158

(19) كلّما حصل للمصلّي شكّ في عدد الركعات ولكنّه لم يستعجل، بل تروّى وتدبّر فحصل له اليقين أو الظنّ بالعدد عمل على هذا الأساس وصحّت صلاته، ولم يحتج إلى علاج إطلاقاً.

كما أنّه إذا حصل له ظنّ بالعدد ولكن سرعان ما فارقه هذا الظنّ وتحيّر تحيّراً كاملاً بدون ترجيح عمل على أساس حالته الثانية، فإن كان الشكّ ممّا تبطل به الصلاة بطلت صلاته، وإن كان بحاجة إلى علاج عالجه بالنحو المناسب، تبعاً لما قرّرناه في الصور التسع المتقدّمة.

صلاة الاحتياط:

(20) مرّ بنا أنّ الشكّ في سبع صور من الصور التسع التي تقدّم بيانها لا تبطل به الصلاة شريطة أن تعالج بصلاة الاحتياط، فإذا عولجت بها صحّت؛ وإلّا بطلت.

وجوبها:

وصلاة الاحتياط في تلك الصور السبع واجبة، فلا يسوغ للمكلّف الشاكّ أن يهمل تلك الصلاة ويستأنفها من جديد، بل لابدّ له من علاجها بصلاة الاحتياط.

(21) ويسقط وجوبها إذا تبيّن للمصلّي ولو بعد الفراغ من صلاته أنّه كان على حقٍّ في البناء على الأكثر، وأنّ صلاته كاملة سالمة، وإذا تبيّن له ذلك وهو في أثناء صلاة الاحتياط أمكنه قطعها، وأمكنه إتمامها نافلةً ركعتين، وقد يتبيّن له أنّ صلاته كانت ناقصة، مثلاً: يشكّ في أنّها ثلاث ركعات أو أربع، فيبني على الأربع ويكمل صلاته، ثمّ يتأكّد من أنّها كانت ثلاث ركعات فهل يسقط حينئذ وجوب صلاة الاحتياط؟

159

ويتّضح الحكم من خلال استعراض الحالات التالية:

الاُولى: أن يتبيّن له النقص قبل البدء بصلاة الاحتياط، وعليه في هذه الحالة أن يغضّ النظر عمّا وقع منه من تشهّد وتسليم، ويقوم لإكمال صلاته بركعة رابعة لا يكبّر لها تكبيرة الإحرام، ويقرأ فيها ما يقرؤه المصلّي في الركعة الرابعة، وبعد انتهاء الصلاة يسجد سجدتي السهو للسلام الذي وقع في غير محلّه.

الثانية: أن يتبيّن له النقص في أثناء ركعة الاحتياط وهو يؤدّيها من قيام، فيفترضها مكمّلةً لصلاته، والأحوط وجوباً أن يأتي بعد ذلك بسجدتي السهو للسلام الذي وقع في غير محلّه.

الثالثة: أن يتبيّن له النقص في أثناء صلاة الاحتياط قبل أن يركع فيها وهو يؤدّيها من جلوس، فيهمل ما أتى به منها، ويقوم ويأتي بالركعة الرابعة الناقصة لتكميل صلاته بدون تكبيرة الإحرام، ويقرأ فيها ما يقرؤه المصلّي في الركعة الأخيرة، ثمّ يسجد سجدتي السهو للسلام الذي وقع في غير محلّه.

الرابعة: أن يتبيّن له النقص في أثناء صلاة الاحتياط بعد أن ركع فيها وهو يؤدّيها من جلوس، والأجدر به حينئذ وجوباً أن يستأنف الصلاة من جديد.

وإن تبيّن للمصلّي النقص بعد الفراغ من صلاة الاحتياط فلا شيء عليه على أيّ حال.

(22) وإذا صلّى المكلّف وسلّم في صلاته؛ وقبل أن يصدر منه ما هو مبطل عرض له الشكّ في أنّه هل بنى على الركعة الرابعة؛ لأنّه كان قد ظنّها أو تيقّنها كذلك كي يكون تسليمه هذا خاتمة صلاته ولا شيء عليه بعده؟ أو أنّه كان قد بنى على الركعة الرابعة؛ لأنّه شكّ بين الثلاث والأربع وبنى على الأكثر كي يكون عليه أن يأتي

160

بصلاة الاحتياط، إذا افترضنا هذا فهل تجب في هذه الحالة صلاة الاحتياط؟

والجواب: نعم، يجب على هذا الشاكّ فعلاً أن يحتاط بركعة من قيام، سواء أكان حين سلّم قد سلّم جازماً بأنّ سلامه هذا هو الأخير والخاتمة، أم سلّم مع الشكّ والتردّد.

