332

تصوير الجامع على الأعمّ:

المقام الثاني: في تصوير الجامع على الأعمّ.

وقد ذكر صاحب الكفاية(1) أنّ تصوير الجامع على الأعمّ في غاية الإشكال؛ وذلك لأنّنا لو أردنا تصوير الجامع البسيط كما تصوّره(رحمه الله) على الصحيح، فصاحب


ولا الإحساس بإرادة حمل الوجود أو العدم على الوجود، كما هو واضح.

ثُمّ إنّ ما أفاده(رحمه الله) في حلّ مشكلة التقرّب بالفرد من افتراض تعلّق الأمر بالخصوصيّة الفرديّة زائداً على الأمر بكلّيّ الصلاة لا يكفي لحلّ هذه المشكلة فيما إذا كان الجزء مردّداً بين أمرين تخييريّين، كالفاتحة والتسبيحات في الركعة الثالثة والرابعة مثلاً، أو كانت الصلاة مردّدة بين شكلين من الصلاة، كالقصر والتمام في أماكن التخيير؛ لأنّ الأمر في مثل ذلك لم يتعلّق بالخصوصيّة وإنّما تعلّق بالجامع.

وكان الأولى به(رحمه الله) أن يذكر في الجواب: أنّ الأمر بالجامع كاف في التقرّب بالفرد المنطبق عليه الجامع. نعم، لو اُضيفت إلى الفرد إضافات خارجة عن انطباق الجامع على الفرد لم تكن تلك الإضافات مقرِّبة، ولا ارتكاز خلاف ذلك.

هذا، وهناك إشكال آخر أورده السيّد الخوئيّ(رحمه الله) على المحقّق العراقيّ(قدس سره) على ما ورد في المحاضرات، ج 1، ص 150 ـ 151 وهو: أنّه كما لا جامع مقوليّ ذاتيّ بين المقولات المختلفة كذلك لا يعقل جامع وجوديّ حقيقيّ بين وجودات المقولات المختلفة؛ إذ ليست لمجموع المقولات المتباينة بالذات حصّة خاصّة من الوجود حقيقةً سارية إليها، فلو أردنا الانتقال من الجامع المقوليّ الحقيقيّ إلى الجامع الوجوديّ الحقيقيّ لتلك المقولات المختلفة كمقولة الوضع والكيف وغير ذلك، فإمّا أن نقصد بذلك اشتراك تلك المقولات في مفهوم الوجود، أو في حقيقة الوجود، فهذا ما يعمّ جميع الأشياء. وإمّا أن نقصد بذلك مرتبة خاصّة من الوجود لها وحدة حقيقيّة لا اعتباريّة محض سارية في تلك المقولات، فهذا ما لا نتعقّله، فلكلّ مقولة من المقولات وجود في نفسه في عالم العين، والاتّحاد الحقيقيّ في وجود أمرين أو اُمور متحصّلة مستحيل.

(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 37 ـ 39 بحسب طبعة المشكينيّ.

333

الكفاية يورد على ذلك بأنّ الأعمّ من الصحيح والفاسد لم يدلّ دليل على ثبوت أثر مشترك فيه بنحو الاقتضاء فضلاً عن العلّيّة حتّى نستكشف من ذلك الجامع البسيط بقانون (أنّ الواحد لا يصدر إلاّ عن واحد). وإن أردنا تصوير الجامع المركّب: إمّا بأن يكون مركّباً من أجزاء معيّنة ذاتاً كالأركان الخمسة مثلاً، أو من أجزاء معيّنة عدداً كسبعة من أجزاء الصلاة مثلاً، فصاحب الكفاية يورد على ذلك بأنّ هذا معناه: كون المسمّى بالنسبة لباقي الأجزاء لا بشرط، فباقي الأجزاء والشرائط غير داخل في المسمّى، وإذا ضمّ إلى تلك الأجزاء كان من حيث المسمّى من قبيل: ضمّ الحجر إلى جنب الإنسان، وهذا معناه: أنّ من صلّى صلاة صحيحة وواجدة لجميع الأجزاء والشرائط فإطلاق اسم الصلاة على مجموع ذلك يكون مجازاً، من باب إطلاق اسم الجزء على الكلّ، بينما لا يكون الأمر كذلك قطعاً.

أقول: أمّا الجامع البسيط، فإن صحّ ما ادّعاه من الجامع البسيط بين الصلوات الصحيحة، فهذا لازمه ثبوت جامع بسيط بين مطلق الصلوات ولو كانت فاسدة، إلاّ أنّه جامع إجماليّ تقديريّ لا جامع تنجيزيّ؛ وذلك لأنّ كلّ صلاة فاسدة بمقدار ما يكون تحت النظر للقائل بالأعمّ تكون صحيحة في زمان ما من بعض الناس، فالصلاة بلا قراءة تصحّ من الأخرس، والصلاة مع ترك بعض الأجزاء غير الركنيّة تصحّ من الناسي، وهكذا، فلو عبّرنا عن الجامع بين الصلوات الصحيحة باللاهوت مثلاً، قلنا: إذا وضعت لفظة «الصلاة» لما هو لاهوت بالفعل، كانت اسماً للصحيح، وإذا وضعت لما هو لاهوت ولو في زمان ما ولشخص ما، كان اسماً للأعمّ(1)،


(1) فإن قلت: ماذا تقول في صلاة الغريق التي تصحّ من الغريق، ولا تكون صلاة من غير الغريق؟ قلت: هي ليست صلاة من الغريق أيضاً، وإنّما هي صلاة لُغَويّة اكتفى الشارع بها من الغريق.

334

فيكون هذا جامعاً بين الصحيحة والفاسدة، وهو سنخ جامع انتزاعي لا يتوقّف على ضمّ جهة عرضيّة خارجيّة.

وأمّا الجامع المركّب فما مضى من الإشكال عليه من قبل المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)قد أجاب عنه السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ(1) بأنّ تلك الأجزاء وإن اُخذت في التسمية لا بشرط عن باقي الأجزاء والشرائط، لكن اللابشرطيّة على نحوين:

الأوّل: أن يكون عدمه غير مضرّ، ووجوده حينما يوجد غير داخل، من قبيل: الماء الذي هو لا بشرط بالنسبة إلى الكأس، فعدم كونه في الكأس لا يضرّ في صدق اسم الماء، وكونه في الكأس لا يدخل عند وجوده في المسمّى.

والثاني: أن يكون عدمه غير مضرّ، ولكن وجوده حينما يوجد داخل في المسمّى، من قبيل: أنّ لفظة «الكلمة» اسم لما تركّب من حرفين فصاعداً، فحينما لا يوجد الحرف الثالث لا يضرّ ذلك بصدق اسم الكلمة، من قبيل: «قُم»، وحينما يوجد الحرف الثالث يكون داخلاً في الكلمة، من قبيل: «زيد». واللابشرطيّة فيما نحن فيه بالنسبة لسائر الأجزاء مأخوذة بالنحو الثاني، فحينما توجد تدخل في المسمّى، وحينما تنعدم لا يضرّ عدمها في المسمّى.

أقول: إنّ أصل ما يقصده (دامت بركاته) من أنّ بعض المركّبات يكون بنحو لو وجد فيه الأمر الفلانيّ كان داخلاً، ولو انعدم لم يضرّ مطلب عرفيّ صحيح واقع، إلاّ أنّ صياغته الفنّيّة الصحيحة ليست هي ما ذكره من كون اللابشرطيّة على نحوين، بل لابدّ لذلك من تفسير آخر؛ وذلك لأنّ اللابشرطيّة والإطلاق لا يكون إلاّ بأن


(1) راجع المحاضرات، ج 1، ص 167 بحسب طبعة مطبعة النجف، وراجع مصابيح الاُصول، ج 1، ص 108 ـ 109.

