المثبت وأجبنا هناك عن هذا الإشكال بأنّنا لا نؤمن بفعلية في مقابل الجعل، وإنّما نقول: إنّ نفس إحراز الجعل وإحراز الموضوع كاف في التنجيز العقلي.
وهذا الجواب ـ كما ترى ـ هو اختيار للاتّجاه الثاني، ولو اخترنا الاتّجاه الثاني لم يبقَ
موضوع للإشكال في المقام، ونحن إنّما كنّا بصدد إيراد الإشكال على الاتّجاه الأوّل. نعم، مضى هناك جواب آخر عن إشكال المثبتية، وهو فرض الالتزام بجعل الحكم المماثل، لكن مضى ـ أيضاً ـ أنّه يبقى عندئذ إشكال إثباتي في شمول إطلاق دليل الاستصحاب للمقام، فراجع.
وأمّا الإشكال الثاني، وهو أنّ الأثر مترتّب على عنوان المجموع، وهذا لا يثبت باستصحاب الجزء.
فقد ذكر المحقّق النائيني (رحمه الله) في ذلك ضابطاً، وهو أنّه متى ما كان الجزءآن عبارة عن العرض ومحلّه، أو عدم العرض ومحله، فالموضوع يكون ـ في الحقيقة ـ تقييدياً، فانّ هذا العرض أو عدمه وإن كان فلسفياً يمكن أن ينظر إليه بما هو ومستقلاًّ، ويمكن أن ينظر إليه باعتباره وصفاً للمحل ؛ ولذا لو كان هو تمام الموضوع لأمكن أن يكون تمام الموضوع ملحوظاً في ذاته وبما هو، وأمكن أن يكون تمام الموضوع بما هو وصف للمحل، لكن إذا كان جزء الموضوع وجزءه الآخر محلّه فهناك برهان عقلي على أنّه لا بدّ أن يكون جزء الموضوع بما هو وصف، لا بما هو هو.
وقبل أن نذكر باقي كلام المحقّق النائيني (رحمه الله) في هذا الضابط نقول: إنّ هذا البرهان مضى ذكره في بحث استصحاب العدم الأزلي مع جوابه، ولا نتعرّض له هنا، ونقول هنا إجمالاً: إنّ المختار هو إمكان كونه في هذا الحال جزء الموضوع بما هو هو، لا بما هو وصف.
هذا بحسب عالم الثبوت. وأمّا بحسب عالم الإثبات فمقتضى الأصل الأوّلي ـ لولا قرينة على الخلاف ـ هو عدم القيديّة ولحاظه بما هو وصف، لأنّ لحاظ قيد الوصفية يحتاج إلى مؤونة زائدة. نعم، بالإمكان فرض القرينة على ذلك.
وأمّا إذا لم يكن الجزءآن عبارة عن العرض ومحلّه، أو عدم العرض ومحلّه سواءً كانا عبارة عن عرضين لمحلّ واحد، أو لمحلّين، أو عبارة عن جوهرين، أو غير ذلك، فيقول المحقّق النائيني (رحمه الله): إنّه بحسب مقام الثبوت يمكن أن يرجع هذا إلى التركيب، بأن يكون الموضوع مركّباً من جزءين، فيثبت الموضوع ـ لا محالة ـ حينما يثبت أحدهما بالوجدان والآخر بالتعبّد، ويمكن أن يرجع إلى التقييد بأن يربط أحدهما بالآخر بأخذ قيد الاجتماع، أو التقارن، أو التقدّم، أو التأخّر ونحو ذلك في الموضوع، إلاّ أنّ الظاهر بحسب مقام الإثبات هو الأوّل ما لم تقم قرينة على الخلاف؛ وذلك لأنّ هذين الجزءين ليس أحدهما وصفاً للآخر، فبطبعهما الأوّلي لم يؤخذ ربط بينهما، وإنّما أخذُ الربط بينهما يكون بإدخال عنصر ثالث، وهو
عنوان الاجتماع، أو التقدّم، أو التأخّر ونحو ذلك، فيتّصف أحدهما بأنّه مجتمع مع الآخر، أو مقدّم عليه، أو مؤخّر عنه، وإدخال العنصر الثالث طبعاً مؤونة زائدة يحتاج إلى قرينة.
أقول: إنّ كلام المحقّق النائيني (رحمه الله) في ما إذا لم يكن الجزءآن عبارة عن العرض ومحلّه، أو عدم العرض ومحلّه وإن كان صحيحاً، فثبوتاً يمكن التركيب كما يمكن التقييد، وإثباتاً يحتاج التقييد إلى القرينة كما قلنا في العرض ومحلّه: إنّه يحتاج التقييد إلى القرينة، بل احتياج ذلك هنا إلى القرينة أوضح ؛ إذ التقييد هنا بحاجة إلى إدخال عنصر ثالث كالتقارن، أو التقدّم، أو التأخّر.
إلاّ أنّه يبقى هنا شيء لم يتعرّضوا له، وهو أنّه وإن كان التقييد في العرضين لمحلّ واحد بحاجة الى القرينة لكن في أكثر الموارد يمكن أن يقال: إنّه توجد القرينة العامّة على التقييد، في حين انّ الاستصحاب يجريه الأصحاب فيها، فلكي نستطيع حلّ إشكال مثبتية الاستصحاب لا بدّ من الفحص عمّا يبطل تلك القرينة ولو بأن توجد قرينة اُخرى تنقض أثر تلك القرينة العامّة الاُولى.
فأوّلاً نتكلّم عمّا قد يدّعى من القرينة على التقييد، ثمّ نتكلّم عن أنّه هل يمكن حلّها ولو بإبداء قرينة ثانوية تقلب الظهور، أو لا.
فنقول: إنّ هناك ثلاثة موارد يمكن دعوى وجود القرينة على التقييد فيها.
المورد الأوّل: ما إذا كانا العرضان أُخِذا في لسان الدليل طوليين، فإنّهما قد يؤخذان عرضيين كما لو قال: (يجب إطاعة الإنسان الفقيه العادل) فالفقاهة والعدالة أخذتا عرضيتين، وقد يؤخذان طوليين كما لو قال: (الغَسل بالماء الطاهر مطهِّر) فالطهارة قد اُخذت في موضوع الغَسل. وهذا يستوجب التقييد لا بمعنى أنّ الغَسل عَرَضَ على الطهارة حتّى يقال: إنّ هذا لا يعقل إلاّ بمعنى عروض عنصر ثالث على الطهارة من التقارن مثلاً، حتّى يقال: إنّه مؤونة زائدة يحتاج إلى قرينة غير موجودة، بل بمعنى أنّ الغسل عرض على الماء، لكن في طول الطهارة، أي: عَرَضَ على الماء الطاهر بما هو طاهر، وعندئذ فاستصحاب الطهارة في الماء لا يثبت عنوان الغسل بالماء الطاهر إلاّ بالملازمة العقلية، من باب أنّه حصل الغَسل بالماء وجداناً، والماء طاهر تعبّداً، فقد أصبح الماء الحدّ الأوسط، والنتيجة: أنّه حصل الغسل بالماء الطاهر.
وقلّ ما يوجد مورد يسلم عن هذا الإشكال، فمثلاً لو قال المولى: (أكرم العادل) فاستصحاب عدالة شخص لا يثبت أنّ إكرامه إكرام للعادل حتّى يثبت وجوبه، وكذلك لو
قال: (يجب إطاعة الإنسان الفقيه العادل) فاستصحاب الفقاهة أو العدالة لا يثبت أنّ إطاعته إطاعة للفقيه العادل، وهكذا.
المورد الثاني: شرائط الأعمال، من قبيل الطهارة التي هي شرط الصلاة مثلاً، فبناءً على ما يقال من أنّ الشرط ما كان تقيّده جزءً ونفس القيد خارجاً، نقول كيف يمكن استصحاب الطهارة لتصحّح الصلاة في حين أنّ استصحابها لا يثبت حصول تقيّد الصلاة بهاوارتباطها الخاصّ بها إلاّ بالملازمة العقلية؟!
ومن هنا يبدو أنّ الإشكال في المقام ليس عبارة عن مجرّد الإشكال على علماء الاُصول بعنوان أنّكم لماذا تجرون الاستصحاب في أمثال هذه الموارد، بل ينقدح منه الإشكال على دليل الاستصحاب نفسه الوارد عن الإمام(عليه السلام) أعني صحيحة زرارة التي استصحبت فيها الطهارة، وعليه فنستكشف أنّه حتماً يوجد خطأ في إحدى مبانينا الاُصولية. فإمّا أنّ ما التزمناه من عدم حجّية الاستصحاب المثبت مثلاً غير صحيح، أو أنّ بعض الاستثناءآت من الأصل المثبت الذي لم نقبله يجب أن نتراجع عن رأينا فيه ونقبله بحكم الصحيحة بعد فرض دخول المقام تحت ذلك البعض، كعنوان خفاء الواسطة، أو جلاء الملازمة مثلاً.
المورد الثالث: أنّه لا أقلّ من العطف بالواو، فلو قال: (إن غسلت يدك بالماء وكان الماء طاهراً طهرت يدك) فالغسل وطهارة الماء وإن أُخذا في عرض واحد لكنّ الواو حرف يدلّ على نوع من التقيّد والارتباط لا محالة، وبالاستصحاب لا يثبت هذا التقيّد.
