118

عَلِيمٌ﴾(1) فكان من أمره الذي كان أن اختار مملكة الملك وما حولها إلى اليمن، فكانوا يمتارون الطعام من عنده لمجاعة أصابتهم، وكان يقول الحقّ، ويعمل به، فلم نجد أحداً عاب ذلك عليه.

ثُمَّ ذو القرنين عبد أحبّ الله فأحبّه، طوى له الأسباب، وملّكه مشارق الأرض ومغاربها، وكان يقول بالحقّ، ويعمل به، ثُمَّ لم نجد أحداً عاب ذلك عليه.

فتأدّبوا أيُّها النفر بآداب الله للمؤمنين، واقتصروا على أمر الله ونهيه، ودعوا عنكم ما اشتبه عليكم ممّا لا علم لكم به، وردّوا العلم إلى أهله تؤجروا وتعذروا عند الله، وكونوا في طلب علم الناسخ من القرآن من منسوخه ومحكمه من متشابهه، وما أحلّ الله فيه وما حرّم، فإنّه أقرب لكم من الله وأبعد لكم من الجهل، ودعوا الجهالة لأهلها، فإن أهل الجهل كثير، وأهل العلم قليل، وقد قال الله: ﴿فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْم عَلِيمٌ﴾(2)» انتهى الحديث(3).

وللكلام عن مدى وجود الناسخ والمنسوخ في القرآن، وأنّ النسخ هنا هل يحمل على معناه المصطلح لدى الفقهاء، أو يفسّر بتفسير آخر مجال آخر.

ولنلخص الكلام حول المقصود ببيان أنّ هناك طُرُقاً ثلاثة لتهذيب النفس وتصفيتها، ثالثها هو الصحيح، والأوّلان ليسا شرعيين:

الطريق الأوّل: الترهبن أو ترك الدنيا ونعيمها. وهذا ما عرفت ـ ممّا سردناه لك من الآيات والروايات ـ خطأه، نعم، هناك نكتتان لا ينبغي إغفالهما:

الأُولى: أنَّ تنعّم العبد بما آتاه الله ـ تعالى ـ من النعم المحلّلة في الدنيا لا ينبغي أن يوجب تغافله عن مواساة الآخرين، أو تناسيه لما ينبغي أن يصرفه في مصالح


(1) السورة 12، يوسف، الآية: 55.

(2) السورة 12، يوسف، الآية: 76.

(3) وقد ورد هذا الحديث أيضاً في البحار 47/232 ـ 237 نقلاً عن الكافي مع فارق يسير.

119

الإسلام والمسلمين، أو انشغاله عن أمر الآخرة. وقد مضى كلام أمير المؤمنين(عليه السلام)للعلاء بن زياد: «ما كنت تصنع بسَعة هذه الدار وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج، وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة...».

والثانية: أنّ التنعّم بتلك النعم المحلّلة لا ينبغي أن يصل إلى مستوى تعلّق القلب بها، فيأسو على ما فاته، بل ينبغي أن يكون في الرضا بقضاء الله على مستوى بحيث لو عاش في اليوم الأوّل غارقاً في النعم وفي اليوم الثاني فاقداً لها جميعاً لكان وضعه النفسي سواءً، وذلك تسليماً لما يرضاه الله تعالى وثقةً بأنّه سبحانه وتعالى لا يقدّر إلاّ ما فيه الخير والصلاح. وهذا هو الزهد المفهوم من قوله سبحانه وتعالى: ﴿لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ...﴾(1) فالزهد الحقيقي هو أن لا يملككَ شيء، لا أن لا تملك شيئاً.

والطريق الثاني: الابتعاد عن الخدمات الاجتماعيّة والسياسيّة للإسلام وللمسلمين، والتفرغ للخلوة مع الله سبحانه وتعالى وتزكية النفس، وهذا ـ أيضاً ـ غير صحيح، فإنّه خلاف مقام خلافة الإنسان لله على وجه الأرض، وخلاف ضرورة الاهتمام باُمور المسلمين، وخلاف طريقة تربية الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه.

والطريق الثالث: هو العمل في خطّين متوازيين في وقت واحد:

أحدهما خطّ الخلوة مع الله وتصفية الباطن عن طريق مدارسة الوضع الباطني والاهتمام به. والثاني خط الاهتمام باُمور الإسلام والمسلمين. وهذا هو الطريق الصحيح.

وتوضيح المقصود: أنّ في النفس البشريّة نقصين لابدّ من علاجهما في مقام السلوك إلى الله وارتقاء مدارج الكمال:

الأوّل: ضيق أُفق نفس الشخص عن مصالح غيره وعدم الاهتمام إلاّ بمصالح


(1) السورة 57، الحديد، الآية: 23.

120

نفسه، في حين أنّ الآخرين ـ أيضاً ـ هم عباد الله، والله ـ تعالى ـ يريد مصلحتهم.

والثاني: سُمك المادّة الذي حجبه عن المصالح المعنويّة والأُمور الروحانيّة.

ولربما يخفّف بعض الضيق الأوّل، فتراه يهتمّ بمصالح غيره ولو في إطار من القوميّة مثلاً والذي هو إطار ضيّق بالقياس إلى إطار البشريّة أو إطار المذهب الصحيح، ولكنّه لم يخفّف عن نفسه سُمك المادة، بل ربّما لا يكون مؤمناً بما وراء المادّة، ولا يؤمن بالله العليّ العظيم وإن كان من صفته وشيمته الاهتمام بقومه أو بالإنسانيّة مثلاً.

ولربّما ترى بعض أهل العرفان (غير العرفان الصحيح الذي أراده الإسلام) يعكس الأمر، فقد يخفّف حجاب سُمك المادّة عن بصيرته، ويلتذّ بلقاء الله بالمعنى المعنوي من اللقاء، ولكنّه يحصر ذلك في إطار نفسه؛ لأنّه يعيش ضيق اُفق النفس، فلا يهمّه الآخرون ويقول: إنّ علاج الآخرين إنّما يصحّ لي حينما لا يضر بحالتي العرفانيّة أو يزاحمها. وقد تراه يستدلّ بقوله سبحانه وتعالى: ﴿... عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ...﴾(1) غفلةً عن أنّ معنى الآية المباركة لو كان ذلك لكانت الآية في تناقض مع آيات الجهاد وآيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إذن فمعنى الآية ليس هو هذا، فإنّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً، وإنّما معنى الآية: عدم التحسّر على الذين لا ينفعهم الإرشاد والهداية. فوزان الآية وزان قوله تعالى: ﴿... فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات ...﴾(2) وقوله تعالى: ﴿... وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ...﴾(3).


