19

أحدهما للسيّد الاُستاذ دامت بركاته والثاني للمحقّق العراقيّ(قدس سره).

 

تعريف السيّد الاُستاذ لعلم الاُصول:

أمّا تعريف السيّد الاُستاذ (دامت بركاته) فهو: أنّ القاعدة الاُصوليّة هي التي يستنبط منها الحكم بمفردها مع إحراز صغراها، أي: من دون ضمّ قاعدة اُصوليّة اُخرى، فحجّيّة خبر الثقة مثلاً تكفي وحدها مع إحراز صغراها ـ وهي ورود خبر ثقة ـ للاستنباط، بلا حاجة إلى ضمّ قاعدة اُصوليّة اُخرى، وظهور الأمر في الوجوب وحده يكفي بعد إحراز صغراها ـ أي: الأمر ـ للاستنباط، بلا ضمّ قاعدة اُخرى اُصوليّة. وهذا بخلاف وثاقة زرارة مثلاً، فإنّها لا تكفي للاستنباط ما لم تضمّ إليها قاعدة حجّيّة خبر الثقة، وبخلاف دلالة لفظ « الصعيد » على التراب مثلاً أو مطلق وجه الأرض، فإنّها لا تكفي في استنباط الحكم ما لم نعرف أنّ الأمر للوجوب، فقيد « عدم الحاجة إلى قاعدة اُصوليّة اُخرى » يرفع المؤاخذة الاُولى عن التعريف(1).

ثُمّ أورد على نفسه اعتراضات نذكر منها اعتراضين:

الأوّل: أنّ الأبحاث الاُصوليّة المنقّحة لصغريات الظهور من قبيل: ظهور الأمر في الوجوب، والنهي في الحرمة بحاجة إلى قاعدة اُخرى اُصوليّة، وهي قاعدة حجّيّة الظهور.

وأجاب على ذلك بأنّ قاعدة حجّيّة الظهور ليست اُصوليّة؛ لأنّ حجّيّة الظهور


(1) راجع المحاضرات للفيّاض، ج 43 من موسوعة الإمام الخوئيّ(رحمه الله)، ص 4 و 9 ـ 10، وراجع الدراسات، ج 1، ص 24 بحسب طبعة مؤسّسة دائرة معارف الفقه الإسلاميّ.

20

أمر بديهيّ واضح لدى أيّ إنسان عرفيٍّ، ولا تحتاج إلى أيّ بحث اُصوليّ في ذلك(1).

الثاني: أنّ مبحث اقتضاء الأمر للنهي عن ضدّه ثمرتة الفقهيّة عبارة عن بطلان الضدّ إذا كان عبادة لو قلنا بالاقتضاء، وهذا موقوف على قاعدة اُصوليّة اُخرى وهي: أنّ النهي في العبادات يوجب البطلان.


(1) لم أجد هذا الإشكال والجواب على شكل إشكال وجواب لا في المحاضرات ولا في الدراسات.

نعم، صرّح في المحاضرات (ج 43 من موسوعة الإمام الخوئيّ، ص 2) بأنّ حجّيّة الظهور خارجة عن المسائل الاُصولية؛ إذ لا خلاف في حجّيّتها بين اثنين من العقلاء، ولم يقع البحث عنها في أيّ علم وإن وقع الكلام في موارد ثلاثة، هي:

الأوّل: في أنّ حجّيّة الظهور هل هي مشروطة بعدم الظنّ بالخلاف، أم الظنّ بالوفاق، أم لا هذا ولا ذلك؟

الثاني: في ظواهر الكتاب وأنّها هل تكون حجّة أم لا؟

الثالث: في أنّ حجّيّة الظواهر هل تختصّ بمن قصد إفهامه، أم تعمّ غيره أيضاً؟

وقريب من ذلك ما ورد في الدراسات (الصفحة الماضية والطبعة الماضية).

فلعلّ هذين المقطعين إشارة إلى ما نقله اُستاذنا الشهيد عن اُستاذه السيّد الخوئيّ(رحمهما الله).

وأخيراً رأيت تعبيراً صريحاً في كون ذكر السيّد الخوئيّ(رحمه الله) لخروج بحث حجّيّة الظواهر عن علم الاُصول لدفع الإشكال عن اُصوليّة الأبحاث الاُصوليّة المنقّحة لصغريات الظهور من قبيل ظهور الأمر في الوجوب، وذلك فيما طبع أخيراً من كتاب الهداية في الاُصول لمقرّر أقدم من السيّد عليّ صاحب الدراسات(رحمه الله)، وهو المرحوم الشيخ حسن الصافيّ الإصبهانيّ، ج 1، ص 21 ـ 22. فهو صريح في كون ذلك دفعاً لذاك الإشكال، موضّحاً: أنّ عدم النزاع من قبل أحد في حجّيّة الظواهر وعدم الشكّ من قبل أحد في ذلك يدفع الإشكال برغم الخلاف في حجّيّة عدد من الظهورات؛ وذلك لأنّ كون قضيّة ما كافيةً لاستنباط الحكم الكلّيّ الإلهيّ في الجملة كاف في اُصوليّتها، فنحن نفرض الكلام في أمر ونهي داخلين في القدر المتيقّن من حجّيّة الظهور، أي: في المقدار الذي لم يشكّ أحد في حجّيّته.

21

وأجاب على ذلك: بأنّنا وإن كنّا لو قلنا بالاقتضاء احتجنا في إثبات بطلان العبادة إلى قاعدة اُخرى اُصوليّة، لكنّنا لو قلنا بعدم الاقتضاء ثبتت صحّة العبادة بلا حاجة إلى ضمّ قاعدة اُخرى اُصوليّة، ويكفي في اُصوليّة المسألة اُصوليّتها بلحاظ أحد طرفيها(1).

أقول: يوجد لدينا حول ما ذكره السيّد الاُستاذ (دامت بركاته) في المقام ثلاث ملاحظات:

الاُولى: أنّ افتراض عدم حاجة القاعدة الاُصوليّة في مقام استنباط الحكم منها إلى قاعدة اُخرى اُصوليّة: إن قصد به عدم الحاجة إلى ذلك مطلقاً، فهذا غير صحيح، فإنّ ظهور الأمر في الوجوب قد لا يستنبط منه الحكم إلاّ بضمّ قاعدة حجّيّة خبر الثقة مثلاً، وذلك كما لو ورد الأمر في خبر غير قطعيّ. وقاعدة حجّيّة خبر الثقة قد لا يستنبط منها الحكم إلاّ بضمّ قاعدة ظهور الأمر في الوجوب، كما إذا كانت دلالة ذلك الخبر على الحكم على أساس الأمر الدالّ على الوجوب. وإن قصد به عدم الحاجة إلى ذلك ولو في بعض الموارد، فهذا وإن كان ينطبق على مثل ظهور الأمر في الوجوب وحجّيّة خبر الثقة، وذلك كما في أمر قطعيّ من سائر الجهات غير أصل إرادة الوجوب منه، وكما في خبر ثقة قطعيّ من سائر الجهات عدا الصدور، لكنّه ينطبق أيضاً على مثل تشخيص ظهور كلمة « الصعيد » الواردة في كلام قطعيّ سنداً ودلالةً على الحكم من كلّ النواحي ما عدا تعيين المراد من كلمة « الصعيد ».

الثانية: أنّ إخراج حجّيّة الظهور من علم الاُصول لا يكفي لدفع النقوض على


(1) راجع المحاضرات، ج 43 من موسوعة الإمام الخوئيّ، ص 12.

22

ذاك التعريف، بل يحتاج إلى إخراج بعض المباحث الاُخرى، فمثلاً يوجد في علم الاُصول مباحث عن أقوى الظهورين المتعارضين، كالبحث عن أقوى الظهورين في العموم الوضعي والإطلاق الحكميّ، أو في العموم الشموليّ والبدليّ، أو في المنطوق والمفهوم، في حين أنّ الاستنباط من هذه الأبحاث موقوف على ضمّ قاعدة اُصوليّة اُخرى، وهي قاعدة حجّيّة الجمع العرفيّ؛ إذ لولاها لما أفادتنا أقوائيّة أحد الظهورين، فلم ينطبق تعريف علم الاُصول على هذه المباحث إلاّ أن يلتزم أيضاً بخروج قاعدة حجّيّة الجمع العرفيّ.