إذن، فلم يبقَ مورد يجري فيه الاستصحاب لإثبات أحد الجزئين، اللّهم إلاّ إذا كان أحد الجزئين ثابتةً جزئيّته بالتخصيص، كما لو ورد: (أكرم كلّ عالم) وورد: (لا تكرم العالم الفاسق) فعرفنا بذلك أنّ الموضوع مركّب من جزئين: العلم وعدم الفسق، من دون أن يؤخذ بينهما نوع من التقيّد والارتباط.
والجواب عن المورد الأوّل: أنّ العناوين التي تؤخذ في موضوع الحكم إذا كانت عناوين خارجية من قبيل عنوان الفقاهة والعدالة، أو عناوين لهاوجود تشريعي من قبيل الطهارة وغيرها من الأحكام الشرعية، أو كانت عنواناً انتزاعياً ينتزعه العقل، لا بمعنى كونه من الأوهام والخيالات، من قبيل فرض جبل من ذهب، بل له نوع وجود في خارج حدود الذهن، من قبيل عنوان الأوّل، أو القبلية أو البعدية ونحو ذلك، ففي كلّ هذا لا يُلغي العرف ذلك العنوان ؛ إذ يحتمل بما هو عرف دخل ذلك العنوان في الحكم حقيقة، فمثلاً إذا كان ظاهر الدليل أنّ موضوع الحكم هو الإنسان الفقيه لا يجعل العرف موضوع الحكم مطلق الإنسان،
وإذا كان ظاهر الدليل أنّ موضوع الحكم هو اليوم الأوّل من الشهر لا يقول العرف: إنّ الموضوع هو يوم رؤي فيه الهلال، ولم يرَ قبله، بل يحتفظ بدخل عنوان الأوّل. وأمّا إذا كان هذا العنوان مجرّد أمر عارض على الصورة الذهنيّة التي طرأ عليها الحكم في ذهن المولى من قبيل الطوليّة بين الغَسل وطهارة الماء في قول المولى: (تطهر يدك بالغَسل بالماء الطاهر) فإنّ هذه الطوليّة لا تحكي عن شيء خارجي زائداً على أصل الماء وطهارته وغسل اليد به، ولا فرق بحسب الواقع الخارجي بين أن يقول المولى: (تطهر يدك بالغسل بالماء الطاهر) أو يقول: (تطهر يدك إذا غسلت بالماء وكان الماء طاهراً) وإنّما الطوليّة في الأوّل والعرضيّة في الثاني من صفات الصورة الذهنيّة التي طرأ عليها الحكم في ذهن المولى، فهنا لا يحتمل العرف دخل مثل هذا العنوان في الحكم، ويجعل الموضوع للحكم الجامع بين الصورتين، فينحلّ إشكال الإثبات.
والجواب عن المورد الثاني، ما تكون بذرته موجودة في كلام المحقّق النائيني(رحمه الله)، فنستطيع أن نستخلصها من كلامه (رحمه الله) ونوجّهها بنحو تصبح جواباً مستقلاًّ، وذلك بأن نقول: إنّ تصوّر الربط بين عرضين لمحلّ واحد بجعل أحدهما يطرأ على الآخر بنحو من التعمّل يكون على خلاف الطبع العرفي، بخلاف العرض مع محلّه (وهذه هي البذرة المستخلصة من كلامه(رحمه الله)) ولأجل ذلك يصعب للعرف أن يتصوّر الارتباط بين الطهارة والصلاة مثلاً بهذا الترتيب، بأن يضاف أحدهما إلى الآخر بمثل عنوان التقارن، فإن لم يكن تصريح من قبل الشارع بهذا الارتباط يوجب استحكام إشكال المثبتيّة في المقام (وهو فرض نادر) يتصوّر العرف الارتباط بينهما بنحو آخر، وهو أخذ عنوان المحلّ، أعني الزمان، فيضيف كلا العرضين إليه، فعن طريق وحدة مصبّ العرضين يتصوّر الارتباط بينهما، وقوله: (لا صلاة إلاّ بطهور) وإن فرض ظهوره في ارتباط الطهارة بالصلاة ابتداءً لا من باب إضافة كلّ منهما إلى الزمان، لكنّه ما دام لا يكون صريحاً في ذلك يرجعه العرف إلى ما قلناه؛ لأنّه يصعب عليه تصوّر ارتباط أحدهما بالآخر ابتداءً، وعندئذ إن كان هذان العرضان المضافان إلى محلّ واحد، وهو الزمان الواحد أُخذا في لسان الدليل عرضيّين لم يبقَ إشكال في المقام، وإن اُخذا طوليّين جاء إشكال المورد الأوّل مع جوابه.
والجواب عن المورد الثالث، هو منع دلالة واو العطف على التحصّص ونوع من ذلك
المعنى من الارتباط(1)، وتحقيق ذلك موكول إلى محلّه.
(1)وبكلمة اُخرى: أنّ واو العطف إنّما يدلّ على ربط طارئ على الصور الذهنيّة ولا يحكي عن نوع وجود خارج الذهن ولو على مستوى العناوين الانتزاعيّة التي تنتزع من الخارج، كعنوان الأوّليّة، أو القبليّة، أو البعديّة، وإذا كان الربط الموجود من سنخ الاُمور الطارئة على الصور الذهنيّة ورد في توضيح عدم إيجابه لإشكال المثبتيّة نفس الجواب الذي مضى عن المورد الأوّل.
تأثير العلم بانتقاض أحد جزءي الموضوع
في جريان الاستصحاب
التنبيه الحادي عشر: قد عرفت في التنبيه السابق أنّ الموضوع إذا كان مركّباً من جزءين جاز إحراز أحدهما بالوجدان، وإحراز الآخر بالاستصحاب حينما يكون مسبوقاً بالوجود، كما يجوز ـ أيضاً ـ استصحاب عدمه حينما يكون مسبوقاً بالعدم.
والآن نضيف إلى ذلك فرضيّة جديدة، وهي فرضيّة العلم بانتقاض الحالة السابقة، بأن كان أحد الجزءين مسبوقاً بالوجود وانعدم، والآخر بالعكس، وإنّما الشكّ في تأريخ الانتقاض، فلم نعرف المقدّم منهما عن المؤخّر، ونريد أن نستصحب عدم أحد الحادثين إلى زمان الحادث الآخر، فهل هذا يصبح مانعاً عن جريان الاستصحاب بوجه من الوجوه، أو لا؟
مثاله: ما إذا فرض موت الأب وكفر الابن في زمان واحد موضوعاً لانتقال تمام المال إلى غيره من الورثة، وموت الأب محرز وجداناً، وكفر الابن يمكن ـ بحسب ما مضى في التنبيه السابق ـ إحرازه بالاستصحاب ؛ لأنّنا نفرض ثبوت كفره سابقاً والشكّ في إسلامه قبل موت الأب، لكنّ الفرضيّة الإضافيّة هي أنّنا قد علمنا بانتقاض الكفر، وأنّه أصبح مسلماً، فهل يجري عندئذ استصحاب الكفر إلى حين موت أبيه، أو لا؟ أي: إنّه هل يجري استصحاب بقاء أحد جزءي الموضوع إلى زمان حدوث الجزء الآخر الذي نفرضه زهاق روح الأب، لكي يثبت بذلك الحكم أو لا؟ وهل يجري ـ أيضاً ـ استصحاب عدم أحد جزءي الموضوع (وهو في المثال موت الأب) إلى زمان انتفاء الجزء الآخر (وهو في هذا المثال الكفر)، لكي ينفى بذلك الحكم خلافاً للاستصحاب الأوّل، أو لا؟
ولا نتعرّض في هذا التنبيه لما ذكره في الكفاية من الشقوق من أنّه تارةً يكون موضوع الحكم هو تقدّم أحد الجزءين على الآخر بنحو مفاد كان التامّة، واُخرى وجوده متّصفاً بالتقدّم بنحو مفاد كان الناقصة، وثالثة عدمه في زمان الآخر بنحو مفاد ليس التامّة، ورابعة وجوده المتّصف بالعدم في زمان الآخر بنحو مفاد ليس الناقصة، فعندئذ تدخل في المسألة
أبحاث بعضها يرتبط بمسألة الأصل المثبت وبعضها يرتبط باستصحاب العدم الأزلي، كما إذا كان الموضوع هو اتّصافه بالتقدّم بنحو مفاد كان التامّة، فجريان استصحاب عدم التقدّم موقوف على صحّة استصحاب العدم الأزلي، فإنّ هذا كلّه خارج عن نكتة انعقاد هذا التنبيه، وهي أنّ الفرضيّة الإضافيّة التي هي العلم بالانتقاض هل تؤثّر في ما نقّحناه في التنبيه السابق من جريان الاستصحاب، فتوجب سقوط الاستصحاب، أو لا؟ على أنّه لو صار القرار على ذكر هذه الشقوق والافتراضات فبالإمكان ذكر افتراضات كثيرة على أنّ الموضوع إذا كان هو تقدّم أحد الحادثين على الآخر مثلاً فالموضوع إذن ليس مركّباً، وإنّما هو بسيط.