(1) السورة 5، المائدة، الآية: 105. وراجع بهذا الصدد كتاب روح مجرّد: 598 كي ترى نموذجاً من هذا الاستدلال.

(2) السورة 35، فاطر، الآية: 8 .

(3) السورة 16، النحل، الآية: 127، والسورة 27، النمل، الآية: 70.

121

وقد رُوِيَ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنّه سُئِلَ عن معنى قوله تعالى: ﴿... عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ...﴾ فقال (صلى الله عليه وآله): «ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، فإذا رأيت دنياً مؤثرة وشحاً مطاعاً وهوىً متّبعاً وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك، وذر عوامهم»(1).

وحينما وجب الجهاد أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصبح الإتيان بذلك جزءاً من مفاد قوله تعالى: ﴿... عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ...﴾؛ لأنّ ترك ذاك الواجب يضرّ بأنفسنا.

ولو صحّ ما يقوله بعض المنحرفين: من أنّ الإنسان يصل بتهذيب النفس والتجرّد عن سُمك المادّة إلى حدّ يذوب ذوباناً حقيقيّاً في الله، فلا يبقى إلاّ الله نفسه، لكان كلا النقصين اللذين أشرنا إليهما في النفس البشريّة يرتفعان بذلك؛ لأنّه كان هو الله سبحانه وتعالى، وصحّ له أن يقول: ليس في جبّتي إلاّ الله.

ولو كان كلامهم هذا جدّياً وعلى نحو الاعتقاد لا الكذب والدجل، كان جوابه الفلسفي: أنّنا لو آمنّا بأنّه ليس في الوجود إلاّ الله، وأنكرنا أيَّ وجود آخر حتّى الوجود التعلّقي، فهذا المقام ثابت للإنسان، بل لأيّ موجود قبل تهذيب النفس والتزكيّة؛ لأنّه أمر واقعي وأساسي منذ البدء، والتعبير بالإنسان أو بأيّ موجود ليس إلاّ تعبيراً اعتبارياً وعلى أساس ضيق التعابير. ولو لم نؤمن بذلك فالذوبان الحقيقي مستحيل، وتهذيب النفس لا يؤدّي إلى ذلك حتّى لو فُرِضَ التجرّد عن المادّة حقيقة قبل الموت، أو وصلنا إلى الموت الإرادي وافترضنا أنّه يساوق التجرّد عن المادة؛ فإنّ النقص البشري ليس فقط في الجانب المادّي حتّى يُفترض أنّ التخلّص عن هذه المادّة والتجرّد الحقيقي عنها ـ لو أمكن ـ لا يُبقي فرقاً بينه


(1) تفسير «نمونه» 5/110.

122

وبين الله ويكون هو هو، بل الجانب المجرّد من الإنسان ـ أيضاً ـ مشتمل على الحدّ الماهوي ونقص الإمكان والحدوث والتعلق وسائر النقائص التي هي ذاتية له، فلا معنى لفرض التجرّد عنها.

والصحيح: هو ضرورة علاج كلا النقصين اللذين أشرنا إليهما بقدر الإمكان، وهما: حجاب سُمك المادّة في مقابل المعنويات، وضيق الأُفق في مقابل الآخرين. وهذان المنهجان ـ أعني: منهج ترقيق حجاب المادّة والالتذاذ بالمعنويات، ومنهج توسيع الأُفق الضيّق الذي حصرنا في الاهتمام بالتذاذ أنفسنا ولو التذاذاً معنوياً ـ لو لم يعمد إلى الفصل بينهما فهما بحدّ ذاتهما وفيما بينهما متفاعلان.

وقد ورد في الحديث عن الصادق(عليه السلام): «خصلتان مَنْ كانتا فيه وإلاّ فأعزب ثُمّ أعزب ثُمّ أعزب، قيل: وماهما؟ قال: الصلاة في مواقيتها والمحافظة عليها، والمواساة»(1).

أقول: كأنّ الاُولى وهي: المحافظة على الصلاة وفي مواقيتها تنظر إلى جانب ترقيق حجاب سُمك المادة ـ والثانية وهي: المواساة تنظر إلى جانب كسر ضيق أُفق النفس وتمحوره على مصالح نفسه دون الآخرين.

وقد ورد في كلمات أهل العرفان الكاذب: أنّه لابدّ للسالك أن يذبح نفسه كي يصل إلى المقصود، ولا يقدر أحد على ذبح نفسه؛ لأنّه يتحرّك على أيّ حال عن التذاذ نفسه وحبّه لنفسه، وحتّى حينما يريد أن يصل إلى مرحلة الفناء في الله إنّما يريد ذلك ليكمّل نفسه بذلك. إذن فالعلاج في تحقّق الذبح هو: أن يذبحه غيره على خلاف رغبته وطلبه(2).


(1) البحار 83/12.

(2) راجع كتاب روح مجرّد: 591.

123

ومن القصص التي يذكرها هؤلاء ما يلي:

جاء في كتاب روح مجرّد(1): أن الحاج محمّد رضا كان له مقام علمي، وله تأليفات كثيرة، وكان يسكن بروجرد، واتَّهمه البروجرديون بالتصوّف، وصادروا أمواله، وأخرجوه من بروجرد، فذهب إلى تبريز، وأصبح محبوباً لدى أهل تبريز، وكان يجتمع تحت خطابه خلق كثير، وفي أحد الأيّام كان جميع الناس ملتفّين حول منبره لسماع خطابه، وكانت للتجمع منظرة عظيمة، فخطر في نفسه: أنّ هذا التوجّه والالتفات من قبل التبارزة عوض من الأذايا والمحن التي شاهدها من البروجرديين، وإذا بدرويش دخل واتَّجه رأساً نحو المنبر، وناجاه في أُذنه بكلام، وكأنّه كان ذاك الكلام: (هل أفعل ما يجب أن أفعل؟) فقال له الحاج محمّد رضا: نعم، فأخذ الدرويش عمامة الحاج محمّد رضا، ولفّها حول عنقه، وجرّه من على المنبر، وأخرجه من المسجد تلافياً لهذا الخطور النفساني. وهذا الدرويش كان قد أرسله من دَكن ـ الذي هو من بلاد الهند ـ أُستاذ الحاج محمّد رضا المدعو: السيّد علي رضا الدكني قائلاً له: اذهب فوراً إلى تبريز، فإنّ وليّاً من أولياء الله كاد أن يهلك، فعليك بإنقاذه. وبهذا الأُسلوب نجا الحاج محمّد رضا من الهلاك.

