93

 

 

 

 

النقطة الثالثة

وهي أنّ الصلاة هي العمل الأوّل

والأساس لتهذيب النفس

 

فقد قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ ... أَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾(1).

وقد يبدو للخاطر: أنّه ما معنى إخباره سبحانه وتعالى عن نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر في حين أنّ أكثر الناس الاعتياديين لا تنهاهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر، بدليل أنّهم يصلّون وفي نفس الوقت ـ أيضاً ـ يصدر منهم بعض الفسوق.

ولكن الواقع: أنّه في الغالب بل الدائم لا تنفك الصلاة عن النهي عن الفحشاء والمنكر، إلاّ أنّ هذا النهي يتقدّر بقدر حضور المصلي لدى المليك المقتدر في صلاته. وكيف يتعقَّل ـ عادة ـ أن يحضر العبد بمحض اختياره ورغبته لدى سلطان دنيويّ في اليوم خمس مرّات، ويحسّ بعظمته وجلاله ثمَّ لا يؤثِّر ذلك في ترك مخالفته لذلك السلطان، أو تقليل المخالفة ولو جزئياً؟! فإذا كان هذا حال الحضور لدى سلطان دنيويّ عاجز مسكين مستكين فكيف بالحضور لدى المليك المقتدر ؟ وإن كانت سَعة رحمته قد تُجرّئ العبد على المعصية. «فلو اطّلع اليوم على ذنبي


(1) السورة 29، العنكبوت، الآية: 45.

94

غيرك ما فعلته، ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبته، لا لأنّك أهون الناظرين إليَّ، وأخفّ المطّلعين عليّ، بل لأنّك ياربّ خير الساترين، وأحكم الحاكمين، وأكرم الأكرمين...»(1). نعم، يتقدَّر النهي عن الفحشاء والمنكر بقدر ما يكون للإنسان من حضور القلب، فمن يضعف ويقلُّ حضوره يقلّ نهي الصلاة إيّاه عن الفسوق، ولكن لو كان يترك الصلاة لكان يتوغّل في هاوية الفسوق أكثر، ومن يتمُّ حضوره في الصلاة أمام الربّ بتمام ما للكلمة من معنى يكون ذلك في نهيه إيّاه من الفحشاء والمنكر بمرتبة ما يوازي العصمة أو يقاربها.

وقد روي عن ابن عباس: أنّه أُهدي إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) ناقتان عظيمتان، فجعل إحداهما لمن يصلّي ركعتين لا يهمّ فيهما بشيء من أمر الدنيا. ولم يجبه أحد سوى عليّ(عليه السلام)، فأعطاه كلتيهما(2).

وقد ورد ـ أيضاً ـ أنّ عليّاً(عليه السلام) كان في صلاته يستغرق في الله إلى حدّ اُستخرج السهم من رجله في حال الصلاة فلم يلتفت(3). وقد روى الفيض الكاشاني(رحمه الله)في المحجّة: أنّ مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) وقع في رجله نصل، فلم يمكّن من إخراجه، فقالت فاطمة(عليها السلام): أخرجوه في حال صلاته، فإنّه لا يحسّ بما يجري عليه، فأُخرج وهو(عليه السلام) في صلاته(4).

ومن هنا قيل: إنّه اُعترض على بعض الخطباء ـ وقيل: إنّه ابن الجوزي ـ بأنّ عليّاً(عليه السلام) مع استغراقه الكامل في ذات الله لدى الصلاة كيف التفت إلى السائل وأعطاه خاتمه؟!


(1) دعاء أبي حمزة الثمالي.

(2) البحار 41/18.

(3) تفسير «نمونه» 4/428، وأنوار المواهب: 160.

(4) المحجة البيضاء 1/397 ـ 398.

95

فأجاب الخطيب بالبداهة بقراءة هذين البيتين:

يسقي ويشربُ لا تُلْهِيهِ سكرتُه
عن النديمِ ولا يلهو عن الكاسِ
أطاعه سُكرُهُ حتّى تمكَّنَ من
فعلِ الصُحاة فهذا أفضلُ الناسِ(1)

وكأنّ المقصود: أنّ عمل الالتفات إلى السائل والتصدِّق عليه كان عبادة. فالالتفات إلى ذلك في أثناء الصلاة كان ـ أيضاً ـ التفاتاً إلى الله؛ ولهذا لم يصبح استغراقه في ذات الله مانعاً عن ذلك، ولم يكن هذا الالتفات التفاتاً إلى النفس كما في فرض الالتفات إلى إخراج السهم ـ مثلاً ـ حتّى يكون نسيانه لذاته في الصلاة مانعاً عن ذلك.

وقد ورد في وصايا رسول الله(صلى الله عليه وآله) لأبي ذرّ: «يا أبا ذرّ رَكْعتان مقتصدتان في تفكّر خيرٌ من قيام ليلة والقلبُ ساه»(2).

وروي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): أنّه رأى رجلاً يعبث بلحيته في صلاته فقال: «أما انّه لو خشع قلبهُ لخشعت جوارحُه»(3).

وعن النبيّ(صلى الله عليه وآله): «إذا قام العبد إلى صلاته وكان هواه وقلبه إلى الله انصرف كيوم ولدته أُمّه»(4).

وأيضاً روي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «مَنْ صلّى رَكْعتين لم يُحدّث فيهما نفسه بشيء من الدنيا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه»(5).

وأيضاً روي عن النبيّ(صلى الله عليه وآله): «أنّ العبد ليصلّي الصلاة لا يُكتب له سدسُها ولا


(1) أنوار المواهب: 160 ـ 161.

(2) البحار 77 / 82 .

(3) مجمع البيان مج 4 / 7 / 176، في ذيل تفسير قوله تعالى: ﴿الذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ السورة 23، المؤمنون، الآية: 2.

(4) كتاب أسرار الصلاة للحاج ميرزا جواد الملكي: 127، ط الناشر مكتبة فرهومند.

(5) المحجة البيضاء 1/349.

96

عشُرها، وإِنّما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها»(1).