وعلى أيّة حال، فنحن نعقد لهذا البحث مقامين:
المقام الأوّل: في استصحاب عدم أحد الجزءين إلى زمان انتفاء الجزء الآخر.
والمقام الثاني: في استصحاب بقاء أحد الجزءين إلى زمان حدوث الجزء الآخر.
وهذا خلافاً لما صنعه الأصحاب من الاكتفاء بالبحث في مقام واحد عن كلا الاستصحابين، والسرّ فيما قلناه هو أنّه يوجد فارق جوهري بين الاستصحابين أغفله الأصحاب، كما سوف يظهر في المقام الأوّل فنقول:
استصحاب عدم أحد الجزءين إلى زمان انتفاء الآخر:
أمّا المقام الأوّل: فالصحيح أنّ استصحاب عدم أحد الجزءين إلى زمان انتفاء الجزء الآخر لنفي الحكم غير جار في نفسه بغضّ النظر عن إشكالات عدم إحراز اتّصال زمان اليقين بالشكّ التي لو تمّت كانت مشتركة بين الاستصحابين، والتي سوف نذكرها في المقام الثاني ؛ والسرّ في ذلك هو وجود فارق جوهري بين استصحاب عدم الجزء إلى زمان انتفاء الجزء الآخر واستصحاب وجود الجزء إلى زمان حدوث الجزء الآخر، فاستصحاب وجود الجزء إلى زمان حدوث الجزء الآخر يثبت ـ لا محالة ـ تحقّق الموضوع، ويترتّب عليه الحكم، لكن استصحاب عدم الجزء إلى زمان انتفاء الجزء الآخر لا ينفي الموضوع حتّى ينتفي الحكم؛ وذلك لأنّ الموضوع له فردان: أحدهما: هو الموت مع الكفر في الزمان الأوّل، أعني زمان تحقّق الكفر، والثاني: هو الموت مع الكفر في الزمان الثاني، أعني زمان انتفاء الكفر، والفرد الثاني مقطوع العدم ؛ لأنّ المفروض انتفاء الكفر، والفرد الأوّل منفيّ باستصحاب عدم الموت، ولازم ذلك هو انتفاء الموضوع الذي هو الجامع بين الفردين. وإثبات هذا اللازم بهذا
الاستصحاب تعويل على الأصل المثبت، ففرق كبير بين إثبات الموضوع بمعنى إثبات أحد جزءيه بالوجدان والجزء الآخر بالاستصحاب، وهو أمر معقول، وبين نفي الموضوع بنفي أحد فرديه بالوجدان والفرد الآخر بالاستصحاب، فإنّ هذا تعويل على الأصل المثبت.
وعلى هذا الأساس لم نقبل نفي الموضوع بضمّ استصحاب عدم الفرد الطويل إلى القطع بانتفاء الفرد القصير(1). نعم، لو فرض احتمال بقاء حياة الأب إلى الآن وعدم انتقاضها رأساً، جرى استصحاب عدم الموت، ولا يكون مثبتاً ؛ لأنّنا نُجري عندئذ استصحاب عدم صرف الوجود للموضوع، أي: استصحاب عدم الجامع رأساً، ولا نحتاج إلى ضمّ الوجدان إلى الأصل وما ذكرناه من عدم إمكان نفي الموضوع باستصحاب عدم أحد الجزءين إلى زمان انتفاء الجزء الآخر مع العلم بانتقاضه أخيراً ليست له ثمرة عمليّة لو آمنّا بما يُذكر في المقام من إشكالات عدم إحراز اتّصال زمان اليقين بالشكّ، ولكن بناءً على ما سوف يظهر ـ إن شاء الله ـ من عدم تماميّة تلك الإشكالات تترتّب على ذلك الثمرة في موردين:
المورد الأوّل: أن يفرض أنّ الشكّ لم يكن في بقاء الجزء، وإنّما كان في بقاء عدمه، أي: إنّه لم يكن عندنا الاستصحاب المثبت للجزء، وإنّما كان عندنا الاستصحاب النافي له، كما لو فرضنا أنّ كلا الجزءين كانا مسبوقين بالعدم، مثاله: ما إذا فرضنا أنّ موت الأب مع إسلام الابن موضوع لإرثه، وفي ما سبق لم يكن الأب ميّتاً ولا الابن مسلماً، ثمّ مات الأب وأسلم الابن، ولا ندري أيّهما تقدّم على الآخر، فهنا هل يجري استصحاب عدم أحد الجزءين إلى زمان انقضاء الجزء الآخر لكي ينفى به الحكم، أو لا؟ أي: إنّه هل يجري استصحاب عدم إسلام الابن إلى زمان انقضاء الجزء الآخر وهو زهاق روح الأب، أو لا؟ وطبعاً لو جرى
(1) لا يخفى انّه في خصوص المثال المذكور في المقام يكون الفرد الأوّل موضوعاً لانتقال الملك إلى الوراث في الزمان الأوّل، والفرد الثاني موضوعاً لانتقال الملك إليه في الزمان الثاني، وأقصد بذلك أنّ الزمان ليس مفرّداً للموضوع فحسب، بل هو مفرّد للمتعلّق أيضاً، فإرث الزمان الأوّل ينفى باستصحاب عدم الموت، وإرث الزمان الثاني ينفى بالقطع بالإسلام، فلا يقاس المقام باستصحاب عدم الفرد الطويل الذي لا ينفي الجامع بضمّه إلى القطع بعدم الفرد القصير، كأن يستصحب عدم الفيل ويضمّ ذلك إلى القطع بعدم البقّ، لينفى بذلك وجوب التصدّق الذي هو حكم جامع وجود الحيوان مثلاً، فيقال: إنّ هذا تعويل على الأصل المثبت، بل ينبغي أن يقاس المقام بما إذا كانت الخصوصيّة الفرديّة للفرد الطويل والقصير مفرّدة للمتعلّق أيضاً، كما لو كان وجود الحيوان موضوعاً لوجوب رعاية رفاه ذاك الحيوان، فوجود الفيل يحقّق وجوب رعاية رفاه الفيل، ووجود البقّ يحقّق وجوب رعاية رفاه البقّ مثلاً، وهنا لا إشكال في أنّ استصحاب عدم الفيل ينفي الحكم الأوّل، والقطع بعدم البقّ ينفي الحكم الثاني من دون الوقوع في مشكلة مثبتيّة الأصل.
هذا الاستصحاب هنا لا يعارض باستصحاب بقاء الجزء الآخر إلى حين حدوث الجزء الأوّل ؛ إذ المفروض أنّ الشكّ في كلا الجزءين في العدم لا في البقاء، ويكون جريان الاستصحاب ونفي الحكم به وعدمه هنا من ثمرات هذا البحث، وهو أنّه هل يمكن نفي الموضوع باستصحاب عدم أحد جزءيه إلى زمان انتفاء الجزء الآخر مع العلم بانتقاضه أخيراً، أو لا؟ فبناء على المختار لا يجري الاستصحاب في المقام.
المورد الثاني: هو المورد الذي كنّا نتكلّم فيه من فرض كون أحد الجزءين مسبوقاً بالعدم، والآخر مسبوقاً بالوجود، وقد انتقضا، فكان عندنا استصحابان: أحدهما: استصحاب عدم أحد الجزءين إلى زمان انتفاء الجزء الآخر، لينفى به الحكم. والآخر: استصحاب بقاء أحد الجزءين إلى زمان حدوث الجزء الآخر ليثبت به الحكم، مثاله: ما مضى من أنّ موت الأب وكفر الابن موضوع ـ حسب الفرض ـ لانتقال تمام المال إلى باقي الورثة، فعندئذ إن لم نقبل ما مضى من الفارق الجوهري بين الاستصحابين يقع دائماً التعارض بينهما، ففي هذا المثال يجري من ناحية استصحاب عدم الموت إلى حين انتفاء الكفر فينتفي به الحكم، ومن ناحية اُخرى يجري استصحاب بقاء الكفر إلى زمان حدوث الموت، فيثبت الحكم، فيتعارضان.
وأمّا بناءً على ما اخترناه من الفارق الجوهري فاستصحاب بقاء أحد الجزءين هو الجاري، ولا يعارضه استصحاب عدم الجزء الآخر، إلاّ إذا كان ذاك العدم بنفسه موضوعاً لحكم آخر يضادّ الحكم الأوّل، حتّى في مرحلة الحكم الظاهري، فيجري الاستصحابان ويتعارضان، مثاله: ما إذا دلّ دليل على أنّ موت الأب مع كفر الابن موضوع لانتقال تمام المال إلى باقي الورثة، ودلّ دليل آخر على أنّ حياة الأب مع إسلام الابن موضوع لإرثه بعد موت أبيه، فعندئذ يجري من ناحية استصحاب كفر الابن إلى حين موت الأب، ويثبت أنّ تمام المال للآخرين، ويجري من ناحية اُخرى استصحاب حياة الأب إلى حين إسلام الابن؛ لأنّ هذا الاستصحاب وإن كان بلحاظ الحكم الأوّل استصحاباً لعدم أحد الجزءين إلى زمان انتفاء الجزء الآخر، وهذا ما قلنا بعدم جريانه، لكنّه بلحاظ الحكم الثاني استصحاب لوجود أحد الجزءين إلى زمان تحقّق الجزء الآخر، وهذا لا إشكال فيه، فيجري ويثبت إرث الابن ويقع التعارض بين الاستصحابين.