أقول: لو صحّت هذه الكلمات ولم تكن دجلاً فعليك بالمقايسة بين هذا الأُسلوب وأُسلوب تربية الإسلام الذي يعالج في وقت واحد حجاب سُمك المادّة وضيق النفس الموجب لدورانها حول ذاتها، فيهيئ الإنسان لتضحية نفسه بنفسه، لا لذبح شخص آخر له على رغم رغبته وارادته. وإليك بعض الأمثلة:

1 ـ زهير بن القين كان يمتنع عن منازلة الحسين(عليه السلام) في الطريق، فنزل في منزل لم يجد بدّاً من أن ينازله، فبينما هو وأصحابه جلوس يتغذّون إذ أقبل رسول الحسين(عليه السلام) حتّى سلّم ثُمَّ دخل، فقال: يا زهير بن القين إنَّ أبا عبدالله الحسين


(1) المصدر السابق: ص362 تحت الخط.

124

بعثني إليك لتأتيه، فطرح كلُّ إنسان منهم ما في يده حتّى كأنّ على رؤوسهم الطير . فقالت له امرأته: سبحان الله أيبعث إليك ابن رسول الله ثمّ لا تأتيه؟! لو تأتيه فسمعتَ كلامه، ثُمّ انصرفت. فأتاه زهير بن القين فما لبث أن جاء مستبشراً قد أشرق وجهه، فأمر بفسطاطه وثقلِه ومتاعه فقوّض وحمل إلى الحسين(عليه السلام)، ثمّ قال لامرأته: أنت طالق، الحقي بأهلك فإنّي لا أُحبّ أن يصيبك بسببي إلاّ خير، وقد عزمتُ على صحبة الحسين لأُفديه بروحي وأقيه بنفسي، ثُمّ أعطاها مالها، وسلّمها إلى بعض بني عمّها ليوصلها إلى أهلها، فقامت إليه، وبكت، وودّعته، وقالت: خار الله لك، أسألك أن تذكرني في يوم القيامة عند جدّ الحسين (عليه السلام). ثُمّ قال لأصحابه: مَنْ أحبّ منكم أن يتبعني وإلاّ فهو آخر العهد، إنّي سأحدّثكم حديثاً: إنّا غزونا البحر ففتح الله علينا، وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان: أفرحتم بما فتح الله عليكم، وأصبتم من الغنائم؟ فقلنا: نعم، فقال: إذا أدركتم سيّد شباب آل محمّد(صلى الله عليه وآله) فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معه ممّا أصبتم اليوم من الغنائم، فأمّا أنا فأستودعكم الله. قالوا: ثُمّ والله مازال في القوم مع الحسين حتّى قُتِلَ(رحمه الله) (1).

هكذا يعلّم الإسلام الإنسان درس التضحية والفداء بمحض اختياره وتمام


(1) البحار 44 / 371 ـ 372. أمّا ماجاء فيه من كلمة (إنّا غزونا البحر) فيبدو أنّه قد ورد في بعض نسخ التأريخ: (إنّا غزونا البحر من بلاد الخزر)، وفي بعض نسخ التأريخ: (إنّا غزونابلنجر من بلاد الخزر). راجع بهذا الصدد الدوافع الذاتيّة لأنصار الحسين تأليف محمّد عليّ عابدين: 155.

وقد ورد في كتاب معالم المدرستين للسيّد العسكري حفظه الله المجلد الثالث: 79 حسب الطبعة الرابعة: (غزونا بلنجر، ففتح الله علينا، وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان الباهلي: أفرحتم...). وقد نقل الرواية عن الطبري: 6 / 224 ـ 225، وقال تحت الخط: سلمان المذكور هو ابن ربيعة الباهلي، أرسله الخليفة عثمان لغزو اران من آذربايجان، ففتح كورها صلحاً وحرباً، وقتل خلف نهر بلنجر. فتوح البلدان: ص240 ـ 241. وراجع ترجمته في أُسد الغابة: 2/225. انتهى مافي تحت الخط من كتاب السيّد العسكري حفظه الله.

125

إرادته، لا الذبح بيد شخص آخر على رغم عدم طوعه ورغبته، فهذا الذي كان أبغض شيء عليه منازلة الحسين(عليه السلام) آل أمره إلى أن قال للحسين(عليه السلام) حينما رفع بيعته عن أصحابه ليلة العاشر من المحرّم: والله لوددت أ نّي قتلت ثُمّ نُشرت، ثُمّ قتلت حتّى أُقتل هكذا ألف مرّة وإنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك(1).

2 ـ شبابنا في جبهة القتال في الحرب الظالمة التي شنّها طاغية العراق صدّام على إيران الإسلام كانوا يتهافتون ويتسابقون لتفدية أنفسهم بالسير على الألغام لفتح الطريق للمقاتلين، لا لتكميل انفسهم (وان كملوا بذلك) بل لإعلاء كلمة الله على وجه الأرض.

3 ـ العبّاس(عليه السلام) لا يمتنع عن شرب الماء لتكميل نفسه وإنْ كملت نفسه بذلك، أو كانت كاملة من قبل، وإنّما يمتنع عن ذلك لأنّه تذكّر عطش الحسين(عليه السلام)وأهل بيته، فرمى الماء وملأ القربة، وقال:

يا نفس من بعد الحسين هوني
وبعده لا كنت أن تكوني
هذا الحسين وارد المنون
وتشربين بارد المعينِ

تـالله مـا هـذا فـعـال ديـنِ(2)

هذا هو والله ذبح النفس المنتهي إلى خطاب العبّاس(عليه السلام) لنفسه بالأمر بالهوان وبالفناء، وليس ذبح النفس أن يأتي درويش ويلفّ العمامة على عنق الخطيب، ويخرجه من المسجد، فإنّ ذبح شخص لنفس شخص آخر لا قيمة له، وإنّما القيمة تكمن في التضحية والفداء بمحض الإرادة والاختيار.

والعمل السياسي الاجتماعي في سبيل الله من أقصر الطرق لرفع سُمك المادّة


(1) البحار 44/393.

(2) البحار 45/41، المتن وتحت الخط.

126

عن ملاحظة المعنويات أيضاً ولتهذيب النفس وتزكيتها. وإليك مَثَلان من آلاف الأمثلة:

1 ـ رُوِيَ(1) أنّ وهب كان نصرانيّاً فأسلم هو وأُمّه على يدي الحسين (عليه السلام). وأمرته أُمّه في يوم عاشوراء بنصر ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: أَفعل يا أُمّاه ولا أُقصّر، فبرز وقاتل وقَتَل من الأعداء جماعة. فرجع إلى أُمّه وامرأته، فوقف عليهما فقال: يا أُمّاه أرضيتِ؟ فقالت: ما رضيت أو تقتل بين يدي الحسين(عليه السلام)فقالت امرأته: بالله لا تفجعني في نفسك، فقالت أُمّه: يا بنيّ لا تقبل قولها وارجع، فقاتل بين يدي ابن رسول الله، فيكون غداً في القيامة شفيعاً لك بين يدي الله. فرجع وقاتل وقتل جمعاً إلى أن قطعت يداه، فأخذت امرأته عموداً وأقبلت نحوه وهي تقول: فداك أبي وأمّي قاتل دون الطيّبين حرم رسول الله، فأقبل كي يردّها إلى النساء، فأخذت بجانب ثوبه وقالت: لن أعود أو أموت معك، فقال الحسين (عليه السلام): «جزيتم من أهل بيتي، ارجعي إلى النساء رحمك الله». فانصرفت، وجعل يقاتل حتّى قُتِلَ رضوان الله عليه.

