1

تزكية النفس من منظور الثقلين (7)
التّوبة والأنابة (3)

بسم الله الرحمن الرحيم

وهنا نبدأ الحديث بالكلام المرويّ عن إمامنا أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد رُوي أنّه قال ـ لقائل بحضرته: أستغفر الله ـ: «ثكلتك أُمّك أتدري ما الاستغفار؟ إنّ الاستغفار درجة العلّيين، وهو اسم واقع على ستة معان: أوّلها الندم على ما مضى، والثاني العزم على ترك العود إليه أبداً، والثالث أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله أملس ليس عليك تَبِعَة، والرابع أن تَعْمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها فتؤدّي حقّها، والخامس أنّ تَعْمدَ إلى اللحم الذي نبت على السُّحت فتذيبه بالأحزان حتى يلصق الجلد بالعظم، وينشأ بينهما لحم جديد، والسادس أن تُذيقَ الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: أستغفر الله»(1).

والأوّلان من هذه الاُمور ركنان للتوبة، والثالث والرابع شرطان لقبول التوبة، والأخيران شرطان لكمال التوبة، وإليك قليل من التفصيل عن الأركان والشرائط.

الركن الأوّل ـ الندم:

وكونه ركناً للتوبة من الواضحات، فإنّ التوبة تعني: الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، أو الرجوع إلى الفطرة الطاهرة التي تدنّست بالذنب، وهذا لايمكن أن يكون من دون الندم على ما فات.

ولنعم عبد يندم على ذنبه قبل أن يمضي على ذلك سبع ساعات؛ وذلك لأنّ الروايات العديدة دلّت على أنّ كاتب السيئات لا يكتب السيئة التي تصدر عن العبد لمدّة سبع ساعات، وهذا يعني: أنّه إذا وقعت التوبة قبل السبع ساعات فلن يرى العبد ذنبه في يوم القيامة في صحيفة عمله، بينما لو وقعت التوبة بعد السبع ساعات فقد يرى ذنبه في صحيفة عمله يوم القيامة، وإن كان يرى بعد ذلك توبته أيضاً.


(1) البحار 6/36 ـ 37 نقلاً عن النهج، راجع ـ أيضاً ـ نهج البلاغة: 745، رقم الحكمة: 417.
2

فعن الصادق (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه و آله): أربع من كنّ فيه لم يهلك على الله بعدهنّ إلّا هالك: يهمّ العبد بالحسنة فيعملها، فإن هو لم يعملها كتب الله له حسنة بحسن نيّته، وإن هو عملها كتب الله له عشراً. ويهمّ بالسيّئة أن يعملها، فإن لم يعملها لم يكتب عليه شيء، وإن هو عملها أُجّل سبع ساعات، وقال صاحب الحسنات لصاحب السيئات وهو صاحب الشمال: لا تعجل عسى أن يُتبعها بحسنة تمحوها، فإنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ يقول: ﴿... إنّ الحسنات يذهبن السيئات﴾(1) أو الاستغفار، فإن قال: أستغفر الله الذي لا إله إلّا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم الغفور الرحيم ذا الجلال والإكرام وأتوب إليه، لم يكتب عليه شيء، وإن مضت سبع ساعات ولم يتبعها بحسنة واستغفار قال صاحب الحسنات لصاحب السيئات: اكتب على الشقيّ المحروم»(2).

والمقصود طبعاً بالاستغفار: طلب المغفرة المقترن بالتوبة بقرينة ما في ذيل الصيغة التي ذكرها للاستغفار، وهو قوله: وأتوب إليه، وبقرينة روايات أُخر من قبيل ما ورد عن الباقر (عليه السلام) من قوله: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ»(3).

وورد في حديث تام السند التأجيل من الغدوة إلى الليل، فعن زرارة بسند تام قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: «إن العبد إذا أذنب ذنباً أُجّل من غدوة إلى الليل، فإن استغفر الله لم تُكتَب عليه»(4).

وفي رواية أُخرى عن رسول الله (صلى الله عليه و آله): «صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال، فإذا عمل العبد سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: لا تعجل، وأنظره سبع ساعات، فإن مضت سبع ساعات ولم يستغفر قال: اكتُب فما أقلّ حياء هذا العبد»(5).

والركن الثاني ـ العزم على ترك العود:

وكون هذا ركناً ـ أيضاً ـ من الواضحات؛ إذ بدونه لا يصدق عنوان الرجوع إلى الله أو الرجوع إلى الفطرة الصافية.

والندم في الغالب يستبطن العزم على عدم العود.


(1) السورة 11، هود، الآية: 114.
(2) الوسائل 16/64 ـ 65، باب 85 من جهاد النفس، الحديث 1.
(3) الوسائل 16/74، الباب 86 من جهاد النفس، الحديث 8.
(4) الوسائل 16. 65، الباب 85 من جهاد النفس، الحديث 4.
(5) الوسائل 16/70.
3

وقد ورد في الحديث عن ربعي، عن الصادق (عليه السلام)، عن أمير المؤمين (عليه السلام): «إن الندم على الشرّ يدعو إلى تركه»(1) وعليه تحمل روايات فرض الندامة، هي: التوبة، من قبيل مرسلة الصدوق قال: من ألفاظ رسول الله (صلى الله عليه و آله) «الندامة توبة»(2).

وما عن عليّ الجهضمي عن الباقر (عليه السلام): «كفى بالندم توبة»(3).

وأمّا باقي الشرائط:

فمنها ـ تدارك ما هضمه من حقوق الله وحقوق الناس، وقد مضى ذلك في حديث علي (عليه السلام) في نهج البلاغة لمن قال بحضرته: أستغفر الله، ونظيره وارد ـأيضاًـ عن عليّ (عليه السلام) في حديثه لكميل في نقل تحف العقول حيث قال في عدّ معاني التوبة: «... والثالث أن تؤدّي حقوق المخلوقين التي بينك وبينهم، والرابع أن تؤدّي حقَّ الله في كلِّ فرض...»(4) حتى أنّه ورد في سند صحيح عن هشام بن الحكم، عن الصادق (عليه السلام) شرط هداية من أضلّه وإليك نصّ الحديث:

عن هشام بن الحكم (وفي بعض النقول: عن هشام بن الحكم وأبي بصير جميعاً) عن الصادق (عليه السلام) قال: «كان رجل في الزمن الأوّل طلب الدنيا من الحلال فلم يقدر عليها، وطلبها من الحرام فلم يقدر عليها، فأتاه الشيطان فقال له: ألاأدلّك على شيء تكثر به دنياك وتكثر به تبعك؟ فقال: بلى، قال: تبتدع ديناً، وتدعو الناس إليه. ففعل، فاستجاب له الناس وأطاعوه، فأصاب من الدنيا، ثُمّ إنه فكّر فقال: ما صنعت؟! ابتدعت ديناً، ودعوت الناس إليه ما أرى لي من توبة إلّا أن آتي من دعوته إليه فأردّه عنه، فجعل يأتي أصحابه الذين أجابوه، فيقول: إنّ الذي دعوتكم إليه باطل، وإنّما ابتدعته، فجعلوا يقولون: كذبت هو الحقّ، ولكنّك شككت في دينك، فرجعت عنه. فلمّا رأى ذلك عمد إلى سلسلة فوتّد لها وتداً، ثُمّ جعلها في عنقه وقال: لا أحلّها حتى يتوب الله ـ عزّ وجلّ ـ عليَّ، فأوحى الله ـ عزّ وجل ـ إلى نبيّ من الأنبياء قل لفلان: وعزّتي لو دعوتني حتى تنقطع أوصالك ما استجبت لك حتّى تردّ من مات على ما دعوته إليه فيرجع عنه»(5).


(1) الوسائل 16. 61، الباب 83 من جهاد النفس، الحديث 3.
(2) نفس المصدر السابق: ص62، الحديث..
(3) نفس المصدر السابق: ص62، الحديث 6.
(4) البحار 6/27 نقلاً عن تحف العقول.
(5) الوسائل 16/54، الباب 79 من جهاد النفس، الحديث 1.
4

وإنّنا نرجو أن يكون مفاد هذا الحديث خاصّاً بمورده، وهو: ابتداع الدين، أمّا لو كان مفاده عامّاً لكلّ من ضيّع حقاً ثُمّ عجز عن أدائه، أو لكل من ضيّع حقاً من حقوق الناس ثُمّ عجز عن أدائه، فإنّني أخشى أن يكون كثير منّا مبتلى بمفاده، فتبقى توبتنا ناقصة، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون. وعلى أيّة حال، فالتوبة واجبة حتى بمقدارها الناقص، ونرجو أن تنفعنا ولو نفعاً ناقصاً.

ثُمّ إنّه لا يبعد أن يكون قيد العمل الصالح الوارد في بعض آيات التوبة إشارة إلى هذا الشرط من قبيل قوله تعالى:

1 ـ ﴿إلّا من تاب وآمن وعمل صالحاً...﴾(1).

2 ـ ﴿وإنّي لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى﴾(2).

3 ـ ﴿ثم ان ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم﴾(3).

وقد يُفترض أنّ تدارك الذنب بأداء حقوق الله، وحقوق الناس، داخل في الإنابة لا في التوبة، فالتوبة: رجوع إلى الله اعتذاراً عن الذنب. والإنابة: رجوع إليه إصلاحاً لما فرّط فيه. والتوبة: رجوع إليه عهداً. والإنابة: رجوع إليه وفاءً(4).

إلّا أنّ الظاهر: أنّ التوبة والإنابة لهما معنىً واحد، وهو: الرجوع.

وعلى أيّة حال، فليس هذا إلّا مشاحّة في الاصطلاح.

ومنها ـ أن يكون ذلك قبل انكشاف اُمور الآخرة أو قبل معاينة الهلاك كما ورد في القرآن: ﴿وليست التوبة للذين يعملون السيِّئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنّي تبت الآن...﴾(5).

وقال ـ أيضاً ـ عزّ من قائل في قِصَّة فرعون: ﴿حتى إذا أدركه الغَرَق قال آمنت أنه لا إله إلّا الذي آمنت به بنو اسرائيل وأنا من المسلمين. الآن وقد عصيت من قبل وكنت من المفسدين﴾(6).


(1) السورة 19، مريم، الآية: 60.
(2) السورة 20، طه، الآية: 82.
(3) السورة 16، النحل، الآية: 119.
(4) راجع منازل السائرين لعبدالله الأنصاري باب الإنابة، وهو الباب الرابع من أبواب البدايات.
(5) السورة 4، النساء، الآية: 18.
(6) السورة 10، يونس، الآيتان: 90 ـ 91.
5

والأحاديث بهذا الصدد كثيرة من قبيل:

ما عن رسول الله (صلى الله عليه و آله): «من تاب قبل موته بسنة قَبلَ الله توبته، ثُمّ قال: إنّ السنة لكثير، من تاب قبل موته بشهر قَبِلَ الله توبته، ثُمّ قال: إنّ الشهر لكثير، ثُمّ قال: من تاب قَبلَ موته بجمعة قَبل الله توبته، ثُمّ قال: وإنّ الجمعة لكثير، من تاب قبل موته بيوم قَبلَ الله توبته، ثُمّ قال: إنّ يوماً لكثير، من تاب قبل أن يعاين قَبلَ الله توبته»(1).

وقد ورد في سند صحيح عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إذا بلغت النفس هذه ـ وأهوى بيده إلى حلقه ـ لم يكن للعالم توبة، وكانت للجاهل توبة»(2).

وقد يقال: إنّ من نعم الله ـ تعالى ـ على عبده أنّ الموت يبدأ بالرجل، وينتهي إلى الرأس دون العكس، فتكون للإنسان مهلة التوبة قبل أن يغرغر بروحه، ويعاين أمر الآخرة.

ومن الأحاديث الصحيحة سنداً الدالّة على سَعَة الوقت بمعنى قبول التوبة متى ما وقعت قبل ساعة الموت وإن كانت هي من الواجبات الفورية ما ورد عن محمد بن مسلم، عن الباقر (عليه السلام): «يا محمّد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب منها مغفورة له، فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة، أما والله إنّها ليست إلّا لأهل الإيمان، قلت: فإن عاد بعد التوبة والاستغفار من الذنوب وعاد في التوبة؟ قال: يا محمّد بن مسلم أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر منه ويتوب ثُمّ لا يقبل الله توبته؟! قلت: فإنّه فعل ذلك مراراً يذنب ثُمّ يتوب ويستغفر؟ فقال: كلّما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة عاد الله عليه بالمغفرة، وإنّ الله غفور رحيم يقبل التوبة ويعفو عن السيئات، فإيّاك أن تقنّط المؤمنين من رحمة الله»(3).