(بقي شيء)، وهو أنّ ما ذكرناه من عدم جريان الاستصحاب في المقام لنفي أحد الجزءين وُجِدَ تطبيق له في كلام السيّد الاُستاذ في خصوص فرع واحد من فروع العروة، وهو مسألة
طروّ الكرّيّة وملاقاة النجاسة على الماء، فذكر: أنّ استصحاب عدم الكرّيّة إلى حين الملاقاة يجري ويثبت الانفعال، واستصحاب عدم الملاقاة لا يجري، فهذا الكلام لو جرّدناه عن مورده وعمّمناه إلى كلّ الموارد ـ وإن لم يصنع هو ذلك(1)ـ لرجع إلى مختارنا، إلاّ أنّه ذكر في وجه ذلك غير ما نحن ذكرناه من البيان.
والكلام في هذا الفرع تارةً يكون بلحاظ البحث الاُصولي في جريان استصحاب عدم الجزء في مثل المقام، واُخرى يكون بلحاظ الهدف الفقهي لمعرفة حكم هذا الماء.
أمّا الثاني فنؤجّله إلى آخر البحث كي يتّضح أوّلاً كلّ القواعد والنكات المرتبطة بالمقام، ثمّ نتكلّم في تطبيقها على هذا الفرع لاستخلاص الحكم.
وأمّا الأوّل فلا فرق في الكلام بلحاظه بين أن نتكلّم في هذا الفرع، أو نتكلّم في المثال الذي كنّا حتّى الآن نتكلّم فيه، وهو فرض كون موت الأب مع كفر الابن موضوعاً لانتقال تمام المال إلى سائر الورثة، فلننقل دليل السيّد الاُستاذ على مدّعاه إلى المثال الذي كنّا نتكلّم فيه، فنقول: قد اختلفت كلماته ـ دامت بركاته ـ في تقريب مدّعاه، فقد سمعتُه في مجلس درسه في الفقه يذكر تقريباً، وهو موجود ـ أيضاً ـ في تقرير الاُصول المسمّى بمباني الاستنباط، وسمعته في خارج مجلس الدرس يذكر تقريباً آخر، فهناك تقريبان لإثبات مدّعاه:
التقريب الأوّل ـ وهو الموجود في مباني الاستنباط ـ: أنّنا كيف نجري استصحاب عدم الموت لنفي الموضوع، وبالتالي نفي الحكم في حين أنّنا قد أحرزنا ثبوت الموضوع بجريان استصحاب عدم الإسلام، وترتّب عليه الحكم؟!(2).
وهذا الكلام غريب جدّاً، وكأنّه صدر منه من باب أنّه بحسّاسيّته الدقيقة عرف عدم جريان استصحاب عدم الموت، فأصبح بصدد ذكر مبرّر فنّي لذلك، فذكر هذا الوجه وأنت ترى أنّ إجراء استصحاب عدم الإسلام وإحراز الموضوع به أوّلاً، ثمّ الاعتذار عن استصحاب عدم الموت بأنّنا قد أحرزنا الموضوع ليس بأولى من العكس بأن نستصحب
(1) الموجود في التنقيح هو التعميم لكلّ الموارد. راجع التنقيح: ج2، ص236، وكذلك الموجود في مصباح الاُصول نقلاً عن تقرير لدراساته الفقهيّة في خيار العيب. راجع مصباح الاُصول: ج3، ص203 ـ 204.
(2)لا يوجد لديّ مباني الاستنباط، إلاّ أنّ هذا المطلب موجود في مصباح الاُصول: ج3، ص204 نقلاً عن تقرير لدراساته الفقهيّة في خيار العيب مطبّقاً للحديث على فرع العلم بحصول الفسخ وانتهاء زمن الخيار مع عدم معلوميّة المقدّم منهما من المؤخّر، لا على فرع حصول الكريّة والملاقاة.
كما أنّ هذا المطلب موجود ـ أيضاً ـ في التنقيح: ج2 ص237 ـ 238 مطبّقاً له على فرع حصول الكرّيّة والملاقاة، وعلى فرع آخر.
أوّلاً عدم الموت ونعتذر عن استصحاب عدم الإسلام بأنّنا قد أحرزنا عدم الموضوع.
والواقع أنّ كلا الاستصحابين في عرض واحد، ولا معنى لتقديم أحدهما على الآخر، فلولا إشكال المثبتيّة الذي بيّنّاه لكانا متعارضين.
التقريب الثاني: أنّه هل يقصد باستصحاب عدم الموت استصحاب عدم ذات الموت، أو استصحاب عدم الموت المقيّد بكفر الابن والمقارن له؟
فإن قصد الأوّل ورد عليه: أنّ ذات الموت مقطوع به، فلا معنى لاستصحاب عدمه.
وإن قصد الثاني قلنا: هل المفروض أنّ الموضوع مركّب من موت الأب وكفر الابن، أو المفروض هو التقييد، ودخل عنوان الاجتماع؟
فإن فرض الأوّل فلا معنى لاستصحاب عدم الموت المقيّد والمقارن بكفر الابن؛ لأنّ التقيّد والتقارن ليس له دخل في الحكم.
وإن فرض الثاني فعندئذ نسلّم استصحاب عدم الموت، لكن في هذا الفرض لا يجري استصحاب الكفر؛ لأنّ إثبات أحد أجزاء الموضوع بالأصل والجزء الآخر بالوجدان إنّما يتمّ في فرض التركيب، لا التقييد.
وهذا التقريب كسابقه كأنّه ناش من أصل وضوح النتيجة عنده بحسّاسيّته الاُصوليّة. وجوابه: أنّنا نستصحب ذات الموت، لكن لا في تمام عمود الزمان حتّى يقال: إنّه مقطوع الحدوث، بل في خصوص القطعة الاُولى من الزمان التي نشير إليها بقولنا: (إلى أن أسلم الابن) ولا نقطع بحصول الموت في تلك القطعة من الزمان، وهذا هو ما نصنعه في استصحاب الكفر، فإنّنا لا نستصحبه بلحاظ تمام عمود الزمان؛ إذ هو عندئذ مقطوع الانتقاض، وإنّما نستصحبه بلحاظ قطعة من الزمان، فلازم ما ذكره ـ دامت بركاته ـ إنكار استصحاب الكفر رأساً، مع أنّه يسلّم باستصحابه، ويناقش في استصحاب عدم الموت.
وعلى أيّة حال، فقد تحصّل أنّ استصحاب عدم أحد الجزءين إلى زمان انتفاء الجزء الآخر عند العلم بانتقاض ذلك العدم في الجملة لا يكون جارياً، وأنّ هناك فرقاً جوهريّاً بين هذا الاستصحاب واستصحاب وجود الجزء إلى زمان حدوث الجزء الآخر.
هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.
استصحاب بقاء أحد الجزءين إلى زمان حدوث الآخر:
وأمّا المقام الثاني، فالثمرة في جريان استصحاب بقاء الجزء وعدمه في ما ذكرناه من
الأمثلة إنّما تظهر إذا قلنا بعدم جريان الاستصحاب في المقام الأوّل كما قلنا بذلك، وإلاّفلا ثمرة بين أن يفرض جريانهما وسقوطهما بالتعارض أو عدم جريانهما.
وعلي أيّ حال فهناك وجوه في جريان هذا الاستصحاب في نفسه وعدمه، بغضّ النظر عن المعارض، فقد يقال بجريانه مطلقاً، وقد يقال بعدم جريانه مطلقاً.
والمحقّق الخراساني(رحمه الله) فصّل بين مجهولي التأريخ، فلا يجري الاستصحاب فيهما، وما إذا كان أحدهما معلوم التأريخ، فيجري الاستصحاب عندئذ في مجهول التأريخ دون معلومه، فلو علم بأنّ موت الأب كان عند الغروب ولم يعلم بتأريخ إسلام الابن جرى استصحاب عدم الإسلام دون استصحاب عدم الموت.
ونحن قبل بيان المختار نبيّن مقدّمة تكون هي المفتاح لحلّ المطلب في كلّ الشقوق المطروحة في المقام، وهي أنّك عرفت في التنبيه السابق أنّ الجزءين إذا كانا بنحو التقييد لم يجرِ الاستصحاب في نفسه إذن، فلا تصل النوبة إلى البحث الجديد في هذا التنبيه بنكتة إضافة عنصر جديد، وهو عنصر العلم بالانتقاض، فلو كان الموضوع مثلاً هو كفر الابن في زمان مقيّد بموت الأب كان الاستصحاب غير جار في نفسه بغضّ النظر عن هذا العنصر الجديد، فمحلّ البحث ينحصر فيما إذا كانا بنحو التركيب، بأن كان الموضوع كفر الابن في زمان وموت الأب في ذلك الزمان بأن اُخذ كلاهما في عرض واحد مضافين إلى زمان واحد، وبهذا يتّضح أنّنا حينما نستصحب مثلاً كفر الابن إلى زمان موت الأب يجب أن ننظر إلى عنوان (زمان موت الأب) بنظرة مشيرة إلى واقع ذلك الزمان، لا بنظرة الموضوعيّة ؛ إذ لو كان هذا العنوان دخيلاً في الحكم لرجع إلى التقييد، ولو لم يكن دخيلاً في الحكم لما صحّ لحاظه بنظرة الموضوعيّة.