الثالثة: أنّنا لو قلنا بعدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه، فهذا لا يكفي في استنباط صحّة الضدّ العبادة؛ إذ العبادة يجب أن تكون قربيّة، والأمر بالشيء لا يجتمع معه الأمر بضدّه في عرضه، فلا بدّ: إمّا من إثبات الأمر الترتّبيّ، أو إثبات: أنّ الملاك يبقى بعد سقوط الأمر حتّى يكتفى بقصد الملاك، وكلاهما قاعدة اُصوليّة.

وعلى أيّ حال، فقد تحصّل: أنّ التعريف الذي جاء به السيّد الاُستاذ (دامت بركاته) تكون المؤاخذة الاُولى مسجّلة عليه؛ إذ عدم الحاجة إلى ضمّ قاعدة اُصوليّة اُخرى في بعض الأحيان قد يوجد في مثل قاعدة ظهور « الصعيد » في وجه الأرض ونحو ذلك.

وأمّا المؤاخذة الثانية فقد دفعها السيّد الاُستاذ ( دامت بركاته ) بمثل ما ذكرناه من أنّنا نقصد بالاستنباط مطلق تحصيل المنجِّز والمعذِّر تجاه الحكم(1).

ولكن هذا الجواب لا ينسجم مع مبانيه، فإنّه إذا جعل الاستنباط بمعنى مطلق


(1) راجع المحاضرات، ج 43 من موسوعة الإمام الخوئيّ، ص 6.

23

إثبات التنجيز أو التعذير تجاه الحكم، لم يصحّ ما يقوله من خروج مبحث حجّيّة القطع عن علم الاُصول؛ لأنّ ذلك لا يقع في طريق استنباط الحكم؛ إذ فرض القطع هو فرض الاتّصال بالحكم مباشرة والوصول إليه، فإنّ هذا يرد عليه حينئذ: أنّ مبحث حجّيّة القطع متكفّل لبيان تنجيز الحكم وتعذيره بالقطع، وقد فرض: أنّ الاستنباط قصد به إقامة الحجّة بالمعنى الأعمّ، أي: إقامة التنجيز والتعذير. إذن فيدخل مبحث حجّيّة القطع في علم الاُصول.

على أنّه بعد دخول حجّيّة القطع في علم الاُصول لا يبقى مجال لدخول سائر القواعد الاُصوليّة، كالبراءة، والاستصحاب، وأيّ قاعدة اُخرى في علم الاُصول حسب مبانيه دامت بركاته؛ لأنّها جميعاً بحاجة إلى حجّيّة القطع وقد فرض: أنّ القاعدة الاُصوليّة يجب أن لا تحتاج في مقام الاستنباط منها إلى قاعدة اُصوليّة اُخرى، إذن فكلّ قواعد الاُصول أو جلّها خرجت عن علم الاُصول.

إلاّ أن يلتزم بخروج حجّيّة القطع عن علم الاُصول، لا بملاك عدم وقوعها في طريق الاستنباط، بل بنفس الملاك الذي أخرج به حجّيّة الظواهر عن علم الاُصول، وهو كونها أمراً واضحاً لم يقع في أصلها خلاف، وإن وقع الخلاف في بعض تفاصيلها، كما وقع ذلك في حجّيّة الظهور أيضاً.

وأمّا المؤاخذة الثالثة ـ وهي شمول التعريف للقواعد الفقهيّة ـ فقد أجاب عليها بأنّنا نقصد بالاستنباط: الاستنباط التوسيطيّ، لا الاستنباط التطبيقيّ.

وتوضيح ذلك: أنّ الاستنباط قد يكون تطبيقيّاً بمعنى كون النتيجة قطعة من المقدّمة، ومصداقاً لها، وتطبيقاً لها، وهذا شأن الاستنباط من القواعد الفقهيّة، فاستنباط الضمان في البيع الفاسد من « قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده » عبارة عن تطبيق تلك القاعدة العامّة في إحدى مواردها، وتكون النتيجة ـ وهي

24

الضمان في البيع الفاسد ـ حصّة من الضمان في كلّ عقد فاسد يضمن بصحيحه، وقد يكون توسيطيّاً بمعنى: أنّ النتيجة ليست تطبيقاً للمقدّمة وحصّة منها، وإنّما تستنتج من المقدّمة على أساس وجود الملازمة بينها وبين المقدّمة من قبيل دلالة الأمر على الوجوب التي يستنتج منها وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلاً، فالنتيجة هنا ليست حصّة من المقدّمة؛ فإنّ النتيجة حكم شرعيّ، والمقدّمة أمر لُغويّ مثلاً، وهما أمران متباينان، لكن يوجد بينهما تلازم بعد فرض حجّيّة الظهور، فبهذا تثبت النتيجة، والمسائل الاُصوليّة دائماً تقع في طريق الاستنباط بمعنى الاستنباط التوسيطيّ، بخلاف القواعد الفقهيّة، فإذا قصدنا من الاستنباط الاستنباط التوسيطيّ ارتفعت المؤاخذة.

أقول: إنّ الاستنباط التوسيطيّ أيضاً نقسّمه إلى قسمين:

أحدهما: أن تكون الملازمة بين المقدّمة وبين حكم كلّيّ إلهيّ، فنستنتج الحكم الكلّيّ الإلهيّ من المقدّمة من قبيل الملازمة بين دلالة الأمر على الوجوب ووجوب الدعاء عند رؤية الهلال.

والثاني: أن لا تفرض ملازمة بين المقدّمة والحكم الكلّيّ، بل يفرض: أنّ المقدّمة منقِّحة لموضوع ذلك الحكم، فيستنبط الحكم الجزئيّ في المقام عن طريق إحراز فعليّة موضوعه من قبيل: أنّ قاعدة صحّة المعاطاة تنقّح موضوع نفوذ التصرّفات فيما انتقل إليه بالمعاطاة مثلاً، فإنّ موضوع نفوذها هو الملك، وقد ثبت بقاعدة صحّة المعاطاة.

فإن كان مقصوده (دامت بركاته) من الاستنباط في تعريف علم الاُصول الاستنباط التوسيطيّ من القسم الأوّل، فقط لزم خروج بعض المسائل الاُصوليّة من قبيل اقتضاء الأمر للنهي عن ضدّه وعدمه، حيث إنّ الثمرة الفقهيّة لهذه المسألة

25

عند السيّد الاُستاذ (دامت بركاته) عبارة عن بطلان الصلاة وصحّتها، بينما هذا إنّما يكون على أساس تنقيح المقدّمة لموضوع الحكم، حيث إنّ الحرمة في العبادات موضوع للبطلان، وعدم الحرمة شرط في الصحّة، وهذه القاعدة تنقّح الحرمة أو عدم الحرمة، فيتعيّن البطلان أو الصحّة.

وإن كان مقصوده الاستنباط التوسيطيّ ولو من القسم الثاني، دخلت كلّ القواعد الفقهيّة في علم الاُصول؛ إذ هي تنقّح موضوعات أحكام اُخرى، فمثلاً قاعدة صحّة المعاطاة وإن كان استنباط صحّة البيع المعاطاتيّ منها استنباطاً تطبيقيّاً، لكن يستنبط منها أيضاً نفوذ تصرّفات المشتري وجوازها في المبيع مثلاً على أساس: أنّ موضوع هذه الأحكام هو ملكيّته للمبيع، وقاعدة صحّة المعاطاة تنقّح هذا الموضوع، فهذا استنباط توسيطيّ من القسم الثاني، وكذلك يستنبط منها وجوب دفع القيمة إلى البايع؛ لأنّ موضوعه تحقّق البيع الصحيح، وهذا ما تنقّحه قاعدة صحّة المعاطاة، وكذلك قاعدة « ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده » وإن كان استنباط الضمان في البيع الفاسد منها استنباطاً تطبيقيّاً، لكن استنباط وجوب أداء القيمة عند تلف المبيع منها الذي معناه وجوب أداء الدين استنباط توسيطيّ على أساس تنقيح الموضوع؛ حيث إنّ وجوب أداء الدين حكم تكليفيّ موضوعه الدين والضمان، وقد ثبت هذا الدين والضمان بهذه القاعدة. وهكذا الكلام في سائر القواعد الفقهيّة.