ولعلّ السرّ في شرط عدم حضور الموت لقبول التوبة أحد أمرين:


(1) الوسائل 16/87، الباب 93 من جهاد النفس، الحديث 3.
(2) الوسائل 16. 87، الباب 93 من جهاد النفس، الحديث..
(3) الوسائل 16/79 ـ 80، الباب 89 من جهاد النفس، الحديث 1.
6

أوّلا ـ أنّ الإيمان النافع هو الإيمان بالغيب، أمّا الإيمان بالشهود فلا قيمة مهمّة له، فإنّ الإيمان بالشهود أمر سهل يفعله كلّ أحد، وإنّما الخروج من الامتحان يكون بالإيمان بالغيب واتّباعه؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم* الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين* الذين يؤمنون بالغيب...﴾(1) أمّا إذا حضر الموت وانكشفت اُمور الآخرة فقد تحوّل الغيب إلى الشهود، وعندئذ لا قيمة مهمّة لحدوث إيمان أو توبة؛ ولعلّه لهذا السبب قال الله تعالى: ﴿وقالوا لولا أُنزِل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لايُنظرون﴾(2).

إذ إن نزول الملك الذي هو من عالم الغيب يعني تحوّل الغيب إلى الشهود، وعندئذ تنقطع المهلة، ويُقضى الأمر. وأيضاً قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وقالوا ياأيّها الذي نزّل عليه الذكر انك لمجنون* لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين* ماننزّل الملائكة إلّا بالحق وما كانوا إذن مُنظرين﴾(3).

وثانياً ـ أنّ فتح باب التوبة لم يكن يعني: أنّ التائب لا يستحقّ العقاب على معصيته، فإنّ العاصي خالف الحقّ، ومخالفُ الحقّ يستحقُّ الجزاء ولو تاب، وذلك من قبيل ما لو أنّ أحداً قَتَل ابنك، ثُمّ تندّم على ما فعل وتاب لم تُسْقِط توبتُه حقَّ قِصاصك عليه، فكذلك من خالف حقّ الربّ تبارك وتعالى فاستحقّ العقاب لايُسْقِط بتوبته استحقاقه للعقاب، وإنّما يعني فتحُ باب التوبة: أنّ الله ـ تعالى ـ يريد تطهير روحك، وتنظيف قلبك من الدنس الذي تدنّستَ به بسبب المعصية، وجعل العقاب رحمةً بك؛ كي يؤدّي إلى أن تحرق روحك بنار التوبة قبل نار جهنّم، فإذا تبت فقد طهرت من الدنس، ورجعت إلى الفطرة الصافية، وكان هذا هو المقصود لله سبحانه، فيقبل توبتك؛ لأنّ التوبة تعني: التحول والانقلاب الحقيقيين فيواقع نفسك، وهذا لا يكون حينما تكون التوبة نتيجة رؤية البأس والهلاك؛ إذ عندئذ يندم الإنسان لما يرى أمامه من العذاب الفعلي، وهذا لا يعني حصول التحوّل والانقلاب الحقيقيين في نفسه ورجوع الصفاء والطهارة إليه.


(1) السورة 2، البقرة، الآيات. ـ 3.
(2) السورة 6، الأنعام، الآية: 8.
(3) السورة 15، الحجر، الآيات:. ـ 8.
7

وعلى آيّة حال، فالعلاجات الروحية الواردة في القرآن او عن المعصومين (عليهم السلام) حالها حال وصفات أطباء الجسم، أي: إنّه كما تكون وصفة الطبيب نافعة حينما تستعمل في محلّها، أمّا لو استعملت وصفة الطبيب التيوضعها للتيفو مثلاً في ذات الجَنْب، والوصفة التي وضعها لذات الجَنْب في التيفو، لا تنفع بل تضرّ، كذلك الوصفات الروحية الواردة في الكتاب والسنّة، فمثلاً هذه المهلة والسَعَة التي عرفتها في باب التوبة قد وضعت لعلاج مرض اليأس؛ لأنّه لولاها ليأس الذين لم يمارسوا التوبة فور حصول المعصية ولأدّى ذلك إلى تماديهم في الغيّ وهلاكهم، فجعل باب التوبة مفتوحاً أمامهم ما لم يحضرهم الموت. أمّا لو استعملها أحد في مقام تسويف التوبة بحجة أنّه مادامت التوبة مقبولة قبل حضور الموت، والسنة كثيرة، والشهر كثير، والجمعة كثيرة، واليوم كثير، فلا داعي لي إلى الاستعجال بالتوبة وحرمان النفس من اللذات والشهوات، فقد اصبحت الوصفة هنا مضرّة لا نافعة؛ لأنّ تأجيل التوبة وتسويفها يجعل الإنسان بين خطرين: خطر مباغتة الموت وحيلولته بين الإنسان والتوبة، وخطر اشتداد رين القلب بالتمادي في الذنوب إلى أن ينحرم من التوبة ولا يتوفّق لها.

وقد ورد عن إمامنا أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير عمل، ويرجّي التوبة بطول الأمل، يقول فيالدنيا بقول الزاهدين، ويعمل فيها بعمل الراغبين...». إلى أن قال: «... إن عرضت له شهوة أسلف المعصية، وسوّف التوبة...»(1).

وقد رُوِيَ عن لقمان أنّه قال لابنه: «يا بنيّ لا تؤخّر التوبة فإن الموت يأتي بغتة...»(2).


(1) نهج البلاغة: 687 ـ 688، رقم الحكمة: 150.
(2) المحجة 7/22.
8

فالذي يستعمل هذه الوصفة بهذا الأُسلوب غير الصحيح وهو تأجيل التوبة لا يأمن الابتلاء في يوم موته بالوصف المنقول عن إمامنا أمير المؤمنين (عليه السلام) فيما ورد في نهج البلاغة(1) من قوله: «... اجتمعت عليهم سكرة الموت وحسرة الفوت، ففترت لها أطرافهم، وتغيّرت لها ألوانهم، ثُمّ ازداد الموت فيهم ولوجاً، فحيل بين أحدهم وبين منطقه، وإنّه لبين أهله ينظر ببصره، ويسمع باُذنه على صحة من عقله وبقاء من لبّه، يفكّر فِيمَ أفنى عمره، وفيم أذهب دهره ويتذكّر أموالاً جمعها أغمض في مطالبها، وأخذها من مصرّحاتها ومشتبهاتها، قد لزمته تَبِعَات جَمْعِها، وأشرف على فراقها، تبقى لمن وراءه ينعمون فيها، ويتمتّعون بها، فيكون المَهنَأُ لغيره، والعِبءُ على ظهره، والمرء قد غَلِقَتْ رُهُونُهُ بها، فهو يعضّ يديه ندامة على ما أصحر له عند موته من أمره، ويزهد فيما كان يرغب فيه أيّام عمره، ويتمنّى أنّ الذي كان يَغْبِطُهُ بها ويَحْسُده عليها قد حازها دونه...».