إذا عرفت ذلك اتّضح من هذا:
أوّلاً: أنّ الاستصحاب في معلوم التأريخ لا يجري بالنسبة لزمان مجهول التأريخ؛ إذ لو لوحظ عنوان زمان مجهول التأريخ بنظرة الموضوعيّة لم يصحّ ذلك ؛ لأنّ المفروض عدم دخل هذا العنوان، وإلاّ لرجع إلى التقييد، ولم يجرِ الاستصحاب في نفسه، ولو لوحظ طريقاً إلى واقع ذلك الزمان، فلا شكّ في معلوم التأريخ بلحاظ واقع الزمان، وقد يكون واقع زمان مجهول التأريخ هو الزمان الذي نعلم فيه بانتقاض المستصحب، فيكون من نقض اليقين باليقين.
وبهذا اتّضح ما في كلام السيّد الاُستاذ(1) من الاعتراض على من قال ـ كالمحقّق النائيني والشيخ الأعظم(قدس سرهما)ـ بعدم جريان الاستصحاب في معلوم التأريخ لعدم الشكّ فيه، حيث قالوا: إنّ الموت المعلوم تأريخه وهو حين الغروب مثلاً لا معنى لاستصحاب عدمه؛ لأنّه قبل الغروب معلوم العدم، ولدى الغروب معلوم الوجود، فلا شكّ فيه في وقت من الأوقات حتّى يستصحب عدمه.
واعترض عليهم السيّد الاُستاذ بأنّ هؤلاء إنّما لاحظوا عمود الزمان، فرأوا أنّه لا يوجد شكّ في الموت. أمّا لو لوحظ الموت بالنسبة لزمان الحادث الآخر فالشكّ ثابت فيه.
ويرد عليه: أنّ المحقّق النائيني والشيخ الأعظم ملتفتان إلى أنّ المقصود هو استصحاب عدم معلوم التأريخ إلى زمان مجهول التأريخ، وكيف لا يكونان ملتفتين إلى ذلك في حين أنّ عنوان بحثهم هو هذا، وإنّما قالوا ما قالوه هنا باعتبار أنّ عنوان زمان مجهول التأريخ إنّما يلحظ بما هو عنوان مشير إلى واقع الزمان، فيكون مرجع الاستصحاب إلى الاستصحاب بلحاظ عمود الزمان، ولا شكّ في واقع الزمان في معلوم التأريخ، إلاّ أنّ بساطة تعبيرهم في مقام بيان علّة عدم جريان الاستصحاب أوجبت أن يعترض عليهم السيّد الاُستاذ بهذا الاعتراض، ويتّضح دفع الاعتراض بالتدقيق الذي بيّنّاه.
وثانياً: أنّ الاستصحاب في مجهول التأريخ بالنسبة لزمان معلوم التأريخ يجري؛ لأنّه من الواضح عدم انتقاض اليقين باليقين ؛ لأنّ معلوم التأريخ واقع زمانه الذي نعلمه هو المغرب مثلاً، ونحن نعلم وجداناً عند المغرب أنّنا لم نحرز إسلام الابن، فإنّ المفروض أنّنا لا ندري هل وقع إسلامه قبل موت الأب مثلاً أو بعده.
إذن، ففي موارد كون أحدهما معلوم التأريخ والآخر مجهول التأريخ لا يجري الاستصحاب في معلوم التأريخ، ويجري في مجهول التأريخ، إلاّ أنّ نكتة ذلك لا تكمن في هذا العنوان، أي: عنوان أنّ هذا مجهول التأريخ وذاك معلوم التأريخ، كما يبدو منهم، وإنّما تكمن في عنوان آخر سوف يتّضح في الأمر الثالث.
وثالثاً: أنّه إذا كانا مجهولي التأريخ فإن كانت دائرة احتمالات حدوث أحدهما مساوية لدائرة احتمالات حدوث الآخر لم يجرِ الاستصحاب، وإذا كانت دائرة احتمال الحدوث في أحدهما أوسع جرى الاستصحاب في الأوسع دون الأضيق.
(1) راجع مصباح الاصول: ج 3، ص 194.
وتوضيح المقصود: أنّنا لو فرضنا مثلاً أنّ موت الأب نعلم بأنّه إمّا وقع في الساعة الاُولى أو الثانية، وإسلام الابن ـ أيضاً ـ كذلك، أي: نعلم بأنّه إمّا وقع في الساعة الاُولى أو الثانية، فليست دائرة احتمال أحدهما أوسع من دائرة الآخر، فعندئذ لا يجري الاستصحاب؛ لاحتمال نقض اليقين باليقين؛ إذ لو أجرينا مثلاً استصحاب عدم إسلام الابن إلى حين موت الأب، فنحن نحتمل أنّ موت الأب وقع في الساعة الثانية، ونحن في الساعة الثانية نقطع بإسلام الابن، ولو فرضنا مثلاً أنّنا نقطع بأنّ موت الأب إمّا وقع في الساعة الاُولى أو الثانية، وأمّا إسلام الابن فنعلم إجمالاً أنّه إمّا وقع في الساعة الاُولى أو الثانية أو الثالثة، فهنا استصحاب الأوسع دائرة وهو الإسلام يجري لعدم الانتقاض باليقين حتماً؛ لأنّنا حينما نستصحب عدم الإسلام إلى زمان الموت نحتمل تأخّر الإسلام عن الموت على جميع تقادير احتمالات زمان الموت؛ إذ لعلّ الإسلام وقع في الساعة الثالثة، وهذا بخلاف العكس، فلا يجري استصحاب الأضيق حدوثاً وهو الموت.
وفي الحقيقة يكون جريان الاستصحاب في مجهول التأريخ عندما يقابل معلوم التأريخ، وعدم جريانه في معلوم التأريخ من هذا الباب، أي: من باب أنّ مجهول التأريخ هو الأوسع دائرة في احتمالات الحدوث، ومعلوم التأريخ هو الأضيق دائرة في ذلك، فنكتة المطلب ليست عبارة عن أنّ أحدهما مجهول التأريخ والآخر معلوم التأريخ، بل النكتة العامّة لجريان الاستصحاب وعدمه في المقام هي أنّ الاستصحاب يجري في الأوسع دائرة في احتمالات الحدوث؛ لعدم احتمال انتقاض اليقين باليقين، ولا يجري في الأضيق أو المساوي؛ لاحتمال انتقاض اليقين باليقين.
ولا يرد على هذا ما سوف يأتي عن السيّد الاُستاذ من أنّ الشكّ في انتقاض اليقين باليقين وعدمه غير معقول، فإنّ انتقاضه باليقين وعدمه أمر وجداني يمكن لكلّ أحد أن يعرفه بمراجعة نفسه، إلاّ إذا كان في المرتبة العالية من الوسوسة.
توضيح عدم الورود هو: أنّ الذي نفرض كونه مخصوصاً بشأن الوسواسيّين، ولا يصدر من الإنسان المتعارف إنّما هو الخلط بين المتيقّن بالذات والمشكوك بالذات، وأمّا الشكّ بلحاظ المعلوم بالعرض والمشكوك بالعرض فهو شيء اعتيادي جدّاً، فمثلاً لو كان لزيد عنوانان: عنوان أنّه أبو فلان، وعنوان أنّه ابن فلان، ولكنّنا لم نكن ندري أنّ هذين العنوانين لمعنون واحد، فعلمنا بموت أبي فلان، فهنا المتيقّن بالذات هي الصورة الذهنيّة لعنوان أبي فلان، والمشكوك بالذات هي الصورة الذهنيّة لعنوان ابن فلان، ولا يخلط الإنسان
الاعتيادي أحدهما بالآخر، وإنّما الشكّ يكون بلحاظ المتيقّن بالعرض والمشكوك بالعرض، فلا ندري أنّ ذا الصورة لأبي فلان الذي علمنا بموته هو نفس ذي الصورة لابن فلان الذي شككنا في موته، أو لا، أي: لا ندري أنّ المتيقّن بالعرض هو نفس المشكوك بالعرض، أو لا.
