213

الملاحق

215

الملحق رقم (1)

فإن قيل: ان مجرد عدم اشارة في الكلام من قريب أو بعيد إلى وجود ولي من هذا القبيل يؤخذ برأيه، ليس قرينة على نفي الاحتمال الثالث.. وذلك لأنه ـ وإن كان المفروض عادة في باب الاستشارة أنه يعمل بعد المشورة برأي ما ـ لكن هذا المفروض لم يكن مفروضاً في الكلام؛ أي لم يفهم من الكلام ضرورة العمل برأي ما حتى إذا لم يفرض في الكلام ولي ما. ولم يكن المستشيرون غير المستشارين تعين كون الرأي الذي يعمل به نفس رأي المستشارين أو أكثريتهم، أو رأي من يعينه المستشارون أو أكثريتهم، وإنما كنا نعلم من الخارج بأنه في باب المشورة لابد ـ بالتالي ـ من العمل برأي ما، وهذا لا يولد للكلام ظهوراً في ضرورة أخذ الرأي من نفس المشاورين أو من يعينه المشاورون.

216

قلنا: لئن تم هذا الاشكال فيما لو كان التعبير هكذا "شاوروا في أمركم" فإنه لا يتم في مثل قوله "وأمرهم شورى بينهم"؛ إذ هذا التعبير ليس مجرد أمر بالمشورة، وإنما حملت الشورى على الأمر، وهذا يعني أن أمرهم يدار بالشورى بينهم. إذن فقد فرضت في نفس الكلام ضرورة ادارة الأمر والأخذ بآراء محددة لتمشية الأمور، فنقول:

هل المقصود الأخذ بالرأي المستقى من الشورى أو المقصود الأخذ برأي ولي ما منفصلاً عن الشورى، وإنما الشورى أثرها هو انارة الطريق أمام ذاك الولي؟

طبعاً الأول هو الظاهر، لأن الآية إنما ذكرت الشورى ولم تذكر ولي الأمر، ففرض الرجوع إلى ولي الأمر غير المستقى ولايته من الشورى بحاجة إلى مؤونة زائدة، والسكوت عن ذكر ولي من هذا القبيل قرينة على أن المقصود هو الأول.

على أنه لا يبعد أن يقال: ان هذا الاشكال لا يتم حتى لو كان التعبير مقتصراً على الأمر بالمشورة بصياغة "شاوروا في الأمر"، وذلك لأن ارتكازية كون المشورة عادة مقدمة للعمل بقول المستشار لو لم يكن للمستشير رأي يرجحه عليه أو يساويه تعطي للآية الشريفة ـ الواردة في فرض لا يوجد تغاير بين المستشيرين والمستشارين ـ ظهوراً في كون المقصود الاحالة إلى رأي المستشارين.

217

هذا، وقد ظهر بكل ما ذكرناه هنا وفي الكتاب أن هذه الآية هي خير الادلة على مبدأ الشورى بالمعنى المقصود، وهي من حيث الدلالة تشتمل على نفس القوة التي افترضناها في رواية "أموركم شورى بينكم" مع عدم ابتلائها طبعاً بما ابتليت بها تلك الرواية من ضعف السند. بل يمكن ان يقال: انها من حيث الدلالة أيضاً اقوى من تلك الرواية؛ إذ:

أولاً: قد يدعى احتمال كون مقابلة جملة "اموركم شورى بينكم" بجملة "أموركم إلى نسائكم" قرينة على شمول كلمة "الأمور" للأمور الشخصية، بينما هذه النقطة غير موجودة في الآية الكريمة.

وثانياً: قد يقال: ان التعبير بالأمر كما في الآية أقوى دلالة على ارادة الأمور العامة من التعبير بالأمور كما في الرواية؛ إذ يقال: لو كان المقصود في الآية الأمور الشخصية لكان الأولى التعبير بشكل مقابلة الجمع بالجمع المناسبة مع التوزيع، بأن يقول "أمورهم شورى بينهم" بينما لم يأت التعبير هكذا، بل قال "أمرهم شورى بينهم".

وهذا بخلاف الرواية التي عبرت بصيغة الجمع حيث قالت "أموركم شورى بينكم".

هذا، ورغم كل ذلك قد وضحنا في الكتاب عدم تمامية الاستدلال بالآية الكريمة على نظام الشورى.