وهذا الإشكال إنّما أوردناه بناءً على ما أفاده السيّد الاُستاذ في المقام من أنّ ثمرة قاعدة « اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه وعدمه » بطلان الضدّ العبادة وعدمه.

والواقع: أنّه كان المفروض أنّ القاعدة الاُصوليّة هي التي يستنبط منها الحكم

26

الكلّيّ الإلهيّ، لا التي يستنبط منها موضوع الحكم، ولا ينتقض ذلك بالقواعد الفقهيّة التي تستنبط منها أحكام جزئيّة استنباطاً تطبيقيّاً من القسم الثاني.

وأمّا كون ثمرة ( اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه وعدمه ) بطلان الضدّ العبادة وعدمه، فنحن لا نقول به.

وتوضيح ذلك:

أوّلاً: أنّ بالإمكان أن يقال: إنّ ثمرة هذا البحث هي معرفة: أنّ أضداد الواجبات هل هي حرام أو لا؟ وهي جعول كلّيّة إلهيّة مشكوكة تستنبط من قاعدة الملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضدّه.

والسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ إنّما عدل عن هذه الثمرة إلى مسألة بطلان الضدّ العبادة على أساس نكتة: أنّ حرمة الضدّ غيريّة لا يترتّب عليها أيّ تنجيز أو تعذير، أو ثواب أو عقاب، فليست هي ثمرة فقهيّة. ولكن هذه النكتة لو التفتنا إليها عرفنا أنّ هذا النهي لا يبطل أيضاً الضدّ إذا كان عبادة؛ إذ هو نهي غيري صرف، وليس له أيّ تنجيز أو تعذير، أو تبعيد أو تقريب، ولهذا ذهب السيّد الاُستاذ (دامت بركاته) إلى عدم بطلان الضدّ العبادة(1)، وحينئذ لو لم نجد لهذا البحث ثمرة اُخرى فقهيّة، نلتزم بعدم كونه بحثاً اُصوليّاً، ولا ضير في ذلك بعد فرض عدم ترتّب ثمرة


(1) ذهب السيّد الخوئيّ(رحمه الله) ـ على ما في المحاضرات، ج 44 من موسوعة الإمام الخوئيّ ص 383 ـ 384 ـ إلى صحّة الضدّ العباديّ الواجب، سواء كان تقدّم الأمر بضدّه عليه لأجل أنّ العبادة كانت موسّعة وضدّها مضيّقاً أو لأجل أهمّيّة ضدّها. أمّا في الفرض الأوّل فيكفي في صحّة العبادة تعلّق الأمر بالطبيعة الجامعة بين الفرد المزاحم والأفراد المتأخّرة، ولا تنافي بين الأمرين. وأمّا في الفرض الثاني فالقول بالترتّب يثبّت الأمر ويحلّ الإشكال.

27

فقهيّة عليه(1)، وأمّا لو لم نلتفت إلى هذه النكتة إذن نجعل الثمرة الفقهيّة لهذا البحث نفس حرمة الضدّ وعدمها، ولا إشكال أيضاً.

وثانياً: أنّنا نقول: إنّ ثمرة هذا البحث هي: أنّه لو كان الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضدّه، إذن لا يكون الضدّ واجباً بنحو الأمر الترتّبي؛ لأنّ الوجوب لا يجتمع مع الحرمة ولو كانت غيريّة، ولو لم يكن الأمر به مستلزماً للنهي عن ضدّه صحّ تعلّق الأمر الترتّبي بالضدّ المهمّ، أي: الأمر به على تقدير مخالفة الأهمّ، وهذا استنباط لحكم كلّيّ إلهيّ، وهو وجوب الضدّ ترتّباً أو عدمه.

 

تعريف المحقّق العراقيّ لعلم الاُصول:

وأمّا تعريف المحقّق العراقيّ(قدس سره) ( وهو(قدس سره) ركّز على دفع المؤاخذة الاُولى ) فقد ذكر(رحمه الله): أنّ القاعدة الاُصوليّة تكون قاعدة دخيلة في الاستنباط بنحو تكون نفس القاعدة حينما يستنبط منها حكم فقهيّ متعرّضةً للحكم أو لكيفيّة تعلّقه بموضوعه وناظرة إلى ذلك، فمثلاً قاعدة دلالة الأمر على الوجوب مفادها ابتداءً هو إثبات الوجوب، في حين أنّ وثاقة الراوي أو ظهور كلمة « الصعيد » لا يتعرّضان ابتداءً للحكم وإن كنّا نستفيد منهما في مقام استنباط الحكم، ولذا لو غضضنا النظر عن عالم الأحكام لا يبقى معنىً لقولنا: ( الأمر يدلّ على الوجوب )؛ إذ الوجوب هو حكم من


(1) ولنا أن نقول: إنّه يكفي في اُصوليّة القاعدة استنباط الحكم الكلّيّ الإلهيّ منها ولو من دون تنجيز أو تعذير، وقاعدة ( الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه، أو لا يقتضي ) قاعدة يستنبط منها حرمة الضدّ أو عدم حرمته، وهي حكم كلّيّ إلهيّ. أو يقال: يكفي في اُصوليّتها انتاجها على بعض المبانيّ، وهذه القاعدة تنتج على مبنى تخيّل أنّ النهي الغيريّ ينجّز ويعذّر.

28

الأحكام، ولكن يبقى معنىً لقولنا: ( الصعيد بمعنى وجه الأرض ) أو ( زرارة ثقة )(1).

ثُمّ إنّه قد يقال: إنّ هذا التعريف لا يشمل مثل بحث المفاهيم، أو المطلق والمقيّد، أو العموم والخصوص، لكنّه هو(قدس سره) تعرّض في المقالات لدفع هذا التوهّم ببيان: أنّ هذه الأبحاث تتعرّض لكيفيّة تعلّق الحكم بالموضوع(2)، وفرّق بين هذه الأبحاث وبحث المشتقّ، حيث إنّ بحث المشتقّ لا يندرج تحت التعريف، ولذا لا يكون من الأبحاث الاُصوليّة(3)، وحيث إنّ عبارته في المقالات مغلقة فكأنّ بعضهم لم يلتفت إلى المقصود، ولهذا أشكل عليه بأنّنا لم نفهم الفرق بين هذه الأبحاث وبحث المشتقّ الذي هو خارج عن علم الاُصول، فإنّ بحث المشتقّ أيضاً يتكلّم عن حدود الموضوع هل هو خصوص المتلبس فعلاً بالمبدأ أو أعمّ من ذلك مثلاً؟

وتوضيح مقصوده(قدس سره) هو: أنّ القاعدة الاُصوليّة حينما يكون لها تأثير في الحكم تكون متعرّضة بالمباشرة للحكم أو لخصوصيّة في الحكم، ومبحث دلالة الشرط على المفهوم مثلاً يكون له تأثير في الحكم حينما يكون الجزاء حكماً من الأحكام، وتكون القاعدة حينئذ متعرّضة لخصوصيّة في الحكم؛ إذ تتعرّض لكون الجزاء ـ وهو الحكم حسب الفرض ـ مقيّداً بحدود دائرة الشرط، وأنّه ينتفي بانتفاء الشرط، وهذا بخلاف البحث عن معنىً أفراديّ ككلمة « الصعيد »، فإنّه لا يتكلّم عن خصوصيّة في الحكم، وإنّما يتكلّم عن المعنى الإفراديّ للصعيد الذي لا يكون حكماً في وقت من الأوقات وإن كان البحث عنه دخيلاً في استنباط الحكم أحياناً، وأيضاً بحث الإطلاق حينما يؤثّر في الحكم، أي: حينما يُجرى


(1) المقالات، ج 1، ص 54، بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.

