98

أدلة الشورى من الكتاب والسنة

عندما يطرح البحث على الصعيد الشيعي ـ حيث يبحث عن شكل الحكم في عصر الغيبة ـ تستثنى أول الأمر من روايات الشورى بعض الروايات التي يبدو منها كون الامامة أو تعيين القيادة بالانتخاب والشورى حتى في زمن حضور الأئمة (عليهم السلام)، وكأن امامة الامام أمير المؤمنين قد تمت بالشورى والانتخاب، وذلك من قبيل ما جاء في نهج البلاغة: في كتاب للامام علي (عليه السلام) الى معاوية: "انه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضى"(1).

ونقل ذلك نصر بن مزاحم في كتاب (وقعة صفين)(2) مع شيء من التفصيل مصدراً الكلام بقوله: "أما بعد، فإن بيعتي لزمتك وأنت بالشام، لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان…".

وجاء أيضاً في كتاب نصر بن مزاحم في كتاب له (عليه السلام)



(1) نهج البلاغة، الكتاب السادس، من باب المختار من كتب مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام وفق ما جمعه الشريف الرضي "ره".

(2) ص29 حسب طبعة قم.

99

الى معاوية: "وأما قولك ان أهل الشام هم الحكام على أهل الحجاز، فهات رجلاً من قريش الشام يقبل في الشورى أو تحل له الخلافة، فإن زعمت ذلك كذبك المهاجرون والأنصار…"(1).

وجاء في نهج البلاغة: "أيها الناس ان أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه؛ فإن شغب شاغب استعتب، فان أبى قوتل. ولعمري لئن كانت الامامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس فما الى ذلك سبيل، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار"(1).

أقول: مثل هذه الروايات(1) حتى مع غض النظر عن حالها



(1) وقعة صفين ص58.

(2) نهج البلاغة، الخطبة 172.

(3) وتلحق بها أيضاً روايات حرمة مفارقة الجماعة الواردة عن الأئمة عليهم السلام الظاهرة في ارادة تحريم مفارقة جماعة المسلمين الساحقة المتبعة لخليفة الوقت الذي كان ـ في منطق الأئمة عليهم السلام ـ غاصباً، من قبيل ما في الكافي عن عدة من اصحابنا عن احمد بن محمد عن أبي فضال عن أبي جميلة عن محمد الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من فارق جماعة المسلمين قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه. وبنفس السند عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من فارق جماعة المسلمين ونكث صفقة الامام (الابهام خ ل) جاء الى الله تعالى أجذم (اصول الكافي 1/405، بحار الانوار 27/72). فأمثال هذه محمولة على التقية؛ بمعنى التقية في الصدور، أو بمعنى الأمر بمداراة الجماعة تقية.

100

من حيث السند لا تدخل في البحث الشيعي عن نظام الحكم في عصر غيبة الامام صاحب الزمان (عليه السلام)، لأن الشيعي قد فرغ مسبقاً بالروايات والأدلة القاطعة عن أن الامامة ورئاسة الدولة في زمن حضور الامام المعصوم ثابتة بالنص على إنسان معين هو المعصوم، وإنما يبحث عن شكل الحكم وعمّن ينوب عن الرئيس الحقيقي للدولة ـ وهو الامام المعصوم ـ في غيابه.

نعم، يمكن طرح هذه الروايات على صعيد البحث في مجالين:

الأول: مجال البحث السني عن نظام الحكم.

الثاني: مجال البحث الشيعي السني عن الامامة بعد عصر الرسول (صلى الله عليه وآله)، وانها هل هي بالنص أو بالانتخاب.

ونحن طبعاً لم نضع هذا الكتاب للبحث عن أساس الحكم بالنسبة لما بعد عصر الرسول (صلى الله عليه وآله) مباشرة، وإنما هذا بحث آخر مفصل له كتبه ومباحثه، ولكنا نذكر هنا أن هذه الروايات لن تنجو عن الملاحظة العامة التي مضى شرحها مفصلاً؛ فرسول الله (صلى الله عليه وآله) لو كان قد تدخل في مستقبل الأمة بعد وفاته تدخلاً إيجابياً ـ بوضع نظام الشورى ـ لكان من الطبيعي أن نجده يشرح للأمة ضوابط هذا النظام وقواعده العامة، أما السكوت عن كل ذلك فليس يعني إلا عدم الاهتمام بالأمة ومستقبلها وبمستقبل الدين الحنيف، وهذا ما لا ينبغي

101

للمسلم أن يحتمله بحق الرسول (صلى الله عليه وآله).