2 ـ إنّ حرّ بن يزيد الرياحي ارتكب أعظم جريمة بمنعه للحسين(عليه السلام)وأصحابه وأهل بيته عن الرجوع إلى المدينة، ولكنّ المشهد الاجتماعي الذي شاهده في كربلاء هزّه(2) إلى حدّ أخذته الرعدة، فقال له المهاجر بن أوس: إنّ أمرك لمريب، والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل هذا، ولو قيل لي: مَن أشجع أهل الكوفة؟ لما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك؟

فقال له الحرّ: إنّي والله أُخيّر نفسي بين الجنّة والنار، فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطِّعت وأُحرِقت. ثمّ ضرب فرسه فلحق الحسين(عليه السلام)، فقال له: جعلت


(1) راجع البحار 45/16 ـ 17.

(2) راجع البحار 45/10 ـ 11 و 14.

127

فداك يابن رسول الله أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان، وما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضته عليهم، ولا يبلغون منك هذه المنزلة، والله لو علمت أنّهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت مثل الذي ركبت، وأنا تائب إلى الله ممّا صنعت، فترى لي من ذلك توبة؟ فقال له الحسين(عليه السلام): « نعم يتوب الله عليك ». فقاتل(رحمه الله) الأعداء إلى أن قُتل في سبيل الله، فاحتمله أصحاب الحسين(عليه السلام) حتّى وضعوه بين يدي الحسين(عليه السلام)وبه رمق، فجعل الحسين يمسح وجهه ويقول: «أنت الحرّ كما سمّتك أُمّك، وأنت الحرّ في الدنيا، وأنت الحرّ في الآخرة».

والخلاصة: أنّ المسلك الصحيح في تهذيب النفس وتزكيتها هو: الجمع بين الأمرين: كسر ضيق النفس عن مصالح الآخرين، وتخفيف حجاب سُمك المادّة عن مشاهدة المعنويات والسفر إليها والالتذاذ بلقاء الله بعين القلب والبصيرة.

ففي الأوّل يجب أن نقتدي بإمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام) الذي كان يعطف على الأسير الذي تحت يده وإن كان قاتلاً له(عليه السلام)، ويقول للحسن(عليه السلام): «ارفق ياولدي بأسيرك، وارحمه، وأحسن إليه، وأشفق عليه، ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في أُمّ رأسه، وقلبه يرجف خوفاً ورعباً وفزعاً.

فقال له الحسن(عليه السلام): يا أباه قد قتلك هذا اللعين الفاجر، وأفجعنا فيك وأنت تأمرنا بالرفق به؟!

فقال له: نعم يا بنيّ نحن أهل بيت لا نزداد على الذنب إلينا إلاّ كرماً وعفواً، والرحمة والشفقة من شيمتنا لا من شيمته، بحقّي عليك فأطعمه يا بنيّ ممّا تأكله، وأسقه ممّا تشرب، ولا تقيّد له قدماً، ولا تغلّ له يداً، فإن أنا متّ فاقتصّ منه: بأن تقتله وتضربه ضربة واحدة، ولا تحرقه بالنار، ولا تمثّل بالرجل، فإنّي سمعت جدّك رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: «إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور» وإن أنا عشت فأنا

128

أولى بالعفو عنه، وأنا أعلم بما أفعل به، فإن عفوت فنحن أهل بيت لا نزداد على المذنب إلينا إلاّ عفواً وكرماً»(1).

ولنعم ما قال الشاعر الإيراني المعروف بشهريار باللغة الفارسيّة:

ميزند پس لب او كاسه شير
مى كند چشم اشارت به اسير
چه اسيرى كه هم او قاتل اوست
تو خدائى مگر اى دشمن دوست

1 ـ روى المجلسي(رحمه الله) عن السيّد الداماد: في الخبر عن مولانا الصادق (عليه السلام): «إن القلب السليم الذي يلقي ربّه وليس فيه أحد غيره»(2).

وهذا يعني: أنّ كلَّ ما سوى الله ليس له وجود في قلبه، إلاّ بأن يتلوّن بلونه سبحانه، فإذا أحبّ ولده أو تلاطف مع عائلته فإنّما يفعل ذلك لأنّ الله أمر بذلك، وإذا أحبّ أولياء الله فلأنّهم متّصفون بصفات الله ومتقرّبون إلى الله، وإذا اكتسب أخاً فهو يكتسبه في الله...

2 ـ وقد ورد ـ أيضاً ـ عن سفيان بن عيينة قال: «سألت الصادق(عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْب سَلِيم﴾ قال: السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه»(3).

3 ـ وعن الصادق(عليه السلام): «صاحب النيّة الصادقة صاحب القلب السليم؛ لأنّ سلامة القلب من هواجس المذكورات تخلص النيّة لله في الأُمور كلها»(4).

4 ـ وعن الصادق(عليه السلام): «القلب حرمُ اللهِ، فلا تُسكن حرم الله غير الله»(5).


(1) البحار 42/287 ـ 288.

(2) البحار 82/305.

(3) البحار 70/59.

(4) تفسير «نمونه» 19/88 .

(5) البحار 70/25.

129

5 ـ ورُوِيَ ـ أيضاً ـ «أنّ لله في عباده آنية، وهو: القلب، فأحبها إليه أصفاها وأصلبها وأرقّها: أصلبها في دين الله، وأصفاها من الذنوب، وأرقّها على الاخوان»(1).

6 ـ وعن عليّ(عليه السلام): «يا كميل بن زياد إنّ هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها...»(2).

7 ـ وعن النبيّ (صلى الله عليه وآله): «لولا أنّ الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت»(3).

8 ـ ورد في دعاء كميل: «واجعل لساني بذكرك لهجا، وقلبي بحبّك متيّما...» يعني: مستعبداً مذلَّلاً.

9 ـ وأيضاً ورد في دعاء كميل: «فهبني يا إلهي وسيّدي ومولاي وربّي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك».

10 ـ ورد عن الصادق(عليه السلام): «العبادة ثلاثة: قوم عبدوا الله ـ عزّ وجلّ ـ خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله ـ تبارك وتعالى ـ طلب الثواب فتلك عبادة الاُجراء، وقوم عبدوا الله ـ عزّ وجلّ ـ حبّاً له فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة»(4).