وأيضاً روي عن بعض أزواج النبيّ(صلى الله عليه وآله) قالت: كان رسول الله يحدّثنا ونحدّثه، فإذا حضرت الصلاة فكأنّه لم يعرفنا ولم نعرفه شغلاً بالله عن كلِّ شيء. وكان عليّ(عليه السلام) إذا حضر وقت الصلاة يتململ ويتزلزل، فيقال له: مالك يا أمير المؤمنين؟! فيقول: «جاء وقت أمانة عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها». وكان عليّ بن الحسين(عليه السلام) إذا حضر الوضوء اصفرّ لونه(2).

وأيضاً ورد عن الرسول(صلى الله عليه وآله): «لا صلاة لمن لم يطع الصلاة، وطاعة الصلاة أن ينتهي عن الفحشاء والمنكر»(3).

وعن الصادق(عليه السلام): «من أحبّ أن يعلم أقُبلت صلاته أم لم تقبل فلينظر هل منعت صلاته عن الفحشاء والمنكر، فبقدر ما منعته قبلت منه»(4).

وبمعرفة معنى نهي الصلاة عن المنكر، وأنّ النهي يقوى ويتمّ إذا قوي حضور قلب المصلّي لدى الله وتمَّ، قد يتّضح معنى غسل الصلاة لدرن الروح باليوم خمس مرّات كمن يغسل بدنه بنهر جار باليوم خمس مرّات، فلا يبقى درن في بدنه، كما ورد عن الباقر(عليه السلام) عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «لو كان على باب دار أحدكم نهرٌ، فاغتسل في كلِّ يوم منه خمس مرّات أكان يبقى في جسده من الدرن شيء ؟ قلنا: لا، قال: فإنّ مثل الصلاة كمثل النهر الجاري كلّما صلّى صلاة كفّرت ما بينهما من الذنوب»(5).

وورد في رواية اُخرى عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أحدهما(عليهما السلام)يقول:


(1) المصدر السابق 1 / 368.

(2) المحجة البيضاء 1/378.

(3) تفسير «نمونه» 16/286 و 287.

(4) تفسير «نمونه» 16/286 و 287.

(5) الوسائل 4/12، الباب 2 من أعداد الفرائض، الحديث 3.

97

إنّ عليّاً(عليه السلام) أقبل على الناس فقال: أَيّة آية في كتاب الله أرجى عندكم ؟ فقال بعضهم: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ...﴾(1). قال: حسنة وليست إيّاها. وقال بعضهم: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ(2) ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾(3). قال: حسنة وليست إيّاها. فقال بعضهم: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾(4). قال: حسنة وليست إيّاها. وقال بعضهم: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾(5). قال: حسنة وليست إيّاها. قال ثمَّ أحجم الناس فقال: مالكم يا معاشر المسلمين؟ قالوا: لا والله ما عندنا شيء. قال: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: أرجى آية في كتاب الله: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ (6). وقال: يا عليّ والذي بعثني بالحقّ بشيراً ونذيراً إنّ أحدكم ليقوم إلى وضوئه فتساقط عن جوارحه الذنوب، فإذا استقبل الله بوجهه وقلبه لم ينفتل عن صلاته وعليه من ذنوبه شيء كما ولدته أُمّه، فإن أصاب شيئاً بين الصلاتين


(1) السورة 4، النساء، الآيتان: 48 و116.

(2) لعلّه إشارة إلى أنّ المذنب قد ظلم نفسه وأضرّ بنفسه وليس بربّه، فإنّ الله غنيّ عن العالمين.

(3) السورة 4، النساء، الآية: 110.

(4) السورة 39، الزمر، الآية: 53.

(5) السورة 3، آل عمران، الآيتان: 135 ـ 136.

(6) السورة 11، هود، الآية: 114. وستأتي في بحث الشفاعة رواية اخرى تعيّن أرجى آية في آية الشفاعة.

98

كان له مثل ذلك حتّى عدّ الصلوات الخمس، ثُمّ قال: يا عليّ إنّما منزلة الصلوات الخمس لأُمتي كنهر جار على باب أحدكم، فما ظنّ أحدكم لو كان في جسده درن ثمَّ اغتسل في ذلك النهر خمس مرّات في اليوم أكان يبقى في جسده درن؟! فكذلك والله الصلوات الخمس لاُمتي(1).

وفي أكبر الظنّ أنّ المقصود هو: إمكانية غسل الدرن بالصلوات الخمس لا زوال الدرن قهراً، فإنّ الصلاة شُبِّهت بنهر الماء ولو أنّ أحداً دخل فيه عشرات المرّات، وخرج من دون أن يغتسل وينظف بدنه بفرك ونحوه، لم يخلص من درنه، وكذلك الصلاة إنّما تغسل الدرن وتزيل الذنوب لمن يغسل بها روحه. ويشهد لذلك قوله(صلى الله عليه وآله): «فإذا استقبل الله بوجهه وقلبه...» إذن فلو لم يستقبل الله إلاّ بتوجيه الوجه نحو الكعبة، ومن دون التوجّه بالقلب نحو الله، لم تكن فيه هذه الفائدة بكاملها، وإن كانت لا تخلو صلاته عن شيء من هذه الفائدة. وكذلك يشهد للمقصود تمسّكه(عليه السلام) بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ فأكبر الظنّ: أنّ المقصود بهذه الآية ليس هو مجرّد أن الحسنة تقتضي عفو الله عن ذنب العبد بمعنى ترك عقابه عليه (وان كانت الحسنة لا تخلو من تأثير في ذلك)، فإنّ هذا ليس إذهاباً للسيّئات؛ لأنّ عفو الله بترك العقاب عليها لا يعني زوالها واضمحلالها، فهي موجودة، إلاّ أنّ الله ـ تعالى ـ برحمته ربّما لا يؤاخذ العبد عليها ويعفو عنه. أمّا الإذهاب الحقيقي للسيّئات فهو عبارة عن غَسل الدرن الذي اتّجه إلى الروح، وإزالة الظلمة التي سيطرت على القلب بسبب الذنوب، ومحو الآثار التي خلّفت الذنوب على النفس. وهذا هو الذي يكون ذكرى للذاكرين، فقد يتخيّل المؤمن الذي ابتلى بالذنب ـ نتيجةً لعدم العصمة ولاستيلاء الشهوات عليه المودعة فيه من قبل الله تعالى ـ أنّه لا علاج للخلاص عن السقوط الذي وقع فيه،


(1) البحار 82 / 220.

99

فيذكِّره الله ـ تبارك وتعالى ـ بأنّك تستطيع علاج مرض الذنوب بدواء الحسنات.