(2) نفس المصدر والصفحة.

(3) نفس المصدر، ص 55.

29

الإطلاق في موضوع حكم من الأحكام يكون مفاده هو: أنّ الحكم ثابت على طبيعي الموضوع بلا قيد، وهذه خصوصيّة من خصوصيّات الحكم، وكذلك بحث العموم، حيث إنّ مفاده حينما يتعلّق الحكم بالعامّ هو أنّ الحكم ثابت لتمام أفراد العامّ. وتمام النكتة هو: أنّ هذه الأبحاث لا تتكلّم عن تفسير معنىً أفراديّ ككلمة « الصعيد » وإنّما تتكلّم عن سعة أو ضيق ونحو ذلك في معنىً تركيبيّ قد يكون ذلك المعنى حكماً من الأحكام، وأمّا بحث المشتقّ فهو وإن كان يتكلّم عن حدود الموضوع، لكنّه يتكلّم عن حدوده بما هو معنىً أفراديّ، لا عن حدوده بما هو موضوع حتّى يرجع إلى البحث عن خصوصيّة في الحكم وكيفيّة تعلّقه بموضوعه، ففرق كبير بينه وبين هذه الأبحاث.

نعم، يبقى شيء واحد وهو: أنّ تطبيق التعريف على بحث العموم كما صنعه المحقّق العراقيّ(قدس سره) مبنيّ على كون أداة العموم مفادها شمول الحكم واستيعابه لتمام أفراد الموضوع، فهو مشى هنا على هذا المبنى، في حين أنّ هذا المبنى ليس هو المبنى الصحيح، ولا هو مختاره في محلّه، والصحيح الذي هو مختاره في محلّه هو: أنّ أداة العموم تجمع أفراد مدخوله تحت المدخول، وتعطي معنىً شموليّاً أفراديّاً قبل فرض طروء الحكم على الموضوع، إذن فلا يكون العموم متعرّضاً بالمباشرة لخصوصيّة من خصوصيّات الحكم، كما لا يكون متعرّضاً للحكم(1).

 


(1) المحقّق العراقيّ(رحمه الله) يرى ـ حسب ما هو وارد في المقالات، ج 1، المقالة الثلاثون، ص 429 ـ 430 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ ـ أنّ أداة العموم تفيد استيعاب أفراد المدخول، وأنّ البدليّة والشموليّة تكون نتيجة كون المدخول نكرة أو جنساً، وأنّ الاستغراقيّة والمجموعيّة في الجنس تكون بكيفيّة تعلّق الحكم بالأفراد من

30

وعلى أيّ حال، يرد على تعريف المحقّق العراقيّ(قدس سره):

أوّلاً: أنّه توجد هناك قواعد استدلاليّة للفقه تحمل نفس النكتة التي تعرّض لها المحقّق العراقيّ، وهي كون القاعدة متعرّضة للحكم مباشرة، فلو كانت هذه النكتة هي الميزان الكامل للتمييز بين المسألة الاُصوليّة وغيرها، لزم دخول تلك القواعد في علم الاُصول، إذن فلا بدّ من التفتيش عن نكتة اُخرى لإخراج هذه القواعد عن التعريف، وقد تكون تلك النكتة الاُخرى وحدها وافية بتمييز علم الاُصول عن غيره، مغنية عن النكتة التي ذكرها المحقّق العراقيّ(قدس سره)، كما سوف نبيّن فيما يأتي.

ونحن هنا نذكر مثالين للقواعد الاستدلاليّة للفقه الداخلة في تعريف المحقّق العراقيّ(رحمه الله) للاُصول:

1 ـ قيل: إنّ دليل إمضاء البيع يدلّ على ضمان المثل أو القيمة حينما لا يتمّ ضمان المسمّى لفقدان بعض شروط صحّة البيع، وذلك بدعوى: أنّ ذلك الدليل يدلّ على أصل الضمان وعلى كون الضمان بالمسمّى، فإذا انتفى ضمان المسمّى بدليل، بقي أصل الضمان ثابتاً على حاله(1).

 


كونها بنحو قائم بكلّ واحد من المصاديق مستقلاّ أو قائم بالمجموع. إذن فمن حقّه أن يقول في المقام: إنّه في باب العموم نفهم خصوصيّة الحكم من الوضع التركيبيّ من الكلام، فينطبق التعريف على باب العموم كما هو منطبق على باب الإطلاق.

على أنّه يكفي إدخالا لبحث في علم الاُصول انطباق التعريف عليه بلحاظ بعض المباني، وعلى مبنى كون العموم يدلّ على شمول الحكم لتمام أفراد الموضوع يكون العموم مبيّناً لكيفيّة تعلّق الحكم بالأفراد، وهي الكيفيّة الشموليّة.

(1) كأنّه(رحمه الله) عدل عن النقض بقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» إلى هذا البيان حذراً عن أن يجاب بأنّ هذا ليس استدلالا على فقهيّ، وإنّما هذا هو الحكم الفقهيّ ابتداءً.

31

وهذه القاعدة شبيهة تماماً بما قاله بعضهم في علم الاُصول من أنّه إذا دلّ الأمر على وجوب شيء ثُمّ نسخ الوجوب بقي الجواز، بتقريب: أنّ الأمر يدلّ على الجواز بالمعنى الأعمّ، وعلى كون ذلك الجواز في ضمن الوجوب، فإذا انتفى الوجوب بالنسخ بقي أصل الجواز ثابتاً على حاله. وكما أنّ هذه القاعدة تتعرّض بالمباشرة للحكم وهو الجواز، كذلك تلك القاعدة الفقهيّة تتعرّض بالمباشرة للحكم وهو الضمان.

2 ـ يقال في فقه الطهارة: إنّه حينما يدلّ دليل على مطهّريّة شيء فهو يدلّ بالملازمة على طهارة ذلك الشيء، ولهذا قالوا: إنّ ما دلّ من الكتاب على مطهّريّة الماء يدلّ أيضاً على طهارته، وهذه القاعدة شبيهة تماماً بما يقال في علم الاُصول من أنّ الأمر بالشيء يدلّ بالملازمة على وجوب مقدّمته، أو النهي عن ضدّه، وكما أنّ هذه القاعدة الاُصوليّة تدلّ بالمباشرة على الحكم ـ أي: ناظرة إلى الحكم ـ وهو وجوب المقدّمة أو حرمة الضدّ ـ بناءً على أنّ وجوب المقدّمة أو حرمة الضدّ يعتبر حكماً فقهيّاً ـ كذلك تلك القاعدة الفقهيّة تدلّ بالمباشرة على الحكم، وهو الطهارة.

وثانياً: أنّه ذهب المشهور ـ في قاعدة «أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه» ـ إلى أنّ الثمرة الفقهيّة لهذا البحث هي صحّة الضدّ العبادة وفسادها، ومبنيّاً على هذا الرأي المشهور نقول: إنّ هذه القاعدة لا تحمل الميزة التي يراها المحقّق العراقيّ(قدس سره) ميزاناً لكون المسألة اُصوليّة، وهي التعرّض للحكم بالمباشرة، فإنّ هذه القاعدة لا تتعرّض بالمباشرة لفساد العبادة أو صحّتها، وإنّما هذه القاعدة تتعرّض ( بناءً على الاقتضاء ) لإثبات النهي في العبادة، ثُمّ نرجع بعد ذلك إلى قاعدة «أنّ النهي في العبادة يقتضي البطلان»، فهذه القاعدة الثانية هي التي تتعرّض بالمباشرة للحكم، وهو البطلان. كما أنّ القاعدة الاُولى ـ بناءً على عدم الاقتضاء ـ إنّما

32

تتعرّض بالمباشرة لعدم النهي عن الضدّ، ثُمّ نرجع إلى إطلاق حكم الضدّ ونثبت به صحّته، وليست القاعدة الاُولى متعرّضة بالمباشرة لصحّته.