11 ـ قال الله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾(5).

وطبعاً المقصود هو النظر ببصيرة القلب لا بباصرة الوجه.

وفي مقابل ذلك ما ورد في القرآن بشأن المكذِّبين من قوله تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ


(1) البحار 70/56.

(2) نهج البلاغة: 685، رقم الحكمة: 147.

(3) البحار 70 / 59.

(4) الوسائل 1/62، الباب 9 من مقدّمة العبادات، الحديث 1.

(5) السورة 75، القيامة، الآيتان: 22 ـ 23.

130

عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذ لَّمَحْجُوبُونَ﴾(1).

12 ـ وقال الله تعالى: ﴿وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْن وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾(2). إذن فرضوان الله خير من جنّات عدن، ولنعم ما قال الشاعر بالفارسيّة:

الهى زاهد از تو حور مى خواهد قصورش بين
بجنّت مى گريزد از درت يا رب شعورش بين

وأيضاً نعم ما قال الشاعر بالفارسيّة:

آن كس كه تورا شناخت جان را چه كند
فرزند وعيال وخانمان را چه كند
ديوانه كنى هر دو جهانش بخشى
ديوانه تو هر دو جهان را چه كند

13 ـ ورد في دعاء أبي حمزة الثمالي: «... لئن أدخلتني النار لأُخبرنّ أهل النار بحبّي لك...»(3).

14 ـ ورد ـ أيضاً ـ في دعاء أبي حمزة الثمالي: «إلهي لو قرنتني بالأصفاد، ومنعتني سَيبَكَ من بين الأشهاد، ودللت على فضائحي عيون العباد، وأمرت بي إلى النار، وحلت بيني وبين الأبرار، ما قطعت رجائي منك، وما صرفت تأميلي للعفو عنك، ولا خرج حبّك من قلبي، أنا لا أنسى أياديك عندي، وسترك عليّ في


(1) السورة 83، المطفّفين، الآية: 15.

(2) السورة 9، التوبة، الآية: 72.

(3) راجع مفاتيح الجنان: 197.

131

دار الدنيا»(1).

15 ـ ورد في دعاء عن الإِمام زين العابدين(عليه السلام) هذا المقطع الرائع: «... سيّدي لو أنّ عذابي ممّا يزيد في ملكك لسألتك الصبر عليه، غير أ نّي أعلم أنّه لا يزيد في ملكك طاعة المطيعين، ولا ينقص منه معصية العاصين...»(2).

16 ـ أختم هذا المختصر من تجميع الكلمات العرفانيّة الراقيّة والمنتشرة في نصوص الكتاب والسنّة والتي هي فوق أفهامنا الاعتياديّة بما كان يشير إليه السيّد الإِمام الخمينيّ(رحمه الله) في بعض بياناته، وهو التعبير الوارد في المناجاة الشعبانيّة: «الهي هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتّى تخرق أبصارُ القلوب حجبَ النور، فتصلَ إلى معدن العظمة، وتصيرَ أرواحنا معلقة بعزّ قدسك»(3).


(1) راجع مفاتيح الجنان: 193.

(2) البحار 78/146 ـ 147.

(3) راجع مفاتيح الجنان: 158 ـ 159.

133

 

 

 

 

النقطة الخامسة

وهي الحديث عن بعض العلامات التي تميّز بين المتصوّفة

أو العرفاء الكاذبين والعرفاء الحقيقيين

 

فقبل الدخول في صلب البحث نشير إلى أمرين، ثمّ نعقّب بالإشارة إلى بعض تلك العلامات إن شاء الله:

1 ـ يقول بعض: إن الفارق بين التصوّف والعرفان هو: أنّ التصوّف طريق الترقّي وقوّة النفس، والعرفان هو طريق فناء النفس(1).

ويقول بعض آخر: إن العرفاء والمتصوّفة فرقة واحدة، وليسا فرقتين،إلاّأنّه حينما ينظر إليهم من زاوية الجانب الثقافي يسمّون باسم العرفاء، وحينما ينظر إليهم من زاوية الجانب الاجتماعي يسمّون باسم المتصوّفة(2).

2 ـ من الطريف ما جاء نقله في كتاب روح مجرّد(3) وملخّصه ما يلي:

سأل بعض السيّد هاشم الحدّاد: أنّه لقد ثبت أنّ بعض مرتاضي الهند من عبدة البقر يخبرون بحسب حركات البقر وسكناته عن بعض المغيّبات، كوقوع الثورة في كذا مكان من أقصى نقاط الشرق أو الغرب، ثمَّ تنكشف صحّة الخبر، فما علاقة


(1) روح مجرّد: 127.

(2) خدمات متقابل اسلام وايران: 629.

(3) روح مجرّد: 586 ـ 590.

134

ذلك بحركات البقر؟

فأجاب الحدّاد: أنّ ذلك راجع إلى الارتباط الوثيق الثابت فيما بين موجودات العالم، وبما أنّ هذا المرتاض وصل عن طريق الرياضة إلى مستوى كشف وحدة النظام الحاكم على العالم، أصبح باستطاعته الإخبار بواسطة أيّ حركة أو سكون ولو كان بشكل لا تُرى له أهميّة عن جميع التغييرات والتبديلات والحركات والسكنات في العالم. وكما أنّ هذا المرتاض الهندي ارتبط بواسطة الرياضات النفسانيّة بالروح الكلّية للبقر فاستطاع أن يرتبط بذاك النظام الواحد عن طريق أرواح البقر، فأصبح يخبر عن الرموز الخفيّة بواسطة شبكة البقر، كذلك بإمكان أحد أن يصل إلى نفس المستوى بعبادته للطير أو الهِرّ أو النجوم أو الشمس أو القمر وبالرياضة النفسانيّة التي توصله إلى النفوس الكلّية لأحد هذه الاُمور أو غيرها، فيستدل ـ عنذئذ ـ عن طريق ذلك الشيء الذي فنى فيه على ما يحكمه ذاك النظام الوحداني. ولكن بما أنّ الإنسان أشرف المخلوقات لا ينبغي له أن يفني نفسه في نفوس أنزل من نفسه أو فيما يساوي نفسه، فإنّ هذا الفناء مستلزم لسقوط الإنسان وانحطاطه عن درجة الإنسانيّة؛ ولهذا منع الإسلام عن عبادة البقر والنجم والحجر والملائكة والأجنّة وعبادة إنسان آخر وما إلى ذلك. أضف إلى ذلك أنّ الفناء في هذه المعبودات ـ غير الله سبحانه وتعالى ـ لا يوصل الإنسان في التجرد والعلم والإحاطة إلى أكثر من النفوس الحيوانيّة أو الفلكيّة أو الجماديّة، ولا يصل الشخص عن هذه الطرق إلى مستوى العلوم التوحيديّة والإلهيّة. أمّا من يفنى في ذات الله فتصبح علومه علوماً كلّيّة بتمام معنى الكلمة، وتجرّده تجرّداً غير متناه، ويصل إلى حقائق التوحيد والعرفان انتهى الكلام ملخّصاً.