218

الملحق رقم (2)

وتحقيق الحال في ذلك ببيان واسع هو: أن الشورى على قسمين ـ كما اتضح مما سبق ـ:

القسم الأول: هو الشورى التي يكون المستشير فيها غير المستشار، أي الشورى في الأمور الشخصية مثلاً، فهناك شخص ما يهمه أمر فيستشير الآخرين في أمره.

والقسم الثاني: هو الشورى التي يكون المستشيرون فيها عين المستشارين، أي أن الشورى تكون بين جماعة في أمور ترتبط بهم جميعاً من سن قوانين وتعيين ولي الأمر ونحو ذلك.

فلو طبق الأمر بالشورى في هذه الآية على القسم الأول فلا يخلو الحال من أحد فرضين:

الأول: أن يحمل الأمر بالشورى على مجرد الاستضاءة بأفكار الآخرين من دون أن يكون امراً بالأخذ برأيهم على كل تقدير، وهذا هو المحتمل الثالث من محتملات الشورى.

الثاني: أن يحمل الأمر بالشورى على أنه أمر بأصل المشورة وبالأخذ برأي المستشار تعبداً. وهذا يحتاج إلى قرينة، إذ مجرد الأمر بالشورى لا يدل عليه، لأن الأخذ برأي المستشار أمر زائد على أصل الشورى.

219

وعلى أي حال فحينما يحمل الأمر بالشورى على هذا المعنى لابد من حمله بمناسبات الحكم والموضوع على مجرد الأمر بالأخذ برأي الغير في الأمور المباحة دون الترخيص في مخالفة الأوامر الالزامية ولو كانت أوامر ظاهرية ودون سائر شعب الولاية، فإن الأمر بالعمل برأي المستشار ليس إلا كالأمر بالعمل برأي الوالد أو باليمين أو النذر، فكل هذه أوامر ثانوية واردة في الشريعة بعد فرض اكتمال الأوامر الأولية الواقعية والظاهرية، أي أنه أخذ في موضوعها مشروعية المتعلق. وهذا هو المحتمل الثاني من محتملاتنا الثلاثة في الشورى.

وما ذكرناه من نكتة وحدة المستشارين والمستشيرين في قوله "أمرهم شورى بينهم" يبطل أصل تطبيق الأمر بالشورى في هذه الآية على القسم الأول، وهو الشورى في قضايا يكون المستشير فيها غير المستشار، سواء أرجع ذلك إلى المحتمل الثالث أو إلى المحتمل الثاني.

أما إذا طبق الأمر بالشورى فيها على القسم الثاني ـ أعني الأمور التي يكون المستشيرون فيها عين المستشارين ـ فقد افترضنا أنه لا يتأتى الفرض الأول، وهو الحمل على مجرد الاستضاءة بأفكار الغير، بل لابد من حمله على كونه أمراً بالمشورة وبأخذ الرأي من المستشارين. وهذا يعني أن المحتمل الثالث لا يأتي هنا، الا أنه يبقى الكلام في دائرة الشورى والأخذ بالرأي هل هي في دائرة

220

المباحات فقط ـ وهذا هو المحتمل الثاني ـ أو في دائرة أوسع من ذلك، كأن يشمل مثلاً دائرة الترخيص في الأوامر الالزامية الظاهرية، أو في تمام مساحة دائرة الولاية المبحوث عنها بلا فرق بين دائرة المباحات أو الترخيص في الالزاميات الظاهرية فيما يمكن، أو الواقعية أيضاً في مورد يمكن تبديل الموضوع بالولاية أو تعيين الولي أو اجراء الحدود او نحو ذلك. وهذا هو المحتمل الأول من محتملاتنا الثلاثة.

والاطلاق ومقدمات الحكمة يعين هنا طبعاً المحتمل الأول، فإن المحتمل الثاني ـ وهو حصر الولاية في دائرة المباحات ـ تقييد بلا مقيد، وهنا لا يأتي ما ذكرناه من مناسبات الحكم والموضوع التي قلنا في القسم الأول انها تخرج الترخيص في مخالفة الأوامر الالزامية الظاهرية، بل مناسبات الحكم والموضوع هنا تقتضي العكس؛ فإنه إذا كان مصب الشورى عبارة عن الأمور العامة للمسلمين وبهدف حل مشاكل المجتمع الاسلامي وادارة شؤونهم لا عن الأمور الخاصة التي يكون المستشيرون فيها غير المستشارين وبهدف مجرد استرشاد بعض بفكر البعض الآخر، فهذا لا يكون الا بالولاية العامة التي قلنا انها أساس نظام الحكم.