وعليه، فالروايات المشار إليها ـ لو صحت سنداً ـ فهي محمولة عندنا على أن الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) يخاطب معارضيه محتجاً عليهم بمقاييسهم، وملزماً لهم بما ألزموا به أنفسهم، فهو (عليه السلام) ـ لمصلحة الأمة ـ يسف إذا أسفوا ويطير إذا طاروا، كما جاء في الخطبة المعروفة بالشقشقية قوله (عليه السلام):

"فيالله وللشورى، متى اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن الى هذه النظائر، لكني أسففت إذا أسفّوا وطرت إذا طاروا"(1).

وخير دليل على نظام الشورى هو الآيتان الكريمتان:

الأولى: قوله تعالى: ﴿فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين(2).

والثانية: قوله تعالى ﴿فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون* والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون* والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم



(1) نهج البلاغة، الخطبة الثالثة.

(2) سورة آل عمران الآية 159.

102

ينفقون* والذين إذا اصابهم البغي هم ينتصرون(1).

وتوجد روايات كثيرة تحث على مسألة الشورى، والأغلبية الساحقة منها أو كلها وإن كانت ضعيفة السند ولكنها بالغة حد التواتر والاستفاضة؛ تجد كثيراً منها في الوسائل في أبواب أحكام العشرة، نذكر منها ما يلي:

1 ـ عن أبي هريرة قال: سمعت أبا القاسم (صلى الله عليه وآله) يقول: استرشدوا العاقل ولا تعصوه فتندموا(2).

2 ـ عن ابن القداح عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام) قال: قيل: يا رسول الله ما الحزم؟ قال: مشاورة ذوي الرأي واتباعهم(3).

3 ـ عن السري بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: فيما أوصى به رسول الله (صلى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) قال: لا مظاهرة أوثق من المشاورة، ولا عقل كالتدبير(4).

4 ـ عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: في التوراة أربعة أسطر… من لا يستشر يندم، والفقر الموت الأكبر، كما تدين تدان، ومن ملك استأثر(5).



(1) سورة الشورى الآيات 36 ـ 39.

(2) الوسائل ج. باب. من ابواب احكام العشرة من كتاب الحج ص 409 بحسب طبعة بيروت.

(3) الوسائل ج8 الباب21 من أبواب احكام العشرة ح1 ص424.

(4) الوسائل ج8 الباب21 من أبواب أحكام العشرة ح1.

(5) الوسائل ج8 الباب21 من أبواب أحكام العشرة ح2.

103

5 ـ عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: لن يهلك أمرء عن مشورة(1).

6 ـ عن معمر بن خلاد قال: هلك مولى لأبي الحسن الرضا (عليه السلام) يقال له سعد، فقال له: أشر عليَّ برجل له فضل وأمانة. فقلت: أنا أشير عليك! فقال شبه المغضب: ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يستشير أصحابه ثم يعزم على ما يريد(2).

7 ـ عن نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال لعبد الله بن عباس وقد أشار عليه في شيء لم يوافق رأيه: عليك ان تشير علي، فإذا خالفتك فأطعني(3).

8 ـ عن علي بن مهزيار قال: كتب إليَّ أبو جعفر (عليه السلام) ان سل فلاناً أن يشير عليّ ويتخير لنفسه، فهو أعلم بما يجوز في بلده وكيف يعامل السلاطين، فإن المشورة مباركة؛ قال الله لنبيه في محكم كتابه: ﴿وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله؛ فإن كان ما يقول مما يجوز كتبت أصوب رأيه، وإن كان غير ذلك رجوت ان أضعه على الطريق الواضح إن شاء الله. ﴿وشاورهم في الأمر قال: يعني الاستخارة(4).



(1) الوسائل ج8 الباب21 من أبواب احكام العشرة ح4 ص 424.

(2) الوسائل ج8 الباب21 من أبواب احكام العشرة ح1 ص 428.

(3) الوسائل ج8 الباب21 من أبواب احكام العشرة ح4 ص 428.

(4) الوسائل ج8 الباب21 من أبواب احكام العشرة ح5 ص 428.

104

9 ـ عن سليمان بن خالد قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: استشر العاقل من الرجال الورع، فإنه لا يأمر إلا بخير، وإياك والخلاف، فإن مخالفة الورع العاقل مفسدة في الدين والدنيا(1).

10 ـ عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): مشاورة العاقل الناصح رشد ويمن وتوفيق من الله؛ فإذا أشار عليك الناصح العاقل فإياك والخلاف، فإن في ذلك العطب(2).

11 ـ عن الصدوق بإسناده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لمحمد بن الحنفية قال: اضمم آراء الرجال بعضها الى بعض ثم اختر أقربها من الصواب وأبعدها من الارتياب ـ الى أن قال ـ قد خاطر بنفسه من استغنى برأيه، ومن استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ(3).

ولا بأس بذكر نموذج من أخبار العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله) في المقام، وأقتصر على ما جمعه قحطان عبد الرحمن الدوري في كتابه الشورى بين النظرية والتطبيق(4).