وما نحن فيه من هذا القبيل، فإذا كان مثلاً موت الأب هو الأضيق في احتمالات زمان الحدوث من إسلام الابن، وكنّا نحتمل تأخّر إسلام الابن إلى الساعة الثالثة، بينما لا نحتمل ذلك في موت الأب، فاستصحاب عدم الإسلام لا مانع منه. وأمّا استصحاب عدم الموت فلا يجري؛ لأنّ القطعة الخاصّة من الزمان وهي الساعة الثالثة، وكذا الثانية بعنوانها الأوّلي نقطع بعدم حياة الأب فيها، وعنوان زمان إسلام الابن الذي هو عنوان ثانوي لقطعة معيّنة عند الله من الزمان نشكّ في حياة الأب فيه وعدمه، وعندئذ لو كان موضوع الأثر هو هذا العنوان الثانوي، إذن فالاستصحاب لا يجري أساساً ؛ لكون الموضوع تقييديّاً لا تركيبيّاً، ولو كان موضوع الأثر هو القطعة المعيّنة عند الله من الزمان بعنوانها الأوّلي فنحن نحتمل أنّ تلك القطعة التي نشير إليها بعنوان ثانوي وهو عنوان زمان إسلام الابن هي بعينها القطعة التي يكون عنوانها الأوّلي الساعة الثالثة، أو الثانية، أي: نحتمل أنّ المعلوم بالعرض للمتيّقن نفس المشكوك بالعرض لغير المتيّقن، فيكون شيء واحد بعنوانه الأوّلي معلوماً انتقاض الحياة فيه، وبعنوانه الثانوي مشكوكاً، والمفروض أنّ موضوع الأثر هو العنوان الأوّلي، فلا يجري الاستصحاب لأنّه تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.
ثمّ إنّ النتائج التي توصّلنا إليها قريبة جداً من النتائج التي سجّلها المحقّق الخراساني(رحمه الله)في المقام، حيث ذكر: أنّ الاستصحاب في مجهولي التأريخ لا يجري. وأمّا إذا كان أحدهما مجهول التأريخ والآخر معلوم التأريخ فيجري في مجهول التأريخ، ولا يجري في معلومه، إلاّ أنّه ذكر في وجه ذلك: أنّه في مجهولي التأريخ يحتمل انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين، وفي ما إذا كان أحدهما معلوم التأريخ والآخر مجهول التأريخ ففي مجهول التأريخ لا يحتمل انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين، فيجري فيه الاستصحاب، وفي معلوم التأريخ لا يوجد شكّ، فلا يجري الاستصحاب.
وهذا الكلام منه (رحمه الله) بغضّ النظر عن احتمال رجوعه إلى ما نحن ذكرناه (مع سوء التعبير، حيث توجد في عبارته عدّة قرائن تدلّ على عدم إرادة ما ذكرناه) لا يمكننا تفسيره بنحو ينسجم مع ظواهر عبارته، ويعطي وجهاً معقولاً مناسباً لشأن المحقّق الخراساني(رحمه الله)للتفصيل بين ما إذا كانا مجهولي التأريخ، وما إذا كان أحدهما مجهول التأريخ والآخر معلومه، والذي
يبدو هو أنّ الذين تصدّوا إلى تفسير عبارته ـ أيضاً ـ عجزوا عن ذلك.
والبيان المدرسي له والذي ينبغي أن يقال في مقام تدريس الكفاية هو: أنّنا نفترض في المقام ثلاث ساعات: الساعة الاُولى هي الساعة التي نعلم فيها بحياة الأب وكفر الابن، والساعة الثانية هي الساعة التي وقع فيها موت الأب أو إسلام الابن، والساعة الثالثة هي الساعة التي وقع فيها الآخر، ولنفترض الآن عدم احتمال التقارن، وعندئذ نقول: إنّ المفروض أنّنا نريد أن نستصحب عدم إسلام الابن إلى زمان موت الأب، فزمان اليقين هو الساعة الاُولى، وزمان الشكّ هو زمان موت الأب، ولا يعرف أنّه هل هو الساعة الثانية أو الثالثة، فإن كان هو الساعة الثانية فزمان الشكّ متّصل بزمان اليقين، وإن كان هو الساعة الثالثة إذن فالإسلام المعلوم بالإجمال قد وقع في الساعة الثانية، وكان فاصلاً بين زمان اليقين وزمان الشكّ.
أقول: إن كان مراده(رحمه الله) هذا ورد عليه: أنّ هذا البيان لو تمّ للزم عدم جريان الاستصحاب حتّى في مجهول التأريخ في مقابل معلوم التأريخ؛ إذ نقول هناك أيضاً: إنّنا لو أردنا استصحاب عدم الإسلام إلى ما بعد الموت المعلوم تأريخه فنحن نحتمل أنّ الإسلام المعلوم بالإجمال وقع قبل الموت، فصار فاصلاً بين زمان اليقين وزمان الشكّ، بل يبطل الاستصحاب في كلّ موارد وجود علم إجمالي أحد أطرافه هو انتقاض الحالة السابقة، ولو كان باقي أطرافه لا أثر له، كما لو علم إجمالاً بأنّه إمّا تنجّس هذا الإناء أو طار طائر، فعندئذ لا يمكنه أن يستصحب طهارة هذا الإناء لاحتمال كون المعلوم بالإجمال في الواقع هو تنجّس الإناء، فيكون اليقين قد انتقض بيقين آخر، بل يلزم من ذلك عدم جريان الاستصحاب في كلّ مورد علم بالانتقاض وشكّ في زمان الانتقاض ولو لم يكن حادث آخر نقيسه إليه، كما لو علم بالطهارة وعلم بطروّ الحدث لكنّه لا يعرف زمان طروّه، فلا يمكنه أن يستصحب الطهارة إلى زمان العلم بالحدث؛ لاحتمال كون الحدث المعلوم قبل ذلك.
والخلاصة: أنّه تترتّب على هذا الكلام توالي فاسدة من قبيل ما ذكرناه وما شابهه ممّا لا يلتزم به حتّى المحقّق الخراساني نفسه.
والجواب الحلّي أمران:
الأوّل: أنّ هذا الكلام إن تمّ فإنّما يتمّ لو قلنا بتعلّق العلم الإجمالي بالواقع، فيقال: إنّ الإسلام في الساعة الثانية على تقدير ثبوته واقعاً معلوم، فيصبح فاصلاً، إلاّ أنّ الصحيح هو تعلّقه بالجامع بمعنىً ليس هنا مجال تفصيله.
الثاني: أنّه حتّى لو فرضنا تعلّق العلم الإجمالي بالواقع قلنا: إنّ هذا العلم يجامع الشكّ في كلّ طرف من أطرافه، وإلاّ لكان علماً تفصيليّاً، ويكفي في الاستصحاب الشكّ ولا يشترط عدم العلم، وصاحب الكفاية نفسه لم يقبل ما قاله الشيخ الأعظم (رحمه الله) من أنّ اليقين بإحدى الحالتين في باب العلم الإجمالي بانتقاض إحداهما قد انتقض بيقين لاحق، وقال: لو ابتليت الرواية المذيّلة بقوله: (ولكن انقضه بيقن آخر) بإجمال من هذا القبيل يكفينا مالا يكون مذيّلاً بذلك. والحاصل: أنّ صدور هذا الكلام من المحقّق الخراساني(رحمه الله)أبعد عندي(1) من
(1) جاء في الجزء الثاني من الحلقة الثالثة من دروس في علم الاُصول لاُستاذنا الشهيد (رحمه الله) ـ ص316، طبعة دار الكتاب اللبناني الطبعة الاُولى ـ احتمال تفسير آخر لكلام الآخوند أكثر انسجاماً مع ظاهر عبائره من التفسير الماضي هنا، وهو أنّه (رحمه الله) ينظر إلى الإسلام والكفر الثابت في حين الموت مقيّداً بهذا العنوان، باعتبار أنّ الإسلام أو الكفر وحده وفي عمود الزمان المطلق لا أثر له، ويرى أنّ الشكّ في ذلك يكون ظرفه ـ لا محالة ـ مقيّداً بزمان الموت، وبما أنّنا نحتمل كون هذا الزمان عبارة عن الساعة الثالثة إذن نحتمل انفصاله عن ساعة اليقين بعدم الإسلام، وهي الساعة الاُولى بالساعة الثانية، فاحتمال الفصل في هذا التفسير ليس بنكتة احتمال وقوع الإسلام المعلوم بالإجمال في الساعة الثانية كي يرجع إلى دعوى كون العلم الإجمالي ناقضاً لليقين السابق، بل بنكتة أنّ زمان الشكّ في الإسلام مقيّد بحالة موت الأب ؛ لأنّ الموضوع هو إسلام الابن أو عدمه حال موت الأب، ويحتمل كون هذا القيد غير موجود في الساعة الثانية، فتصبح الساعة الثانية فاصلة بين زمان اليقين وزمان الشكّ.وأورد (رحمه الله) على هذا التفسير (لو كان مقصود المحقّق الخراساني (رحمه الله)):
أوّلاً: بأنّ تقيّد زمان الشكّ بزمان موت الأب إنّما قد يتبادر إلى الذهن لو فرضنا الموضوع عبارة عن إسلام الابن المقيّد بزمان موت الأب من دون إرجاع هذا العنوان إلى العنوان المشير إلى واقع الزمان، ولو كان الأمر كذلك لخرج عن محلّ البحث ؛ لأنّه عندئذ لا يجري الاستصحاب في ذاته وبقطع النظر عن هذه المناقشة الجديدة على ما تقدّم توضيحه.
أمّا لو جعلنا هذا العنوان مشيراً إلى واقع الزمان، وجعلنا الموضوع مركّباً لا مقيّداً، وهو المفروض، فزمان الشكّ متّصل بزمان اليقين، غاية الأمر أنّ زمان ترتّب الأثر على المستصحب قد تكون هي الساعة الثالثة، وتكون منفصلة عن زمان اليقين، ولا ضير في ذلك ؛ فإنّ الاستصحاب إنّما يكون مشروطاً بترتّب الأثر في حال تمسّكنا بالاستصحاب، لا في تمام عمود الزمان من لدن انتفاء اليقين إلى زمان التمسّك بالاستصحاب.