335

يكون عدمه غير مضرّ، ووجوده غير داخل، فإنّنا إن قلنا: إنّ الإطلاق عبارة عن الجمع بين القيود، صحّ أن يقال: إنّ الجزء الزائد قد اُخذت التسمية مطلقة بالنسبة إليه، أي: أنّ ذاك الشيء مع قيد الجزء الزائد داخل في المسمّى، ومع عدمه أيضاً داخل في المسمّى، فمن المعقول(1) أن يكون عدمه غير مضرّ، ووجوده حينما يوجد داخلاً في المسمّى، ولكنّ الصحيح والمختار له (دامت بركاته): أنّ الإطلاق عبارة عن رفض القيود، فمعنى تسمية الشيء باسم مطلقاً ولا بشرط عن الجزء الزائد هو رفض هذا القيد، وغضّ النظر عنه وجوداً وعدماً، وجعل الاسم اسماً لما عداه بغضّ النظر عن وجود هذا معه وعدمه. وهذا معناه: أنّ عدمه لا يضرّ، ووجوده لا يدخل.

والصحيح في المقام أن يقال: إنّ الواضع حينما يضع لفظة «الكلمة» مثلاً بإمكانه أن يضعها لما لو دخل فيه الحرف الثالث كان داخلاً في المسمّى، ولو انعدم لم يضرّ، لكن لا على أساس أنّ اللابشرطيّة والإطلاق على قسمين، بل على أساس انتزاع جامع ينطبق على الحرفين وعلى الثلاثة، من قبيل عنوان: «ما زاد على الواحد من الحروف الثمانية والعشرين متّصلاً بعضه ببعض» فيضع لفظ «الكلمة» لما يكون كذلك، فالحرف الثالث إذا وجد كان المجموع فرداً من هذا الجامع، فيدخل الحرف الثالث في المسمّى، وإذا لم يوجد كان الباقي فرداً آخر


(1) قد يقال: إنّه حتّى لو قلنا بأنّ الإطلاق جمع بين القيود لا يصل السيّد الخوئيّ(رحمه الله)إلى مقصوده؛ لأنّه يلزم من ذلك أن تكون الصلاة موضوعة بنحو الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ.

إلاّ أنّ الالتفات إلى ذلك مساوق للالتفات إلى أنّ الإطلاق رفض للقيود لا جمع بين القيود، فمن يتخيّل أنّه جمع بين القيود، يرى بهذا النظر أنّ هذا يحقّق المقصود.

336

من هذا الجامع، فلا يضرّ عدمه. وكذلك نقول في الصلاة: إنّ الصلاة اسم للجامع، وهو المركّب من بعض هذه الأجزاء، فأجزاء الصلاة بمنزلة الثمانية والعشرين حرفاً، وكلمة «الصلاة» موضوعة لعمل مركّب من مجموعة من هذه الأجزاء مشتملة على ذوات معيّنة كالأركان الخمسة، أو عدد معيّن كأجزاء سبعة. وهذا عنوان يصدق على الجميع، ويكون الجزء الزائد على الأركان الخمسة أو الأجزاء السبعة حينما يوجد داخلاً في المسمّى.

هذا، وبالنسبة لما يكون له مراتب طوليّة كالركوع ـ حيث يوجد عندنا ركوع قياميّ، وركوع جلوسيّ، وركوع إيمائي ـ يؤخذ الجامع بين هذه المراتب ولو بمثل عنوان «أحدها» على سبيل البدل.

وقد اتّضح: أنّ الجامع التركيبيّ معقول، سواء قلنا بالصحيح أو بالأعمّ.

 

تصوير ثمرة النزاع

الجهة الرابعة: في تصوير ثمرة النزاع. وقد ذكر عدّة ثمرات، أهمّها ثمرتان:

الثمرة الاُولى: كون الأصل العمليّ عند الشكّ في جزئيّة شيء هو البراءة على الأعمّ والاشتغال على الصحيح. وتصوير هذه الثمرة يكون ببيان مقدّمتين:

1 ـ إنّ الوضع للأعمّ يستلزم كون الجامع الموضوع له مركّباً؛ لما ذكره صاحب الكفاية من أنّه لا أثر للأعمّ حتّى يستكشف منه الجامع البسيط مثلاً، والوضع للصحيح يستلزم كون الجامع بسيطاً، لما ذكره صاحب الكفاية من أنّه لا جامع تركيبيّ بينها.

2 ـ إنّه على الأعمّ ينبسط الوجوب على الأجزاء المركّبة منها الصلاة، ففي الجزء المشكوك نشكّ في تكليف زائد، ونجري البراءة عنه بناء على جريان

337

البراءة في موارد دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر، وعلى الصحيح يكون الواجب هو العنوان البسيط، ويكون محصّله مردّداً بين الأقلّ والأكثر، والأصل في ذلك هو الاشتغال.

وكلتا المقدّمتين غير صحيحة:

أمّا الاُولى: فلما عرفت من أنّ الجامع المركّب متصوّر على الصحيح والأعمّ، وأنّ الجامع البسيط لو تصوّرناه على الصحيح تصوّرناه على الأعمّ أيضاً، فلا مبرّر لافتراض أنّ الجامع على الصحيح بسيط وعلى الأعمّ مركّب.

وأمّا الثانية: فاستشكل المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)(1) فيها بأنّ الجامع البسيط الواجب حيث يكون مغايراً للعمل المركّب و مسبّباً عنه كان هذا شكّاً في المحصّل، ومورداً لجريان الاشتغال. وأمّا إذا كان منتزعاً عن العمل المركّب ومنطبقاً عليه، فلا محالة ينبسط الوجوب على الأجزاء، ويكون الشكّ في سعة دائرة الواجب وضيقه، وتجري البراءة أيضاً. وما نحن فيه من هذا القبيل.

وتحقيق الكلام في هذا المقام هو: أنّه بناء على كون الجامع تركيبيّاً لا إشكال في جريان البراءة. وأمّا بناء على كونه بسيطاً، فيختلف الحال باختلاف سنخ هذا الجامع البسيط، فإنّه يمكن تصويره على أنحاء:

1 ـ أن يكون هذا الجامع البسيط مشكّكاً له مراتب من الشدّة والضعف، من قبيل: الحمرة أو الصفرة ونحو ذلك ممّا هو بسيط، ومع ذلك يكون له مراتب، فإذا علمنا بأنّ المرتبة الضعيفة تتحقّق بتسعة أجزاء والمرتبة الشديدة لا تتحقّق إلاّ بضمّ الجزء المشكوك وهو السورة مثلاً، ولا ندري هل تعلّق غرض المولى بالمرتبة


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 37 بحسب طبعة المشكينيّ.

338

الضعيفة أو الشديدة، فهنا أيضاً لا ينبغي الإشكال في جريان البراءة، فإنّ تعلّق التكليف بأصل الحمرة مثلاً معلوم، وتعلّقه بالمرتبة الشديدة غير معلوم، وتجري البراءة عنه من دون أثر بين فرض كون الجامع موجوداً بعين وجود الأجزاء أو بوجود آخر.

2 ـ أن يكون بسيطاً وغير مشكّك، ويكون موجوداً بوجود مستقلّ مسبّب عن الأجزاء، وهنا لا ينبغي الإشكال في أنّه مورد لأصالة الاشتغال.