كيفيّتها:

(23) تقدّم أنّ صلاة الاحتياط: تارةً تكون ركعةً من قيام أو ركعتين من جلوس، واُخرى تكون ركعتين من قيام وركعتين من جلوس، وصورتها ـ على أيّ حال ـ هي الصورة العامّة للصلاة المكوّنة من ركعة أو من ركعتين.

ويجب في صلاة الاحتياط كلّ ما يجب في صلاة الفريضة أجزاءً وشروطاً، إلّا السورة، وإلّا الجهر في الفاتحة؛ فإنّ المصلّي صلاة الاحتياط يخفت بالفاتحة دائماً.

وإذا صدر من المصلّي قبل الابتداء بصلاة الاحتياط شيء يبطل الصلاة حينما يقع فيها بطلت صلاته من أساسها، كما لو صدر منه ذلك المبطل في أثنائها، ووجب عليه أن يعيد الصلاة ويستأنفها من جديد(1).



(1) لمعرفة حكم الشكّ والخلل في صلاة الاحتياط راجع كتاب الفتاوى الواضحة:646 ـ 647 بحسب الطبعة السادسة لدار البشير بقم، الفقرة: (85) و(87).

161

سجود السهو

(1) كلّما طرأ للمصلّي سهو ونسيان أدّى إلى بطلان صلاته فليس عليه إلّا إعادتها، وإذا كان من السهو والنسيان الذي لا يبطل الصلاة: فإن تفطّن المصلّي إلى ذلك وتدارك فلا شيء عليه، وإن تفطّن حين لا يمكن التدارك وواصل صلاته صحّت صلاته(1)ولا شيء عليه إضافةً إلى ذلك إلّا في حالات معيّنة تجب فيها سجدتا السهو.

وفي ما يلي نذكر تلك الحالات تحت عنوان موجبات سجود السهو، ثمّ نبيّن كيفيّة هذا السجود.

موجبات سجود السهو:

(2) تجب سجدتا السهو للأسباب التالية فقط:

1 ـ أن يتكلّم المصلّي ساهياً عن صلاته، أو لتوهّم الفراغ منها.

2 ـ أن يأتي المصلّي بالتسليم في غير محلّه بسبب الغفلة والذهول، كما لو أتى به بعد التشهّد الأوّل في الصلاة الرباعيّة.

3 ـ أن يشكّ ويتردّد في عدد الركعات بين الأربع والخمس والستّ، على ما تقدّم.

4 ـ أن ينسى السجدة أو التشهّد كلاًّ أو بعضاً، فإنّه يقضي ما نسيه ويسجد بعد القضاء سجدتي السهو.



(1) لمعرفة تفاصيل أحكام الخلل في الصلاة والحالات التي تبطل فيها الصلاة على أيّ حال والحالات التي لا تبطل فيها الصلاة راجع كتاب الفتاوى الواضحة: 619 ـ بحسب الطبعة السادسة لدار البشير بقم ـ فما بعد، مع مراعاة الهوامش.

162

والحكم بوجوب سجدتي السهو لنسيان السجدة حكم احتياطي، وقضاء التشهّد الأوّل في صلاة مشتملة على تشهّدين مبنيّ على الاحتياط.

وإذا نسي السجدة الأخيرة أو التشهّد الأخير وتذكّر بعد السلام وقبل صدور مناف ينافي الصلاة حتّى في حال السهو ـ كاستدبار القبلة أو محو صورة الصلاة ـ أتى بما نسيه مع ما بعده، ثمّ يسجد بعد السلام سجدتي السهو للسلام الأوّل الذي وقع في غير محلّه(1).

5 ـ أن يغفل عن جلوس واجب، كما إذا تفطّن عند إكمال الصلاة أنّه لم يجلس جلسة الاستراحة عقيب السجدة الثانية في الركعة الاُولى مثلاً.

6 ـ أن يغفل عن قيام واجب، كما إذا تفطّن عند إكمال الصلاة أنّه هوى من الركوع إلى السجود رأساً دون أن ينتصب واقفاً.

كيفيّة سجود السهو:

(3) وصورة هذا السجود: سجدتان لا فاصل بينهما؛ كأيّة سجدتين من ركعة واحدة، ولكن لا يجب فيهما الاستقبال، ولا الطهارة، ولا الساتر، ولا التكبير.

وتجب فيهما: نيّة القربة، ووضع الكفّين والركبتين والإبهامين، وأن يكون موضع الجبهة ممّا يصحّ السجود عليه في الصلاة.