221

الملحق رقم (3)

ويؤيد ذلك أننا نحتمل أن تكون عبارات "لم يقبل" و "استخف" و "رد" صيغاً مبنية للفاعل يرجع ضميرها إلى المتخاصم الذي حكم عليه.

وقد يورد على الاستدلال بهذه الرواية ـ سواء بالجملة الأولى أو الثانية ـ بإيرادين آخرين:

1 ـ أن يقال: ان هذه الرواية لو تمت دلالةً فإنما تدل على نيابة الفقيه من قبل الإمام الصادق (عليه السلام)، وتنتهي النيابة بموته، فنحن بحاجة إلى اثبات النيابة من قبل الإمام صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف).

ولكن يتخلص من ذلك بأحد طريقين: اما بدعوى استظهار عدم الفارق من هذه الناحية، فلئن كان الإمام الصادق (عليه السلام) في عصر الحضور قد جعل الفقيه نائباً عنه، فالإمام صاحب الزمان في عصر الغيبة بطريق أولى جعله نائباً عنه. واما بدعوى استظهار أن هذا لم يكن اتخاذاً للنائب كي ينتهي أمده بموته (عليه السلام)، بل إعمالاً للولاية في إعطاء الولاية للفقيه، فيبقى نافذ المفعول ما لم يثبت إعمال ولاية أخرى في رفع ولاية الفقيه.

وهذا الاشكال وجوابه ساريان في كل روايات ولاية الفقيه غير

222

ما كان وارداً عن الإمام صاحب الزمان أرواحنا فداه.

2 ـ أن يقال: ان كلمة "الحكم" كانت تستعمل كثيراً ما في عصر صدور النص بمعنى القضاء، فلو صح هذا كان بنفسه مانعاً عن انعقاد الاطلاق في هذه الرواية.

وأوضح من هذه الرواية في عدم الاطلاق لغير باب القضاء الروايات التي عبرت بتعبير "جعلته قاضياً"، من قبيل ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن أبي الجهم عن أبي خديجة، قال: بعثني أبو عبد الله (عليه السلام) إلى أصحابنا فقال: قل لهم: اياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شيء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق! اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا فإني قد جعلته عليكم قاضياً، وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر(1).

وفي السند أبو الجهم، وهو مشترك، ويحتمل انطباقه على ثوير ابن أبي فاختة، ولم يعلم أن أبا الجهم الذي روى عنه ابن أبي عمير ينطبق على أبي الجهم الذي روى هذه الرواية، كي تثبت بذلك وثاقته، فلعل راوي هذه الرواية هو ثوير بن أبي فاختة، والذي روى عنه ابن أبي عمير بعنوان أبي الجهم هو بكير بن أعين كما قد تؤيده رواية ابن أبي عمير عن بكير بن أعين.



(1) الوسائل ج18 الباب11 من أبواب صفات القاضي ج6ص100.

223

وما رواه الصدوق بإسناده عن أحمد بن عائذ عن أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال قال: قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): إياكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإني قد جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه.

ورواه الكليني "ره" عن الحسين بن محمد عن معلى بن محمد عن الحسن بن علي عن أبي خديجة مثله، إلا أنه قال: شيئاً من قضائنا.

ورواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن محمد مثله(1).

والسند الأول تام (بناءً على تصحيح أبي خديجة).

هذا، وأيضاً يحمل على القضاء ما رواه الكليني "ره" عن عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن محمد بن عيسى عن أبي عبد الله المؤمن عن ابن مسكان عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: اتقوا الحكومة، فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين، لنبي (كنبي خ ل) أو وصي نبي.

ورواه الصدوق بإسناده عن سليمان بن خالد.

ورواه الشيخ بإسناده عن سهل بن زياد مثله(2).

وسند الصدوق تام.



(1) الوسائل ج18 الباب1 من أبواب صفات القاضي ح5 ص4.

(2) الوسائل ج18 الباب3 من أبواب صفات القاضي ح3 ص7.

224

والحكومة إن لم نقل بظهورها في نفسها بملاحظة عصر الصدور في القضاء، حيث كانت تستعمل في هذا المعنى لا في معنى الولاية العامة) فلا أقل من حملها على هذا المعنى بقرينة قوله "للإمام العالم بالقضاء".