3 ـ أن يكون بسيطاً وغير مشكّك، وموجوداً بعين وجود الأجزاء بحيث يحمل عليه بالحمل الشائع، ولكنه عنوان عرضيّ، وقد انتزع عنها بلحاظ حيثيّة خارجيّة عرضيّة كعنوان: المؤلم المنتزع عن نفس الضربات، ويصحّ بالحمل الشائع أن نقول: هنا الضرب مؤلم، وإنّما ينطبق عليه وينتزع منه بلحاظ حيثيّة وجوديّة خارجيّة، وهي حيثيّة قيام الألم في نفس المضروب، فلم نعرف أنّه بتسع ضربات يتألّم أو لا، فلا إشكال حينئذ في جريان أصالة الاشتغال؛ فإنّه وإن كان المؤلم ينطبق على نفس الضربات ولكن حيث إنّ انتزاع العنوان يكون بلحاظ حيثيّة خارجيّة تكون تلك الحيثيّة تحت العهدة عقلاً، ولا يعلم حصولها، فما ذكره صاحب الكفاية من أنّ الجامع البسيط إذا كان منطبقاً على نفس الأجزاء ومنتزعاً منها تجري البراءة لا يصحّ على إطلاقه.

4 ـ أن يكون بسيطاً غير مشكّك، وموجوداً بعين وجود الأجزاء، ومنتزعاً بلحاظ مرتبة ذات الأجزاء، أي أنّ نسبتها إلى تلك الأجزاء كنسبة الإنسان إلى زيد، لا المؤلم إلى الضرب، وحينئذ يتمّ ما أفاده صاحب الكفاية من أنّه يكون مجرىً للبراءة. والنكتة في ذلك: أنّ هذه الماهية البسيطة التي تعلّق بها الوجوب وإن لم يكن فيها تردّد بين الأقل والأكثر بما هي هي، لكن الماهيات إنّما يعرض

339

عليها الوجوب بما هي مرآة للوجود الخارجيّ، والوجودات المتكثّرة وجودات لهذه الماهية، والماهية اُخذت فانية فيما هو وجودها، وما في العهدة عقلاً هو المفنيّ فيه، وهو مردّد بين الأقلّ والأكثر، فتجري البراءة عن الزائد.

5 ـ أن يكون بسيطاً اعتباريّاً إنشائيّاً كعنوان الظهور الذي يعتبره ويُنشئه الشارع أو العرف عن الغسلات والمسحات، وفي مثل ذلك أيضاً تجري البراءة؛ إذ كون هذا العنوان مجرّد عنوان فرضيّ وخياليّ ومجرّد اعتبار وإنشاء قرينة على أنّه اُخذ مشيراً إلى ما في الخارج، وأنّه مجرّد تفنّن في التعبير، فبحسب التحليل ما هو مصبّ الوجوب ليس هو هذا العنوان؛ إذ هو مجرّد أمر اعتباريّ، وإنّما هو ذاك الأمر المركّب، وهو مردّد بين الأقلّ والأكثر حسب الفرض.

الثمرة الثانية: أنّه بناءً على الصحيح لا يجوز التمسّك بالإطلاق اللفظيّ، وبناءً على الأعمّ يجوز ذلك، وأمّا الإطلاق المقاميّ فلا فرق فيه بين الصحيح والأعمّ؛ وذلك لأنّ الإطلاق المقامي عبارة عمّا إذا استفدنا الإطلاق من كون المولى في مقام الحصر وبيان كلّ الأجزاء والشرائط، فإذا لم يبيّن شيئاً نعرف عدم كونه جزءاً أو شرطاً، وهذا الإطلاق مركزه ومصبّه هو المقام لا اللفظ، ويحتاج إلى قرينة خاصّة؛ إذ ليس مقتضى الأصل العقلائيّ في المتكلّم أن يكون في مقام الحصر، ومجرد إثبات الشيء لا ينفي ماعداه، وأمّا الإطلاق اللفظيّ، فهو عبارة عمّا إذا أتى بلفظ يدلّ على الجامع بين قسمين أو أقسام، فإذا احتملت إرادة قسم معيّن منها دفع هذا الإحتمال بمقدّمات الحكمة التي تقتضي كون المراد هو الجامع من دون قيد، ومصبّ هذا الإطلاق ومركزه هو اللفظ، وهذا الإطلاق وإن كان من مقدّماته كون المتكلّم في مقام بيان كلّ القيود التي تقيّد الجامع الذي دلّ عليه لفظه، لكن كونه في مقام بيان ذلك هو مقتضى الأصل العقلائيّ، بلا حاجة إلى قرينة

340

خاصّة.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ الإطلاق المقاميّ لا يفرّق فيه بين الصحيح والأعمّ؛ لأنّ مصبّه هو المقام، وليس مصبّه هو اللفظ حتّى يتأثّر بتفسير اللفظ بالصحيح أو الأعمّ، فمتى ما قامت قرينة على أنّه بصدد الحصر كما في مثل صحيحة حمّاد بن عيسى تمّ الإطلاق المقاميّ، سواء قلنا بالصحيح أو بالأعمّ، وأمّا الإطلاق اللفظيّ فمصبّه هو اللفظ، ويتوقّف على كون مدلول اللفظ هو الجامع حتّى يرفض تقييده بمقدّمات الحكمة، فإن قلنا بالأعمّ فالصلاة جامع بين واجد السورة وفاقدها مثلا، فبالإمكان نفي احتمال تقييد المأمور به بالسورة بالإطلاق، وأمّا إذا قلنا بالصحيح فالسورة على تقدير دخلها في المأمور به دخيلة في المسمّى أيضاً، فلم نحرز كون مدلول اللفظ هو الجامع بين واجد السورة وفاقدها، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق.

وهذه ثمرة صحيحة وإن لم تكن ثمرة اُصوليّة.

 

تحقيق أصل المطلب

الجهة الخامسة: في تحقيق أصل المطلب، أي: أنّه هل أسامي العبادات موضوعة للصحيح أو للأعمّ؟

اختار السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ أنّها موضوعة للأعمّ، وذكر في وجهه: أنّ الواضع هو الشارع، إذن فيجب الرجوع إلى الشارع نفسه في معرفة أنّها وضعت للصحيح أو للأعمّ، إذن فالمسألة مسألة روائيّة، والمتحصّل عنده(1) من الروايات:


(1) الذي يبدو من المحاضرات: أنّ السيّد الخوئيّ(رحمه الله) لا يؤمن بالجامع بين الأفراد الصحيحة، ويؤمن به بين الأفراد الأعمّ من الصحيح والفاسد، وعليه فهو(رحمه الله) ليس بحاجة

341

أنّ المعنى الموضوع له هو الأركان، فإنّه قد دلّت الروايات على كون جملة من الأجزاء والشرائط قوام الصلاة، وأحصاها في أربعة: التكبير والركوع والسجود والطهارة. أمّا التكبير فلما دلّ عليه بعض الروايات من كونه افتتاحاً للصلاة(1)، إذن فمع عدمه لا يدخل الإنسان في الصلاة، ومن هنا نعرف أنّ من نسي التكبير تبطل صلاته وإن لم يصرّح بذلك في حديث لا تعاد(2)، وإنّما لم يصرّح به فيه؛ لأنّ «لا تعاد الصلاة» يفرض أنّ صلاةً قد وجدت، وأنّ الإنسان دخل في الصلاة، فيقول: «لا تعاد الصلاة»، ومن لم يكبّر لم يدخل في الصلاة حتّى يعيد أو لا يعيد. وأمّا الركوع والسجود والطهور، فلما دلّ عليه بعض الروايات من أنّ ثلثها ركوع، وثلثها سجود، وثلثها طهور(3). وأمّا باقي الأجزاء والشرائط فليست ركناً حتّى التسليم وإن قيل بركنيّته، فمن نسي التسليم وانصرف لم تبطل صلاته. هذا خلاصة ما ذكره دامت بركاته.