وثالثاً: أنّ القواعد المنطقيّة للاستنتاج تحمل نفس الميزة التي يراها المحقّق العراقيّ(قدس سره) ميزاناً لكون المسألة اُصوليّة، فإنّه حينما تكون النتيجة حكماً شرعيّاً تكون تلك القاعدة متعرّضة بالمباشرة للحكم، وتوضيح ذلك: أنّ الفقيه حينما يقول مثلاً: ( هذا ما دلّ على وجوبه خبر الثقة، وكلّما دلّ على وجوبه خبر الثقة فهو واجب تعبّداً، فهذا واجب تعبّداً )، فالقاعدة المنطقيّة الدخيلة في هذا الاستنتاج هي قاعدة الشكل الأوّل من القياس، وهي: أنّه متى ما كان الأصغر داخلاً في الأوسط، والأوسط داخلاً في الأكبر، فالأصغر داخل في الأكبر، والأكبر ثابت للأصغر، إذن فهذه القاعدة تتعرّض بالمباشرة لثبوت الأكبر للأصغر، فحينما يكون الأكبر حكماً من الأحكام ـ كما في هذا المثال ـ فقد تعرّضت القاعدة بالمباشرة لثبوت الحكم على الأصغر.

فهذه كلّها نقوض على تعريف المحقّق العراقيّ(قدس سره) نحتاج لدفعها إلى إبراز نكتة اُخرى، ومعه قد تغنينا تلك النكتة عن النكتة التي يتبنّاها المحقّق العراقيّ(رحمه الله).

ورابعاً: أنّنا نسأل: ما هو المراد من كون القاعدة الاُصوليّة ناظرة إلى الحكم الشرعيّ؟ هل المراد من ذلك كون القاعدة ناظرة إلى دلالة لفظيّة على الحكم من قبيل قاعدة « أنّ الأمر يدلّ على الوجوب »، أو المراد منه هو مطلق كون المحمول في القاعدة حكماً من الأحكام عند تأثيرها في الاستنباط؟ فإن كان المقصود هو الأوّل، خرج من علم الاُصول ما يكون من قبيل أبحاث الملازمات، كالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته، أو حرمة ضدّه، فإنّها ليست دلالات لفظيّة، وإن كان المقصود هو الثاني دخل في علم الاُصول وثاقة الراوي، فإنّ معنى كون

33

زرارة ثقة مثلاً هو: أنّ نقل زرارة له دلالة ظنّيّة على صحّة ما ينقله، وأنّه يصدق غالباً في نقله، فحينما يكون ما ينقله حكماً من الأحكام فوثاقته تدلّ على أنّه صادق في هذا الحكم بمقدار سبعين بالمائة مثلاً، فهذا من قبيل قولنا: إنّ الأمر ظاهر في الوجوب، أي: يكشف عن الوجوب بمقدار سبعين بالمائة مثلاً، فكما أنّ قاعدة « ظهور الأمر في الوجوب » قاعدة اُصوليّة كذلك قاعدة « أنّ زرارة يصدق غالباً في نقله » تكون قاعدة اُصوليّة. نعم، الصدق الغالبي لزرارة لا يكفي لإثبات الحكم ظاهراً على المكلّف ما لم تضمّ إليه قاعدة حجّيّة خبر الثقة، كما أنّ ظهور الأمر في الوجوب لا يكفي لإثبات الوجوب ظاهراً على المكلّف ما لم تضمّ إليه قاعدة حجّيّة الظهور.

بل بالإمكان أن يدّعى: أنّ علم الاُصول ـ بناءً على هذا التعريف ـ يتّسع بمقدار كلّ ما يوجد في العالَم من قواعد دخيلة في الاستنباط، فمثلاً بالإمكان صياغة قاعدة اُصوليّة توازي قاعدة دلالة الصعيد على التراب أو على وجه الأرض، وذلك بأن يقال: ( متى ما كان الصعيد موضوعاً لحكم ثبت ذلك الحكم على التراب أو على وجه الأرض ) وهذا معناه: أنّ الفرق بين القواعد اللغويّة، أو أيّ قاعدة اُخرى دخيلة في الاستنباط وبين القواعد الاُصوليّة إنّما هو فرق راجع إلى صياغة الكلام من دون وجود فارق جوهريّ، بينما ليس الأمر هكذا.

 

التعريف المختار لعلم الاُصول:

وأمّا التعريف المختار لعلم الاُصول فهو أن يقال: إنّ علم الاُصول هو العلم بالقواعد المشتركة في القياس الاستدلاليّ الفقهيّ. وتوضيح ذلك: أنّ نسبة علم الاُصول إلى علم الفقه كنسبة علم المنطق إلى سائر العلوم، فعلم المنطق يتناول

34

صور الاستدلال المشتركة بين العلوم، وعلم الاُصول يتناول صور الاستدلال المشتركة في الفقه، وبالتحليل ترجع القيود التي نأخذها في تعريف علم الاُصول إلى قيود ثلاثة:

القيد الأوّل: أنّ القواعد الاُصوليّة لا تؤخذ فيها مادّة معيّنة من موادّ الفقه، أعني: فعلاً معيناً من أفعال المكلّفين كالصلاة والصوم والزكاة وغير ذلك(1)، أي: أنّها تكون لا بشرط تجاه هذه الموادّ، كما أنّ القواعد المنطقيّة لا تُؤخذ فيها مادّة معيّنة من موادّ العلوم، فهي لا تتكلّم عن الموادّ الفيزيائيّة، ولا الأعداد الرياضيّة، ولا الأدوية الطبّيّة ولا غير ذلك، وإنّما تتناول صورة الاستدلال التي تسري في كلّ هذه العلوم. وبهذا القيد تخرج القواعد اللغويّة البحتة من قبيل دلالة كلمة « صعيد » على التراب أو مطلق وجه الأرض، فإنّها إنّما تفيد في استنباط حكم فعل مضاف إلى التراب أو وجه الأرض، ولا تكون لا بشرط من حيث خصوصيّة الأفعال، وتخرج مسائل علم الحديث، أعني: آحاد الروايات، فإنّ كلّ رواية منها تبيّن حكماً مختصّاً بفعل خاصّ من الأفعال، وتخرج أيضاً القواعد الاستدلاليّة الفقهيّة التي تكون من قبيل قاعدة: إنّ دليل صحّة البيع يدلّ على الضمان مثلاً، فإنّها مختصّة بمادّة معيّنة من الموادّ كمادّة البيع، كما أنّ القواعد الفقهيّة(2) التي هي من


(1) ما أفاده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحث الاستصحاب من الدورة السابقة، أي: الدورة الاُولى أدقّ تعبيراً من التعبير الوارد هنا، وهو: أنّ موادّ الفقه التي لا تؤخذ في القواعد الاُصوليّة هي كلّ عنوان أوّليّ أو ثانويّ متعلق لحكم واقعيّ كالصعيد مثلا الذي هو عنوان أوّليّ، وكالضرر الذي هو عنوان ثانوي.

راجع كتابنا في تقرير أبحاثه(رحمه الله) الجزء الخامس من القسم الثاني، ص 25 بحسب الطبعة الاُولى وفق مطبعة وتجليد إسماعيليان.

(2) وهي خارجة بالقيد الثاني أيضاً.

35

قبيل ( ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ) مختصّة بمادّة معيّنة من الموادّ.