ولعلّه اتَّضح بهذا ـ أيضاً ـ معنى ما ورد عن أبي جعفر(عليه السلام) من كون «الصلاة عمود الدين مثلها كمثل عمود الفسطاط إذا ثبت العمود ثبتت الأوتاد والأطناب، وإذا مال العمود وانكسر لم يثبت وتد ولا طنب»(1).

وليعلم أنّ الصلاة صُمِّمت بشكل يساعد على حضور القلب، وتلهم بكل خطواتها ذكر الله سبحانه وتعالى، وتساعد إلى حدّ كبير في النهي عن الفحشاء والمنكر.

ولتوضيح ذلك نذكر نموذجاً مختصراً عن إلهامات الصلاة بقدر ما يتطلّبه هذا المدخل المختصر:

 

فأوَّلاً ـ استقبال الكعبة:

إنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ موجود في كلّ مكان، ونسبة جهة الكعبة وما يعاكسها إليه سواه ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ...﴾(2)، ولكنالإسلام أراد للإنسان اتّجاهاً حسّياً لدى إرادة الاتّجاه إلى الله، باعتبار أنّ الإنسان خُلِق حسّياً أكثر من كونه عقليّاً، فجعل الكعبة رمزاً لبيت الله، وأمرنا بالتوجّهإلى جهة المسجد الحرام بقوله تعالى: ﴿ ... وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ...﴾(3)، أفيكون من وظيفتنا في الصلاة توجّه الجسم إلى ما جعل رمزاً لبيت الله، ولا يكون من وظيفتنا توجّه القلب في الصلاة إلى الله سبحانه والذي به تتمّ روح العبادة؟!


(1) البحار 82 / 218.

(2) السورة 2، البقرة، الآية: 115.

(3) السورة 2، البقرة، الآيتان: 144 و 150.

100

وثانياً ـ التكبير:

لئن كبّرنا ـ حقّاً ـ متوجّهين إلى مغزى التكبير، وقاصدين معناه، ومؤمنين بأنّ الله أكبر من كلّ شيء، أفهل يُعقل أن نعصي الله، ونتّجه إلى غيره من هدف صغير أو كبير ممّا هو لا شيء بالقياس إلى الله سبحانه وتعالى؟!

 

وثالثاً ـ سورة الفاتحة:

وليست هي أوَّل سورة نزلت من القرآن، فعجباً لماذا أصبحت فاتحةً للكتاب؟! أفلا يرمز ذلك إلى عظمة هذه السورة المباركة، ولقد فُسِّر السبع المثاني بهذه السورة، وجُعِل السبع المثاني في عرض تمام القرآن في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾(1). وفي الحديث عن عليّ(عليه السلام)قال: «سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: إنّ الله ـ تعالى ـ قال لي: يا محمّد ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾، فأفرد الامتنان عليَّ بفاتحة الكتاب، وجعلها بإزاء القرآن العظيم. وإنّ فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش...»(2).

ولفاتحة الكتاب ميزة لم توجد في أيّة سورة أُخرى من سور القرآن، وهي: أنّ جميع سور القرآن لسانها لسان مخاطبة الله سبحانه وتعالى للناس، ماعدا هذه السورة المباركة التي كان لسانها من أوّلها إلى آخرها لسان مخاطبة العبد لله سبحانه وتعالى(3).. ولعلّ هذا هو السرّ في أنّه لا تخلو صلاة منها، ولا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب(4). ولعلَّ هذا هو السرّ أو أحد الأسرار في جعل هذه السورة أوّل


(1) السورة 15، الحجر، الآية: 87 .

(2) تفسير البرهان: 1 / 41.

(3) تفسير «نمونه» 1/2.

(4) راجع الوسائل 6/37 ـ 39، الباب 1 من أبواب القراءة في الصلاة.

101

سورة من القرآن برغم نزولها المتأخّر.

ومن يبدأ القراءة في الصلاة بالاستعانة بالله الرحمن الرحيم، ويعترف بأنّه تعالى مالك يوم الدين، ويحصر العبادة والاستعانة بالله تعالى، كيف يتّخذ بعد ذلك إلههُ هواه، ويستعين بنعم الله ـ تعالى ـ على معصيته؟!

 

ورابعاً ـ الركوع والسجود:

وقد قالوا عنهما: إنّهما عبادة ذاتيّة؛ لأنّ العبادة تذلّل، والتذلّل بالعبائر إنّما تكون بمعانيها اللُغويّة التي تختلف من لغة إلى لغة ومن قوم إلى قوم، في حين أنّ دلالة الركوع والسجود على التذلّل دلالة عالمية أجمع عليها كلّ الملل وكلّ اللغات، فكأنّ دلالتها على ذلك ذاتيّة، ومن يتذلّل لله بهكذا تذلّل بمحض اختياره ومن دون أيّ إجبار؛ لأنّ « ... اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل »(1)كيف يعارض الله ـ تعالى ـ بعد ذلك بمعصيته؟!

إلى هنا تكلّمنا حول تفسير قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ والمُنْكَرِ ...﴾(2). ولا بأس بتكميل البحث بحديث مختصر عن ذيل الآية، وهو قوله تعالى: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ...﴾ وفيه احتمالان:

الاحتمال الأوّل: أن يكون المقصود بالذكر ذكر العبد لله تعالى. ويؤيّد هذا الاحتمال ما ورد في تفسير الذكر في هذه الآية المباركة عن الصادق(عليه السلام)من قوله: «ذكر الله عندما أحلّ وحرّم»(3). وليس معنى الآية على هذا الاحتمال: أنّ ذكر الله أكبر من الصلاة، وذلك لوضوح أنَّ الصلاة من أبرز مصاديق الذكر وأكملها، بل


(1) نهج البلاغة: 80، رقم الخطبة: 42.

(2) السورة 29، العنكبوت، الآية: 45.

(3) تفسير «نمونه» 16/289.

102

كأنّ معناها: إمّا هو تعليلٌ لنهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر: بأنّ ذكر الله أكبر من كلّ ما يكون قابلاً للنهي عن الفحشاء والمنكر، أي: بما أنّ الصلاة تكون أبرز أنحاء الذكر وأتمّها وأكملها فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وإمّا هو بيان لكون ذكر الله ـ ومن أتمّها وأكملها الصلاة ـ أكبر من كلّ اللّذائذ والتي منها لذّة النفس الأمّارة، وهي لذّة الفحشاء والمنكر(1).