أقول: إنّ كلامه ينحلّ إلى جانب سلبيّ، وهو عدم دخل غير هذه الأركان


بعد ذلك إلى إقامة دليل على الأعمّ؛ إذ بعد فرض عدم الإيمان بالجامع بين الأفراد الصحيحة والإيمان بالجامع للأعمّ ينحصر الأمر في دعوى التسمية للأعمّ، فكأنّ الرجوع إلى الروايات إنّما هو لتشخيص حدود الأجزاء والشرائط التي لابدّ من تواجدها في المسمّى، لا لتشخيص أصل كون الصلاة اسماً للصحيح أو الأعمّ.

(1) من قبيل: عدد من روايات الباب 1 من أبواب تكبير الإحرام من الوسائل، ج 6 بحسب طبعة آل البيت.

(2) راجع الوسائل، ج 6 بحسب طبعة آل البيت، ب 9 من القراءة، ح 5، ص 91، وب 10 من الركوع، ح 5، ص 313، وح 1، ب 3 من الوضوء، ح 8، ص 372.

(3) راجع الوسائل، ج 6 بحسب طبعة آل البيت، ب 9 من الركوع، ح 1، ص 310.

342

الأربعة في المسمّى، وجانب إيجابيّ، وهو دخل هذه الأركان في المسمّى، واختلافه مع الصحيحيّ ليس في الجانب الإيجابيّ، فإنّ الصحيحيّ أيضاً يعترف بدخل هذه الأركان في المسمّى، وإنّما يختلف معه في الجانب السلبيّ، حيث يقول الصحيحيّ بدخل باقي الأجزاء والشرائط في المسمّى، وهو يقول بعدم دخله فيه، بينما هو ـ دامت بركاته ـ اقتصر في كلامه على البرهنة على الجانب الإيجابيّ، وأمّا الجانب السلبيّ فلم يتحصّل من كلامه أيّ برهان عليه، وغاية ما يمكن أن يتوهّم الاستدلال به على الجانب السلبيّ أحد وجوه ثلاثة:

1 ـ أن يقال: إنّ غير هذه الأربعة ليست ركناً، أي: لا يبطل الصلاة بالإخلال بها لدى بعض الأعذار، إذن فليست دخيلة في المسمّى.

ويرد عليه: ما بيّناه في تصوير الجامع على الصحيح من أنّه سنخ جامع يمكن أن يكون جزءٌ مّا دخيلا فيه في حال التمكّن غير دخيل فيه في حال العذر، إذن فعدم بطلان الصلاة بتركه عن عذر لا يدلّ على عدم دخله في حال التمكّن، فليفرض عدم دخله في المسمّى عند العذر، ودخله فيه عند التمكّن.

2 ـ أن يقال: إنّنا باستقراء الروايات رأينا نصّاً شرعيّاً على دخل هذه الاُمور الأربعة في المسمّى، ولم نرَ ذلك في غيره، فنستكشف من ذلك عدم الدخل.

ويرد عليه: أنّ هذا الوجه موقوف على اُمور أقلّها أن يُحرز تعلّق غرض الشارع ببيان تمام ماله دخل في المسمّى، وأنّى لنا بإثبات ذلك؟! نعم، قد تعلّق غرضه ببيان تمام ماله دخل في الواجب، وقد بيّنه في صحيحة حمّاد بن عيسى مثلا.

3 ـ الاستدلال برواية: الصلاة ثلثها الركوع، وثلثها السجود، وثلثها الطهور(1)،


(1) راجع وسائل الشيعة، ج 6 بحسب طبعة آل البيت، ب 9 من الركوع، ح 1، ص 310.

343

بدعوى أنّ هذه الرواية تنفي دخل أيّ شيء سوى هذه الثلاثة؛ إذ لا يكون للشيء أكثر من ثلاثة أثلاث، ولو بقينا نحن وإطلاق الرواية، لقلنا: إنّ التكبيرة أيضاً غير دخيلة في المسمّى، لكنّنا نقيّدها بروايات تكبيرة الإحرام، ويبقى الباقي خارجاً عن المسمّى.

ويرد عليه: أنّه بعد فرض قيام دليل على إضافة التكبيرة انثلم الحصر، ولا يبقى مجال للتمسّك برواية التثليث لنفي دخل باقي الأجزاء والشرائط في الصلاة، وليس حالها حال سائر المطلقات إذا خرج منه شيء بقي الباقي، فإنّ الحصر هنا إنّما ثبت بعنوان الثُلثيّة، ومن المعلوم أنّ عنوان الثُلثيّة ينثلم حقيقة بإضافة رابع، سواء اُضيف خامس أو لا، وعندئذ ففي مقام الجمع بين هذه الرواية المثلّثة وبين ما يدلّ على مدخليّة تكبيرة الإحرام لابدّ أن تحمل مثلاً الرواية المثلّثة على الثلث من حيث المعنى، أي: أنّه بمثابة الثلث لشدّة الأهمّيّة، من قبيل ما يقال: إنّ سورة التوحيد ثلث القرآن.

هذا كلّه في الجانب السلبيّ من كلامه. وأمّا الجانب الإيجابيّ، وهو مقوّميّة الركوع والسجود والطهارة والتكبير للمسمّى، فأيضاً يمكن المناقشة فيما أفاده لإثبات ذلك:

فأمّا مقوّميّة الركوع والسجود والطهارة فقد استفادها من الرواية المثلّثة. ويرد على هذه الاستفادة: أنّ كلمة «الصلاة» في هذه الرواية: إمّا أن يدّعى: أنّ المراد بها الصلاة المأمور بها بدعوى انصرافها إلى الصلاة المعهودة المطلوبة، أو يدّعى: أنّ المراد بها هو المسمّى، وليس لها نظر إلى باب الأمر. فإن استظهرنا الأوّل، فالرواية تصبح أجنبيّة عمّا نحن فيه، فإنّها إنّما تدلّ على دخل هذه الاُمور في المأمور به، لا المسمّى، وإن استظهرنا الثاني، إذن فلابدّ أن نستظهر أيضاً نفس المعنى من مثل

344

رواية «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»(1)، فلا تكون المقوّميّة مخصوصة بهذه الاُمور الثلاثة، وكون الفاتحة أحياناً لا تدخل في المسمّى كما في الأخرس والناسي لا يوجب إلاّ تقييد إطلاق «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»، وقد بيّنّا أنّ الجامع على الصحيح يمكن أن يكون بعض الأجزاء دخيلاً فيه بلحاظ حالة، وغير دخيل فيه بلحاظ حالة اُخرى.

وأمّا مقوّميّة التكبير فقد استفادها من رواية «أنّ الصلاة فاتحتها التكبير»، فكأنّه حملها على المسمّى، ولكن الانصاف أنّ الروايات الواردة في تكبيرة الإحرام لا يصلح شيء منها لإثبات المطلوب، ويمكن تقسيمها إلى عدّة طوائف:

1 ـ ما دلّ على إجزاء تكبيرة واحدة في افتتاح الصلاة، من قبيل: رواية زرارة «وتجزئك تكبيرة واحدة»(2). ومن المعلوم أنّ المراد: الإجزاء بلحاظ امتثال الأمر لا بلحاظ صدق المسمّى، فلا يدلّ على المطلوب.