على أنه قد أخذ في موضوع استحقاق الحكومة في هذا الحديث الإمامة، ولم يعلم كون مطلق الفقيه مصداقاً لها. بل لو كان المقصود من الإمامة هي الإمامة بالمعنى المصطلح عند الشيعة ـ كما تؤيده نسخة "لنبي أو وصي نبي" ـ فمن الواضح عدم كون الفقيه مصداقاً لها.

ولو كان المقصود منها الولاية، فهذا بنفسه قرينة على ان الحكومة كانت بمعنى القضاء لا الولاية. أما أن هذه الولاية لمن؟ فهذا غير مذكور في الحديث.

وقد يقال ـ بناءً على كون الإمامة هنا بمعنى الولاية ـ ان هذا الحديث دل على أن منصب القضاء إنما هو لمن كان له منصب الولاية، وقد عرفنا بروايات أخرى أن الفقيه له منصب القضاء، فنعرف بمجموع هذين الأمرين أن الفقيه له منصب الولاية.

ولكن هذه الاستفادة أيضاً غير صحيحة، إذ ان أدلة اعطاء منصب القضاء للفقيه إنما تدل على أن الإمام (عليه السلام) جعله بالولاية أو بالاستنابة قاضياً، لا أنه بنفسه له حق القضاء، بينما من المحتمل أن يكون قوله في هذه الرواية "فإن الحكومة إنما هي للإمام"

225

ناظراً إلى بيان القانون الأساسي في الاسلام، أي بيان من له منصب القضاء في الاسلام، لا بيان من قد يعطى له منصب القضاء من قبل من له منصب القضاء والولاية في الاسلام.

الملحق رقم (4)

قد تؤيد وثاقة اسحاق بن يعقوب بأن اسحاق بن يعقوب أخو محمد بن يعقوب الكليني (رحمه الله) على ما ادعاه صاحب كتاب "قاموس الرجال"(1) مستشهداً على ذلك بما نقله عن كتاب "اكمال الدين" في ذيل التوقيع من قوله (عليه السلام) "والسلام عليك يا اسحاق بن يعقوب الكليني".

ولكن ما راجعته من نسخة كتاب "اكمال الدين (ط. دار الكتب الاسلامية/ طهران) ليس فيه كلمة "الكليني" وإنما العبارة هكذا "والسلام عليك يا اسحاق بن يعقوب وعلى من اتبع الهدى"(2).

كما أن السيد الخوئي ـ دامت بركاته ـ في كتاب "معجم رجال الحديث"(3) لم يذكر توصيفاً للرجل بالكليني رغم نظره إلى كتاب "اكمال الدين".



(1) ج1 ص507.

(2) اكمال الدين وأتمام النعمة ص485.

(3) ج3 ص73.

226

وقد يستدل على وثاقة اسحاق بن يعقوب ببيان: أن الشيخ الطوسي (رحمه الله) شهد في كتاب "الغيبة" بأن التوقيعات إنما كانت ترد أيام الغيبة الصغرى على الثقات، فيقال: ان هذا يؤيد عدم احتمال الكذب في أصل التوقيع، فهذه الشهادة من قبل الشيخ الطوسي، تعني أن التوقيع في ذاك الزمان كانت له قدسيته الخاصة، فانتحال شخص لتوقيع ما إلى نفسه كذباً يعني خبثاً أعظم من مجرد خبث الكذب على الإمام، إذن فأمر اسحاق بن يعقوب يدور بين أن يكون في درجة عالية من الخبث أو أن يكون ثقة، لأن التوقيع لا يرد الا على الثقات، ولا يحتمل أن يكون انساناً عادياً غير خبيث وغير ثقة. وحينئذ فمن البعيد وقوع الكليني (رحمه الله) في الغفلة أو عدم التمييز لحال هذا الشخص الدائر أمره بين طرفي النقيض، أو قل عدم التفاته إلى خبثه رغم كونه في درجة عالية من الخبث. فإذا ثبت صدق أصل التوقيع ثبتت وثاقته، لأن التوقيع كان لا يرد إلا على الثقات، وإذا ثبتت وثاقته نفينا بذلك احتمال الكذب في الخصوصيات أيضاً.