وهذا القيد جامع لجميع المسائل الاُصوليّة، فهي جميعاً لا تتقيّد بمادّة دون اُخرى، سواء كانت من مباحث الحجج والاُصول كحجّيّة خبر الواحد أو الاستصحاب، فإنّها ـ كما ترى ـ غير مشروطة بمادّة معيّنة، أو كانت من مباحث الاستلزامات والامتناعات العقليّة، فإنّها تنفي حكماً أو تثبت حكماً من دون تقيّد ببعض الأفعال دون بعض، وذلك من قبيل الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته، أو كانت من مباحث صغريات الظهور كظهور الأمر في الوجوب، والنهي في الحرمة، فإنّها ـ كما ترى ـ غير مختصّة بمادّة دون اُخرى، فالأمر في ضمن أيّ مادّة كان يدلّ على الوجوب، والنهي في ضمن أيّ مادّة كان يدلّ على الحرمة. نعم، دلالة الأمر على الوجوب مختصّة بحكم من الأحكام وهو الوجوب، ودلالة النهي على الحرمة أيضاً مختصّة بحكم من الأحكام وهي الحرمة، لكنّنا نقصد بعدم تقيّد القاعدة الاُصوليّة بمادّة دون مادّة عدم تقيّدها ببعض موادّ الأفعال دون بعض، لا عدم تقيّدها ببعض الأحكام دون بعض. نعم، دلالة النهي على الفساد مثلاً لا تجري في كلّ الأفعال؛ إذ هي تختصّ بالأفعال التي يتصوّر فيها الصحّة والفساد،لكنّ هذا اختصاص في طول اختصاص الحكم، أي: بما أنّ الفساد لا يتصوّر إلاّ في بعض الأفعال فالقاعدة اختصّت ببعض الأفعال، فالقاعدة بما هي لا تختصّ بفعل معيّن، وإنّما تختصّ بحكم معيّن وهو الفساد، فتسري فيما أمكن سريان الصحّة والفساد فيه.

وبهذا القيد تخرج مباحث الصحيح والأعمّ، ومباحث المشتقّ من علم الاُصول، حيث إنّها مختصّة بمادّة معيّنة من الموادّ، فبحث المشتقّ إنّما يتدخّل في استنباط حكم فعل مضاف إلى مشتقّ من المشتقّات، كوجوب إكرام العالم لا كوجوب الصلاة مثلاً، وبحث الصحيح والأعمّ إنّما يتدخّل في استنباط حكم

36

مضاف إلى فعل يكون فيه الصحيح والأعمّ.

ومن امتيازات تعريفنا على التعاريف الماضية أنّه كانت تُؤخذ في التعاريف الماضية قيود لإخراج ما ليس من القواعد الاُصوليّة، ولا مبرّر لتلك القيود عدا أنّ الاُصوليّين عملا قد أخرجوا تلك القواعد عن علم الاُصول من دون أن تبرز نكتة ثبوتيّة لهذا العمل، فيقال مثلاً: إنّ القاعدة الاُصوليّة هي التي تكفي وحدها في مقام الاستنباط، أو هي التي تكون ناظرة إلى الحكم. وقيد الوحدة أو قيد النظر إنّما هو قيد انتزع من الواقع الخارجيّ لعلم الاُصول المدوّن في الكتب من دون أن توجد نكتة من أوّل الأمر في جعل علم الاُصول هي خصوص القواعد التي تكفي وحدها في الاستنباط، أو خصوص القواعد التي تنظر إلى الحكم، فهذه القيود هي تصحّح عمل الاُصوليّين من دون أن توجّهها، ولكن التعريف الذي ذكرناه يصحّح عمل الاُصوليّين ويوجّهه في نفس الوقت؛ لأنّ جميع القيود المأخوذة فيه مشتملة على مناسبة ثبوتيّة ومبرّر واقعيّ لأخذها بعين الاعتبار في علم الاُصول، بحيث لو اُعطي بيدنا تدوين علم الاُصول وتأسيسه من أصله لما أسّسنا ودوّنّا إلاّ بنفس هذا الترتيب المشتمل على هذه القيود.

فبالنسبة للقيد الأوّل وهو كون القاعدة لا بشرط من حيث الموادّ ترى المناسبة واضحة في أخذه بعين الاعتبار، فإنّ علم الاُصول نشأ في أحضان علم الفقه، وتولّد بعد علم الفقه تأريخيّاً تلبية للحاجات الفنّيّة لعلم الفقه، حيث إنّ علم الفقه احتاج في كثير من الأحيان إلى قواعد واستدلالات، وتلك القواعد والاستدلالات بعضها كانت مقيّدة بمادّة معيّنة من قبيل قاعدة ما يضمن المقيّدة بالعقود مثلاً، ومن الواضح: أنّ مثل هذه القاعدة يناسب ذكرها في مبحث تلك المادّة، وبعضها كانت عامّة وغير مقيّدة بمادّة دون مادّة، فكان من المناسب

37

أفرادها بالبحث، فاُفردت تلك القواعد بالبحث، وسمّيت بعلم الاُصول.

القيد الثاني: أن تكون تلك القاعدة: إمّا غير مقيّدة بحكم معيّن من قبيلحجّيّة خبر الثقة المنسجمة مع تمام الأحكام الفقهيّة، أو تكون مقيّدة بحكمسار في أبواب كثيرة من أبواب الفقه من قبيل دلالة الأمر على الوجوب، والنهي على الحرمة، واقتضاء النهي للفساد ونحو ذلك، فإنّ هذه القواعد وإن اختصّت بحكم معيّن من قبيل الوجوب أو الحرمة أو الفساد، إلاّ أنّ هذه الأحكام ـ كما ترى ـ سيّالة في سائر أبواب الفقه. وبهذا يخرج عن علم الاُصول ما كان من قبيل قاعدة ( أنّ ما دلّ على مطهّريّة شيء فقد دلّ على طهارته )، فإنّ هذه القاعدةوإن لم تكن مقيّدة بفعل من الأفعال، إلاّ أنّها مقيّدة بحكم معيّن غير سيّال في أبواب الفقه وهو الطهارة فمن الواضح: أنّ مثل هذه القاعدة يناسب ذكرها في ذلك الباب الفقهيّ المعيّن، لا إفرادها وجعلها في ضمن القواعد الاُصوليّة المستقلّة عن علم الفقه.

القيد الثالث: أن تكون تلك القاعدة الداخلة في القياس الاستدلاليّ للفقه داخلة في القياس الأخير للاستنباط، وجميع القواعد الاُصوليّة من هذا القبيل، فمبحث الملازمات والامتناعات يدخل في القياس المباشر لاستنباط الحكم نفياً أو إثباتاً، وكذلك مباحث الحجج والاُصول، أو مباحث صغريات الظهور، غاية الأمر أنّ بعض هذه المباحث يدخل في كبرى القياس المباشر للاستنباط من قبيل حجّيّة خبر الثقة، فيقال مثلاً: هذا الحكم ما أخبر به الثقة، وكلّما أخبر به الثقة فهو ثابت تعبّداً، فهذا الحكم ثابت تعبّداً، وبعضها يدخل في صغرى القياس المباشر للاستنباط من قبيل مباحث صغريات الظهور، فيقال مثلاً: هذا الأمر ظاهر في الوجوب، والظهور يثبت الحكم تعبّداً، إذن فالوجوب ثابت تعبّداً.

38

والمناسبة في أخذ هذا القيد في التعريف أيضاً واضحة، فإنّ قواعد العلم إذا كانت مستنبطة من أقيسة مركّبة من مقدّمات، وتلك المقدّمات أيضاً بالتحليل كانت ترجع إلى مقدّمات اُخرى فوقها... وهكذا، فهذه المقدّمات بجميع طبقاتها وإن كانت مقدّمات لذاك العلم، ولكن المقدّمات الفوقيّة مقتضى طبعها أن يعقل دخلها في دائرة أوسع من ذلك العلم، فالمناسب بحسب الذوق العلميّ أن تجعل علماً مستقلاًّ غير مرتبط بعلم المقدّمات المباشرة، فمثلاً علم الاُصول هو علم بمقدّمات دخيلة في القياس المباشر للاستنباط، ولكن حينما تحلّل تلك المقدّمات نرى أنّها ترجع أيضاً إلى مقدّمات اُخرى فوقها وهي المقدّمات المنطقيّة، فلولا القاعدة المنطقيّة القائلة: « إذا كان الأصغر داخلاً في الأوسط الداخل في الأكبر، كان ذلك الأصغر داخلاً في الأكبر » لما أمكن الاستنباط من المقدّمات الاُصوليّة؛ لعدم التأكّد من صحّة صورة القياس المركّب من مقدّمات اُصوليّة، وحينئذ ترى من المناسب أن يكون علم الاُصول منطقاً لعلم الفقه، وأن يكون علم المنطق منطقاً لدائرة أوسع وهي مطلق العلوم، فإنّه يشتمل على مقدّمات فوقيّة ودخيلة في علوم اُخرى، وليس من المناسب بحسب الذوق العلميّ إدخال المقدّمات بجميع طبقاتها في علم واحد.