2 ـ ما دلّ على أنّ التكبير أنف الصلاة، كما عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «ولكلّ شيء أنف، وأنف الصلاة التكبير» والرواية ضعيفة سنداً؛ لأنّه وقع فيها النوفلي ومحمّد بن سعيد يرويان معاً عن السكونيّ(3)، وكلّ من النوفلي ومحمدّ بن سعيد غير ثابت


(1) روي في الوسائل، ج 6 حسب طبعة آل البيت، ب 1 من القراءة، ح 1، ص 37 عن محمّد بن مسلم بسند صحيح عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «سألته عن الذي لا يقرأ بفاتحة الكتاب في صلاته؟ قال: لا صلاة إلاّ أن يقرأ بها ...».

(2) الوسائل، ج 6 بحسب طبعة آل البيت، ب 1 من تكبيرة الإحرام، ح 1، ص 9، ونحوها غيرها.

(3) للحديث سندان، وقع في أحدهما: سهل بن زياد عن النوفليّ عن السكونيّ، وفي الآخر: محمّد بن سعيد عن السكونيّ. راجع الوسائل، ج 4، ب 6 من أعداد الفرائض،

345

التوثيق. ودلالةً؛ لأنّ الأنفيّة لا تدلّ على المقوّميّة للمسمّى، وقد يبتر أنف الشيء ويبقى اسم الشيء.

3 ـ ما دلّ على أنّ التكبير مفتاح الصلاة، كرواية ناصح المؤذّن عن أبي عبدالله(عليه السلام) في حديث: «فإنّ مفتاح الصلاة التكبير»(1) وهي ضعيفة سنداً بناصح، ودلالةً؛ لأنّ مفتاح الشيء بحسب الفهم العرفيّ لا يلزم أن يكون داخلاً في حقيقة الشيء، وهذا التعبير كما يناسب ما هو داخل في حقيقة الشيء كذلك يناسب الخارج، كما في مفتاح الدار.

4 ـ ما دلّ على حصر افتتاح الصلاة بالتكبير، كرواية تقول: وأمّا قوله: «الله أكبر لا تفتح الصلاة إلاّ بها»(2)، وهي ضعيفة سنداً، ولو تمّت سنداً لقلنا: يحتمل في كلمة «لا» أن تكون ناهية أو نافية، فإن كانت نافية، فقد يقال بظهور الرواية في أنّ ابتداء الصلاة لا يكون إلاّ بالتكبير. وأمّا إذا كانت ناهية فتدلّ على الأمر بالافتتاح بالتكبير. أمّا دخله في المسمّى فلا يعلم.

5 ـ ما دلّ على أنّ تحريم الصلاة بالتكبير، كما عن النبيّ(صلى الله عليه وآله): «افتتاح الصلاة الوضوء، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم»(3). وكما ترى لا ربط لمسألة


ح 4، ص 24 ـ 25 بحسب طبعة آل البيت. واقتصر في الجزء 6، ب 1 من تكبيرة الإحرام، ح 6 على ذكر السند الثاني.

(1) الوسائل، ج 6 من تكبيرة الإحرام، ح 7، ص 10، ورواها كاملة في ج 8، ب 6 من صلاة الجماعة، ح 7، ص 304، وهي كالتالي: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): إنّي اُصلّي في البيت وأخرج إليهم، قال: اجعلها نافلة، ولا تكبّر معهم في الصلاة، فإنّ مفتاح الصلاة التكبير».

(2) الوسائل، ج 6، ب 1 من تكبيرة الإحرام، ح 12، ص 12.

(3) نفس المصدر، ح 10، ص 11.

346

تحريم المنافيات بالتكبير بالدخل في المسمّى وعدمه.

6 ـ ما دلّ على أنّه لا صلاة بدون افتتاح. وهذه أقوى الطوائف دلالة، كرواية عمّار: «سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الرجل سها خلف الإمام، فلم يفتتح الصلاة؟ قال: يعيد الصلاة، ولا صلاة بغير افتتاح»(1). فقد يقال: إنّ قوله «لا صلاة بغير افتتاح» يدلّ على نفي المسمّى بغير الافتتاح.

ويرد عليه: أوّلاً: أنّ هذه الجملة ـ على أقلّ تقدير ـ مجملة؛ لاقترانها بما يصلح للقرينيّة على كون المراد من النفي: النفي بلحاظ الوظيفة لا بلحاظ المسمّى؛ لأنّها مقرونة بقوله: «يعيد الصلاة» حيث أطلق لفظ الصلاة على الفاقد للافتتاح، فلئن نفى الصلاة تارةً فقد أثبتها تارةً اُخرى في خطاب واحد.

وثانياً: النقض بـ «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»(2)، أو «لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الصلاة»(3)، ونحو ذلك من النوافي الاُخرى. فإن استظهرنا من مثل هذه الفقرة نفي المسمّى، فليكن كذلك في الجميع، وإنّما الفرق: أنّ «لا صلاة بغير افتتاح» يشمل الناسي أيضاً، بخلاف «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»؛ لأنّ ناسي التكبيرة صلاته باطلة، وناسي الفاتحة صلاته صحيحة. وهذا لا يقتضي أزيد من أن تكون التكبيرة دخيلة على الإطلاق، والفاتحة دخيلة لا على الإطلاق. فإن كان المستظهر: أنّ التكبيرة دخيلة في المسمّى فليثبت هذا الاستظهار في الفاتحة أيضاً.

وقد اتّضح: أنّه لا توجد رواية بعنوان (أنّ الصلاة افتتاحها التكبير)، وإنّما


(1) الوسائل، ج 6، ب 2 من تكبيرة الإحرام، ح 7، ص 14.

(2) راجع الوسائل، ج 6 بحسب طبعة آل البيت، ب 1 من القراءة، ح 1، ص 37.

(3) راجع الوسائل، ج 5 بحسب طبعة آل البيت، ب 2 من القيام، ح 1 و 2، ص 488 ـ 489.

347

الموجود هذه المضامين التي عرفت حالها.

هذا، وكما أنّ دليله ـ دامت بركاته ـ على الأعمّ لم يتمّ كذلك سائر الأدلّة التي استدلّوا بها للصحيح أو للأعمّ قابلة للمناقشة.

 

أدلّة القول بالوضع للصحيح:

أمّا ما استدلّ بها على الصحيح، فأهمّها أربعة:

الأوّل: الأدلّة التي تحمل آثارالصلاة على الصلاة، كقوله: «الصلاة معراج المؤمن»(1)، و ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ﴾(2)، بدعوى: أنّ هذه الآثار لا تثبت للفاسد، وقد رتّبت في لسان الدليل على عنوان الصلاة وطبيعيّها، فيعرف أنّ عنوان الصلاة لا يشمل الفاسد.

وهذا الوجه غير تامّ على الأقلّ؛ لتوقّفه على كون الأصل عند دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص هو التخصّص، حيث إنّه: إن كانت الصلاة الفاسدة صلاة، إذن هي خارجة عن قوله: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ﴾ مثلاً بالتخصيص. وإن لم تكن صلاة فهي خارجة بالتخصّص، بينما لا نقول بهذا الأصل


(1) لم أجد هذه العبارة في رواية. نعم، وجدتها في كلمات والد صاحب البحار، نقلها عنه صاحب البحار، ج 82 في ذيل ح 2 من ب 4 من كتاب الصلاة، ص 303، وكذلك وُجدت هذه الجملة في كلمات صاحب البحار في نفس المجلّد، ب 2 من تلك الأبواب في ذيل ح 1، ص 248، وفي ج 84، ب 38 من كتاب الصلاة في ذيل ح 52، ص 255.