والاحتمال الثاني: أن يكون المقصود بالذكر ذكر الله للعبد، فيكون معنى الآية: أنّ ذكر الله لعبده أكبر من ذكر العبد لله.

قال الله تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ...﴾(2). ويؤيّد هذا الاحتمال ما ورد عن الإِمام الباقر(عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ...﴾ أنّه يعني: «ذكر الله لأهل الصلاة أكبر من ذكرهم إيّاه، ألا ترى أنّه يقول: ﴿اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ...﴾»(3).

 

استنتاجٌ وإضافة:

أمّا الاستنتاج: فقد اتَّضح أنّ أوّل خطوة للسلوك هو الخشوع في الصلاة، وقد أشار القرآن إلى ذلك في آيتين:

الأُولى: قوله سبحانه وتعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾(4). فقد جعل أوّل علامة الإيمان هو الخشوع في الصلاة.

والثانية: قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى


(1) راجع بهذا الصدد رسالة السير والسلوك المنسوب إلى السيّد بحر العلوم مع تعليق السيّد محمّد حسين الطهراني: 122 ـ 123.

(2) السورة 2، البقرة، الآية: 152.

(3) البحار 82/206.

(4) السورة 23، المؤمنون، الآية: 1 ـ 2.

103

الْخَاشِعِينَ﴾(1).

فمن يصلّي بهدف التخلّص من مسؤوليّة الوجوب، وليس بدافع خشوعه القلبي لله واستغراقه في ذات الله، يحسّ بثقل الصلاة، ويتمنّى في أثناء صلاته بين آونة واُخرى أن تنتهي الصلاة كي لا تشغله عن أعماله وعن علاج مشاكله التي هو مصاب بها، فَمَثله مثل رجل مريض يراجع الطبيب، وينتظر في صفّ المرضى المنتظرين ولو لعدّة ساعات، ويتحمل ذلك لعلمه بأنّ هذا لابدّ له منه علاجاً لمرضه أو نجاةً من الموت الاحتمالي، لكنّه يتمنّى في كلّ لحظة أن تنتهي هذه المراجعة كي يفرغ لسائر أعماله وهمومه. أمّا من يتشرف بلقيا عظيم من العظماء كالسيد الإِمام(رحمه الله) أو السيّد الشهيد الصدر(رحمه الله) ممّن يكون خاشعاً له مستغرقاً في حبِّه ملتذّاً بحضوره لديه فقد تمضي عليه الساعات الطوال ولا يحسّ أصلاً بمرور الزمن، فكأنّ هذا هو معنى قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾، أي: أنّ غير الخاشع إن كان يصلّي يرى أنّ صلاته قد زاحمت أعماله وأشغاله الأُخرى، فهو قد يأتي بالصلاة باعتبار اعتقاده بوجوبها، لكنّه يحسّ بثقلها ومشقّتها. وأ مّا الخاشع فهو الذي يلتذّ بالصلاة، فلا يحسّ بثقلها، وكأنّه يغفل عن مرور الزمن عليه في حال الصلاة.

للهِ قومٌ إِذا ما الليل جنّهمو
قاموا من الفرشِ للرحمنِ عُبَّادا
ويركبون مطايا لا تملُّهمو
إذا هُمو بمنادي الصبحِ قد نادا
هُمو إذا ما بياضُ الصبحِ لاحَ لهم
قالوا من الشوقِ ليت الليلَ قد عادا
الأرضُ تبكي عليهم حينَ تفقدُهمْ
لأنّهم جعلوا للأرضِ أوتادا

ثُمّ إنّني لا أتصوّر أن تكون الصلاة التي هي كبيرة إلاّ على الخاشعين عبارة عن صلواتنا التي قد تكون نقراً كنقر الغراب، أو لا تستغرق إلاّ خمس دقائق،


(1) السورة 2، البقرة، الآية 45.

104

ولا تكون إلاّ بالمقدار المجزي فقهيّاً، فأيّ ثقل مهمّ لهذه الصلاة حتّى يقال عنها: ﴿ إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾؟!

وأمّا الإضافة فأُمور ثلاثة:

الأوّل: هناك عدّة طرق لتحصيل حضور القلب في الصلاة، منها:

1 ـ أن يبادر قبل الدخول في الصلاة بحلّ مشاغله الآنيّة، كمدافعة الأخبثين، وألم يمكن تسكينه ولو نسبيّاً في وقت قصير، ونحو ذلك. وقد وردت النصوص في النهي عن الصلاة مع مدافعة الأخبثين(1).

وقد رُوي عن أبي الدرداء أنّه قال: من فقه الرجل أن يبدأ بحاجته قبل دخوله في الصلاة؛ ليدخل في الصلاة وقلبه فارغ(2).

2 ـ أن يفرّغ نفسه قبل الصلاة عن أفكاره الأُخرى ومشاغله دنيويّة أو أُخرويّة، ويفكّر في عظمة الله ورحمته وغضبه، وفي الموت وما بعده.

3 ـ أن يتأمّل في الصلاة في معاني ما يقول. وطبعاً التوجّه إلى الله من خلال الكلمات ليس هو الأصل؛ بل الأصل هو العكس، ولكن هذا ممّا لابدّ منه في بداية الطريق.

الثاني: على السالك أن يتدرّج في السلوك، ولا يحمّل نفسه فوق طاقته، ولا يبغّض إلى نفسه العبادة بالإكثار، ويداري حالات قلبه المختلفة من الإقبال والإدبار.

وقد ورد عن الصادق(عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنّه قال لعليّ(عليه السلام): «يا عليّ إنّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغّض إلى نفسك عبادة ربّك إنّ المنبتّ ـ يعني المفرط ـ لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع، فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرماً


(1) راجع الوسائل، ج7، الباب 8 من قواطع الصلاة.

(2) راجع المحجة البيضاء 1/398.

105

واحذر حذر من يتخوّف أن يموت غداً»(1).

وعن أحدهما(عليهما السلام) قال: قال النبيّ(صلى الله عليه وآله): «إنّ للقلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فتنفّلوا، وإذا أدبرت فعليكم بالفريضة»(2).