الا أن هذا البيان غير صحيح، وتوضيحه: إني لم أر في كتاب "الغيبة" ما يمكن توهم دلالته على ذلك الا قوله:

"وقد كان في زمان السفراء المحمودين أقوام ثقات ترد عليهم

227

التوقيعات من قبل المنصوبين للسفارة من الأصل"(1).

وهذا الكلام ـ وإن كان يتبادر إلى الذهن أن المقصود من ورود التوقيعات عليهم ورودها من الإمام (عليه السلام) إليهم ـ ولكن من يراجع باقي عبارة الشيخ يراها صريحة في أن المقصود ليس هو هذا، وإنما المقصود هو ورود التوقيعات الحاكية عن شأنهم والدالة على وثاقتهم، ذلك لأنه (رحمه الله) بعد هذه العبارة مباشرة يذكر بعض المصاديق لهذه العبارة بعنوان: "منهم، ومنهم…" وكل ما ذكره إنما هو من هذا القبيل لا من ذاك القبيل؛ أي ان التوقيعات واردة إلى غيرهم بشأنهم وعلى ثقاتهم لا إليهم. وإليك نص عبارة الشيخ في (الغيبة) بكاملها كي تلحظها:

قال (رحمه الله):

"وقد كان في زمان السفراء المحمودين أقوام ثقات ترد عليهم التوقيعات من قبل المنصوبين للسفارة من الأصل".

"منهم: أبو الحسين محمد بن جعفر الأسدي (رحمه الله)؛ أخبرنا أبو الحسن بن أبي جنيد القمي عن محمد بن الوليد عن محمد بن يحيى العطار عن محمد بن أحمد بن يحيى عن صالح بن أبي صالح قال: سألني بعض الناس في سنة تسعين ومائتين قبض شيء، فامتنعت من ذلك وكتبت



(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص257 ط مطبعة النعمان في النجف الأشرف.

228

استطلع الرأي، فأتاني الجواب: بالري محمد بن جعفر الأسدي فليدفع إليه، فإنه من ثقاتنا".

"وروى محمد بن يعقوب الكليني "ره" عن أحمد بن يوسف الساسي قال: قال لي محمد بن الحسن الكاتب المروزي وجهت إلى حاجز الوشاء مائتي دينار، وكتبت إلى الغريم بذلك، فخرج الوصول وذكر أنه كان قبلي ألف دينار وأني وجهت إليه مائتي دينار، وقال: أن أردت أن تعامل أحداً فعليك بأبي الحسين الأسدي بالري، فورد الخبر بوفاة حاجز رضي الله عنه بعد يومين أو ثلاثة فأعلمته بموته، فاغتم، فقلت: لا تغتم، فإن لك في التوقيع إليك دلالتين: إحداهما....

اعلامه إياك أن المال ألف دينار، والثانية أمره إياك بمعاملة أبي الحسين الأسدي لعمله بموت حاجز".

"وبهذا الاسناد عن أبي جعفر محمد بن علي بن نوبخت، قال: عزمت على الحج وتأهبت فورد علي: نحن لذلك كارهون. فضاق صدري واغتممت، وكتبت: أنا مقيم بالسمع والطاعة، غير أني مغتم بتخلفي عن الحج. فوقع: لا يضيقن صدرك فإنك تحج من قابل. فلما كان من قابل استأذنت، فورد الجواب، فكتبت: اني عادلت محمد بن العباس، وأنا واثق بديانته وصيانته. فورد الجواب: الأسدي نعم العديل، فإن قدم

229

فلا تختر عليه. قال: فقدم الأسدي فعادلته".

"محمد بن يعقوب عن علي بن محمد عن محمد بن شاذان النيشابوري قال: اجتمعت عندي خمسمائة درهم ينقص عشرون درهماً، فلم أحب أن ينقص هذا المقدار، فوزنت من عندي عشرين درهماً ودفعتها إلى الأسدي ولم أكتب بخبر نقصانها وإني أتممتها من مالي، فورد الجواب: قد وصلت الخمسمائة التي لك فيها عشرون".

"ومات الأسدي على ظاهر العدالة، لم يتغير ولم يطعن عليه في شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة".

"ومنهم: أحمد بن اسحاق وجماعة، خرج التوقيع في مدحهم".