ويستحبّ في كلّ سجدة ذكر الله ونبيّه بهذا اللفظ: «بسم الله وبالله، والسلامُ عليكَ أيّها النبيّ ورَحْمَةُ اللهِ وبَرَكاتُه».

وبعد السجدتين الأجدر والأحوط وجوباً أن يتشهّد ويسلّم(2).



(1) لمعرفة بعض التفاصيل راجع مبحث الخلل في السجود في المصدر السابق: 572 ـ 574، وأيضاً مبحث الخلل في التشهّد في المصدر نفسه: 578 ـ 579، مع مراعاة الهوامش في الموضعين.

(2) لمعرفة باقي الأحكام بشأن سجود السهو راجع كتاب الفتاوى الواضحة: 628 ـ 630 بحسب الطبعة السادسة لدار البشير بقم، الفقرة: (49) ـ (51).

163

صلاة الجماعة

(1) صلاة الجماعة من أهمّ شعائر الإسلام، واستحبابها وطيد ومؤكّد نصّاً وإجماعاً، بل ثبت هذا الاستحباب بضرورة دين الإسلام(1) وعند جميع المسلمين، وأجرها وثوابها من الله تعالى عظيم، وقد يفوق أجر الكثير من الواجبات وجُلّ المستحبّات، وكلّما ازدادت الجماعة وأعطت مظهراً حقيقيّاً لتجمّع المسلمين والمصلّين ارتفعت شأناً وجَلّت ثواباً.

وهي أفضل ما تكون في الفرائض اليوميّة الحاضرة منها ـ أي التي لم يَفُتْ وقتها المؤقّت لها بعد ـ والفائتة، وبالخصوص الحاضرة، وبصورة أخصّ صلاة الصبح والمغرب والعشاء(2).

(2) يسوغ الاقتداء وإقامة صلاة الجماعة في كلّ الصلوات الواجبة من الصلوات اليوميّة، وصلاة الجمعة، وصلاة الآيات وغيرها، ويستثنى من الصلوات الواجبة صلاة الطواف، فإنّا لا نملك دليلاً على أنّ الاقتداء فيها سائغ.

ولا يسوغ الاقتداء في الصلوات المستحبّة بطبيعتها حتّى ولو وجبت بنذر ونحوه، ولا فرق في ذلك بين النوافل اليوميّة وغيرها، ويستثنى من ذلك صلاة الاستسقاء، وكذلك صلاة العيدين فإنّ إقامتها جماعة سائغ حتّى ولو كانت مستحبّة.



(1) أي أنّه من البديهيّات الدينيّة.

(2) وقد تجب صلاة الجماعة على الإنسان لأسباب طارئة ذكرت ثلاثة منها في كتاب الفتاوى الواضحة: 651 ـ 652 بحسب الطبعة السادسة لدار البشير بقم، الفقرة: (89).

164

(3) وإقامة الصلاة جماعةً ليس شرطاً واجباً في الصلوات الواجبة، إلّا في صلاة الجمعة وصلاة العيدين حيث تجب، فلا تصحّ صلاة الجمعة ولا صلاة العيدين الواجبة إلّا بإقامتها جماعة(1).

(4) تتكوّن صلاة الجماعة من اقتداء شخص بشخص آخر في الصلاة، والاقتداء عبارة عن أن ينوي المأموم حين يكبّر تكبيرة الإحرام أنّه يصلّي مقتدياً بهذا الإمام، أو مؤتمّاً به، أو يصلّي خلفه، ونحو ذلك من المعاني التي تهدف إلى شيء واحد، فإذا نوى المأموم كذلك صار مقتدياً، وصار المقتدَى به إماماً، واعتبرت صلاتهما صلاة جماعة، سواء كان الإمام قاصداً لأن يكون إماماً أوْ لا، وحتّى لو كان جاهلاً بالمرّة بأنّ رفيقه نوى الاقتداء به فإنّ الجماعة تنشأ بنيّة المأموم، لا بنيّة الإمام. أجَل، في الصلوات التي لا تشرع ولا تسوغ إلّا جماعةً لابدّ أن يكون الإمام فيها ملتفتاً إلى أنّه يصلّيها إماماً، وإلّا لكان قاصداً لأمر غير مشروع.

ومثاله: من يقيم صلاة الجمعة، وكذلك في أيّ فريضة صلاّها المكلّف وأراد أن يعيدها إماماً استحباباً(2).