وعن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنّ للقلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فاحملوها على النوافل، وإذا أدبرت فاقتصروا بها على الفرائض»(3).

الثالث: كلّما تقدّم السالك في سلوكه ازداد ثقل كاهله، ولن يصل إلى مرحلة التخفيف، فهاهم أنبياء الله العظام الذين وصلوا في سلوكهم فوق ما يتصوَّره متعارف الناس ترى عظم مسؤوليتهم وثقل كاهلهم. وكنموذج لذلك نشير إلى قِصَّة يونس على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام، فهو حينما غضب على قومه الكفرة الفجرة، وكان غضبه لله لم يستطع الصبر على ذلك حتّى دعا عليهم، وهذا أمر لو صدر من أحدنا لشكرنا الله عليه، ولكُنَّا بذلك من الممدوحين، ولكنّ الله تعالى أدّبه على ذلك بسجنه في بطن الحوت، وقال: ﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِن الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(4). وذلك لا لشيء إلاّ لأنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين، ولا لشيء إلاّ لأنّه كان يتوقّع منه أن يكون أوسع صدراً من ذلك. وهذه مسؤوليّة لا نتحمل نحن عُشراً من معشارها.

وهذا رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد أذِنَ للبعض بهدف المداراة وحسن السلوك مع الناس؛ لتقريبهم بذلك إلى الله الأمر الذي لو صدر من أحدنا لكُنّا من الممدوحين والمشكور على عملهم، ولكنّ الله تعالى أدّبه فأحسن تأديبه حينما قال: ﴿عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾(5).


(1) الوسائل 1/110، الباب 26 من مقدّمة العبادات، الحديث 7.

(2) الوسائل 4 / 69، الباب 16 من أعداد الفرائض، الحديث 8 .

(3) نهج البلاغة: 721، رقم الحكمة: 312.

(4) السورة 37، الصّافات، الآيتان: 143 ـ 144.

(5) السورة 9، التوبة، الآية: 43.

107

 

 

 

 

النقطة الرابعة

وهي التأكيد على ضرورة العمل الاجتماعي مع الناس

ومع الطبيعة وعدم الابتعاد عن العمل السياسي وعدم تنافي

ذلك كلّه لتهذيب النفس وتزكيتها، بل إنّ هذا أيضاً عامل

من عوامل التهذيب والتزكية

 

فالمألوف الغالب في وضع الصوفيّة إبعاد الناس الذين يفتتنون بهم عن العمل السياسي الاجتماعي. وقد يدّعى أنّ تزكية النفس بحاجة إلى الاختلاء والابتعاد عن وضع المجتمع.

ونحن نقول: صحيح أنّ تربية النفس لا تستغني عن نوع من الاختلاء بالله، وهو أمر مرغوب فيه شرعاً، إلاّ أنّ الشريعة أمرت بتوزيع هذا الاختلاء على تمام العمر يوماً فيوماً بتخصيص ساعة للاختلاء، وأفضل الساعات لذلك هو جوف الليل الغابر ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً﴾(1). فالنهار يناسب السبح في المجتمع وفي مسرح الحياة وفي الأعمال الدنيويّة والأُخرويّة، وغابر الليل يناسب الخلوة مع الله سبحانه وتعالى. وهذا معنى توزيع الخلوات على تمام أيّام العمر من دون الانقطاع عن الأعمال الاجتماعيّة والسياسيّة، وكشف منابع الطبيعة ونعمها واستثمارها. أمّا الانصراف تمام العمر أو


(1) السورة 73، المزمّل، الآيتان: 6 ـ 7.

108

ردحاً من الزمن عن العمل السياسي الاجتماعي وبحُجّة تزكية النفس أو بأ يّة حُجّة أُخرى، فهذا ليس من دأب الإسلام، وهذا خلاف العمل بخلافة الله على وجه الأرض.

قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ...﴾(1).

والمقصود بالخلافة: الخلافة عن الله لا الخلافة عن إنسان قديم، فإنّ الَمخلف عنه لو كان غير المتكلّم لوجب التنبيه عليه.

والمقصود بالخليفة: الإنسانيّة بالذات لا شخص آدم(عليه السلام) وأكبر الظنّ أنّ هذا هو الذي أثار مخاوف الملائكة ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ... ﴾(2). أمّا شخص آدم(عليه السلام) فلم يكن يثير تخوّفاً في نفوس الملائكة. والسجود وإن كان بوجهه الخاص لآدم(عليه السلام) أو للإنسانيّة المعصومة وللمعصومين في صلب آدم(عليه السلام)، ولكنّه بوجهه العام كان سجوداً للإنسانيّة.

قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُم ثُمَّ صَوَّرْنَاكُم ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ...﴾(3). فذيل الآية يشير إلى وجه السجود الخاص بآدم أو بالمعصومين، لأنّه أو لأنّهم الفرد الكامل في الخلافة المشتملة على ولاية الطاعة. وقد ورد عن الرضا (عليه السلام): «كان سجودهم لله ـ تعالى ـ عبوديّة، ولآدم إكراماً وطاعة لكوننا في صلبه»(4). وصدر الآية يشير إلى وجه السجود العام؛ إذ دلَّ على أنّ خلق آدم كان خلقاً لكم أيُّها البشر، وتصويره كان تصويراً لكم، فالسجود له كان سجوداً لكم. وسجود الملائكة للإنسانيّة فيه إشارة عظيمة إلى عظمة الإنسان الكامنة في امتيازه


(1) السورة 2، البقرة، الآية: 30.

(2) السورة 2، البقرة، الآية: 30.

(3) السورة 7، الأعراف، الآية: 11.

(4) تفسير «نمونه» 1/183.

109

عن الملائكة، وكان امتياز الإنسان فيما له من الخلافة. وليس المقصود بخلافة الإنسان أن يكون بكلِّ أفراده وليّاً واجب الطاعة، بل المقصود: أنّ الإنسان بكلِّ أفراده يخلف المنوب عنه في رعايته للمخلف فيه، والمخلف فيه هو الأرض وما على الأرض.