وعن إمامنا زين العابدين (عليه السلام) أنّه قال في حديث طويل:

فيا لهف نفسي كم أُسوّف توبتي
وعمريَ فان والردى ليَ نـاظر
وكل الذي أَسلفت في الصحف مثبت
يجازي عليه عادل الحكم قاهر(2)

ومنها ـ الإيمان كما هو صريح القرآن في قوله تعالى: ﴿وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى اذا حضر أحدهم الموت قال إنّي تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفّار اولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً﴾(3). وقد جاء قيد الإيمان في عديد من آيات التوبة كقوله:

﴿إلّا من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا﴾(4).

﴿وإنّي لغفّار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى﴾(5)

﴿إلّا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدّل الله سيئاتهم حسنات...﴾(6).

﴿والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم﴾(7).


(1) نهج البلاغة: 206 ـ 207، رقم الخطبة: 109.
(2) البحار 46. 87 تحت الخط.
(3) السورة 4، النساء، الآية: 18.
(4) السورة 19، مريم، الآية: 60.
(5) السورة 20، طه، الآية: 82.
(6) السورة 25، الفرقان، الآية: 70.
(7) السورة 7، الأعراف، الآية 153.
9

وليس قيد الإيمان مستأنفاً بتخيّل أنّ الكافر لا معنى لأن يتوب إلى الله؛ وذلك لأنّ الكفر لا ينحصر في إنكار الله عزّ وجل، فقد يكون كتابياً يؤمن بالله، بل وقد يكون مشركاً من عبدة الأوثان الذين يقولون: ﴿... ما نعبدهم إلّا ليقربونا إلى الله زلفى...﴾(1).

وقد دلّت بعض الروايات على اشتراط الإيمان بالمعنى الخاص، وهو: التشيع من قبيل ما مضى من صحيحة محمّد بن مسلم عن الباقر (عليه السلام): «... أما والله إنّها ليست إلّا لأهل الإيمان...»(2) فإنّ كلمة (أهل الإيمان) في ذاك التاريخ مصطلح للشيعة.

وأمّا شرائط الكمال فالروايات فيها عديدة:

منها ـ ما مضى من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة والذي ذكر فيه إذابة اللحم النابت من الحرام، وإذاقة الجسم ألم الطاعة كما ذاق حلاوة المعصية(3) ونحوه كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) لكميل في رواية تحف العقول(4).

ومنها ـ ما ورد فيه شرط الصوم كحديث أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) في تفسير توبة النصوح قال: «هو صوم يوم الأربعاء والخميس والجمعة»(5).

ومنها ـ ما ورد فيه شرط الصلاة من قبيل ما في نهج البلاغة: «ما أهمني ذنب أُمهِلتُ بعده حتى أُصلّي ركعتين وأسأل الله العافية»(6).


(1) السورة 39، الزمر، الآية: 3.
(2) الوسائل 16/79، الباب 89 من جهاد النفس، الحديث 1.
(3) نهج البلاغة: 745، رقم الحكمة: 417.
(4) تحف العقول: 197.
(5) الوسائل 16/78 ـ 79، الباب 88 من جهاد النفس، الحديث 1.
(6) نهج البلاغة: 719، رقم الحكمة: 299.
10

ومنها ـ ما ورد فيه شرط الغسل والصلاة من قبيل ما عن مسعدة بن زياد(1)قال: «كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) فقال له رجل: بأبي أنت وأُمي أدخل كنيفاً ولي جيران، وعندهم جوار يتغنّين ويضربن بالعود، فربّما أطلت الجلوس استماعاً منّي لهنّ فقال (عليه السلام): لا تفعل فقال الرجل: والله ما آتيهنّ، أنما هو سماع أسمعه بأُذني؟ فقال (عليه السلام): لله أنت أما سمعت الله يقول: ﴿... إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا﴾(2) فقال: بلى والله لكأنّي لم أسمع بهذه الآية من كتاب الله من عربيّ ولا من عجميّ، لا جرم إنّي لا أعود إن شاء الله، وإنّي أستغفر الله، فقال له: قم فاغتسل وصلّ ما بدالك، فإنّك كنت مقيماً على أمر عظيم، ما كان أسوأ حالك لو متّ على ذلك، احمد الله وسله التوبة من كلّ ما يكره، فإنّه لا يكره إلّا كلّ قبيح، والقبيح دعه لأهله، فإنّ لكلّ أهلاً».

الرابع ـ التوبة النصوح:

قال الله سبحانه وتعالى: ﴿يا أيّها الذين آمنوا توبوا الى الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفّر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنّات تجريمن تحتها الأنهار يوم لايخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربّنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير﴾(3).

«... الهي أنت الذي فتحت لعبادك باباً إلى عفوك سمّيته التوبة، فقلت: توبوا إلى الله توبة نصوحاً فما عُذرُ من أغفل دخول الباب بعد فتحه... »(4).

أمّا ما معنى التوبة النصوح؟ فقد فُسِّرت فيالروايات بتفاسير ثلاثة:


(1) الوسائل 3/331، الباب 18 من الأغسال المسنونة. الحديث الوحيد في الباب.
(2) السورة 17، الإسراء، الآية: 36.
(3) السورة 66، التحريم، الآية: 8.
(4) مفاتيح الجنان، مناجاة التائبين، وهي المناجاة الأُولى من المناجيات الخمس عشرة المعروفة.
11

1 ـ أن يتوب العبد من الذنب، ثُمّ لا يعود إليه. وبذلك نطقت صحيحة أبي بصير قال: «قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): ﴿يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً...﴾ قال: هو الذنب الذي لا يعود فيه أبداً، قلت: وأيُّنا لم يعد؟ فقال: يا أبا محمّد إنّ الله يحبّ من عباده المفتن التوّاب»(1) ونحوها غيرها(2).

2 ـ أن يكون باطن التائب كظاهره وأفضل كما دلت على ذلك رواية عبدالله بن سنان عن الصادق (عليه السلام) قال: «التوبة النصوح أن يكون باطن الرجل كظاهره وأفضل»(3) ونحوها غيرها(4).