1 ـ المستشار مؤتمن.



(1) الوسائل ج8 الباب21 من أبواب احكام العشرة ح5 ص 426.

(2) الوسائل ج8 الباب21 من أبواب احكام العشرة ح6 ص 426.

(3) الوسائل ج8 الباب25 من تلك الأبواب ح2 ص429.

(4) الوسائل ج8 الباب25 من تلك الأبواب ص 27 إلى 30.

105

2 ـ المستشار مؤتمن، فإذا استشير فليشر بما هو صانع لنفسه.

3 ـ إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأموركم الى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها.

4 ـ إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه.

5 ـ قال الزهري: قال أبو هريرة: ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسوله الله. وفي المبسوط للسرخسي: حتى إنه كان يستشيرهم في قوت أهله وادامهم.

6 ـ ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد.

7 ـ من استشاره أخوه فأشار عليه بغير رشده فقد خانه.

8 ـ ما يستغني رجل عن مشورة.

9 ـ من أراد أمراً فشاور فيه وقضي هدي لأرشد الأمور.

10 ـ لما نزلت ﴿وشاورهم في الأمر قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أما ان الله ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي؛ فمن استشار منهم لم يعدم رشداً، ومن تركها لم يعدم غياً.

*. *

والواقع ان إقامة حكومة اسلامية حقة، لا يمكن أن تكون

106

ـ كما ألمحنا فيما سبق ـ إلا بولاية واسعة النطاق تضفيها السماء على الهيئة الحاكمة أو الفرد الحاكم، وتشمل حق جميع التصرفات التي لا تتقوم الدولة إلا بها، من قبيل:

1 ـ التصرف في ممتلكات القاصر.

2 ـ وتنبيه العصاة.

3 ـ وإجراء النظم والقوانين الشرعية ولو عن طريق إجبار من لا يخضع لها بالاختيار.

4 ـ وخصم المرافعات.

5 ـ وتوحيد المواقف فيما يحتاج الى ذلك، كما في الأمر بالجهاد وغير ذلك.

6 ـ والالزام في كثير من الموارد الأخرى بما هو غير لازم بالعنوان الأولي، أي في نفسه وبغض النظر عن أوامر الدولة.

كما ان هذه الولاية تؤدي كثيراً الى تجويز ما هو غير جائز بالعنوان الأولي(1).



(1) الولاية ـ كما سيتضح ان شاء الله في بحثنا عن ولاية الفقيه ـ لها مجال واسع في الالزام بغير ما هو لازم بالعنوان الأولي، وأما في تجويز ما هو غير جائز فلا مجال لها إلا بأحد شكلين:

الأول: أن يكون عدم الجواز ثابتاً بأصل من الأصول العملية التي بحثت في علم الأصول أو بالظن في مورد لم يكن محيص عن أتباعه عند عدم

107

فالبحث حول جعل الشورى أساساً للحكم يجب أن يتركز على انه هل يُستفاد من أدلة الشورى كونها مبدأ للولاية بعرضها العريض وفي نطاقها الواسع أولاً؟

محتملات الشورى

فنقول: ان المحتملات بدواً في مسألة الشورى ثلاثة:

المحتمل الأول:

ان يدّعى أن الشورى تؤدي الى امتلاك السلطة الشرعية والولاية؛ فلو تمت الشورى على تعيين فرد أو هيئة ولياً فالولاية



الامارة الشرعية، وهنا يقدم حكم ولي الامر اذا شكل امارة تتقدم على الأصل أو على ذلك الظن.

الثاني: أن تكون الولاية قد أعملت في موضوع الحكم الإلزامي، فتؤثر في تبديل الحكم الى الترخيص بتبدل الموضوع. كما لو أجبر الولي شخصاً ما بحق على بيع ماله، فيجوز للمشتري شراؤه رغم أن شراء المال بغير رضا البائع غير جائز في الحالات الاعتيادية. فالولاية هنا أعملت في موضوع الحكم الالزامي بعدم الشراء والتصرف وبطلانه، حيث ان موضوع الحكم بعدم جواز الشراء والتصرف وبطلانه هو عدم توفر أحد الامرين ـ وهما "رضا البائع، وكون الإكراه بحق ومن قبل ولي الإكراه" ـ أما وقد تحقق الإكراه بحق ومن قبل وليه فلا مانع من الصحة. وبكلمة أخرى: أن رضا الولي في باب البيع يقوم مقام رضا صاحب المال. هذا، وأما إعمال الولاية مباشرة في تبديل الحكم الالزامي الواقعي الى الترخيص في المخالفة فغير صحيح.