وثانياً: بالنقض بحالة كون أحد الحادثين معلوم التأريخ والآخر مجهوله، حيث اعترف الآخوند (رحمه الله)بجريان الاستصحاب في مجهول التأريخ عندئذ، بينما لو تمّ إشكاله السابق لجرى في هذه الحالة أيضاً، فلنفترض أنّنا نعلم أنّ موت الأب وقع في الساعة الثالثة ولا نعلم أنّ الابن هل كان في تلك الساعة باقياً على الكفر ثمّ أسلم أو كان مسلماً في تلك الساعة ؛ لأنّه كان قد أسلم في الساعة الثانية مثلاً، فالأثر يكون للإسلام أو الكفر الثابت في خصوص الساعة الثالثة؛ لأنّها ساعة موت الأب المقيّد به الموضوع، فظرف الشكّ إذن هو تلك الساعة ؛ إذ لا معنى للشكّ في المقيّد بلحاظ زمان ما قبل القيد مثلاً، في حين أنّ ظرف اليقين بعدم الإسلام هو الساعة الاُولى، فالساعة الثانية أصبحت فاصلة بين زمان اليقين وزمان الشكّ.
←
حمل كلامه على مختارنا من البيان.
ثمّ إنّ السيّد الاُستاذ أورد على المحقّق الخراساني (رحمه الله) في المقام إيرادين:
الأوّل: ما مضى، وجعلناه إشكالاً على مختارنا مع جوابه، وهو أنّ الشكّ في انتقاض اليقين باليقين وعدمه غير معقول ؛ لأنّ اليقين والشكّ من الوجدانيّات النفسيّة.
وهذا الكلام لا يصحّ جعله إيراداً على ما اخترناه، ولا جعله إيراداً على المحقّق الخراساني(رحمه الله).
أمّا الأوّل، فلما مضى من أنّه لنفرض عدم الاشتباه بلحاظ المعلوم بالذات والمشكوك بالذات، لكنّ المدّعى هو الاشتباه بلحاظ المعلوم بالعرض والمشكوك بالعرض.
وأمّا الثاني؛ فلأنّ المفروض عند من يجعل العلم الإجمالي متعلّقاً بالواقع هو إمكان اجتماعه مع الشكّ على مصبّ واحد، وإلاّ لانقلب إلى العلم التفصيلي.
والثاني: أنّ المحقّق الخراساني (رحمه الله) في الحقيقة أضاف شرطاً جديداً على شرائط الاستصحاب من اليقين والشكّ، وهو اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين باعتبار أنّ الفاء في قوله: (من كان على يقين فشكّ) يفيد الترتيب بالاتّصال، في حين أنّه ليس الأمر كذلك، أي: لا يوجد لدينا شرط من هذا القبيل في الاستصحاب، بل قد يكون زمان الشكّ عين زمان اليقين بأن يحدثا في آن واحد.
أقول: إنّ المحقّق الخراساني (رحمه الله) لا يدّعي شرطاً جديداً في المقام، وهو شرط اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين، بل يقصد شرط اتّصال زمان المشكوك بزمان المتيقّن، كما هو صريح عبارته، حيث قال: (لاحتمال انفصاله عنه باتّصال حدوثه). نعم، هو عبّر عن زمان المشكوك بزمان الشكّ، وعن زمان المتيقّن بزمان اليقين، إلاّ أنّ التعبير عن زمان المشكوك والمتيقّن بزمان الشكّ واليقين تعبير عرفيّ، ولا ضير فيه.
هذا مفاد ما ورد عن اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في الحلقة الثالثة من حلقاته الاُصوليّة بفرق أنّ المثال الذي طبّق عليه البحث هو مثال العلم بحدوث الكرّيّة وملاقاة النجس لا العلم بموت الأب وإسلام الابن.
أقول: إنّه (رحمه الله) عبّر في إشكاله الأوّل المبيّن لكون الموضوع تركيبيّاً لا تقييديّاً بأنّه لو كان تقييديّاً (فقد يتبادر إلى الذهن أنّ الشكّ في العدم متقيّد بزمان الحادث الآخر، ويأتي احتمال انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين) وكأنّ هذا إشارة إلى إشكال ثالث في المقام، وهو أنّه حتّى مع فرض التقييد لا يتقيّد الشكّ بذلك ولا يأتي احتمال انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين؛ وذلك لأنّه يكفي في صدق زمان الشكّ على الزمان المتّصل باليقين احتمال ثبوت القيد في ذلك الزمان، ولا يشترط في ذلك الجزم بثبوته.
على أنّ مسألة اشتراط اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين في تأريخ عمرهما لا تشكّل إشكالاً في المقام؛ إذ من الممكن أن نفترض اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين، بل هو الغالب، فإنّ العلم الإجمالي بالإسلام عادة إنّما يحدث في الساعة الثالثة، لا في الساعة الثانية التي لم يعلم بعدُ فيها بتحقّق الإسلام، فزمان الساعة الثانية تأريخيّاً هو زمان الشكّ لا زمان العلم.
هذا واشتراط اتّصال زمان المشكوك بزمان المتيقّن ليس شرطاً جديداً، بل هو عبارة عن نفس اشتراط عدم انتقاض اليقين باليقين.
وقد تحصّل: أنّ إشكال السيّد الاُستاذ لا يرتبط بكلام المحقّق الخراساني(رحمه الله)في المقام بوجه من الوجوه. نعم، يصلح أن يكون إشكالاً على كلام المحقّق النائيني(رحمه الله)يرجع حاصله إلى دعوى شرط جديد في الاستصحاب، وكان ينبغي أن يجعل هذا كتنبيه مستقلّ يذكر فيه هذا الشرط الجديد مع هذا الإشكال عليه.
وما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله) هو أنّه لو علمنا مثلاً بنجاسة إناءين، ثمّ علمنا إجمالاً بطهارة أحدهما، فحصول هذا العلم الإجمالي يتصوّر بأحد أنحاء ثلاثة:
1 ـ أن يفترض أنّنا علمنا تفصيلاً بطهارة أحدهما المعيّن بنزول المطر عليه مثلاً، ثمّ اختلط بالآخر واشتبه به، فتكوّن العلم الإجمالي.
2 ـ أن يفترض أنّنا علمنا تفصيلاً بطهارة إناء زيد من هذين الإناءين بنزول المطر عليه مثلاً، لكنّنا لا نعرف أنّ أيّهما هو إناء زيد.
3 ـ أن يفترض أنّه علمنا رأساً بطهارة أحدهما غير المعيّن من دون أن يوجد علم تفصيلي متعلّق بعنوان لا يعلم أنّه ينطبق على أيّ واحد منهما، ومن دون أن يوجد علم تفصيلي بأحدهما المعيّن، ثمّ يقع الاشتباه.
أمّا في الفرض الثالث فلا يوجد هنا انفصال بين زمان اليقين وزمان الشكّ، فإنّنا كنّا نعلم مثلاً إلى أوّل الظهر بنجاسة الإناءين، ومن أوّل الظهر وقع الشكّ في كلّ واحد من الإناءين في أنّه هل طهر أو لا، وهذا الشكّ مسبّب عن العلم الإجمالي بطهارة أحدهما.
وأمّا في الفرض الأوّل فلا يمكن إجراء استصحاب نجاسة الإناء؛ لأنّه في كلّ واحد من الإناءين نحتمل انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين، فإلى أوّل الظهر مثلاً كان زمان اليقين وحين الظهر علمنا تفصيلاً بطهارة أحدهما، وبعد ذلك حصل الشكّ لأجل الاختلاط.
وأمّا الفرض الثاني فذكر (رحمه الله) أنّه من ناحية شبيه بالفرض الأوّل، ومن ناحية شبيه بالفرض الثالث، ثمّ ألحقه بالاستحسان بالفرض الأوّل، حيث قد توسّط بين اليقين والشكّ
العلم التفصيلي بطهارة إناء زيد، فلا يجري الاستصحاب.
أقول: يرد عليه:
أوّلاً: ما ذكره السيّد الأستاذ من أنّه لا دليل على اشتراط شرط جديد في الاستصحاب، وهو اشتراط اتّصال زمان الشكّ تأريخيّاً بزمان اليقين.
وثانياً: أنّه لو سلّمنا هذا الكلام فالفرض الثاني يجب إلحاقه بالفرض الثالث، لا بالفرض الأوّل، فإنّ مركب الاستصحاب إنّما هو موضوع الحكم الشرعي، وهو نجاسة أيّ واحد من الإناءين بعنوانه الأوّلي، ومركب العلم التفصيلي إنّما هو عنوان إناء زيد، وكونه إناء زيد ليس دخيلاً في الحكم أصلاً.
هذا تمام ما ينبغي أن نذكره في هذا المبحث من الناحية الاُصوليّة.