(5) لا يصحّ الاقتداء شرعاً وبالتالي لا تصحّ صلاة الجماعة إلّا إذا توفّرت الشروط التالية:

1 ـ أن يقتدي المأموم بالإمام والإمام يكبّر تكبيرة الإحرام، أو واقف يقرأ في



(1) وللوقوف على باقي تفاصيل الصلوات التي يسوغ فيها الاقتداء والاستثناءات راجع المصدر السابق: 653 ـ 656، الفقرة: (93) ـ (98).

(2) وقد وردت في المصدر السابق: 656 ـ 660 أحكام وتفاصيل تحت عنوان كيفيّة الاقتداء تركنا ذكرها للاختصار، فراجعه للوقوف عليها.

165

الركعة الاُولى، أو بعد القراءة وقبل الهوي إلى الركوع، أو راكع قبل أن يرفع رأسه،فما لم يرفع الإمام رأسه من الركوع يسوغ الاقتداء به في الركعة الاُولى، وكذلك يسوغ الاقتداء به في الركعات الاُخرى وهو قائم أو وهو راكع، وتفوت الفرصة برفع رأسه من الركوع، فلا يسوغ الاقتداء والدخول في صلاة الجماعة عند رفع الإمام رأسه من الركوع أو هويه إلى السجود، فمن أدركه وقتئذ فعليه أن ينتظر إلى أن يقوم الإمام لركعة جديدة(1).

2 ـ المتابعة في الأفعال؛ ذلك أنّ الصلاة فيها أفعال: كالركوع والسجود والقيام والجلوس، وأقوال: كقراءة الفاتحة والذكر والتشهّد، والاقتداء لا يصحّ إلّا إذا تابع المأموم الإمام في أفعاله، فيركع بركوعه ويسجد بسجوده، ويقف بوقوفه، ويجلس بجلوسه، ومعنى المتابعة: أن لا يسبقه في أيّ فعل من واجبات الصلاة، ركناً كان أو غير ركن، بل يأتي من بعد الإمام ما فعله الإمام بلا فاصل طويل، أو مقارناً له، ولا تجب المتابعة في الأقوال ما عدا تكبيرة الإحرام، فإنّ المأموم لا يسوغ له أن يسبق إمامه في تكبيرة الإحرام، ويسوغ له أن يسبقه في قراءة البسملة أو التشهّد أو الذكر ونحو ذلك من الأقوال.

كما أنّ للمأموم أن يزيد على إمامه، فيسبّح في ركوعه ـ مثلاً ـ سبع مرّات في حالة اقتصار الإمام على الثلاث.

وإذا ترك المأموم المتابعة عن عمد والتفات فالاقتداء باطل، ولا جماعة له، سواء كان عالماً بأنّ المتابعة شرط في صلاة الجماعة، أوْ لا.



(1) لبعض الاستثناءات والتفاصيل راجع المصدر السابق: 660 ـ 662، الفقرة: (105) ـ (109) مع مراعاة الهوامش.

166

وإذا تركه سهواً وغفلةً فلا يبطل اقتداؤه ولا جماعته، بل ينظر: فإن كان بالإمكان أن يتدارك ويلتحق بالإمام تدارك والتحق في حالات معيّنة، وإلّا فلا شيء عليه(1).

3 ـ اجتماع الإمام والمأمومين في موقف واحد من بداية الاقتداء إلى نهايته، على نحو يصدق عليهم في نظر العرف أنّهم مجتمعون في صلاتهم لا متفرّقون. ولا تضرّ كثرة الصفوف وتراميها ـ بالغةً ما بلغت ـ مادام اسم الاجتماع صادقاً. فلا يسوغ لإنسان في غرفة من بيته أن يقتدي بإمام يصلّي في المسجد؛ لعدم صدق اسم الاجتماع، فلا تكون الصلاة صلاة جماعة(2).

4 ـ أن تتوفّر في إمام الجماعة اُمور معيّنة، وهذه الاُمور يمكن تصنيفها إلى قسمين: أحدهما يرتبط بصفاته الشخصيّة العامّة، والآخر يرتبط بوضعه الخاصّ في تلك الصلاة التي صار إماماً فيها.

فبالنسبة إلى القسم الأوّل يجب أن يتّصف إمام الجماعة بالعقل، والبلوغ، وطهارة المولد، والإيمان، والعدالة، وكذلك الرجولة إن كان المأموم ذكراً، فلا تصحّ إمامة المرأة للرجل، وتصحّ لمثلها.

وبالنسبة إلى القسم الثاني يجب ما يلي:

أ ـ أن يقرأ الإمام ما يعوّل المأموم فيه عليه من القراءة ـ وهي قراءة الفاتحة والسورة ـ بصورة صحيحة.