108

تثبت له أولها في الحدود التي قررتها نفس عملية الشورى، ولو تمت عملية الشورى على حكم فأقرت بها الأكثرية عاد الحكم نافذاً حتى في الموارد التي يكون الحكم فيها مخالفاً لمقتضى الواجب الالزامي الظاهري الثابت عند الفرد، بغض النظر عن الحكم المذكور(1).

ويمكن للولي المعين بالشورى أن ينفذ قانون العقوبات وغيرها من القوانين التي يجب أن ينفذها الولي لا غير، كما يمكنه أن يشرف على الشؤون الاجتماعية التي لا يسد نقصها إلا من له الولاية.

وبكلمة واحدة: ان الشورى يمكنها أن تثبت جميع شؤون الولاية العامة.

المحتمل الثاني:

أن يدّعى أن الشورى إذا أدت الى لزوم العمل طبق خط خاص، فإن ذلك حكم يلزم الجميع، حتى لو كان على خلاف الرأي الشخصي للمتبع الذي يرى لنفسه عدم الإلزام لولا الشورى.

وبهذا تكون نتيجة الشورى هي تبديل الجواز بالوجوب ودون أن تستطيع ـ أي الشورى ـ أن تثبت للولي كل شؤون الولاية العامة



(1) ولو في خصوص ما اذا كان الحكم كاشفاً ـ حسب المصطلح الذي سوف نذكره في بحثنا عن ولاية الفقيه ـ والا فلا يمكنه رفع الالزام الا بتبديل الموضوع.

109

ـ بعرضها العريض ـ ذلك بأن يقال: ان دليل الشورى ليس فيه ظهور يمكن معه إثبات هذا المستوى من الولاية، وإنما الذي يظهر منه أن وزانه هو وزان دليل وجوب الوفاء بالنذر والعهد واليمين والشرط والعقد، وكلها انما تفترض في المساحة الجائزة من الأحكام، حيث لم يكن يوجد فيها إلزام بخلاف هذه الأحكام ولو بنحو ظاهري.

وهذا المدعى ـ لو تم ـ لم يغننا في مجال إنشاء الحكومة الاسلامية التي يمكنها أن تملأ كل الفراغات الاجتماعية، فإنها ـ كما قلنا ـ تتوقف على ثبوت الولاية في الدائرة الواسعة التي أشرنا اليها ولا تكتفي الولاية في دائرة تبديل الجواز بالوجوب فحسب.

المحتمل الثالث:

أن تكون الشورى مجرد أسلوب للاستضاءة بآراء الآخرين والاستفادة من تجاربهم وخبراتهم، دون أن تؤدي الى إلزام أو ولاية أو تسليط على أي شيء ـ أي دون أن تنتج الولاية بعرضها العريض ـ كما في المحتمل الاول، وحتى دون أن تنتج الولاية في مجال تبديل الجواز بالوجوب كما في المحتمل الثاني.

ومثل هذا لوحده لا يمكنه ـ كما هو واضح ـ أن يشكل أساساً لدولة إسلامية إطلاقاً، بعد أن أوضحنا فيما سبق احتياج الدولة قبل كل شيء الى الولاية، والمفروض أن الشورى بهذا

110

المعنى لا تؤدي اليها.

وهكذا يبدو لنا: أن الشورى إنما يمكنها أن تشكل أساساً للدولة الاسلامية إذا استطعنا أن نعين المحتمل الأول وندلل عليه من بين المحتملات الثلاثة المذكورة.

علاقة أدلة الشورى بأدلة ولاية الفقيه

نحن نعلم أن هناك أدلة تنص على أن الولاية العامة إنما هي لله تعالى ثم للرسول (صلى الله عليه وآله) ثم للامام المعصوم ـ على رأي الشيعة ـ، وأخيراً فهي للفقيه الحائز على بعض الشرائط عند غيبة الامام على ما سيأتي الحديث عنها.

ولذا فينبغي لنا أن نلاحظ العلاقة بين أدلة ولاية الفقيه وأدلة الشورى، لو تمت لها دلالة بنحو المحتمل الأول السابق، إذ قد يقال: ان أدلة الشورى ـ حتى لو كانت دالة على الولاية العامة بعرضها العريض وهو المحتمل الأول ـ لا تنفع في مجال جعل الشورى والتصويت بيد الأمة جميعاً، مع وجود أدلة ولاية الفقيه؛ وذلك لأن الشورى إنما تفرض في المساحة التي تركتها الشريعة ولم تقضِ فيها بقضاء من الله ورسوله، قال تعالى:

﴿وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون

111

لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً(1).

فإذا كان القائد قد عين من قبل الله تعالى كما هو الحال في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله)، فهو قضاء من الله تعالى بأنه رئيس الدولة الاسلامية، ولا مورد فيه للشورى. وهكذا الحال في عصر الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ـ على رأي الشيعة ـ وثبوت إمامتهم بالنص… وكذا أيضاً لو تمت الأدلة على ولاية الفقيه وأثبتت أنه قائد المجتمع في عصر غيبة الامام (عليه السلام)، ولذا فلا معنى لطرح هذه المسألة؛ أي مسألة القيادة على بساط الشورى، وانتخاب جميع الأمة.