وقد اتّضح بما ذكرناه نكتة خروج علم الرجال من علم الاُصول أيضاً، فإنّ وثاقة زرارة ليست دخيلة في القياس المباشر للاستنباط، وإنّما هي من مقدّمات قياس سابق، حيث يقال أوّلاً: «هذا خبر زرارة، وزرارة ثقة، فهذا خبر ثقة»، وبعد ذلك يقال: «هذا ما أخبر به الثقة، وكلّما أخبر به الثقة فهو ثابت تعبّداً، فهذا ثابت تعبّداً»، فالقياس الأوّل بكلتا مقدّمتَيه خارج عن علم الاُصول، وأمّا القياس الثاني وهو القياس المباشر، فصغراه خارجة عن علم الاُصول بالقيد الأوّل؛ لتقيّده بمادّة

39

معيّنة ورد فيها ذلك الخبر، وكبراه داخلة في علم الاُصول(1).

 


(1) قد يقال ـ كما مضى في النقاش مع المحقّق العراقيّ(رحمه الله) ـ: إنّه لا ينبغي أن يصاغ التعريف بصياغة تؤدّي إلى كون الفرق بين القواعد الاُصوليّة والقواعد الاُخرى الدخيلة في الاستنباط فرقاً في الصياغة، لا فرقاً جوهريّاً، بحيث كان بالإمكان تغيير صياغة تلك القواعد الاُخرى إلى ما يدخلها في علم الاُصول، فكذلك نقول فيما نحن فيه: إنّ خروج مسائل علم الرجال عن الاُصول أصبح أمراً صياغيّاً بحتاً، فلو بدّلنا صياغة المسألة الرجاليّة التي تقول: « زرارة ثقة » إلى قولنا: « كلّ خبر زرارة خبر ثقة » أصبحت هذه المسألة داخلة في علم الاُصول؛ إذ بالإمكان أن نشير إلى خبر من أخبار زرارة دالّ على أحد الأحكام ونقول: «هذا الخبر خبر ثقة، وخبر الثقة يثبت الحكم تعبّداً، إذن فهذا الحكم ثابت تعبّداً»، فقد أصبح كون خبر زرارة خبر ثقة صغرى في القياس المباشر للاستنباط، وهذا سنخ ما مضى من اُستاذنا الشهيد(قدس سره) في مقام توضيح كون دلالة الأمر على الوجوب مسألة اُصوليّة من أنّنا نقول: «هذا الأمر ظاهر في الوجوب، والظهور يثبت الحكم تعبّداً، إذن فالوجوب ثابت تعبّداً».

فإن قلت: إنّ قولك: «هذا الخبر خبر ثقة» خاصّ بمادّة من الموادّ، وهي الفعل الذي يحكي عنه هذا الخبر، فهذا خارج بالقيد الأوّل، قلنا: كذلك قولك: «هذا الأمر ظاهر في الوجوب» خاصّ بالفعل الذي اُمر به في هذا الأمر، فإن جعلنا وقوع تطبيق من تطبيقات « الأمر ظاهر في الوجوب » صغرى للقياس المباشر كافياً في صدق عنوان: أنّ ظهور الأمر في الوجوب الذي لا يختصّ بمادّة من الموادّ وقع صغرى للقياس المباشر، فلنقل كذلك في المقام: إنّ وقوع تطبيق من تطبيقات « كلّ خبر زرارة خبر ثقة » صغرى للقياس المباشر كاف في صدق عنوان: أنّ كون خبر زرارة خبر ثقة الذي لا يختصّ بمادّة من الموادّ وقع صغرى للقياس المباشر.

ويمكن الجواب على هذا الإشكال بأن يقال: إنّ قولنا: «هذا الخبر خبر ثقة» وإن كان تطبيقاً لقولنا: «كلّ خبر زرارة خبر ثقة»، كما أنّ قولنا: «هذا الأمر ظاهر في الوجوب» تطبيق لقولنا: «الأمر ظاهر في الوجوب»، ولكن يوجد فرق جوهريّ بين التطبيقين، وهو:

40


أنّ التطبيق في الثاني يكون بمعنى العينيّة بين القضيّتين موضوعاً ومحمولاً، وأنّه لا فرق بينهما إلاّ في الكلّيّة والجزئيّة، وأمّا التطبيق في الأوّل فليس بهذا المعنى، وإنّما هو بمعنى الملازمة، أي: أنّ هذا الخبر مضاف إلى زرارة والوثاقة أيضاً مضافة إلى زرارة، فأصبح المضافان متلاقيين بلحاظ وحدة المضاف إليه، فصار هذا الخبر خبر ثقة، وبكلمة اُخرى: أنّ وثاقة زرارة حيثيّة تعليليّة لكون هذا الخبر خبر ثقة، ولكن ظهور الأمر في الوجوب هو عين ظهور هذا الأمر في الوجوب عينيّة الكلّيّ للمصداق، وليس مجرّد حيثيّة تعليليّة.

نعم، ذات كون هذا الخبر خبر ثقة قد أصبح دخيلاً في القياس المباشر، لكنّ هذا لا يشفع لا لكون ذلك داخلاً في علم الاُصول، ولا لكون قولنا: «كلّ خبر زرارة خبر ثقة» أو قولنا: «زرارة ثقة» داخلاً في علم الاُصول. أمّا الأوّل فلخروجه بالقيد الأوّل؛ لأنّه مختصّ بمادّة الفعل الذي يحكي ذاك الخبر عن حكمه، وأمّا الثاني فلأنّه ليس إلاّ حيثيّة تعليليّة لما دخل في القياس المباشر، لا عينيّة من باب العينيّة الثابتة بين الكلّيّ والمصداق.

ولكنّ الصحيح: أنّنا لو قسنا جملة « هذا الخبر خبر ثقة » إلى جملة « زرارة ثقة » صحّ القول بأنّ صدق الجملة الثانية مجرّد حيثيّة تعليليّة لصدق الجملة الاُولى من دون أن تكون منطبقة عليها انطباق الكلّيّ على المصداق، ولكنّنا لو قسناها إلى جملة « خبر زرارة خبر ثقة » فهذه الجملة عين الجملة الاُولى عينيّة الكلّيّ والمصداق وليست مجرّد حيثيّة تعليليّة لها، فصحيح: أنّنا حينما نجعل الوثاقة صفة لزرارة فارتباطها بهذا الخبر الذي هو خبر زرارة يكون بواسطة اتحاد طرف النسبتين، وهو زرارة، ويكون هذا حيثيّة تعليليّة لتوصيف هذا الخبر بالوثاقة من دون عينيّة بين الجملتين من سنخ عينيّة القضيّة الكلّيّة والقضيّة الجزئيّة التي تكون مصداقاً لها، ولكن حينما نصف خبر زرارة بكونه خبر ثقة، فانطباق هذا الوصف على هذا الخبر الجزئيّ إنّما يكون لأجل كون هذا الخبر مصداقاً لموصوف هذا الوصف، ومتّحداً معه اتّحاد المصداق مع الكلّيّ، وذلك تماماً من قبيل اتّحاد

41


هذا الأمر مع كلّيّ الأمر الذي وصف بأنّه ظاهر في الوجوب، وهذا معنى ما قلناه من أنّه رجع إذن الفرق بين القواعد الاُصوليّة ومسائل علم الرجال إلى الفرق في الصياغة، فلو صغنا المسألة بصياغة « زرارة ثقة » لم تدخل في علم الاُصول، ولو صغناها بصياغة « خبر زرارة خبر ثقة » دخلت في علم الاُصول.