فرعان تمرينيّان:
والآن نتكلّم في فرعين تطبيقيّين لأجل التمرين:
الفرع الأوّل: إذا كان الماء قليلاً طاهراً ثمّ طرأت عليه الكرّيّة والملاقاة، ولم نعرف ما هو المقدّم وما هو المؤخّر، فهل يحكم بالطهارة مطلقاً، أو النجاسة مطلقاً، أو فيه تفصيل بلحاظ الصور، حيث إنّه قد يكونان مجهولي التأريخ، وقد تكون الكرّيّة فقط مجهولة التأريخ، وقد تكون الملاقاة فقط مجهولة التأريخ؟ فيه أقوال.
واستنباط الحكم في المقام يرتبط بثلاثة أبحاث.
1 ـ هل يجري الاستصحاب في نفسه في كلّ واحد من الطرفين، أو أحدهما، أو لا؟
2 ـ هل نفرّق بين مجهولي التأريخ ومجهول التأريخ مع معلومه، أو لا؟
3 ـ بعد فرض عدم جريان الاستصحاب الموضوعي هل تصل النوبة إلى أصالة الطهارة أو إلى الاحتياط بلحاظ القاعدة الميرزائيّة، وهي قاعدة أنّه إذا كان عندنا حكم إلزامي على موضوع واستثني منه أمر وجودي، فلا بدّ من الالتزام عند الشكّ بذلك الحكم الإلزامي ظاهراً.
فمثلاً لو اخترنا في البحث الأوّل عدم جريان الاستصحاب، وفي البحث الثاني عدم الفرق بين مجهولي التأريخ ومجهوله مع معلومه، فالاستصحاب لا يجري مطلقاً، فتصل النوبة إلى البحث الثالث، فإن اخترنا فيه أصالة الطاهرة كان ذلك أحد المدارك للحكم بالطهارة في تمام الصور، كما أنّه لو اخترنا القاعدة الميرزائيّة لزم الاحتياط في تمام الصور.
ولو اخترنا في البحث الأوّل عدم جريان الاستصحاب، وفي البحث الثاني الفرق بين مجهولي التأريخ ومجهوله مع معلومه، فانّما لا يجري الاستصحاب في مجهولي التأريخ، ويجري في مجهوله في مقابل معلومه، فعندئذ لو كان أحدهما معلوم التأريخ أجرينا الاستصحاب في الآخر وثبتت النجاسة او الطهارة، ولو كان كلاهما مجهولي التأريخ رجعنا إلى أصالة الطهارة أو القاعدة الميرزائيّة.
وأمّا بيان المختار في كلّ واحد من هذه الأبحاث الثلاثة: ففي البحث الثالث الصحيح هو إجراء أصالة الطهارة دون القاعدة الميرزائيّة ؛ لما نقّحناه فيما مضى من بعض الأبحاث من عدم صحّة تلك القاعدة، وليس هنا محلّ البحث عنها ؛ لأنّنا نتكلّم فعلاً من الناحية التطبيقية فحسب.
وفي البحث الثاني عرفت أنّ الصحيح هو التفصيل بين مجهولي التأريخ ومجهوله مع معلومه، على تحقيق وتفصيل مضى.
وفي البحث الأوّل عرفت أنّ الصحيح هو جريان الاستصحاب المثبت لأحد جزئي الموضوع إلى زمان الجزء الآخر، وعدم جريان الاستصحاب النافي لأحد الجزءين إلى زمان انتفاء الجزء الآخر؛ لكونه مثبتاً، ففي المقام يجري استصحاب عدم الكرّيّة إلى حين الملاقاة، ويثبت بذلك موضوع النجاسة إذا كانت دائرة احتمال حدوث الكريّة أوسع من دائرة احتمال حدوث الملاقاة، ولا يجري استصحاب عدم الملاقاة النافي للموضوع، لأنّه مثبت(1).
نعم، قد يقال فقهياً: إنّه كما أنّ الشارع حكم بالنجاسة على موضوع مركّب من عدم الكرّيّة والملاقاة كذلك حكم بالطهارة المطلقة (أي: حتّى بعد الملاقاة) على موضوع مركّب من الكرّيّة وعدم الملاقاة مع النجاسة قبل الكرّيّة، وذلك استظهاراً من قوله: (إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء) فيقال: إنّ المحمول في هذه القضية هو الطهارة المطلقة (أي: حتّى بعد
(1) لا يخفى أنّ الملاقاة في كلّ زمان موضوع لحصول الانفعال في ذاك الزمان، فكما أنّ الموضوع يتعدّد بتعدّد الزمان كذلك المتعلّق هنا يتعدّد بتعدد الزمان، فإنّ الانفعال الحادث في كلّ زمان غير الانفعال الحادث في الزمان الآخر، فانفعال الزمان الأوّل ينفى بأصالة عدم الملاقاة وانفعال الزمان الثاني ينفى بالعلم بالكرّيّة، فالنتيجة الصحيحة في هذا الفرع هي أنْ يقال: إنّ الاستصحاب يجري في الأوسع دائرة منها، فإن كانت احتمالات الكرّيّة أوسع دائرة، أي: احتملنا تأخّر الكريّة عن زمان نقطع بحصول الملاقاة إلى ذاك الزمان، جرى استصحاب عدم الكرّيّة، وإن كان العكس بأن كانت احتمالات الملاقاة أوسع دائرة ؛ أي: احتملنا تأخّر الملاقاة عن آخر زمان نحتمل تأخّر الكرّيّة إليه جرى استصحاب عدم الملاقاة، وإن تساوت الدائرتان لم يجرِ شيء من الاستصحابين، ووصلت النوبة إلى أصالة الطهارة.
الملاقاة) والموضوع بالمقدار المذكور فيها هو الكرّيّة، لكنّنا نعلم من الخارج ثبوت جزء آخر له، وهو عدم الملاقاة والنجاسة قبل الكرية ؛ لأنّنا نعلم أنّ الماء النجس المتمّم كرّاً ليس معتصماً، وعليه فيجري ـ أيضاً ـ استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرّيّة لإثبات الطهارة.
ويرد عليه: أنّه ليس المستفاد من لسان قوله: (إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء) الحكم بالطهارة المطلقة، بمعنى أمر وجودي في مقابل النجاسة موضوعه مركّب من الكرّيّة وعدم الملاقاة قبل الكرّيّة، بل كلّما يستفاد منه هو نفي النجاسة بانتفاء موضوعها الذي كان مركّباً من عدم الكرّيّة والملاقاة، فيقول: إذا كان الماء كرّاً لم ينجس لانتفاء موضوع النجاسة، إذن فلا يجري استصحاب عدم الملاقاة.
والحاصل: أنّنا لو كنّا قد اخترنا في الفقه أنّه توجد عندنا ثلاثة أحكام: الأوّل: الحكم بالنجاسة، وموضوعه مركّب من الملاقاة وعدم الكرية، والثاني: الحكم بالطهارة المقيّدة بعدم الملاقاة، وموضوعه الماء القليل، والثالث: الحكم بالطهارة المطلقة (أي: حتّى بعد الملاقاة) وموضوعه مركّب من الكرّيّة وعدم الملاقاة قبل الكرّيّة، فعندئذ يجري استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرّيّة لإثبات الطهارة، لكنّنا لا نقبل هذا المبنى في الفقه، بل نقول: إنّه يوجد عندنا عامّ يدلّ على طهارة الماء، واستثني من هذا العام عنوان مركّب من غير الكرّ والملاقاة، وجعلت على هذا العنوان المركّب النجاسة، وعندئذ لا مجال لاستصحاب عدم الملاقاة ؛ لأنّه إن اُريد بذلك نفي موضوع النجاسة، فقد عرفت أنّه يرجع إلى نفي الجامع بنفي أحد فرديه بالاستصحاب منضمًّا إلى نفي الفرد الآخر بالوجدان، وهذا مثبت. وإن اُريد بذلك إثبات موضوع الحكم الثابت في العامّ، وهو الطهارة، قلنا: إنّ العامّ بعد التخصيص لم يتقيّد بعدم الملاقاة إلى حين الكرّيّة مثلاً، حتّى يقال: إنّنا نثبت هذا الجزء بالاستصحاب، وإنّما تقيّد بعدم مجموع الجزءين، أي: مجموع عدم الكرّيّة والملاقاة، فإنّ العام إذا خصّص بمخصّص يتقيّد بنقيض عنوان المخصّص. إذن، فلو اُريد إثبات حكم العام يجب أن يحرز عدم المجموع، وعدم المجموع في الزمان الثاني، وهو زمان الكرّيّة يكون بعدم أحد جزءيه بالوجدان ؛ إذ هو كرّ وجداناً، وفي الزمان الأوّل وهو زمان عدم الكرّيّة يكون بعدم أحد جزءيه، أي عدم الملاقاة بالاستصحاب، فأيضاً رجع إلى نفي الجامع بنفي أحد فرديه بالاستصحاب منضمًّا إلى نفي الفرد الآخر بالوجدان، وهذا مثبت ؛ فإنّه لا فرق في مثبتية ذلك بين أن يكون ما يترتّب على نفي الجامع هو نفي حكم أو إثبات حكم، وإنّما الذي لا يكون مثبتاً هو إثبات الموضوع المركّب بإثبات أحد جزءيه وجداناً والجزء الآخر بالاستصحاب.