وإذاً فدليل الشورى ـ لو تم على النحو الأول ـ لا مجال له في دائرة تعيين القائد.

نعم، لو جمعنا بين الدليلين (دليل ولاية الفقيه ودليل الشورى) نعرف أن الشورى والتصويت يجب أن تتم بين الفقهاء أنفسم.

وهكذا يحاول هذا الاعتراض أن يسلب مجموع الأمة الدور الأساس عن طريق الشورى في نظام الحكم الاسلامي، حتى على تقدير دلالة أدلة الشورى على الولاية العامة.

وقد يقال بتعارض الأدلة في فتح مجال لعمل الشورى بين مجموع الأمة، وتأثيرها في غير مجال تعيين القائد المنفذ، وهو



(1) سورة الاحزاب الآية36.

112

مجال الفراغ التشريعي، وذلك بأن يقال:

لنقبل أن الشورى والتصويت من قبل الأمة لا دور لها ولا مجال عند تعيين السلطة التنفيذية العليا من قبل الله تعالى، وهي تتمثل في الفقيه في عصر الغيبة، ومعه لا خيرة للناس في ذلك.

إلا أن هناك منطقة فراغ واسعة تركتها مرونة الاسلام، لأنها ترتبط بمساحة حياتية متغيرة غير محددة بعناصر مشتركة؛ فلم تقض الشريعة فيها بحكم مباشر وقانون خاص، ولكن عينت من يُرجَع إليه في ملء هذه المنطقة ملأً منسجماً مع متطلبات الظروف. وقد تعارضت الدلالة وتنافت في مجال تعيين هذا المرجع، فمن دليل يؤكد على أنه الفقيه، الى آخر يركز على أنه الأمة أو الأكثرية.

ووفقاً لهذا العرض يكون الدليلان ـ دليل ولاية الفقيه ودليل الشورى ـ في مستوى واحد، ولا يتقدم أحدهما على الآخر في هذا المجال.

والواقع: أن هذا البيان لا يتم، فقد سبق وان قلنا: أن قوله تعالى ﴿وأمرهم شورى بينهم يقرر بأن الشورى إنما تكون بين من يكون الأمر ـ موضوع التشاور ـ أمرهم؛ فإذا كان هناك موضوع ينسب تارة الى دائرة واسعة وينسب تارة أخرى الى جماعة خاصة في داخل تلك الدائرة، فتصبح إضافة الأمر إليهم آكد وأوثق، فإن ذلك إجمالاً في النص السابق،

113

وتردداً بين منح الشورى للدائرة الكبرى أو الدائرة الضمنية.

ودليل ولاية الفقيه يدل على أن موضوع ملء منطقة الفراغ من هذا القبيل، فهو من جهة أمر يهم الأمة وينظّم حياتها، فهو ينسب اليها بهذا الاعتبار. ولكنه من جهة أخرى ينسب الى الفقهاء ـ بدلالة أدلة ولاية الفقيه ـ وليس الفقهاء إلا قطاعاً خاصاً من قطاعات الأمة.

فبناءً على دليل ولاية الفقيه، يكون دليل ﴿وأمرهم شورى بينهم مجملاً بالنسبة لهذا المورد، ومع ذلك لا ينهض كدليل معارض لدليل ولاية الفقيه غير المبتلى بالإجمال. وتثبت بالتالي أن الولاية ـ سواء في مجال السلطة التنفيذية أو مجال ملء منطقة الفراغ ـ هي للفقيه لا غير، وإن كان لابد للفقهاء بحكم آية الشورى أن يتشاوروا فيما بينهم في كيفية التنفيذ وملء منطقة الفراغ.

الجمع بين الدليلين بانتخاب الفقهاء فقط:

وربما يعترض على ما سبق بأننا لو قبلنا هذه الدلالة التامة لأدلة ولاية الفقيه ومنحناه سلطة التنفيذ وملء منطقة الفراغ، فماذا يبقى في البين لدليل الشورى غير التشاور بين الفقهاء أنفسهم، بينما جاءت الآية في معرض وصف المؤمنين عموماً؟ فهل يمكن تأويلها في إرادة خصوص الفقهاء؟ إن الفهم العرفي يأبى ذلك، ولذا فهو يرى حصول

114

تنافٍ بين الدليلين إذا قبلنا بالنتيجة السابقة(1).