فليس معنى ﴿جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ كون مهبط الخليفة هو الأرض فحسب من دون أن تكون الخلافة على الأرض، بل معناه: أنّه في الأرض، وأنّه خليفة على الأرض، فعليه أن يستعمر الأرض ويستثمرها، ويرعى ما عليها ومَنْ عليها كلّ بمستواه، وطبعاً مستوى المعصومين هو الخلافة المشتملة على ولاية الطاعة. وقد ورد في الحديث: «مَن أصبح لا يهتمّ بأُمور المسلمين فليس بمسلم»(1). وورد: «لا رهبانيّة في الإسلام»(2).

ورسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يربِّ أصحابه على الانفصال عن العمل السياسي الاجتماعي دائماً أو ردحاً من الزمن، بل زجّهم ـ من أوّل زمن شوكة الإسلام ـ في الحروب والأعمال السياسيّة، وكانت الخلوة مع الله ثابتة بينهم بشكل موزّع على أيّام العمر، وكان هو وطائفة من الذين معه يقومون بالعبادة في جوف الليل الغابر.

هذا، والعزوف عن الحياة الاعتياديّة والترهبن والتعمد في ترك اللذائذ المحلّلة ـ أيضاً ـ أمر مرغوب عنه في الإسلام.

وإليك بعض الآيات:

1 ـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ


(1) راجع الوسائل 16/336 ـ 337، الباب 18 من أبواب فعل المعروف.

(2) سفينة البحار 3/428، مادّة (رهب).

110

مُؤْمِنُونَ﴾(1).

2 ـ ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾(2).

3 ـ ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ...﴾(3).

4 ـ ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ...﴾(4).

وإليك بعض الروايات:

1 ـ عن عليّ(عليه السلام) قال: «إنّ جماعة من الصحابة كانوا حرّموا على أنفسهم النساء، والإفطار بالنهار، والنوم باللّيل، فأخبرت أمُّ سلمة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فخرج إلى أصحابه، فقال: أترغبون عن النساء؟! إنّي آتي النساء، وآكل بالنهار، وأنام باللّيل، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي...»(5).

2 ـ عن الصادق(عليه السلام) قال: «جاءت امرأة عثمان بن مظعون إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله)فقالت: يا رسول الله إنّ عثمان يصوم النهار ويقوم اللّيل. فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله)مغضباً يحمل نعليه حتّى جاء إلى عثمان، فوجده يصلّي، فانصرف عثمان حين رأى رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال له: يا عثمان لم يرسلني الله بالرهبانيّة، ولكن بعثني بالحنيفيّة السمحة أصوم وأُصلّي وألمس أهلي، فمن أحبّ فطرتي فليستنّ بسنّتي، ومن سنّتي النكاح»(6).


(1) السورة 5، المائدة، الآيتان: 87 ـ 88 .

(2) السورة 66، التحريم، الآيتان: 1 ـ 2.

(3) السورة 7، الاعراف، الآية: 32.

(4) السورة 28، القصص، الآية: 77.

(5) الوسائل 20 / 21، الباب 2 من مقدّمات النكاح، الحديث 9.

(6) الوسائل 20/106 ـ 107، الباب 48 من مقدمات النكاح، الحديث 1.

111

3 ـ عن الصادق(عليه السلام) قال: «إنّ ثلاث نسوَة أتين رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالت: إحداهنّ: إنّ زوجي لا يأكل اللّحم. وقالت الأُخرى: إنّ زوجي لا يشمّ الطيّب. وقالت الأُخرى: إنّ زوجي لا يقرب النساء. فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجرّ رداءه حتّى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: ما بال أقوام من أصحابي لا يأكلون اللّحم، ولا يشمّون الطيّب، ولا يأتون النساء؟! أمّا إنّي آكل اللّحم، وأشمّ الطيب، وآتي النساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي»(1).

4 ـ في نهج البلاغة(2) دخل عليّ (عليه السلام) بالبصرة على العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه يعوده، فلمّا رأى سَعة داره قال: «ما كنت تصنع بسَعة هذه الدار وأنت إليها في الآخرة كنتَ أحوج؟ وبلى إن شئت بلغتَ بها الآخرة تقري فيها الضيف، وتصل فيها الرحم، وتُطِلع منها الحقوق مطالعها، فإذن أنت قد بلغت بها الآخرة.

فقال له العلاء: يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد، قال: وماله؟ قال: لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا. قال: عَليَّ به، فلمّا جاء قال: يا عُدَيّ نفسه لقد استهام بك الخبيث، أما رحمتَ أهلك وولدك، أترى الله أحلّ لك الطيّبات وهو يكره أن تأخذها؟! أنت أهون على الله من ذلك!

قال: يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك.

قال: ويحك إنّي لست كأنت، إن الله ـ تعالى ـ فرض على أئمّة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس كي لا يتبيّغ بالفقير فقره». ورواه ابن أبي الحديد مع بعض الفوارق(3).


(1) المصدر السابق 20 / 107، الحديث 2.

(2) نهج البلاغة: 439 ـ 440، رقم الخطبة: 209.

(3) راجع البحار 70/121 ـ 122 ناقلاً له عن ابن أبي الحديد.

112

5 ـ ورد عن ابن القدّاح قال: «كان أبو عبدالله(عليه السلام) متكئاً عليَّ، أو قال: على أبي، فلقيه عبّاد بن كثير وعليه ثياب مَرْويّة حسان، فقال: يا أبا عبدالله إنّك من أهل بيت النبوّة، وكان أبوك وكان، فمالهذه الثياب المزيّنة عليك؟! فلو لبست دون هذه الثياب.

فقال له أبو عبدالله(عليه السلام): ويلك يا عبّاد ﴿مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ...﴾ إنّ الله عزّ وجلّ إذا أنعم على عبد نعمةً أحبّ أن يراها عليه ليس به بأس، ويلك يا عبّاد إنّما أنا بضعة رسول الله(صلى الله عليه وآله) فلا تؤذني». وكان عبّاد يلبس ثوبين قطريين (قطوبين خَ لَ)(1).

6 ـ روى في البحار(2) عن تحف العقول قال: «دخل سفيان الثوري على أبي عبدالله(عليه السلام)، فرأى عليه ثياب بياض كأنّها غِرْقِئ البيض(3)، فقال له: إنّ هذا اللباس ليس من لباسك.