3 ـ أن يبدأ التوبة بصوم يوم الأربعاء والخميس والجمعة كما في رواية أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) في قوله عزّ وجل: ﴿... توبوا إلى اللهتوبة نصوحاً...﴾ قال: «هو صوم يوم الأربعاء والخميس والجمعة»(5).

وإذا استثنينا المعنى الثالث لوضوح كونه تفسيراً بالمقدمة، فكأنّ المعنى: أنّ صوم تلك الأيام الثلاثة توفِّق الإنسان للتوبة النصوح، إذن يبقى المعنيان الأوّلان. ولا يبعد رجوعهما إلى معنىً واحد، فتفسيرها بعدم العود يعني: أنّ التوبة النصوح هي التي تَخْلُق في النفس تغيّراً وانقلاباً وتطهيراً يمنع صاحبها من أن يرجع إلى ذلك الذنب أبداً. وهذا هو الذي يكون باطنه كظاهره وأفضل.

وإن شئت فقل: إنّ النصوح صفة مشبّهة، أو مبالغة في الناصح الذي هو عبارة عن الشيء الكامل والصاحي والمحكم وما إلى ذلك من التعبيرات، فمن علامات نصح التوبة عدم الرجوع إلى الذنب، ومن علاماته كون الباطن كالظاهر وأفضل، ومن مقدِّماته صوم الأيام الثلاثة.

وأمّا الكلام على الآثار الأُخروية للتوبة النصوح فكأنّه يستفاد من الآية الكريمة: أنّ التوبة النصوح زائداً على ما يترتب عليها من المغفرة ودخول الجنة لها مزيّتان أُخريتان هامّتان:


(1) الوسائل 16/72، الباب 86 من جهاد النفس، ح3، وص80، الباب 89 منها، الحديث 4.
(2) من قبيل رواية أبي الصباح الكناني عن الصادق (عليه السلام) ومحمّد بن الفضيل، عن أبي الحسن موسى(عليه السلام)في الوسائل 16/72 ـ 73، الباب 86 من جهاد النفس، الحديث 4.
(3) نفس المصدر السابق 16/77، الباب 87 من جهاد النفس، الحديث 2.
(4) نفس المصدر السابق، الحديث 1.
(5) نفس المصدر السابق: ص 78 ـ 79، الباب 81 من جهاد النفس، الحديث 1.
12

الأُولى ـ أنّها توجب ستر العيب في يوم القيامة ﴿يوم تُبلى السرائر* فما له من قوّة ولا ناصر﴾(1)؛ وذلك لقوله تعالى: ﴿... توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفّر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنّات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه...﴾ ومن الواضح أنّ فضح الذنب في عرصات يوم القيامة من أشدّ أنحاء الإخزاء، أعاذنا الله منه.

وقد ورد التصريح بذلك أعني ستر عيب التائب توبة نصوحاً في حديث صحيح السند عن معاوية بن وهب قال: «سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: إذا تاب العبد توبة نصوحاً أحبّه الله، فستر عليه في الدنيا والآخرة. قلت: وكيف يستر عليه؟ قال: ينسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب، ويوحي إلى جوارحه اكتمي عليه ذنوبه، ويوحي إلى بقاع الأرض اكتمي ما كان يعمل عليك من الذنوب، فيلقى الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب»(2).

والثانية ـ أنّها تبعث للتائبين في ظلمات يوم القيامة نوراً بين أيديهم وبأيمانهم، وهو المستفاد من ذيل الآية المباركة حيث قال: ﴿نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربّنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنّك على كل شيء قدير﴾.

وهذا التعبير قد ورد ـ أيضاً ـ في القرآن في صفة المؤمنين والمؤمنات في قوله تعالى: ﴿يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنَّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم* يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً...﴾(3).

ويبدو لي من ذيل هذه الآية الأخيرة: أنّ المنافقين يتخيّلون أنّ نور المؤمنين يشبه نور سراج الدنيا الذي يمكن لغير صاحب النور أن يستفيد منه لو جعله صاحب النور أمام من يريد الاستفادة؛ ولذلك يقولون: انظرونا كي يصبح النور الذي في مقابلكم في مقابلتنا أيضاً، فنستفيد منه، ولكنّهم لا يعلمون أنّ هذا النور ليس كنور المصباح الدنيوي، بل لو صحّ تشبيهه بالأنوار الدنيوية فالأنسب أن يشبّه بنور البصر الذي لا يقبل الاكتساب، بل هو نور ذاتيّ للبصر يستفيد منه صاحب النور فحسب، ولا يكون إلّا في عين صحيحة، فمن كان من حين ولادته وفي رحم أُمّه مثلاً أعمى لا يصح له أن يقول للمبصر: انظرني أقتبس من نورك، ولو قال له ذلك لأجابه المبصر بأنّ هذا النور إنّما جئتُ به من رحم أُمّي، فارجع إلى ورائك في رحم أُمك وائت بالنور، فكذلك يقال للمنافقين والمنافقات في يوم القيامة: إنّ المؤمنين قد أتوا بهذا النور من الدنيا فارجعوا وراءكم إلى الدنيا، والتمسوا لكم منها نوراً.


(1) السورة 86، الطارق، الآيتان:. ـ 10.
(2) الوسائل 16/71، الباب 86 من جهاد النفس، الحديث 1.
(3) السورة 57، الحديد، الآيتان: 12 ـ 13.
13

وفي ختام الحديث عن التوبة النصوح تجب الإشارة إلى أنّ التائب لو خانته نفسه، ولم يستطع على جعل توبته نصوحاً بمعنى عدم العود، وتكرّر منه ذلك، فليس المفروض به أن ييأس من فائدة التوبة، فقد مضى في ذيل صحيحة أبي بصير قوله (عليه السلام): «... إنّ الله يحبّ من عباده المفتّن التواب»(1) والإنسان يكون في كثير من الأحيان قبل تزكية نفسه بالرياضات النفسية مبتلىً بحالة الوقوع في كسر التوبة والرجوع إليها مراراً وتكراراً، فحاله كحالة الطفل الذي يعطي لوالديه التعهد بترك الجهالات ثُمّ يكسر ذلك ويكرّر المخالفة والتوبة، وهذا لا يوجب طرده من قبل والديه.