ولذا فإن مقتضى الأخذ بكلا الدليلين ـ لو تمّا في نفسيهما ـ هو القول بمنح الأمة حق انتخاب مرشحيها للحكم، ولكن ليس لها أن تختار من غير الفقهاء، فإذا انتخبت من الفقهاء راح المنتخبون يديرون الأمور بالتشاور فيما بينهم.

فإذا أعطينا الأمة هذا المقدار من النصيب في الأمر، كنّا قد تجاوبنا مع الفهم العرفي الذي لم يستسغ بأي وجه تخصيص الآية الكريمة وجعلها في دائرة الفقهاء فقط(2). إلا أن كل هذا البحث فرع أن نفهم من دليل الشورى مسألة التصويت وإعطاء الولاية بيد الأكثرية أو من ينتخب.

فلنقم بمناقشة أدلة الشورى ومعرفة مدى إمكان تعيين الاحتمال الأول منها من بين الاحتمالات الثلاثة السابقة.

ملاحظة أدلة الشورى

أما الروايات:

فنستثني منها قبل كل شيء ما دل على أن تعيين الامامة في



(1) فان هذا من سنخ اباء بعض الأدلة عن التخصيص حسب مصطلح علماء أصول الفقه.

(2) أي إن هذا المقدار كاف لرفع مثل محذور الاباء عن التخصيص، وعليه فهو القدر المتيقن ثبوته للأمة.

115

زمن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) أيضاً كان بالشورى والانتخاب(1)! وقد تقدم الحديث عنها.

وهنا نلاحظ أن بعض روايات الشورى لا تشتمل على أمر بالشورى أو نهي عن مخالفتها، وإنما لا تعدو كونها حثاً على التشاور، كما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله: "لا مظاهرة أوثق من المشاورة".

وهذا القسم من الروايات ـ لا يدل على المقصود ـ كما هو واضح.

كما أن هناك قسماً منها يأمر بالمشورة دون أن ينهى عن مخالفة المستشارين، وهي كما في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لمحمد بن الحنفية حيث قال له: "اضمم آراء الرجال بعضها الى بعض ثم اختر أقربها الى الصواب وأبعدها من الارتياب".

وهذا القسم لو فرض(2) دلالته على وجوب المشورة على الإطلاق فإنه لا دلالة فيه على كون لزوم التشاور لأجل ما في الشورى من ولاية، ذلك أن الولاية لم تؤخذ ـ لا لغة ولا عرفاً ـ في كلمة الشورى.



(1) وكذا ما الحقناه به في الهامش.

(2) اشارة الى إمكان رفض هذه الدلالة بجعلها رواية مرشدة الى القاعدة العقلائية التي تحكم بحسن التشاور في الأمور للاستضاءة بآراء الاخرين، وهذه القاعدة يختلف ملاكها ـ من حيث اللزوم والاستحباب ـ من مورد الى مورد، بل قد يكون الأمر في نظر الشخص واضحاً كل الوضوح بحيث لا يرى مورداً للمشورة فيه.

116

ولهذا فيمكننا أن نقول: ان المراد به هو إيجاب التشاور طبق المحتمل الثالث من المحتملات الثلاثة الماضية، وذلك للاستضاءة بآراء الآخرين والاستفادة من خبراتهم، كما هو الظاهر من الوصية الماضية حيث يقول (عليه السلام): "ثم إختر أقربها من الصواب وأبعدها من الارتياب"، ويعطي الخيار بيد المستشير دون المستشارين.

وهناك قسم ثالث من الروايات ينهى عن مخالفة نتيجة الشورى، كقوله (صلى الله عليه وآله): "استرشدوا العاقل ولا تعصوه فتندموا".

وهذا القسم يمكن حمله على مجرد الحث دون الوجوب والولاية، وذلك بملاحظة أن هذه الرواية لم ترد بالنسبة لخصوص الأمور العامة، وإنما تشمل الأمور الشخصية. ومن الواضح أن المشورة في الأمور الشخصية ليست إلا بمعنى الاستضاءة بآراء الآخرين بلا أي إلزام.

ولعل أكثر الروايات دلالة على المقصود ما مضى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمرؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأموركم الى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها".

وهناك نقطتان يمكن أن تؤثرا في قوة الاستدلال بهذا الحديث:

النقطة الأولى: أنه يمكن أن يدّعى في هذا الحديث أنه

117

لا يشمل إطلاقاً الأمور الشخصية، لأن قوله (صلى الله عليه وآله) "أموركم شورى بينكم" موجّه الى المجتمع المسلم من حيث هو مجتمع، والأمر أمره، فلا ينظر الى الأمور الفردية الشخصية. ولذا نجد عدم افتراض مستشير ومستشار في الحديث(1)؛ فهناك وحدة



(1) ولعل هناك من يقول: ان قرينة التقابل في الرواية بين عبارة "أموركم شورى بينكم" وعبارة "اموركم الى نسائكم" تقتضي شمول الجملة الاولى للقضايا الشخصية كما تشمل الجملة الثانية لها، ذلك لأن الضمير في قوله "أموركم الى نسائكم" راجع الى الرجال بقرينة ذكر النساء، فهي اذن تتعرض لتدخل النساء في أمور الرجال الشخصية وتوجيههم وتحبذ اختصاص مشورة الرجال بالرجال وعدم تدخل النساء في تلك الأمور.