نعم، وجدنا في الروايات عبارة: «الصلاة قربان كلّ تقيّ». راجع الوسائل، ج 4، ب 12 من أعداد الفرائض، ح 1 و 2، ص 43 ـ 44.

(2) سورة العنكبوت، الآية: 45.

348

في باب المطلقات(1)، كما أنّ المعروف هو عدم صحّة هذا الأصل.

الثاني: الأدلّة النافية للصلاة عن الفاقدة لبعض الأجزاء والشرائط، من قبيل: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»، أو «لا صلاة لمن لم يُقِم صُلبَه في الصلاة»، والفاتحة ليست ركناً، فنتعدّى إلى غيرها بعدم احتمال الفرق.

ويرد عليه اُمور منها: أنّه: إن قلنا بانصراف الصلاة إلى المأمور به فلا يدلّ على دخل الفاتحة في المسمّى، وإنّما يدلّ على دخلها في الأمر. وإن منعنا هذا الانصراف وقع التعارض بين مثل هذا الدالّ على الصحيح وقوله: «الصلاة ثلثها الركوع، وثلثها السجود، وثلثها الطهور»(2) الدالّ على الأعمّ، وكما يمكن الجمع بينهما بتقديم رواية: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»، وحمل رواية التثليث على التثليث باعتبار الأهمّيّة، كذلك يمكن العكس بتقديم رواية التثليث وحمل


(1) حتّى ولو قلنا به في باب العمومات بدعوى جريان أصالة العموم حتّى لدى الشكّ في الاستناد؛ إذ لا يبعد أن يكون عدم صحّة ذلك في مورد ما إذا كانت الدلالة منحصرة بمجرّد الإطلاق ومقدّمات الحكمة، لا الوضع أوضح.

وممّا قد يورد على هذا الوجه أيضاً: أنّ قصد القربة على مبنى صاحب الكفاية القائل بالصحيح غير داخل في المأمور به، وبالتالي يجب أن يكون غير داخل في المسمّى، في حين أنّه داخل فيما تحمل عليه تلك الآثار، أي: المعراجيّة، أو كونه قربان كلّ تقيّ، أو ناهياً عن الفحشاء والمنكر، أو كونه عمود الدين ونحو ذلك، فهذا يشهد على أنّ المقصود بالصلاة في هذه الاستعمالات ليس هو المسمّى.

وممّا قد يورد على هذا الوجه: أنّه لم يثبت عدم وجود حظّ من هذه الآثار لكلّ صلاة باطلة.

(2) الأولى تبديل التمثيل برواية التثليث بالتمثيل بأوامر إعادة الصلاة ونحوها؛ لأنّ رواية التثليث لابدّ من توجيهها بإرادة التثليث بلحاظ الأهمّيّة؛ لوضوح عدم صدق الصلاة حتّى على الأعمّ على مجرّد هذه الاُمور الثلاثة، ومعه يتعيّن حملها على الصحيح.

349

«لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» على أنّه لا صلاة صحيحة إلاّ بفاتحة الكتاب.

الثالث: دعوى: أنّ سيرة العقلاء على أنّهم إذا اخترعوا شيئاً وضعوا اللفظ لخصوص الصحيح منه، والظاهر: أنّ الشارع لم يتخطّ طريقتهم.

وهذا أيضاً بهذا البيان لا محصّل له؛ إذ لو سلّمنا أنّ السيرة العقلائيّة كانت منعقدة على ذلك، فلا دليل على إمضاء الشارع لها؛ فإنّ السيرة إذا كانت في عمل من قبل العبيد والمكلّفين كالسيرة على العمل بخبر الواحد، كان سكوت الشارع دليلاً على الإمضاء؛ إذ لو لم يكن يرضى بعملهم هذا لكان ينبغي له ردعهم. وأمّا إذا لم تكن السيرة مربوطة بعمل المكلّفين بما هم مكلّفون كما في المقام، حيث إنّ السيرة راجعة إلى المخترعين الواضعين لأسماء بالنسبة لما اخترعوه، فسواء كان ذوق الشارع موافقاً لذلك أو لا ليس عليه الردع، غاية الأمر أنّه هو حينما يكون مخترعاً لا يصنع مثل ما صنعوا إذا كان يخالفهم في الذوق، وليس عليه أن يردع؛ لأنّ هذا ليس مربوطاً بالعمل والامتثال، إلاّ أن يرجع ذلك إلى توجيه أشرنا إليه سابقاً من أنّ الشارع قد صدر عنه وضع بقوله: وضعت اللفظ الفلانيّ للمعنى الفلانيّ، ولم يصرّح بالصحيح والأعمّ، فيكون انعقاد السيرة عند العقلاء موجباً لانعقاد ظهور كلام المولى في الوضع للصحيح، فيكون حجّة للرجوع إلى ظهور كلامه، إلاّ أنّ إثبات السيرة بنحو يكون أكيداً شديداً إلى حدّ يولّد هذا الظهور في كلام المولى دونه الصعاب، فإنّ المخترعين قليلون جدّاً، ولا توجد سيرة قويّة شائعة من هذا القبيل.

الرابع: التبادر، فإذا قيل: «صلّى فلان»، أو قيل: «أنا صلّيت في المسجد»، تبادر إلى ذهننا الصحيح، والتبادر علامة الحقيقة.

وهذا أيضاً لا محصّل له؛ لأنّ التبادر إنّما يكون علامة للحقيقة إذا كان ناشئاً من

350

حاقّ اللفظ، لا من القرينة، وهنا احتمال القرينة موجود، لا يمكن رفعه، فإنّ نفس المعهوديّة النوعيّة وكون الوظيفة هي الصلاة الصحيحة توجب في زماننا انصراف ذهننا، ولا يمكننا تجريد أنفسنا عن ذلك؛ فإنّها ليست معهوديّة موجودة لنا في حال دون حال حتّى نختبر أنفسنا عند عدمها.

 

أدلّة القول بالوضع للأعمّ:

وأمّا ما استدلّ بها على الأعمّ فأيضاً أهمّها أربعة:

1 ـ صحّة التقسيم إلى الصحيح والفاسد.

وفيه: أنّ صحّة التقسيم يمكن أن تفسّر بأمرين: أحدهما: أنّه يوجد للفظ «الصلاة» معنىً أعمّ قابل للانقسام الى الصحيح والفاسد، وهذا ثابت لا إشكال فيه، والثاني: أنّ هذا المعنى الأعمّ حقيقيّ وليس مجازيّاً أو عنائيّاً. فإن اُريد الاستدلال بالأمر الأوّل فقط فلا يدلّ على المطلوب؛ فإنّ هذا المعنى الأعمّ موجود لكنّه لعلّه معنىً مجازي، وإن اُريد الاستدلال بمجموع الأمرين فهو محال؛ فإنّ الثاني عين المتنازع فيه، فيلزم الاستدلال بالشيء على نفسه. نعم، لو كنّا حقيقة عالمين بالوضع للأعمّ صحّ هذا أن يكون منبِّهاً لا دليلاً مولّداً للعلم حقيقة.

2 ـ استعمال لفظ «الصلاة» وغيرها في الأعمّ في كثير من الروايات.