وبهذه المناسبة لا بأس بذكر القِصّة(2) التالية التي فيها عظة وعبرة:

رُوِيَ أنّ شيخاً كان يمشي في أحد الطرق، فرأى طفلاً جالساً يبكي، فسأله مِمّ بكاؤك؟ فقال: إنّ أُمّي أخرجتني من البيت، وكلّما أستجير بالبيوت الأُخرى لا يُفتح لي الباب. فجلس الشيخ عند الطفل، وأخذ يوافق الطفل في البكاء، وقال: لو أنّ طفلاً نهرته أُمّه وطردته من البيت لا يفتح له باب آخر فمن ينهره الله ـ تعالى ـ عن بابه إلى أين يذهب، وكيف ينفتح عليه باب آخر؟! ثُمّ قام الشيخ لكي يذهب في طريقه، فتعلّق به الطفل، وطلب منه أن يشفعه لدى أُمّه، فوافق الشيخ على ذلك، وأخذ بيد الطفل إلى بيت أُمّه، وشفعه عندها، فبكت الأُم، وقالت: يا شيخ نعم الشفيع أنت، ولكن قد شفعه ـ أيضاً ـ قبلك قانون (أولادنا أكبادنا)، ولكنّه يا شيخ إني كلّما أمنعه عن اللعب لا ينزجر، فاعلم أيّها الشيخ: لو خرج مرّة أُخرى من دون إذني من البيت ليلعب قطعت عنه علاقة الأُمومة والبنوّة، فوافق الشيخ على ذلك، فطلبت منه أن يكتب رسالة بهذا المعنى؛ كي لا يلعب بعد هذا مع الأطفال، وإلّا فما هو ابني ولا أنا أُمّه، فكتب الشيخ بذلك رسالة، وأعطاها إيّاها، فأخذت بيد الطفل، وأدخلته البيت، فما مضت إلّا سويعة وإذا رأى الشيخ أنّ الطفل قد خرج من البيت، وانشغل باللعب مع الأطفال، فغضبت الأُمّ، وسدّت عليه الباب إلى أن انتهوا من اللعب، وذهب كلّ واحد منهم إلى بيته، وبقي وحده، فجاء إلى البيت، ولكن كلّما دقّ الباب لم تفتح عليه الباب، فالتجأ إلى بيوت الجيران واحداً واحداً، ولكنّهم لم يفتحوا له أبوابهم، فاحتار في أمره، ورجع مرّة أُخرى إلى بيت أُمّه، وكلّما دق الباب لم يُفتح له، فقال: يا أُمّ إن لم ينفتح عليّ باب الجيران كان لي وجه للرجوع إلى هذا الباب، ولكن لو لم ينفتح عليّ هذا الباب ليس لي وجه للرجوع إلى باب آخر، وأخذ يبكي ويئنّ، وجعل وجهه على التراب إلى أن أخذه النوم وأمّه تراقب حاله من على السطح، فحينما رأت الطفل قد نام بكمال الذل والانكسار في التراب رمت بنفسها، ورفعت رأس طفلها من على تراب الذلّ، وأخذت تمسح الغبار عن وجهه وهو نائم، ولمّا استيقظ الطفل، ونظر إلى وجه أُمّه قال: يا أُمّ لو تقطعي عنّي الماء والخبز فهو مقبول، ولو تفركي أُذني فأنا مستحقّ لذلك، ولو تركِتني في البكاء والحنين أتحمّل ذلك، ولكنّ الذيأطلبه منك أن لا ترسليني من باب بيتك إلى أبواب الآخرين، فلمّا رأى الشيخ هذه القِصَّة شقّ قميصه، وقال: اتّضح لي من هذه القِصّة أمران:


(1) الوسائل 16. 72، الباب 86 من جهاد النفس، الحديث 3، وص 80، الباب 89 منها، الحديث 4.
(2) وردت القِصّة في كتاب خزينة الجواهر في زينة المنابر: 179 ـ 180.
14

1 ـ إنّ العبد ليس له باب وطريق غير باب الله عزّ وجلّ(1).

2 ـ إنّ علاقة المحبّة لا تنفصم بأي شيء(2).

أقول: يا ترى أنّ الأُمّ تفرح برجوع ولدها وتوبته، وتتجاوز عن سيّئته، ولكن الله ـ تعالى ـ الذي ألهم الأُمّ هذه الرحمة وهو أرحم الراحمين لا يقبل توبة العبد، ولا يفرح برجوع عبده المؤمن؟! وإنّ عطفه تعالى ورحمته على العباد ثابتان حتى في يوم المعاد في حين أنّ عطف الأُمّ وحنانها لا يبقى لهما أثر في ذلك اليوم ﴿يوم ترونها تذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ولكن عذاب الله شديد﴾(3).

﴿يوم يفرّ المرء من أخيه. وأُمّه وأبيه. وصاحبته وبنيه. لكل امرىً منهم يومئذ شأن يغنيه﴾(4).

﴿يوم تكون السماء كالمهل. وتكون الجبال كالعهن* ولا يسأل حميم حميماً. يُبصَّرونهم يودّ المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه. وصاحبته وأخيه. وفصيلته التي تؤويه. ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه. كلاّ إنها لظى. نزّاعة للشوى﴾(5).

﴿يوم لا ينفع مال ولا بنون. إلّا من أتى الله بقلب سليم﴾(6).

وفي ختام حديثنا عن التوبة أقول: إنّ الآية الشريفة ﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنّه هو الغفور الرحيم. وأنيبوا إلى ربكم...﴾(7). قد ذُكرت لها شؤون نزول، ويُحْتمَل أنّها كانت جميعاً من قبيل التطبيق على المورد لا من قبيل شأن النزول، ولكنّها على أيّ حال تعتبر جميعاً قصصاً لأشخاص صدرت عنهم الذنوب الكبار العظام ممّا يؤدي إلى سَعَة الأمل للمذنبين بهذه الآية المباركة، ولذا نشير هنا إلى بعض تلك الموارد:


(1) «... إلى من يذهب العبد إلّا إلى مولاه، وإلى من يلتجئ المخلوق إلّا إلى خالقه...». مفاتيح الجنان/دعاء أبي حمزة الثمالي.
(2) «... هيهات أنت أكرم من أن تضيّع من ربّيته، أو تبعّد من أدنيته، أو تشرّد من آويته، أو تسلّم إلى البلاء من كفيته ورحمته...». مفاتيح الجنان، دعاء كميل.
(3) السورة 22، الحج، الآية: 2.
(4) السورة 80، عبس، الآيات: 34 ـ 37.
(5) السورة 70، المعارج، الآيات:. ـ 16.
(6) السورة 26، الشعراء، الآيتان: 88 ـ 89.
(7) السورة 39، الزمر، الآيتان: 53 ـ 54.
15

أولها ـ قيل: إنّها نزلت بشأن وحشي، وقد ورد في تفسير نمونه(1): أنّ سورة الزمر من السور المكية، ووقتئذ لم يكن قد وقعت قِصَّة وحشي ولا وقعة أُحد، فلا يمكن أن تكون قِصَّة وحشي شأن نزول للآية المباركة، فلعلّ هذا كان تطبيقاً لهذه الآية على ذاك المورد.