ولكن قد يرد عليه بأن قوله صلى الله عليه وآله: "أموركم شورى بينكم" يحتمل أن يقصد منه الأمور العامة لمجموع المسلمين بما فيهم الرجال والنساء، ويراد منه تدخل النساء في الشؤون العامة.

ولربما قيل بهذا الصدد انه اذا كنا نتردد في المقصود من قوله "أموركم الى نسائكم"، هل هو ناظر الى الشؤون الخاصة أو العامة، اذن نحتمل كون هذا المقطع قرينة على شمول المقطع الأول للأمور الشخصية لأن القرينة على الفرض الأول ثابتة. ومع هذا الاحتمال يصبح المقطع الأول مجملاً مبهماً لا يمكن أن يستفيد المقصود منه.

كما أنه قد يؤيد شمول الرواية للقضايا الشخصية مجيء التعبير بصيغة الجمع "أموركم"، ومقابلة الجمع بالجمع تعني التقسيم والتوزيع، فأمر هذا وأمر ذاك وأمر ذلك.

118

بين المستشيرين والمستشارين تتجلى في المجتمع. وعليه فهذه الأمور هي الأمور العامة.

وإذ قد عرفنا أن الرواية لا تشمل الأمور الشخصية، فإن هذه الرواية لا تكون مبتلاة بالإشكال الذي أوردناه سابقاً على الروايات؛ إذ كان شمولها للأمور الشخصية يصرفها الى أن المراد بها هو خصوص الاسترشاد والاستضاءة بآراء الآخرين، دون أن تنتج أي ولاية.

وهو المحتمل الثالث من المحتملات السابقة.

فإذا استطعنا أن نعثر على دلالة في الرواية على المحتمل الأول للشورى ـ أي إعطاء الولاية للأكثرية مثلاً أو لمن يعين من قبلها ـ لم يكن لهذه الدلالة معارض من هذه الجهة.

النقطة الثانية: ان في الرواية قرينة تصرفها الى المحتمل الأول للشورى دون الثالث، وهي ما أشرنا إليه من وحدة المستشير والمستشار وعدم افتراض اختلافهما.

بيان ذلك: أن أكثر روايات الشورى فرض فيها مستشير ومستشار، وفرض أحدهما على الآخر، وفرض الأمر المستشار فيه أمراً راجعاً الى المستشير دون المستشار، وذلك من قبيل وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لمحمد بن الحنفية الماضية "اضمم آراء الرجال بعضها الى بعض"؛ فالمستشير هو محمد بن الحنفية مثلاً والمستشارون هم الرجال.

وقوله: "لا مظاهرة أوثق من المشاورة" محتمل لذلك؛

119

فهناك شخص يحتاج الى ظهر وقوة فتقول الرواية أن قوته بالمشورة مع الآخرين.

وقوله فيما مضى أيضاً: "استرشدوا العاقل ولا تعصوه"؛ فهناك شخص يسترشد عاقلاً.

وقوله: "من لا يسترشد يندم"؛ والفرد طبعاً يستشير غيره لا نفسه.

وقوله: "لن يهلك امرؤ عن مشورة".

وقوله: "إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه". وغير ذلك.

فهذه الروايات فرضت مستشيراً له أمر يحتاج فيه الى مشورة ومستشاراً، ولذا فبالإمكان حملها على المحتمل الثالث، بأن يقال ان المستشير يعمل في النهاية برأيه لا برأي المستشار وإنما يستشير لكسب العلم والمعرفة، واحتمال تأثير كلام المستشار على رأيه وتبدل رأيه بذلك.

وأما النهي الوارد في بعضها عن مخالفة المستشار، فيحمل على الحث على العمل برأيه ما لم تتحقق رؤية واضحة على خلافه وذلك بما مضى من قرينة عدم تخصيص المشورة بالأمور العامة.

وأما قوله: "أموركم شورى بينكم" فليس المفروض فيه مستشير ومستشار يختلف أحدهما عن الآخر، وإنما الأمر أمرهم جميعاً، فكلهم مستشيرون وكلهم مستشارون في أمر مشترك.

فلا يتطرق بحسب المفهوم العرفي احتمال أن المستشير يعمل برأيه لا برأي المستشارين كي يحمل على المعنى الثالث، إذ لا يوجد

120

مستشير منفصل عن المستشارين، كما لا يتطرق عرفاً أيضاً احتمال العمل برأي ولي ما منفصلاً عن المشورة بنكتة سيأتي توضيحها ان شاء الله عند الاستدلال بالآية الثانية على الشورى.