ومن الطريف أن ما جاء في كلام الحدّاد هنا ـ إن صحّ نقل مصنف كتاب (روح مجرّد) ـ من مسألة الارتباط بالنفوس الكلّية للبقر أو الطير أو النجوم أو ما إلى

135

ذلك يذكّرنا بعقليّة الكلّيّ الهمداني.

وعلى أيّة حال فقد كان هدفي من نقل هذا الكلام أن يُعرف اعترافهم بأنّ مجرّد تقوية الروح في مقابل البدن شيء، والتقرّب إلى الله ـ تعالى ـ شيء آخر. فالأوّل يكون حتّى لدى الملحدين والمشركين، فكما أنّ هناك أُناساً يقوّون أجسامهم بالرياضات البدنيّة ولا فرق في ذلك بين المشرك والموحّد، كذلك يوجد هناك أُناس يقوّون أرواحهم بالرياضات الروحيّة ولو كانوا مشركين، فلو رأى أحد بعض التصرّفات الدالّة على قوّة الروح لدى من يدّعي العرفان لا يكون مجرّد ذلك كافياً في الاستدلال على كون طريقه صحيحاً في نظر الشرع، وكونه متقرّباً إلى الله سبحانه.

وأيضاً قال بعضهم: إنّ المكاشفات الروحيّة تحصل قبل الوصول إلى عالم التوحيد وعالم الله، وتكون مشتركة بين المؤمن والكافر، ولا يدلّ ثبوتها على الكمال، ولا عدم ثبوتها على نفي الكمال(1).

أقول: وقد يتوهّم بعض: أنّ بعض الغرائب التي تصدر من الشخص نتيجة لتقوية الروح يعتبر أمراً من سنخ المعاجز، غاية ما هناك أنّها لا تسمّى معاجز؛ لأنّها لم تقترن بدعوى النبوّة أو الإِمامة، فهي كرامات لأولياء الله، في حين أنّ هذه الغرائب تصدر حتى من المرتاضين الملحدين أو المشركين.

وحلّ ذلك هو: أنّ الإعجاز يكون خرقاً لقوانين الطبيعة والذي لا يكون إلاّ من قبل خالق الطبيعة، أو من يكون حقّاً مَظْهراً للخالق من نبيّ أو إمام أو وليّ من أولياء الله، وفي الثالث يسمّى بالكرامة لا بالإعجاز. وأمّا الخوارق التي تصدر من المرتاضين والمتصوفين وما إلى ذلك فهي: وإن كانت خوارق لما اعتاد عليه الناس، ولكنّها ليست خوارق لقوانين الطبيعة، بل تكون هي نتيجة المشي على


(1) راجع تعليق السيّد محمّد حسين الطهراني على الرسالة المنسوبة إلى بحر العلوم: 160.

136

بعض قوانين الطبيعة، ويصل إليها كلّ إنسان يلتزم بسلوك ذاك الطريق الطبيعي من دون فرق بين أن يكون مسلماً أو ملحداً أو مشركاً أو نحو ذلك.

وبعد هذا ننتقل إلى ذكر بعض المميّزات التي يكون العثور على واحد منها فيمن يدّعي العرفان كذباً كافياً في التمييز بينه وبين العرفاء الحقيقيّين. وذلك بما يلي:

1 ـ ارتكاب محرّمات الشريعة. وأذكر هنا لذلك أمثلة:

الأوّل: تجويز تركيز النظر على فتاة جميلة محرّمة مقدّمةً للحصول على قدرة جمع الحواسّ على نقطة واحدة كي ينتهي السالك ـ بعدئذ ـ إلى التركيز على ذات الله تبارك وتعالى. وهنا نتبرّك بنقل كلام سيّد العرفاء الحقيقيّين ـ والمرجع الديني العظيم، ومؤسّس وقائد الثورة الإسلاميّة الإِمام الخمينيّ قدّس الله روحه الزكيّة ـ الوارد في كتابه المبارك (الأربعون حديثاً)، وأنقل النصّ عن الترجمة التي كتبها السيّد محمّد الغروي حفظه الله(1)، وذلك ما يلي:

«ومن التصرّفات الخبيثة للشيطان إضلال القلب وإزاغته عن الصراط المستقيم، وتوجيهه نحو فاتنة(2) أو شيخ مرشد. ومن إبداع الشيطان الموسوس في صدور الناس الفريد من نوعه وهو: أنّه مع بيان عذب أو مليح وأعمال مغرية قد يعلق بعض المشايخ بشحمه أُذن فاتنة(3) جميلة، ويبرّر هذه المعصية الكبيرة، بل هذا الشرك لدى العرفاء(4) بأنّ القلب إذا كان متعلقاً بشيء واحد استطاع أن يقطع علاقاته مع الآخرين بصورة أسرع، فيركز كلَّ توجيهه أوّلاً على الفتاة الجميلة بحجّة أنّ القلب ينصرف عن غيرها، وأنّه منتبه إلى شيء واحد، ثمّ يقطع


(1) الأربعون حديثاً: ص473.

(2) تعبير المتن الأصلي الفارسي في كتاب چهل حديث: 532 «بصورت شوخى يا شيخى»، وكلمة (شوخ) تناسب الفاتن أيضاً ولا تختصّ بالفاتنة.

(3) في الأصل الفارسي: 532 «شوخى دلبر».

(4) في الأصل الفارسي: 532 «بلكه اين شرك عرفانى را».

137

هذا الارتباط الوحيد، ويركز قلبه على الحقِّ المتعالي. وقد يدفع الشيطان بإنسان أبله(1) «نحو إنسان أبله»(2) نحو محيّا مرشد مكّار وحش(3) بل شيطان قاطع للطريق، ويلتجئ في تبرير هذا الشرك الجليّ إلى أنّ هذا المرشد هو الإنسان الكامل، وأنّه لا سبيل للإنسان في الوصول إلى مقام الغيب المطلق إلاّ بواسطة الإنسان الكامل المتجسّد في المرآة الأحديّة للمرشد، ويلتحق كلّ منهما بعالم الجنّ والشياطين، ذاك المرشد بالتفكير في جمال معشوقه ومفاتنه إلى نهاية عمره، وهذا الإنسان البسيط بالانتباه الدائم إلى محيّا مرشده المنكوس حتّى آخر حياته، فلا تنسلخ العلقة الحيوانيّة عن المرشد، ولا يبلغ الإنسان الأبله الأعمى إلى منشوده ومبتغاه».