ويرد عليه: أنّنا إذا كنّا عالمين بالاستعمال في الأعمّ واُريد جعل ذلك دليلاً على الحقيقة، فإن اُريد الاستدلال بمجرّد الاستعمال، فهو أعمّ من الحقيقة. وأصالة الحقيقة ـ على ما بيّن في محلّه ـ إنّما تجري عند الشكّ في المراد، لا فيما إذا علم بالمراد وشكّ في أنّه حقيقيّ أو مجازيّ. وإن اُريد الاستدلال بكونه استعمالاً بلا عناية، فهذا معناه: كونه حقيقة، فهو استدلال بالشيء على نفسه.

351

هذا كلّه إذا علمنا بأنّ هذا استعمال في الأعمّ، ولم نعرف أنّه حقيقة، فأردنا إثبات الحقيقة. وأمّا إذا فرض العكس بأن عرفنا بوجداننا أنّ هذا الاستعمال لا عناية فيه. ولم نعرف بالتفصيل أنّه استعمال في الأعمّ، فبإقامة البرهان على أنّه استعمال في الأعمّ، يثبت أنّ الوجدان قد شهد بكون اللفظ حقيقة في الأعمّ، إلاّ أنّ هذا بحسب الحقيقة مرجعه إلى المنبّهيّة لا أكثر، أي: كنّا عالمين بالاستعمال في الأعمّ، وبأنّ الأعمّ حقيقة، غاية ما هناك: أنّنا ننبّه إلى علومنا.

3 ـ أن يقال كما ادّعى المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله)(1): إنّ سيرة المخترعين على الوضع للأعمّ قال(رحمه الله): إنّه جرت سيرة المخترعين على الوضع للأعمّ، لكن لا من ناحية الأجزاء، بل من ناحية الشرائط، فمثلاً يصنع الطبيب معجوناً مركّباً من عشرة أجزاء مشروطاً تأثيره بالشرب بعد الطعام أو عند حرارة الهواء أو غير ذلك، فذلك المعجون يسمّى باسمه حتّى لو خولفت تلك الشرائط. نعم، لا يسمّى باسمه عند تخلّف بعض الأجزاء، فهذا أعمّيّ من حيث الشرائط، وصحيحيّ من حيث الأجزاء.

ويرد عليه مضافاً إلى ما مضى من الإيراد على الاستدلال للصحيح بسيرة المخترعين: أنّ هذا خلط بين شرائط الدواء وشرائط استعماله، فالدواء الذي هو عين خارجيّة قد يكون من شرطه مثلاً كون المادّة الفلانيّة التي اُدخلت فيه حمراء اللون، أو حارّة، أو نحو ذلك، وهذه الشروط دخيلة في المسمّى، وبعد تماميّة ذات الدواء من حيث هو، تصل النوبة إلى الشرائط التي يشترط في استعماله حتّى يؤدّي مفعوله خارجاً، من قبيل: أكله بعد الطعام، أو في الهواء الحارّ، أو غيره.


(1) راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 71 بحسب طبعة مطبعة الطباطبائيّ بقم.

352

وهذه شرائط للفعل والاستعمال لا للدواء، فطبعاً لا تكون دخيلة في المسمّى، وكذلك في السيّارة مثلاً بما هي عين يشترط أن يكون حديدها صلباً من النوع الفلانيّ مثلاً. وهذا شرط نفس السيّارة، وأمّا كون نفس السائق ماهراً، فهذا شرط استعمالها وفعلِ السياقة. وأمّا فيما نحن فيه، فالصلاة مثلاً ليست عيناً خارجيّة، وإنّما بابها باب الأفعال، وكلّ شرائط الفعل هي شرائط نفس الصلاة التي هي المعجون المخترع الشرعيّ، فيدّعى في المقام دخلها في المسمّى.

4 ـ دعوى تبادر الأعمّ بعكس دعوى التبادر التي استدلّ بها للصحيح.

والجواب: أنّه إذا سلّم هذا التبادر عند فرض عدم القرينة، فغاية ما يكشف عنه ذلك هو الوضع في عصر التبادر، وطبعاً نحن لم نكن موجودين في صدر الإسلام وعصر صحابة الرسول(صلى الله عليه وآله) حتّى يمكننا دعوى التبادر بلحاظ ذاك الزمان. وأمّا تبادر الآن فلا يفيدنا؛ لعدم إمكان إجراء أصالة عدم النقل في المقام، فإنّ أصالة عدم النقل أصل عقلائيّ، والعقلاء لا يبنون عليها في مورد إحراز ما يكون مقتضياً للنقل على تقدير عدم كون المعنى الفعليّ قديماً. وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّه على تقدير عدم كون الصلاة اسماً للأعمّ في صدر الإسلام، وكونها اسماً للصحيح قد وجد المقتضي لتماميّة النقل، وهو كثرة استعمال المتشرّعة في الجامع الأعمّ، فإنّه قد كثر في عهودهم ذلك بنحو لو كانت اسماً للصحيح، لكفى ذلك للنقل.

وقد تحصّل: أنّ تمام أدلّة الطرفين لا يمكن التعويل عليها.

 

تعيين المرجع بعد بطلان أدلّة الطرفين:

وما يمكن أن يقال في المقام هو: أن نرجع إلى المسألة السابقة ـ وهي الحقيقة الشرعيّة ـ فنقول: إنّنا إذا بنينا في تلك المسألة على أنّ هذه الألفاظ والمعاني

353

الشرعيّة كلّها موجودة قبل الشارع كما استقربنا ذلك، والشارع جرى على طبق استعمال عرفيّ موجود في البيئة، فلا ينبغي الإشكال في أنّها أسماء للأعمّ؛ إذ لا معنى لفرض أنّها قبل الشارع كانت أسماء للصحيح عند الشارع، والمفروض أنّه لم يأتِ بوضع جديد، فلابدّ أن يقال: إنّ لفظة «الصلاة» موضوعة في البيئة المتديّنة العربيّة قبل نزول الإسلام لجامع مرن قابل للانطباق على الأشكال المختلفة للعبادة: الشكل الإسلاميّ منها والأشكال السابقة، والشارع لم يأتِ بوضع جديد. وأمّا إذا لم نقل بذلك، بل قلنا بوضع جديد تعيّنيّ، فأيضاً الظاهر: أنّ الوضع للأعمّ، فإنّ الوضع التعيّنيّ ينشأ من كثرة الاستعمال، ومن الواضح لمن تتّبع الاستعمالات في كلمات الشارع أنّ الاستعمال في الأعمّ كثير جدّاً، بل لم نحرز الاستعمال في الصحيح بخصوصه، ولا في مورد؛ لأنّ الجامع الأعمّيّ ينطبق على الصحيح، فيحتمل قريباً كون الاستعمال دائماً في الأعمّ، وإرادة الصحيح من باب كونه مصداقاً للأعمّ وحصّة له. نعم، بنينا على الوضع التعيينيّ فإثبات الوضع للصحيح أو للأعمّ في غاية الإشكال، ولا طريق لنا إلى إثبات أحد الأمرين لكنّه أضعف الاحتمالات(1) كما بيّنّا في بحث الحقيقة الشرعيّة، فالظاهر كونها أسامي للأعمّ.

هذا تمام الكلام في العبادات.