إذن، فيصبح المفهوم العرفي للكلام هو: أن الرأي رأي المجموع على شكل الأخذ برأي الأكثرية مثلاً أو على أي شكل آخر. وبهذا يثبت المعنى الأول وتثبت إمكانية تعيين ولي الأمر بالشورى.

وحاصل ما ذكرناه هو إمكان القول بتمامية دلالة هذه الرواية لولا الملاحظة العامة الماضية في أول بحث الشورى. إلا أنه لا قيمة لهذه الرواية من حيث السند. وواضح أن روايات الشورى ـ وإن قلنا أنها متواترة أو مستفيضة ـ إذا كان ما يمكن أن يتم منها دلالة لا يبلغ حد التواتر ولا الاستفاضة سقط بضعف السند.

البحث عن آية ﴿وشاورهم في الأمر.

وأما الآيات فتنحصر في الآيتين الشريفتين:

الأولى: هي قوله تعالى: ﴿وشاورهم في الأمر.

ويمكن المناقشة في الاستدلال بهذه الآية بوجهين:

الوجه الأول:

ان الاستدلال بهذه الآية الشريفة اما أن يفترض نشوؤه من إدعاء

121

أن الأخذ بآراء الغير المستشار متضمن في مفهوم (الشورى)، فإذا أطلق هذا اللفظ ومشتقاته فهم منه استقراء آراء الآخرين والأخذ بأكثريتها مثلاً. أو يفترض نشوؤه من ادعاء أن الأمر بالشورى إنما هو للوصول إلى ما هو أقرب للواقع، ولا يتم هذا إلا إذا عمل المستشير برأي الآخرين. في حين أنه لو استشارهم ثم أعرض عمّا توصلوا اليه فإن هذه الشورى سوف لا تحقق هدفها المرجو. وهكذا تجعل هذه الصفة الطريقية للشورى قرينة عرفية على أنه يهدف من الأمر بالشورى إعطاء الولاية للأكثرية مثلاً.

أما الفرض الأول فباطل جزماً، فلم يؤخذ ـ لغة ـ في مفهوم "الشورى" أن يؤخذ بآراء الغير لتثبت بذلك الولاية لهم ولو بنحو ناقص فضلاً عن ثبوتها ـ أي الولاية ـ بالنحو الكامل. وبه نعرف أن لا دليل هناك من مفهوم الشورى يلزمنا بحمل "الشورى" في الآية على المحتمل الأول أو المحتمل الثاني.

وهكذا أيضاً لا يتم الفرض الثاني، إذ حتى لو قبلنا أن المشورة المفروضة في الآية كانت لتحقيق الوصول الى ما هو الأصلح أو للتعويد على مبدأ يوصل الأمة الى ما هو الأصلح "وإن كان النبي (صلى الله عليه وآله) غير محتاج الى ذلك"، حتى لو قبلنا هذا، فإنه لا يلازم ولا يقتضي أن تعطى الولاية للأكثرية، إذ يحتمل أن يكون الأمر بالشورى لتحصيل المعرفة بآراء الآخرين والاستضاءة بأفكارهم

122

وتجاربهم التي تضاف الى تجارب المستشير مما يقربه الى ما هو الأصلح حتى لو لم يلتزم برأي الأكثرية. وإنما استعرض الآراء وانتخب منها ـ حسب فهمه وتصوراته ـ الرأي الأصلح الذي قد لا يعدو أن يكون رأي القلة، أو رأيه هو لا غير بعد أن رأى بطلان آرائهم.

هذا، وقد لا يكون الأمر بالشورى في هذه الآية باعتبارها طريقاً للوصول الى الرأي الأسد، وإنما باعتبارها عملية تطيب القلوب والعواطف وتحملها بشكل أكثر مسؤولية الأمر الذي استشير فيه. وإذا راجعنا سياق الآية رأيناه يناسب هذا المعنى، إذ يقول تعالى:

﴿فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفظّوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر.

انه سياق تطييب القلوب وشدها الى الدعوة الاسلامية، فلا يتم الاستدلال بهذه الآية الكريمة حتى لو فرضنا أن سبيل الوصول الى الأصلح منحصر بالأخذ برأي الأكثرية.

هذا، وقد تجعل رواية علي بن مهزيار ـ التي سبق ذكرها ـ شاهدة على أن الملاحظ في الآية الكريمة هو عنصر الوصول الى الحق والأصلح دون مجرد تطييب القلوب وتحميل المسؤولية.

فقد روى العياشي عن أحمد بن محمد عن علي بن مهزيار قال: كتب إليَّ أبو جعفر (عليه السلام) أن سل فلاناً أن يشير عليَّ