"وروى أحمد بن ادريس عن أحمد بن محمد بن عيسى عن أبي محمد الرازي قال: كنت وأحمد بن أبي عبد الله بالعسكر، فورد علينا رسول من قبل الرجل فقال: أحمد بن أسحاق الأشعري، وابراهيم بن محمد الهمداني، وأحمد بن حمزة بن اليسع ثقات"(1).

انتهى كلام الشيخ (رحمه الله)، وهو كما ترى صريح فيما قلناه، ولا دلالة فيه على أن التوقيع لم يكن يرد إلا إلى الثقات.



(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص257ـ258.

230

الملحق رقم (5)

وتحقيق الحال بشكل أوسع هو:

أن الاستدلال بهذه الرواية على اثبات الولاية المطلقة للفقيه، يمكن أن يكون بأحد وجوه:

الأول:

أن يتمسك باطلاق قوله "وأما الحوادث الواقعة فارجعو فيها إلى رواة أحاديثنا"؛ وذلك بملاحظة ان الحوادث على أقسام:

فمنها مثلاً: ما يكون الرجوع فيها إلى الرواة رجوعاً إلى الروايات، من قبيل حوادث تحدث للفقيه ويحتاج إلى استنباط الحكم فيها، فيرجع فيها إلى الرواة لأخذ الرواية لكي يستنبط هو حكم الحوادث منها.

ومنها: ما يكون الرجوع فيها إلى الرواة لأخذ الفتوى، وذلك حينما يكون الراوي فقيهاً وعارفاً بالأحكام، من قبيل حوادث يبتلي بها العامي ويريد أن يعرف حكمها التشريعي، وهو غير قادر على استنباطه من الروايات.

ومنها: ما يكون الرجوع فيها لأخذ الوظيفة التي تعين بالولاية، من قبيل حوادث اجتماعية أو فردية لا تحل إلا بإعمال الولاية.

ومنها: ما يكون الرجوع فيها لأجل تنفيذ الحكم الشرعي

231

بإعمال الولاية في التنفيذ.

ومقتضى اطلاق كلمة "الحوادث" شمولها لكل حادثة يعقل فيها الرجوع إلى شخص آخر، سواء كان من الحوادث التي يكون الرجوع فيها بالنحو الأول أو الثاني أو غيرهما. إذن فمقتضى الاطلاق الجاري في الموضوع هو الولاية المطلقة.

ويرد عليه: أن من المحتمل كون اللام في "الحوادث" للعهد، مشيراً به إلى حوادث ذكرها السائل في ضمن الأسئلة التي كتبها إلى الإمام (عليه السلام) ولم تصلنا الاسئلة. إذن فتصبح الرواية بالنسبة لنا من هذه الناحية مجملة.

الثاني:

أن يتمسك باطلاق كلمة الحجة في قوله "فإنهم حجتي عليكم" بأن يقال: ان مقتضى اطلاق ذلك كون الراوي لحديثهم حجة في كل ما يكون الإمام حجة فيه، وهذه عبارة عن الولاية المطلقة.

ولو اقتصر على هذا المقدار من البيان فقد يورد عليه: بأن الاطلاق الموجب للسريان لا يجري في المحمول، و "الحجة" هنا محمول. نعم، لو جزمنا بعدم وجود قدر متيقن في مقام التخاطب، ودار الأمر بين الاطلاق والاهمال، فهم العرف من ذلك الاطلاق. لكننا لا نجزم بذلك، لأن هذا التوقيع جواب على أسئلة اسحاق بن يعقوب، ونحن غير مطلعين على سؤاله الذي أجاب الإمام عليه

232

بقوله: "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة احاديثنا؛ فأنهم حجتي عليكم" فلعل سؤاله كان بنحو يشكل قدراً متيقناً للجواب في مقام التخاطب، كما لو كان سؤاله عن حوادث معينة، وكان القدر المتيقن هو الحجية في تلك الحوادث وكل ما لا يحتمل الفرق بينه وبين تلك الحوادث.

الثالث:

أن يقال: ان الاطلاق في قوله: "فإنهم حجتي عليكم" يتم بقرينة التقابل بين ذلك وبين قوله "وأنا حجة الله"؛ فالذي يفهم من هذا التقابل عرفاً هو أنه حجة للإمام في كل ما كان الإمام (عليه السلام) حجة فيه لله، فتتم الولاية المطلقة.