والثاني: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجّة استلزامهما لتكدّر الذهن المانع عن الوصول.

لاحِظ بهذا الصدد ما نقله صاحب كتاب روح مجرّد(4) عن الحدّاد، وحاصله ما يلي:

حوِّل النجاسة إلى غيرك لا إلى نفسك، فلو رأيت ـ مثلاً ـ أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدّيان بك إلى حالة الغضب، وتكدّر الفكر، وانكسار صفاء الذهن، وهذا أضرّ عليك ممّا يوجبه ارتكاب الجرم والحرام من الضرر على ذاك الفاعل، فاتركه على حاله، واحتفظ أنت بصفاء نفسك. انتهى ملخّصاً.

انظر إلى هذه التوصية للوصول إلى مدارج كمال النفس وتحصيل صفائها بترك


(1) في التعبير الفارسي: 532 «بعض شوخ چشمان ابله را».

(2) هذه الجملة كأنّها زيادة من القلم، فإنّها غير موجودة في المتن الأصلي الفارسي.

(3) ورد في الأصل الفارسي (ديوسيرت).

(4) روح مجرّد: 596.

138

واجب من الواجبات؟!

والثالث: ما اشتهر عن الصوفيّة وعن محافلهم من الرقص والسماع تحصيلاً لما يسمّى بالحال أو الوجد حتّى أنّه نُقل عن الشيخ أبي سعيد أبي الخير: أنّه كان ذات يوم في ضيافة محمّد القائيني، وانشغل هو وجماعته بالسماع والوجد والرقص والصياح، وإذا بصاحب البيت وهو محمّد القائيني أبلغهم حضور وقت الصلاة فأجاب الشيخ نحن في الصلاة، فبقوا مستمرين في رقصهم وسماعهم، وانصرف صاحب البيت إلى الصلاة(1).

ولنعم ما قيل:

ألا خيل التصوّف شرّ خيل
لقد جئتم بشيء مستحيل
أفي القرآن قال لكم إله
كلوا مثل البهائم وارقصوا لي
اگر مرد خدا آن مرد چرخى است
يقين دان كاسيا معروف كرخى است
وگر كف بر دهن عرش است معراج
يقين ميدان شتر منصور حلاج(2)

والرابع: ارتكاب المحرّمات بهدف السقوط عن أعين الناس؛ كي يسلم هذا المرتكب من آفات الجاه والرياء. وأقتصر هنا على ما رواه المحدّث القمّي (رحمه الله)في سفينة البحار(3) عن كتاب ابن الجوزي الذي ألّفه في الردّ على الصوفيّة باسم (تلبيس إبليس)، والنصّ ما يلي:

«وقد تسمّى قوم من الصوفية بالملامتيّة، فاقتحموا الذنوب فقالوا: مقصودنا: أن نسقط من أعين الناس، فنسلم من آفات الجاه والمرائين. وهؤلاء مثلهم كمثل رجل زنى بامرأة فأحبلها، فقيل له: لم لا تعزل؟ فقال: بلغني أنّ العزل مكروه، فقيل


(1) جلوه حقّ لآية الله مكارم: 189 ـ 190 نقلاً عن كتاب أسرار التوحيد: 186.

(2) سفينة البحار 5/210، وسيأتي إن شاء الله التشكيك في كون المعروف الكرخي منهم.

(3) سفينة البحار 5/209.

139

له: وما بلغك أن الزنى حرام؟!».

وفي ختام الحديث عن إرتكابهم لمحرمات الشريعة أنقل لكم ـ أيضاً ـ عن سفينة البحار(1) ما رواه عن كتاب (تلبيس إبليس) لابن الجوزي بشأن الغزالي، والنصُّ ما يلي:

«قال في كتاب (تلبيس إبليس) ص 597 وقد حكى أبو حامد الغزالي في كتاب الإحياء قال: كان بعض الشيوخ في بداية إرادته يكسل عن القيام، فألزم نفسه القيام على رأسه طول الليل؛ لتسمح نفسه بالقيام عن طوع. قال: وعالج بعضهم حبّ المال: بأن باع جميع ماله ورماه في البحر، إذا خاف من تفرقته على الناس رعونة الجود ورياء البذل. قال: وكان بعضهم يستأجر من يشتمه على ملأ من الناس؛ ليعوّد نفسه الحلم. قال: وكان آخر يركب البحر في الشتاء عند اضطراب الموج ليصير شجاعاً.

قال المصنف (أي صاحب تلبيس إبليس): أعجبُ من جميع هؤلاء عندي أبو حامد كيف حكى هذه الأشياء ولم ينكرها؟! وكيف ينكرها وقد أتى بها في معرض التعليم؟! وقال قبل أن يورد هذه الحكايات: ينبغي للشيخ أن ينظر إلى حالة المبتدئ، فإن رأى معه مالاً فاضلاً عن قدر حاجته أخذه وصرفه في الخير، وفرّغ قلبه منه حتّى لا يلتفت إليه، وإن رأى الكبرياء قد غلب عليه أمره أن يخرج إلى السوق للكدّ، ويكلّفه السؤال والمواظبة على ذلك، وإن رأى الغالب عليه البطالة استخدمه في بيت الماء وتنظيفه، وكنس المواضع القذرة، وملازمة المطبخ ومواضع الدخان، وإن رأى شره الطعام غالباً عليه ألزمه الصوم، وإن رآه عزباً ولم تنكسر شهوته بالصوم أمره أن يفطر ليلة على الماء دون الخبز، وليلة على الخبز دون الماء، ويمنعه اللحم رأساً. قلت (يعني ابن الجوزي): وإنّي لأتعجّب من أبي


(1) سفينة البحار 6 / 625 ـ 626.

140

حامد كيف يأمر بهذه الأشياء التي تخالف الشريعة، وكيف يحلّ القيام على الرأس طول الليل، فينعكس الدم إلى وجهه ويورثه ذلك مرضاً شديداً؟! وكيف يحل رمي المال في البحر وقد نهى رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن إضاعة المال؟! وهل يحلّ سبّ مسلم بلا سبب؟! وهل يجوز للمسلم أن يستأجر على ذلك؟! وكيف يجوز ركوب البحر زمان اضطرابه، وذلك زمان قد سقط فيه الخطاب بأداء الحج(1) ؟!وكيف يحل السؤال لمن يقدر أن يكتسب؟! فما أرخص ما باع أبو حامد الغزالي الفقه بالتصوّف».