فقال له: اسمع منّي وعِ ما أقول لك، فإنّه خير لك عاجلاً وآجلاً إن كنت أنت متّ على السنّة والحقّ، ولم تمت على بِدْعة: أُخبرك أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان في زمان مقفر جَشِب، فإذا أقبلت الدنيا فأحقّ أهلها بها أبرارها لا فجّارها، ومؤمنها لا منافقوها، ومسلموها لا كفّارها، فما أنكرت يا ثوريّ؟ فو الله إنّي لمع ما ترى ما أتى عليَّ مذ عقلتُ صباح ولا مساء ولله في مالي حقّ أمرني أن أضعه موضعاً إلاّ وضعته.

فقال: ثمَّ أتاه قومه ممّن يظهر التزهّد، ويدعون الناس أن يكونوا معهم مثل


(1) الوسائل 5/16، الباب 7 من أحكام الملابس، الحديث 4.

(2) البحار 70/122 ـ 128.

(3) جاء هنا في البحار تحت الخط ما يلي: الغِرْقِئ ـ كزبرج ـ القشرة الملتزقة ببياض البيض، شبهه بها للطافتها وشفوفها ونعومتها وبياضها.

113

الذي هم عليه من التقشّف، فقالوا: إنّ صاحبنا حَصِرَ عن كلامك، ولم تحضره حجّة(1).

فقال لهم: هاتوا حججكم. فقالوا: إنّ حججنا من كتاب الله. قال لهم: فأدلوا بها، فإنّها أحقّ ما اتُّبع وعمل به.

فقالوا: يقول الله تبارك وتعالى يخبر عن قوم من أصحاب النبيّ(صلى الله عليه وآله): ﴿ ... وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(2). فمدح فعلهم، وقال: في موضع آخر ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾(3) فنحن نكتفي بهذا.

فقال رجل من الجلساء: إنّا ما رأيناكم تزهدون في الأطعمة الطيّبة ومع ذلك تأمرون الناس بالخروج من أموالهم حتّى تتمتّعوا أنتم منها.

فقال له أبو عبدالله(عليه السلام): دعوا عنكم مالا ينتفع به(4).

أخبروني أيّها النفر ألكم علم بناسخ القرآن من منسوخه، ومحكمه من متشابهه الذي في مثله ضلّ من ضلّ وهلك من هلك من هذه الأُمّة؟ فقالوا له: أو بعضه فأمّا كلّه فلا. فقال لهم: من هنا أُتيتم، وكذلك أحاديث رسول الله(صلى الله عليه وآله).

فأ مّا ما ذكرتم من إخبار الله إيّانا في كتابه عن القوم الذين أخبر عنهم بحسن فعالهم، فقد كان مباحاً جائزاً، ولم يكونوا نهوا عنه، وثوابهم منه على الله؛ وذلك أنّ الله ـ جلَّ وتقدّس ـ أمر بخلاف ما عملوا به فصار أمره ناسخاً لفعلهم، وكان نهي الله


(1) أي: أنّ سفيان الثوري لم تحضره الحجّة فعجز عن الجواب، ونحن لدينا الحجّة، ومستعدون للاحتجاج عليك بها.

(2) السورة 59، الحشر، الآية: 9.

(3) السورة 76، الإنسان، الآية: 8 .

(4) كأنّه خطاب للرجل المعترض عليهم، أي: اتركوا الجدال في أنّهم هل يعملون بما يقولون أو لا؛ كي ننشغل بالبحث عن أصل صحّة ما يقولون وفساده.

114

ـ تبارك وتعالى ـ رحمة للمؤمنين ونظراً؛ لكي لا يضرّوا بأنفسهم وعيالاتهم منهم الضعفة الصغار، والولدان، والشيخ الفانِ، والعجوز الكبيرة الذين لا يصبرون على الجوع، فإن تصدّقت برغيفي ولا رغيف لي غيره ضاعوا وهلكوا جوعاً.

فمن ثمَّ قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «خمس تمرات أو خمس قرص أو دنانير أو دراهم يملكها الإنسان وهو يريد أن يمضيها فأفضلها ما أنفقه الإنسان على والديه، ثمّ الثانية على نفسه وعياله، ثمّ الثالثة القرابة وإخوانه المؤمنين، ثمّ الرابعة على جيرانه الفقراء، ثمّ الخامسة في سبيل الله، وهو أخسّها أجراً».

وقال النبيّ(صلى الله عليه وآله) للأنصاريّ حيث أعتق عند موته خمسة أو ستة من الرقيق، ولم يكن يملك غيرهم، وله أولاد صغار: «لو أعلمتموني أمره ما تركتكم تدفنونه مع المسلمين، ترك صبية صغاراً يتكففون الناس». ثمّ قال: حدّثني أبي أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله)قال: «ابدأ بمن تعول الأدنى فالأدنى».

ثُمَّ هذا ما نطق به الكتاب ـ ردّاً لقولكم ونهياً عنه ـ مفروض من الله العزيز الحكيم، قال: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾(1)أفلا ترون أن الله ـ تبارك وتعالى ـ قال غير ما أراكم تدعون ]الناس إليه من الأثَرَة على أنفسهم وسمّى مَن فَعَل ما تدعون[(2) إليه مسرفاً، وفي غير آية من كتاب الله يقول: ﴿ ... إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾(3) فنهاهم عن الإسراف، ونهاهم عن التقتير، لكن أمر بين الأمرين: لا يعطي جميع ما عنده، ثُمّ يدعو الله أن يرزقه، فلا يستجيب له للحديث الذي جاء عن النبيّ(صلى الله عليه وآله): «إنّ أصنافاً من أُمّتي لا يستجاب دعاؤهم:


(1) السورة 25، الفرقان، الآية: 67.

(2) ورد في البحار هنا تحت الخط: أن ما بين العلامتين ساقط من نسخة التحف والكمباني أضفناه من نسخة الكافي.

(3) السورة 6، الأنعام، الآية: 141، والسورة 7، الأعراف، الآية: 31.

115

رجل يدعو على والديه، ورجل يدعو على غريم ذهب له بمال ولم يشهد عليه، ورجل يدعو على امرأته وقد جعل الله تخلية سبيلها بيده، ورجل يقعد في البيت يقول: يا ربّ ارزقني ولا يخرج يطلب الرزق، فيقول الله ـ جلّ وعزّ ـ: عبدي ألم أجعل لك السبيل إلى الطلب والضرب في الأرض بجوارح صحيحة؟ فتكون قد أعذرت فيما بيني وبينك في الطلب لاتباع أمري، ولكي لا تكون كَلاًّ على أهلك، فإن شئت رزقتك، وإن شئت قترت عليك وأنت معذور عندي، ورجل رزقه الله مالاً كثيراً، فأنفقه، ثمَّ أقبل يدعو يا ربّ ارزقني، فيقول الله: ألم أرزقك رزقاً واسعاً؟! أفلا اقتصدت فيه كما أمرتك، ولم تسرف كما نهيتك. ورجل يدعو في قطيعة رحم».