وبالإمكان أن يقال: انه قصد بذلك أن العرف لا يرى هدفاً من وراء ذكر قوله "وأنا حجة الله" بعد قوله "فإنهم حجتي عليكم" إلا التقابل وبيان أن هذا حجة الإمام (عليه السلام) كما أن الإمام حجة لله، فهو حجة في كل ما كان الإمام حجة فيه. فيرد عليه: ان هنا هدفاً آخر عرفياً أيضاً، وهو: ان يكون قوله "وأنا حجة الله" بياناً لما يبرر حجية الراوي للإمام ويعطيه قيمة، فإن الإمام لو لم يكن هو حجة فكيف يعطي الحجية للراوي، وأي قيمة لهذه الحجية؟ فكأن الإمام (عليه السلام) يقول: أنا حجة الله، وبامكاني إعمال هذه الحجية بجعل حجة عليكم، فقد جعلت رواة الأحاديث عليكم.

233

وإن قصد بذلك أنه حتى مع فرض كون قوله "وأنا حجة الله" بصدد هذه الفائدة الثانية، يفهم العرف من هذا المقدار من التقابل ما ذكرناه من كونه حجة في كل ما كان الإمام حجة فيه، فعهدة ذلك على مدعيه، وأنا لا أرى أن العرف يفهم هكذا؛ فلو قال شخص لمن سأله: ممن اشتري دار زيد؟ فقال له: اشتر دار زيد من عمرو، فإنه وكيلي وأنا وكيل زيد… لم يفهم من ذلك كون عمرو وكيلاً لذاك الشخص في كل ما كان ذاك الشخص وكيلاً لزيد، والقدر المفهوم من هذا الكلام انما هو كونه وكيلاً عنه في بيع هذه الدار التي هي ملك لزيد، وأن المبرر لتوكيله لعمرو والموجب لنفوذه كونه وكيلاً لزيد، ولا يفهم من ذلك اطلاق.

الرابع:

أن يقال: ان الاطلاق بذاك المعنى، وإن لم يكن جارياً في المحمول بواسطة مقدمات الحكمة فحسب، ولكن حيث ان المحمول في نفسه له صلاحية الاطلاق، متى ما كانت المناسبات تقتضي الاطلاق يتم الاطلاق، ومتى ما لم توجد مناسبة خاصة من هذا القبيل لا يتم الإطلاق.

مثلاً: تارة نفترض أن زيداً في الحالة الاعتيادية يقول: اشتر داري من عمرو فإنه وكيلي، فهنا لا يفهم من ذلك الاطلاق وإن عمراً وكيله في كل شؤونه المالية، وإنما القدر المفهوم من الكلام كونه

234

وكيلاً له في بيع داره. أما إذا فرض أن زيداً على جناح السفر والغياب عن كل أمواله غياباً يطول خمسين سنة، فهو بحاجة ـ عادة ـ إلى وكيل في كل شؤونه المالية، فسأله أحد: ممن اشتري دارك؟ فقال: اشترها من عمرو فإنه وكيلي، فهنا يفهم العرف الاطلاق. وما نحن فيه من هذا القبيل، فإن الإمام (عليه السلام) غائب غيبة قد تطول مدة طويلة لا يعرفها الا الله، ومن الطبيعي والمعقول افتراض أن يكون بحاجة إلى جعل حجة في كل ما هو حجة الله فيه، وتحتاج الأمة إلى مراجعته فيه. ففي جو من هذا القبيل إذا سئل عن حوادث معينة، فقال في الجواب: ارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله… كان المفهوم من ذلك عرفاً الحجية على الاطلاق، ومعنى كونه حجة للإمام (عليه السلام) أنه منصوب من قبله في كل ما يرجع فيه إليه.

الملحق رقم (6)

إن هناك اموراً ثلاثة يستفاد بعضها أو كلها من هذا الحديث الشريف:

الأول: حجية رواية الراوي الثقة.

الثاني: حجية فتوى الفقيه الثقة.

الثالث: ولاية الفقيه الثقة ونفوذ حكمه.

235

وحكم الفقيه على قسمين:

1 ـ الحكم الذي له سمة الكاشفية عن واقع وراء هذا الحكم، من قبيل حكم الفقيه بالهلال، او قضائه في صالح أحد المترافعين، ولا يهدف انشاءً جديداً للحكم.