وقد يقال: إنّ نكتة دخول مسألة من المسائل في علم من العلوم يجب أن تكون ثابتة في كلّ مسائل ذاك العلم، وإلاّ لجاز إدخال كلّ مسألة في ذاك العلم، ولكن لا يجب عدم انطباقها على مسائل علم آخر؛ وذلك لأنّه قد تكون مسائل العلم الآخر رغم اشتمالها على نفس النكتة اُفردت بعلم آخر على أساس جامع آخر مهمّ وواسع المصاديق غير موجود في باقي مسائل العلم الأوّل، فاقتضت المناسبة الذوقيّة جمع تلك المصاديق تحت ذاك الجامع الآخر، وأفرادها عن باقي مسائل العلم الأوّل، وإخراجها عن ذاك العلم، والمسائل الرجاليّة بالقياس إلى المسائل الاُصوليّة من هذا القبيل، فهي يجمعها البحث عن أحوال الرجال، وهو بحث واسع الانطباق على المسائل الكثيرة متميّز عن باقي مسائل علم الاُصول ممّا أوجب اقتضاء المناسبة أفرادها في تصنيف العلوم، فلا محيص عن أن يضاف إلى تعريف ذاك العلم قيد الخروج عن القاسم المشترك الموجود في العلم الآخر.

هذا، ولاُستاذنا الشهيد(قدس سره) بيان آخر لإخراج مسائل علم الرجال غير ما ذكره هنا، وهو ما تعرّض له في أوّل بحث خبر الواحد، ونحن قد حذفناه في تقريرنا المطبوع من هناك ونذكره هنا، وهو: أنّ علم الاُصول وإن كان علماً بالقواعد الفارغة عن الموادّ الفقهيّة، والتي هي موجّهة عامّة صوريّة بحت لعمليّة الاستنباط، ومسائل علم الرجال تحمل هذه الصفة، ولكنّها مع ذلك خارجة عن علم الاُصول، فإنّ ما يبحث عنه فيه إنّما هي الموجّهات الصوريّة التي ترجع إلى الشارع، أي: تكون شأناً من شؤون الشارع: إمّا بأن يكون حكماً مجعولاً للشارع كالحكم بحجّيّة خبر الواحد؛ إذ هو حكم مجعول له تأسيساً أو إمضاءً،

42


وكذلك سائر الأحكام التنجيزيّة والتعذيريّة، أو بأن يكون حالة عامّة في الشريعة وإن لم يكن حكماً له، كأن يقال بأنّ الشارع إذا أمر بشيء أمر بمقدّمته، فإنّه وإن كان قد يقام برهان عقليّ على ذلك، لكنّه مع ذلك حالة ترجع إلى الشارع، أو بأن يكون عبارة عن بناء الشارع والتزاماته في مقام المحاورة والمخاطبة كما في الظهورات، والموجّه الحقيقيّ في بحث ظهور صيغة « افعل » في الوجوب إنّما هو ظهور صيغة « افعل » في الوجوب في لسان الشارع لا في لسان العرف، غاية الأمر أنّنا إنّما نتكلّم عن الظهور العرفيّ باعتبار مقدّمة مطويّة، وهي جريان الشارع على طبق الطريقة العرفيّة، ولهذا ترى أنّه في المورد الذي يحتمل فيه وجود مصطلح خاصّ للشرع يقع البحث عن ذلك في الاُصول، ولذا قال البعض في بحثه الاُصوليّ في صيغة « افعل »: إنّها وإن كانت حقيقة في الوجوب لغةً، لكنّها نقلت شرعاً إلى الاستحباب، أو إلى جامع الوجوب والاستحباب.

والخلاصة: أنّ البحث الاُصوليّ يكون بحثاً عمّا يرجع للشارع، ويكون شأناً من شؤونه، فإنّ علم الاُصول فرض علماً شرعيّاً مربوطاً بالشارع، فالموجّهات العامّة الاُصوليّة كلّها تعود إلى شأن من شؤون الشارع من حكم مجعول له، أو حالة تشريعيّة عامّة فيه، أو بناء عامّ من قبله تأسيساً كما في موارد النقل عمّا عليه العرف، أو إمضاءً كما في موارد جريانه على طبق الفهم العرفيّ. وأمّا وثاقة الراوي فليست شأناً من شؤون الشارع، ولا مأخوذة منه، وكذلك كلّ ما كان من هذا القبيل، كتشخيص كمّيّة الشهرة بحسب الخارج، وتشخيص مقدار علم العلماء لمعرفة مقدار أثر الإجماع، ولهذا لا يبحث في علم الاُصول عن أحوال العلماء من ناحية مقدار علمهم وسعة باعهم ودقّتهم، وإنّما يبحث ذلك في علم التأريخ كما يبحث عن الرواة في علم الرجال وإن كان كلّ ذلك من الموجّهات الصوريّة العامّة.

وذكر (رضوان الله عليه) في أوّل بحث الاستصحاب ما يقارب هذا البيان، فقال:

إنّ أبحاث علم الاُصول لا تكون ضيّقة بحيث تؤخذ فيها مادّة من الموادّ الفقهيّة،

43

وعلم الرجال وإن كان صدفة لا ينفع لعلم آخر غير الفقه، كما هو الحال في علم الاُصول، لكنّه خارج عن علم الاُصول؛ لما عرفت من أنّه يتكلّم عن مقدّمات قبليّة، أي: سابقة على المقدّمات المباشرة، والذوق العلميّ يقتضي فصل المقدّمات القبليّة من المقدّمات المباشرة؛ باعتبار أنّ من طبيعتها أن يتعقّل دخلها في دائرة أوسع وإن اتّفق صدفة عدم دخلها في ذلك.

وقد اتّضح بما ذكرناه: أنّ القيد الأخير يخرج علم المنطق وعلم الرجال.

 


فلا تصبح منطقاً لعلم الفقه، ولا تكون وسيعة بنحو تكون منطقاً لعلوم اُخرى أيضاً، بل اُخذت فيها الموادّ بدرجة سقطت عن قابليّة كونها منطقاً لسائر العلوم، ولكنّها منطق لعلم الفقه ودخيلة في الاستنباط من دون شرط وقوعها كبرى في طريق الاستنباط، والبحث عن وثاقة الراوي وإن كان أيضاً دخيلاً في الاستنباط، ولكن هنا قيد آخر ثابت بالارتكاز المميّز بين علم الاُصول ومثل علم الرجال، وهو: أنّ علم الاُصول يجب أن يكون مربوطاً بالحكم، بمعنى أن يكون هو حكماً ظاهريّاً كحجّيّة خبر الثقة، أو يكون من مقتضيات الحكم في إحدى المراحل الثلاث: الجعل، والإبراز، والتنجيز أو التعذير، فالأوّل كمباحث إمكان الترتّب، والملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها، ونحو ذلك من الاُمور التي يقتضيها الحكم بحسب عالم جعله، والثاني كمباحث دلالة الأمر على الوجوب، والنهي على الحرمة، والمشتقّ على ما انقضى عنه المبدأ أو المتلبّس، ونحو ذلك، والثالث كمباحث منجّزيّة الاحتمال أو معذّريّته عقلاً.

أقول بمناسبة ذكره(رحمه الله) للمشتقّ: وقد يفترض أنّ بحث المشتقّ أو نحوه كبحث الصحيح والأعمّ داخل في بحث الاُصول بخلاف البحث عن معنى مثل كلمة « الصعيد » هل هو التراب أو مطلق ما على وجه الأرض مثلا، والفرق: أنّ القيد في بحثي المشتقّ والصحيح والأعمّ لم يخرجهما عن سريانهما في الاستنباط في كثير من أبواب الفقه، ولكن القيد في مثل تفسير كلمة « الصعيد » أخرجه عن الدخل في الاستنباط في عامّة أبواب الفقه، وخصّه بمسألة التيمّم.