ثُمَّ علّم الله نبيّه كيف ينفق؛ وذلك أنّه كان عنده أوقية من ذهب فَكَرِه أن تبيت عنده، فصدّق، وأصبح ليس لديه شيء وجاءه من يسأله فلم يكن عنده ما يعطيه، فلامه السائل، واغتمّ هو حيث لم يكن عنده ما يعطيه وكان رحيماً رفيقاً، فأدّب الله نبيّه بأمره إيّاه فقال: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً﴾(1).

يقول: إنّ الناس قد يسألونك ولا يعذرونك، فإذا أعطيت جميع ما عندك كنت قد حسرت من المال.

فهذه أحاديث رسول الله يصدّقها الكتاب، والكتاب يصدّقه أهله من المؤمنين.

وقال أبو بكر(2) عند موته: أُوصي بالخمس والخمس كثير، فإنّ الله قد رضي بالخمس، فأَوصى بالخمس، وقد جعل الله له الثلث عند موته، ولو علم أنّ الثلث خير له أَوصى به.


(1) السورة 17، الإسراء، الآية: 29.

(2) كأنّ هذا احتجاج معهم بأبي بكر باعتبارهم من السُنّة.

116

ثُمَّ من قد علمتم بعده في فضله وزهده سلمان وأبو ذرّ:

فأمّا سلمان فكان إذا أخذ عطاءه رفع منه قوته لسنته حتّى يحضره عطاؤه من قابل، فقيل له: يا أبا عبدالله أنت في زهدك تصنع هذا؟! وإنّك لا تدري لعلك تموت اليوم أو غداً. وكان جوابه: أن قال: ما لكم لا ترجون لي البقاء كما خفتم عليَّ الفناء؟! أومَا علمتم يا جهلة أنّ النفس قد تلتاث(1) على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما يعتمد عليه، فإذا هي أحرزت معيشتها اطمأ نّت.

فأمّا أبو ذرّ فكانت له نويقات(2) وشويهات(3) يحلبها ويذبح منها إذا اشتهى أهله اللحم، أو نزل به ضيف، أو رأى بأهل الماء الذين هم معه خصاصة نحر لهم الجزور أو من الشاء على قدر ما يذهب عنهم قرم اللحم(4). فيقسّمه بينهم، ويأخذ كنصيب أحدهم لا يفضل عليهم.

ومَن أزهد من هؤلاء؟! وقد قال فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما قال ولم يبلغ من أمرهما أن صارا لا يملكان شيئاً البتّة كما تأمرون الناس بإلقاء أمتعتهم وشيئهم، ويؤثّرون به على أنفسهم وعيالاتهم.

واعلموا أيّها النفر أ نّي سمعت أبي يروي عن آبائه: أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال يوماً: ما عجبت من شيء كعجبي من المؤمن إنّه إن قُرِّض جسده في دار الدنيا بالمقاريض كان خيراً له، وإن ملك ما بين مشارق الأرض ومغاربها كان خيراً له، فكلّ ما يصنع الله به فهو خير له، فليت شعري هل يحيق(5) فيكم اليوم ما قد شرحت لكم أم أزيدكم؟


(1) أي: تلتفّ بصاحبها وتوسوسها.

(2) جمع نويقة مصغّر ناقة.

(3) جمع شويهة مصغّر شاة.

(4) فسّر تحت الخط بشهوة اللحم والميل المفرط بأكله.

(5) فسّر تحت الخط بمعنى: هل يؤثّر وينفذ فيكم هذا المقدار.

117

أو ما علمتم أنّ الله ـ جلّ اسمه ـ فرض على المؤمنين في أوّل الأمر أن يقاتل الرجل منهم عشرة من المشركين ليس له أن يولّي وجهه عنهم، ومن ولاّهم ـ يومئذ ـ دبره فقد تبوّأ مقعده من النار، ثمَّ حوّلهم من حالهم رحمة منه لهم فصار الرجل منهم عليه أن يقاتل الرجلين من المشركين تخفيفاً من الله عن المؤمنين، فنسخ الرجلان العشرة.

وأخبروني ـ أيضاً ـ عن القضاة أجورٌ منهم حيث يفرضون على الرجل منكم نفقة امرأته إذا قال: أنا زاهد، وأنّه لا شيء لي؟ فإن قلتم: جور ظلمتم أهل الإسلام، وإن قلتم: بل عَدل، خصمتم أنفسكم. وحيث يردّون صدقة مَنْ تصدّق على المساكين عند الموت بأكثر من الثلث.

أخبروني لو كان الناس كلّهم كما تريدون زهّاداً لا حاجة لهم في متاع غيرهم فعلى مَنْ كان يتصدّق بكفّارات الأيمان والنذور والصدقات من فرض الزكاة من الإبل والغنم والبقر، وغير ذلك من الذهب والفضّة والنخل والزبيب وسائر ما قد وجبت فيه الزكاة إذا كان الأمر على ما تقولون لا ينبغي لأحد أن يحبس شيئاً من عرض الدنيا إلاّ قدّمه وإن كان به خصاصة؟ فبئس ما ذهبتم إليه وحملتم الناس عليه من الجهل بكتاب الله وسنّة نبيّه وأحاديثه التي يصدّقها الكتاب المنزل، وردّكم إيّاها بجهالتكم وترككم النظر في غرائب القرآن من التفسير بالناسخ من المنسوخ والمحكم والمتشابه والأمر والنهي.

وأخبروني أنتم عن سليمان بن داود(عليه السلام) حيث سأل الله مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فأعطاه الله ذلك، وكان يقول الحقّ ويعمل به، ثُمَّ لم نجد الله عاب ذلك عليه ولا أحداً من المؤمنين، وداود قبله في مُلْكه وشدّة سلطانه.

ثُمّ يوسف النبيّ حيث قال لملك مصر: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