وعلى أيّة حال، فوحشي هو ذاك المجرم المعروف قاتل حمزة عمّ النبي (صلى الله عليه و آله) في وقعة أُحد.

وقد رُوِيَ في تفسير القمي(2) أنّ هند بنت عتبة «... كانت في يوم أُحد في وسط العسكر، فكلّما انهزم رجل من قريش رفعت له ميلاً ومكحلة، وقالت: إنّما أنت امرأة، فاكتحل بهذا، وكان حمزة بن عبدالمطلب يحمل على القوم، فإذا رأوه انهزموا، ولم يثبت له أحد، وكانت هند بن عتبة قد أعطت وحشياً عهداً: لئن قتلت محمّداً أو عليّاً أو حمزة لأعطيتك رضاك، وكان وحشي عبداً لجبير بن مطعم حبشيّاً، فقال وحشي: أمّا محمّد فلا أقدر عليه، وأمّا عليّ فرأيته رجلاً حذراً كثير الالتفات فلم أطمع فيه، فكمنت لحمزة، فرأيته يهدّ الناس هدّاً، فمرّ بي، فوطأ على جرف(3) (حرف خ ل) نهر فسقط، فأخذت حربتي فهززتها ورميته، فوقعت في خاصرته، وخرجت من مثانته مغمسة بالدم، فسقط، فأتيته، فشققت بطنه، فأخذت كبده، وأتيت بها إلى هند، فقلت لها: هذه كبد حمزة، فأخذتها في فيها فلاكتها، فجعلها الله في فيها مثل الداغصة(4) (الفضّة خ ل) فلفظتها ورمت بها، فبعث الله ملكاً فحملها وردّها إلى موضعها..».

وقد ورد في سفينة البحار: «حكي أنّ مسيلمة الكذّاب اشترك في قتله وحشي وأبو دجانة، فكان وحشي يقول: قتلت خير الناس وشرّ الناس حمزة ومسيلمة..» ومنه الحديث: «حمزة وقاتله في الجنة»(5).

وذكرَ في تفسير نمونه(6) نقلاً عن بعض المفسّرين:


(1) تفسير «نمونه» 19. 502.
(2) تفسير القمي 1/116 ـ 117.
(3) الجرف: الجانب الذي أكله الماء من حاشية النهر. (المنجد)
(4) من معاني الداغصة على ما ورد في المنجد: عظم الركبة المسمى عامياً بالصابونة.
(5) سفينة البحار 8/420.
(6) تفسير «نمونه» 19/506.
16

لما كثرت انتصارات الإسلام أراد وحشي أن يسلم، لكنّه كان يخشى عدم قبول إسلامه، فنزلت الآية، فأسلم، وقال له رسول الله (صلى الله عليه و آله): «كيف قتلت عمّي حمزة؟ فذكر وحشي قِصّة قتله لحمزة (رحمه الله)، فبكى رسول الله (صلى الله عليه و آله) بكاءً شديداً، وقَبِل توبته، ولكنّه قال له: غيّب وجهك عنّي، فإنّي لا استطيع النظر إليك. فلحق بالشام، فمات في أرض تُسمّى بالخمر.

وورد في تفسير الفخر الرازي: لما أسلم وحشي بناءً على هذه الآية قيل لرسول الله (صلى الله عليه و آله): «هذه له خاصّة أم للمسلمين عامّة؟ فقال: بل للمسلمين عامّة»(1).

وثانيها ـ ما رواه في تفسير نمونه(2) باختصار عن تفسير أبي الفتوح الرازيج9 ص412 من أنّ شاباً جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه و آله) باكياً مع شدّة التأثّر، وكان يقول: إنّي أخشى من غضب الله، قال له الرسول (صلى الله عليه و آله): هل أشركت؟ قال: لا، قال: هل قتلت أحداً بغير حق؟ قال: لا، قال (صلى الله عليه و آله): يغفر الله لك ذنوبك مهما كثرت، قال: إنّ ذنبي أعظم من السماء والأرض والعرش والكرسيّ، فقال له رسول الله (صلى الله عليه و آله): هل أنّ ذنبك أعظم من الله؟! قال: لا، الله أكبر من كلّ شيء، قال له: تب فإنّ الإله العظيم يغفر الذنب العظيم.

ثُمّ قال له: اذكر لي ذنبك: قال: استحي منك من ذكره، قال (صلى الله عليه و آله): اذكره لنا كي نعرف ماهو هذا الذنب، قال: كنت أنبش القبور سبع سنين، وأسرق أكفان الموتى إلى أن انتهيت إلى قبر أنصاريّة، وبعد أن أخذت كفنها وسوستني نفسي، وهنا يشرح فعلته الشنيعة معها، فغضب رسول الله (صلى الله عليه و آله) وقال: أخرجوا هذا الفاسق عنّي، وقال له: ما أقربك من النار، فخرج وكان يبكي بكاءً عظيماً، وذهب إلى الصحراء، وكان يقول: يا إله محمّد (صلى الله عليه و آله) إن قبلت توبتي أخبر رسولك بذلك، وإلّا فأرسل صاعقة من السماء وأحرقني بها، وأنجني بذلك من عذاب الآخرة، فنزلت الآية: ﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله...﴾.


(1) التفسير الكبير للفخر الرازي 27/4.
(2) تفسير «نمونه» 19. 507 ـ 508.
17

وقد ذكر الشيخ المجلسي (قدس سره) هذه القِصّة بكلّ تفصيل في البحار(1)، إلّا أن الآية التي فرض نزولها في تلك القِصَّة ليست الآية الماضية، بل آية أُخرى، وهي قوله تعالى: ﴿والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلّا الله ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون* اولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنّات تجريمن تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين﴾(2).