2 ـ الحكم الذي يهدف انشاءً جديداً للحكم على أساس إعمال الولاية، من قبيل ما لو حكم باتخاذ موقف معين لا على أساس اقتناعه الكامل بأن هذا الموقف هو الواجب في هذه الظروف في قبال سائر المواقف، بل على أساس إيمانه بضرورة تحديد موقف المجتمع في صورة معينة توحيداً للكلمة ورصاً للصفوف مثلاً.

ولنصطلح على القسم الأول بالحكم الكاشف، وعلى القسم الثاني بالحكم الولايتي.

ولا إشكال في دلالة هذا الحديث على حجية رواية الثقة، بل هي المقدار المتيقن من هذا الحديث الشريف، والمستفاد صريحاً من قوله (عليه السلام): "العمري ثقتي، فما أدى إليك عني فعني يؤدي، وما قال لك عني فعني يقول" وقوله، (عليه السلام): "العمري وابنه ثقتان، فما أديا إليك عني فعني يؤديان، وما قالا لك عني فعني يقولان".

ولكن هل يدل على حجية الفتوى ونفوذ حكم الحاكم بكلا قسميه أم لا ؟

236

قد يتبادر إلى الذهن أن هاتين الفقرتين لا تدلان على شيء من ذلك؛ أما الحكم فلأنه ليس نقلاً عن الإمام كي يشمله الاداء في قوله "ما أدى إليك عني" أو "ما أديا إليك عني". وأما الفتوى فلأنها ـ وإن رجعت بوجه من الوجوه إلى نقل رأي الامام لكنها نقل عن حدس، وليست ـ كالرواية ـ نقلا عن حس. وهاتان الفقرتان لو لم تضم إليهما نكتة اخرى، تنصرفان بطبعهما إلى النقل عن حس.

ولكن رغم ذلك، قد يمكن التمسك بهذا الحديث لاثبات نفوذ حكم الحاكم وحجية الفتوى على المقلد بأحد وجوه ثلاثة:

الأول: التمسك باطلاق قوله "فاسمع له وأطعه" أو "فاسمع لهما وأطعهما"، إذ يقضي باطلاقه وجوب السماع والاطاعة في كل شيء، سواء الرواية أو الفتوى أو الحكم.

ولكن يرد عليه:

أولاً: أن تفريع هذه الجملة بالفاء على جملة "ما أدى إليك عني فعني يؤدي" يكون ـ على أقل تقدير ـ محتمل القرينية على كون المقصود هو السماع والاطاعة في دائرة ما يصدق عليه أنه اداء عن الإمام ونقل عنه.

وثانياً: انه لو أريد التمسك باطلاق متعلق الأمر في "اسمع"

237

و "أطع" فقد تحقق في علم الأصول أن الاطلاق الشمولي لا يجري في متعلق الأمر، وإنما يجري في متعلق متعلق الأمر. فمثلاً لو قيل "أكرم العالم" دل على وجوب إكرام كل عالم، ولكن لم يدل على وجوب كل أنحاء الاكرام بنحو الشمول والاستغراق، وإنما يكون اطلاق المتعلق بدلياً. ولو أريد التمسك بالاطلاق الجاري في المتعلق المحذوف، أي: اسمع له وأطعه في كل شيء، فقد ثبت أيضاً في علم الأصول أن الاطلاق شأنه هو منح الكلمة شمولها واستغراقها بعد تعينها، لا تعيين الكلمة المحذوفة فيما هو مطلق.

ولو أريد التمسك بأن حذف المتعلق يفيد الاطلاق والشمول، فأيضاً أثبتنا في علم الأصول أن هذه القاعدة غير مقبولة عندنا الا عند عدم وجوب مقدار متيقن عند الخطاب مع كون المورد مورداً لا يناسب الاهمال، فيتعين الاطلاق. وفيما نحن فيه المقدار المتيقن هو الرواية، ذلك على أساس صراحة الجملة السابقة، وهي "ما ادى إليك عني فعني يؤدي" في حجية الرواية.

الثاني: اثبات الاطلاق في الجواب بقرينة السؤال، إذ جاء في السؤال "من أعامل؟ وعمن آخذ؟ وقول من أقبل"؟ وهذا مطلق يشمل الرواية والفتوى والحكم. وهذا الاطلاق مستفاد: اما عن طريق حذف المتعلق، أي "من أعامل؟ وعمن آخذ؛ كلاً من الرواية والفتوى والحكم؟" وليس هنا مقدار متيقن يخل بالاطلاق