(1) جاء في كتاب السيّد الهاشميّ حفظه الله، ج 1، ص 210: أنّه على هذا الفرض أيضاً يكون الأرجح هو القول بالأعمّ؛ لأنّ تداول الأسامي في استعمالات الشارع كان سابقاً على تبيان الأجزاء والشرائط، والتي اقتضت المصلحة التدرّج في بيانها، فلو كان هناك وضع تعيينيّ من قبل الشارع، فالأرجح أنّه كان في الأعمّ؛ لأنّ الوضع للصحيح بما هو صحيح غير محتمل، ولواقع الأجزاء والشرائط التي هي مبهمة لم تعرف بعد لا يناسب غرض الواضع، والوضع لما هو مبيّن فعلاً يوجب تغيّر الوضع.

354

 

الصحيح والأعمّ في المعاملات

 

وأمّا الكلام في المعاملات فأيضاً يقع في جهات:

 

الصحّة الشرعيّة والصحّة العقلائيّة:

الجهة الاُولى: أنّ الصحّة في العبادات لم تكن إلاّ شرعيّة، ولكن في المعاملات توجد هناك صحّة عقلائيّة وصحّة شرعيّة؛ لأنّ للعقلاء أيضاً فيها أحكاماً، فهل النزاع في الصحّة العقلائيّة أو الشرعيّة؟

ذهب السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ إلى أنّ النزاع إنّما هو في الصحّة العقلائيّة، فالصحيحيّ يدّعي أخذها في معنى البيع مثلاً، والأعمّيّ يدّعي أنّ لفظ «البيع» موضوع للأعمّ من الصحيح العقلائيّ والفاسد العقلائيّ. وأمّا الصحّة الشرعيّة فلا ينبغي النزاع بينهما في عدم أخذها؛ إذ لا يعقل أخذها في المسمّى؛ إذ لو كان البيع موضوعاً للصحيح الشرعيّ للزم أن يكون معنى أدلّة الإمضاء في مثل: (أحلّ الله البيع) وغيره هو إمضاء البيع الصحيح، يعني: أنّ الصحيح صحيح، وهذا لغو من الكلام(1).

وهذا الكلام غريب؛ فإنّه ليس مقصود الصحيحيّ أخذ عنوان الصحّة في المعنى الموضوع له، ولو كان المقصود هو هذا، فكما لا يعقل أخذ ذلك في المعاملات في موضوع (أحلّ الله البيع)؛ للزوم كون مفاده تصحيح الصحيح كذلك لا يعقل أخذ ذلك في العبادات في موضوع الأوامر؛ إذ الصحيح معناه: المطابق للأمر، فيكون


(1) راجع المحاضرات، ج 1، ص 193 بحسب طبعة مطبعة النجف.

355

معنى الأمر به: الأمر بالمأمور، وإنّما مقصود الصحيحيّ هو: أنّ الواضع لاحظ واقع الأجزاء والشرائط الدخيلة في الصحّة ووضع اللفظ للواجد لها، فالموضوع في(أحلّ الله البيع) مثلاً هو التمليك بعوض من قبل البالغ من دون إكراه، ومع الموالاة ونحو ذلك من الشروط، ولا محذور في ذلك، فهذه الشبهة نشأت من تخيّل أنّ معنى أخذ الصحّة: أخذ عنوان الصحّة، بينما هذا حتّى في العبادات غير مأخوذ فضلاً عن المعاملات.

 

هل يجري النزاع على فرض وضع الألفاظ للمسبّبات؟

الجهة الثانية: قالوا: إنّ النزاع في باب المعاملات مبنيّ على وضع ألفاظ المعاملات للأسباب، وأمّا إذا كانت موضوعة للمسبَّبات وهي النتائج، كملكيّة العين بعوض في البيع، أو بلا عوض في الهبة، أو غير ذلك، فلا يجري هذا النزاع؛ فإنّ النتائج ليست مركّبة من أجزاء وشرائط يتصوّر فيها التماميّة والنقصان، وإنّما أمرها دائر بين الوجود والعدم(1).

 


(1) الموجود في المحاضرات، ج 1، ص 195 بحسب طبعة مطبعة النجف نقلاً عن الأصحاب إنّما هو دعوى عدم قابليّة المسبّب للاتّصاف بالصحّة والفساد، وأنّ أمره دائر بين الوجود والعدم، ولم يرد فيه تعليل ذلك بكون المسبّب بسيطاً لا يقبل التماميّة والنقصان. ولعلّ هذا التعليل وجده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في كلمات بعض الأصحاب، أو أخذه ممّا مضى منهم من أنّ الصحّة والفساد لهما معنىً واحد، وهو التماميّة والنقصان وإن اختلفت تفاسير ذلك بحسب ما يُنظر إليه من اللوازم من مطابقة الأمر ومخالفته، أو محقّقيّته للغرض وعدم محقّقيّته، أو نحو ذلك.

وعلى أيّ حال، فقد مضى: أنّ معنى الصحّة والفساد ليست هي التماميّة والنقصان؛ ولذا يتّصف بهما البسيط أيضاً كالفكرة، فهي برغم بساطتها قد تكون صحيحة وقد تكون فاسدة.

356

وقد ناقش السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ في ذلك بأنّ السبب والمسبّب له معنيان:

الأوّل: السبب بمعنى الإنشاء الذي يصدر عن المكلّف، والمسبّب بمعنى حكم العقلاء أو الشارع بالملكيّة مثلاً.

والثاني: السبب بمعنى الإنشاء اللفظيّ أو الفعليّ، أي: المبرِز للإنشاء، والمسبّب بمعنى ذاك الاعتبار الذي يُبرَز باللفظ أو الفعل، أي: الاعتبار والإنشاء النفسانيّ القائم بنفس العاقد.

والمعنى الأوّل غير وارد في المقام؛ لأنّ المسبّب بهذا المعنى فعل للشارع العقلائيّ أو الدينيّ، لا للبايع، فلا يحتمل أن يقال بأنّ لفظ «البيع» موضوع


وعلى أيّ حال، فتحقيق الكلام في المقام هو: أنّ المسبّب وهي الملكيّة مثلاً له وجود في عوالم ثلاثة: فلدينا ملكيّة في عالم اعتبار المتعاملين النفسانيّ، ولدينا ملكيّة في عالم اعتبار العقلاء وأحكامهم، ولدينا ملكيّة في عالم اعتبار الشريعة وأحكامها، فإن قصد بالصحّة والفساد بالنسبة للمسبّب صحّة كلّ واحد من هذه المسبّبات وفساده بلحاظ عالمه، فمن الواضح: أنّ كلّ واحد منها بلحاظ عالمه يدور أمره بين الوجود والعدم، لا بين الصحّة والفساد، وإن قصد بالصحّة والفساد: الصحّة والفساد الشرعيّان، فالمسبّب الثالث ـ وهو الملكيّة الشرعيّة ـ أمره دائر بين الوجود والعدم، ولا معنى لاتّصافه بالصحّة والفساد كما هو واضح. أمّا المسبّب الأوّل والثاني، فأيّ منهما فرض هو الموضوع للحكم الشرعيّ من الإمضاء أو الردّ، يتّصف ـ لا محالة ـ بالصحّة والفساد، بمعنى كونه ممضىً شرعاً ومؤثّراً للنتيجة المطلوبة وعدمه. وأ يّما لم يفرض موضوعاً للحكم الشرعيّ لم يكن معنىً لاتّصافه بالصحّة والفساد. وإن قصد بالصحّة والفساد: الصحّة والفساد العقلائيّان، فالمسبّب الثاني ـ وهو الملكيّة العقلائيّة ـ أيضاً يدور أمره بين الوجود والعدم، دون الصحّة والفساد، ويبقى المسبّب الأوّل فحسب هو الذي يمكن افتراض توصيفه بالصحّة والفساد بمعنى إمضائه عقلائيّاً وعدم إمضائه.