وثالثها ـ ما رواه فخر الرازي في تفسيره(3) بعنوان أحد الأُمور التي ذكرت في سبب نزول الآية، وهو أنّه قيل: «إنّها نزلت في أهل مكّة، فإنّهم قالوا: يزعم محمّد (صلى الله عليه و آله) أنّ من عبد الأوثان، وقتل النفس لم يغفر له، وقد عبدنا وقتلنا، فكيف نسلم؟!» فنزلت هذه الآية معلنةً عن قبول توبتهم.

وممّا يناسب ذكره في المقام قِصّة أبي لبابة التي رواها المجلسي في البحار(4) عن تفسير علي بن إبراهيم في ذيل آية ﴿وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم﴾(5) قال: «نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر، وكان رسول الله (صلى الله عليه و آله) لمّا حاصر بني قريظة قالوا له: ابعث إلينا أبا لبابة نستشيره في أمرنا، فقال رسول الله (صلى الله عليه و آله): يا أبا لبابة ائت حلفاءك ومواليك، فأتاهم، فقالوا له: يا أبا لبابة ما ترى؟ أننزل على حكم رسول الله؟ فقال: انزلوا، واعلموا أنّ حكمه فيكم هو الذبح وأشار إلى حلقه، ثُمّ ندم على ذلك، فقال: خنت الله ورسوله، ونزل من حصنهم، ولم يرجع إلى رسول الله (صلى الله عليه و آله)، ومرّ إلى المسجد، وشدّ في عنقه حبلاً، ثُمّ شدّه إلى الأُسطوانة التي تسمّى أسطوانة التوبة، فقال: لا أحلّه حتى أموت، أو يتوب الله عليّ، فبلغ رسول الله (صلى الله عليه و آله) ذلك، فقال: أمّا لو أتانا لاستغفرنا الله له(6) فأمّا إذا قصد إلى ربّه فالله أولى به. وكان أبو لبابة يصوم النهار، ويأكل بالليل ما يمسك رمقه، وكانت بنته تأتيه بعشائه، وتحلّه عند قضاء الحاجة، فلمّا كان بعد ذلك ورسول الله (صلى الله عليه و آله) في بيت أُمّ سلمة نزلت توبته، فقال: يا أُمّ سلمة قد تاب الله على أبي لبابة، فقالت: يا رسول الله أفأُؤذنه بذلك؟ فقال: لتفعلنّ، فأخرجت رأسها من الحجرة، فقالت: يا أبا لبابة أبشر قد تاب الله عليك، فقال: الحمدلله، فوثب المسلمون يحلّونه، فقال: لا والله حتى يحلّني رسول الله (صلى الله عليه و آله) بيده، فجاء رسول الله (صلى الله عليه و آله) فقال: يا أبا لبابة قد تاب الله عليك توبة لو ولدت من أُمّك يومك هذا لكفاك، فقال: يا رسول الله أفأتصدّق بمالي كلِّه، قال:لا، قال: فبثلثيه؟ قال: لا، قال: فبنصفه؟ قال: لا، قال: فبثلثه؟ قال: نعم، فأنزل الله: ﴿وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم إنّ الله غفور رحيم* خذ من أموالهم صدقة تطهّرهم وتزكيهم بها وصلّ عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم* ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم﴾(7) ».


(1) البحار 6/23 ـ 26.
(2) السورة 3، آل عمران، الآيتان: 135 ـ 136.(3) التفسير الكبير للفخر الرازي 27/4.
(4) البحار 22/93 ـ 94.
(5) السورة 9، التوبة، الآية: 102.
(6) لعلّه إشارة إلى قوله تعالى:... ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيما. السورة 4، النساء، الآية: 64.
(7) السورة 9، التوبة، الآيات: 102 ـ 104.
18

فلئن كانت هذه الذنوب العظام قد حطّتها التوبة ونحن نرجو أن لا تكون لنا ذنوب من هذا المستوى، فكلّنا رجاءٌ أن يغفر الله لنا ذنوبنا بتوبتنا واستغفارنا خاصّة إذا استغفرنا ربّنا في الاسحار، وقد قال الله تعالى في وصف المتقين: ﴿كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون* وبالأسحار هم يستغفرون﴾(1). وقال ـ أيضاً ـ في وصفهم: ﴿الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار﴾(2). وأيضاً قال الله تعالى في الحوار الذي نقله بين يعقوب وأبنائه: ﴿قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنّا كنّا خاطئين* قال سوف استغفر لكم ربّي إنّه هو الغفور الرحيم﴾(3).

وقد فسّر هذا التأجيل في الاستغفار بالتأجيل إلى السحر(4).

وفي الكافي بسند صحيح عن عمر بن أُذينة قال: «سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: إنّ في الليل لساعة ما يوافقها عبد مسلم ثم يصلّي ويدعو الله عزّ وجلّ فيها إلّا استجاب له في كل ليلة، قلت: أصلحك الله وأيّ ساعة هي من الليل؟ قال: اذا مضى نصف الليل وهي السدس الأول من أوّل النصف»(5).


(1) السورة 51، الذاريات، الآيتان: 17 ـ 18.
(2) السورة 3، آل عمران، الآية: 17.
(3) السورة 12، يوسف، الآيتان: 97 ـ 98.
(4) راجع أُصول الكافي 2/477، باب الأوقات والحالات التي تُرجى فيها الإجابة من كتاب الدعاء، الحديث 6.
(5) راجع التهذيب. / 117، الحديث 441.
19

فلو فسّرنا السدس في التعبير الذي نقلناه عن الكافي بمعنى: سدس الليل، لا بمعنى سدس النصف، تطابق التعبيران؛ وذلك لأنّ ما بين النصف الأوّل والثلث الأخير عبارة عن السدس الرابع.(79)

وذكر الغزالي حديثاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنّ من الليل ساعة لا يوافيها عبد مسلم يسأل الله خيراً إلّا أعطاه إيّاه. وفي حديث آخر: يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلّا أعطاه إيّاه، وذلك كلّ ليلة. ثُمّ قال الغزالي: ومطلوب القائمين تلك الساعة وهي مبهمة في جملة الليل.. وعلّق عليه الشيخ الفيض (قدس سره) بقوله: بل هي معلومة بتعليم علماء أهل البيت ـ صلوات الله وتسليماته عليهم ـ إيّانا، وهي: السدس الرابع من الليل... ولكنّ العامّة عن بركة أمثالها لمعزولون.(80)


(1) راجع المحجة. / 400.