وقال أيضاً في ص 379 (أي من كتاب تلبيس إبليس) «وحكى أبو حامد الغزالي عن ابن الكريني: أنّه قال: نزلت في محلّة فعرفت فيه بالصلاح، فدخلت في الحمّام، وعيّنت على ثياب فاخرة، فسرقتها ولبستها، ثُمّ لبست مرقعتي فوقها، فخرجتُ فجعلتُ أمشي قليلاً قليلاً، فلحقوني فنزعوا مرقعتي، وأخذوا الثياب، وصفّعوني، فصرت بعد ذلك اُعرف بلصّ الحمام، فسكنت نفسي. قال أبو حامد: فهكذا كانوا يروّضون أنفسهم حتّى يخلّصهم الله من النظر إلى الخلق، ثُمّ من النظر إلى النفس وأرباب الأحوال، ربما عالجوا أنفسهم بما لا يفتي به الفقيه(2) مهما رأوا صلاح قلوبهم، ثُمّ يتداركون ما فرط منهم من صورة التقصير كما فعل هذا في الحمام.

قلت ( يعني ابن الجوزي ): سبحان من أخرج أبا حامد من دائرة الفقه بتصنيفه كتاب الإحياء، فليته لم يحك فيه مثل هذا الذي لا يحل، والعجب أنّه يحكيه


(1) هذا راجع إلى الأزمنة السالفة التي كان ينحصر فيها طريق الحج من بلد يفصله البحر عن الحج في ركوب السفينة.

(2) يناسب المقام هذا البيت: من ديوان حافظ، حرف اللام:

حلاّج بر سردار اين نكته خوش سرايد
از شافعى نپرسند امثال اين مسائل
141

ويستحسنه، ويسمّي أصحابه أرباب الأحوال، وأيّ حالة أقبح وأشدّ من حال من يخالف الشرع، ويرى المصلحة في المنهيّ عنه وكيف يجوز أن يطلب صلاح القلوب بفعل المعاصي، أوَقد عدم في الشريعة ما يصلح قلبه حتّى يستعمل ما لا يحلّ فيها ؟ ! وكيف يحلّ للمسلم أن يعرّض نفسه لأن يقال عنه: سارق؟! وهل يجوز أن يقصد وهن دينه ومحو ذلك عند شهداء الله في الأرض؟! ثُمّ كيف يجوز التصرف في مال الغير بغير إذنه؟! ثُمّ في نصّ مذهب أحمد والشافعي: أن من سرق في الحمّام ثياباً عليها حافظ وجب قطع يده، فعجبي من هذا الفقيه المستلب عنه الفقه بالتصوّف أكثر من تعجّبي من هذا المستلب الثياب» انتهى.

2 ـ دعوى ما يكذّبه الوجدان، وهو الضمير الذي أنعم الله ـ تعالى ـ به على الإنسان والذي لا يخطأ، والمفروض بالعرفان الصادق أن يذكي الضمير ويجلّيه، وينفض عنه الغبار، لا أن يعكّر صفاءه، ويسمّم أجواءه، وإن شئت فأدخل هذا البند فيما سيأتي إن شاء الله من قسم الخرافات، كقول من يقول: يصل السالك إلى مقام لا يعرف إلاّ ربّه، بل الربّ هو الذي يعرف نفسه(1).

وهذا الكلام له أحد منشأين: فإمّا أنّ صاحبه يعتقد بوحدة الوجود، بمعنى: إنكار أي وجود آخر غير وجود الله حتّى الوجود التعلقي.

وقد أجابوا في الفلسفة عن ذلك بما مضى حديث مختصر عنه في الحلقة الأُولى من هذا الكتاب من توضيح: أنّ وجود المخلوقين وجود تعلقي، وبالإضافة الإشراقيّة لا المقوليّة التي تتطلب استقلال أحد الوجودين عن الآخر مع وجود رابط بينهما بل هو عين الربط، وهذا بالدقّة غير دعوى نفي الوجود نهائيّاً عن المخلوق.

وعلى أيّ حال، فنحن هنا نكتفي بدلالة الوجدان والضمير على وجود ضالٍّ


(1) راجع لبّ اللباب: 162.

142

أراد الله أن يهديه بإرسال الرسل وإنزال الكتب، ولو كان الربّ هو الذي يعرف نفسه وليس غيره فما معنى إرسال الرسل وإنزال الكتب ؟ ! وما معنى ما يدّعيه صاحب هذا الكلام من تربية النفس بالعرفان، وأيّ نفس يربّيها ؟ وهل يريد بتربية نفسه تربية العدم المحض المتمثّل في التعيّنات الماهويّة، أو تربية الله سبحانه وتعالى؟!

وإمّا أنّ صاحبه يعتقد أنّه وإن كان هو غير الله إلاّ أنّه بالتربية والرياضة والعرفان والسلوك يفنى في الله بالوصول إليه بخرق الحُجب، فلا يبقى غير الله، فيكون الربّ هو الذي يعرف نفسه(1).

والخطأ الفلسفي في هذا الكلام كما مضى هو: أنّ التجرد عن البدن والجوانب المادّية لو تمّ بمعنى الكلمة فالجانب المجرّد من النفس لم يكن نقصه وحدّه مخصوصاً بما كان معه من البدن والمادّة وبنقائصهما وأعراضهما، بل نفس إمكانه وحدوثه وفقره بما هو، ومحدوديّةُ ذاته والتي كلّها تكون علائم تدلّ على النقص الذاتي الذي يمنع عن وصوله إلى مقام الربّ تعالى أُمورٌ ذاتيّة له، فلا يمكنه التجرّد عنها، وذاتيّةُ النقص في الممكن المخلوق ـ أيضاً ـ أمرٌ وجداني.

ويقول بعض(2): إنّ التجرّد الكامل ومن جميع الجهات لا يحصل إلاّ بعد


(1) أُنظر الفارق الكبير بين تفسير خرق الحُجُب والفناء الكامل بمعنى أنّه لم يبق شيء غير الربّ، والربّ هو الذي يعرف نفسه، وبين ما يقوله آية الله جوادي آملي (حفظه الله) في تقدمته لكتاب سرّ الصلاة في الصفحة الثامنة عشر: من أنّ الخرق النهائي عبارة عن أن لا يرى الإنسان نفسه، وليس عبارة عن الانعدام، فإنّ الانعدام ليس كمالاً، وإنّما الكمال هو عدم الرؤية، والسالك يصل في مقام الفناء التامّ إلى مستوى أنّه لا يرى شيئاً غير الله، فلا يرى نفسه، ولا غيره ولا عدم رؤيته للغير، ولا رؤيته للحقّ...

(2) راجع تعليق السيّد محمّد حسين الطهراني على الرسالة المنسوبة لبحر العلوم: 39 ـ 40، والرسالة تسمّى سير وسلوك.