ب ـ أن يصلّي الإمام من قيام إذا كان المأموم يصلّي من قيام، وأمّا إذا كان المأموم يصلّي جالساً ساغ له أن يأتمّ بجالس مثله أيضاً.



(1) راجع للتفاصيل المصدر السابق: 663 ـ 664، الفقرة: (112) ـ (120).

(2) لمعرفة ما يستثنى من ذلك وباقي التفاصيل راجع المصدر السابق: 664 ـ 667.

167

ج ـ أن تكون صلاة الإمام صحيحةً في نظر المأموم؛ لكي يصحّ له الاقتداء به، فإذا كان المأموم يعلم بنجاسة ماء معيّن ورأى إمامه يتوضّأ من ذلك الماء للصلاة جهلاً منه بنجاسته، ثمّ بدأ يصلّي فلا يسوغ له الاقتداء به، وأمّا إذا كان المأموم يشكّ في أنّ إمامه هل توضّأ من ذلك الماء، أو من ماء آخر ونحو ذلك، بنى على صحّة صلاة الإمام وجاز له الاقتداء به(1).

د ـ إذا كان في المكان علوّ وانخفاض واضح ومحسوس فلابدّ أن لا يعلو الإمام في موقفه على موقف المأموم شبراً أو أزيد من ذلك، ولا بأس بالعلوّ أقلّ من شبر.

ومثال ذلك: أن يكون الإمام والمأموم على سفح جبل منحدر بصورة واضحة ومحسوسة، فلا يسوغ للإمام أن يقف في الأعلى ويقف المأموم في نقطة تنخفض عن ذلك بشبر أو أزيد، ويسوغ العكس.

وإذا كان في الأرض ارتفاع وانخفاض ولكنّه غير محسوس ـ كما في الأرض المسرّحة التي تنخفض تدريجاً ـ جاز للإمام أن يقف في أيّ نقطة منها.

هـ ـ أن لا يتقدّم المأموم على الإمام في الموقف الذي يقف فيه، وأمّا مساواتهما في الموقف فحكمها يختلف؛ ذلك أنّ الإمام إذا كان رجلاً وكان المأموم أكثر من واحد لم يجز للمأمومين أن يساووه فضلاً عن أن يتقدّموا عليه، وإذا كان الإمام امرأةً، أو كان رجلاً له مأموم واحد جازت المساواة في الموقف، وكما لا يسوغ للمأموم أن يتقدّم على الإمام في الموقف الذي يقف فيه، كذلك الأجدر به وجوباً أن لا يتقدّم



(1) لمعرفة حكم ما لو كان يختلف الإمام والمأموم ـ اجتهاداً أو تقليداً ـ في حكم بعض أجزاء الصلاة وشروطها راجع المصدر السابق: 667 ـ 668، الفقرة: (131) مع مراعاة الهامش.

168

عليه في كلّ الحالات: راكعاً وجالساً وساجداً، فلا يسمح له بأن يكون محلّ سجوده متقدّماً على محلّ سجود الإمام(1).



(1) للوقوف على كيفيّة صلاة الإمام وصلاة المأموم وأحكام تتميّز بها صلاة الجماعة عن صلاة المنفرد راجع كتاب الفتاوى الواضحة: 669 ـ 674 ـ بحسب الطبعة السادسة لدار البشير بقم ـمع مراعاة الهامش.

169

الفوارق بين الفريضة والنافلة

مرّت بنا في ما سبق بعض الاختلافات بين صلاة الفريضة وصلاة النافلة في بعض الأحكام، وفي ما يلي نلخّص جملةً من الفوارق بينهما في الأحكام:

(1) يجب الاستقرار عند أداء الفريضة، ولا يجب ذلك في صلاة النافلة، فيجوز أن يؤدّيها المكلّف وهو ماش أو راكب في سيّارة وغيرها. وهذا في ما إذا كان مبتلىً بالمشي راجلاً أو راكباً، أمّا لدى الوقوف على الأرض فالأحوط الاستقرار.

ثمّ المتيقّن من مشروعيّة النافلة ماشياً هو حال الاحتياج إلى المشي لسفر أو غيره، لا مجرّد اشتهاء أن يمشي لكي تصبح نافلته في حالة المشي.

(2) يجب على من يؤدّي الفريضة أن يركع ويسجد، ولا يكتفي بدلاً عن ذلك بالإيماء. وأمّا من يؤدّي النافلة فيجوز له أن يكتفي بالإيماء للركوع والسجود؛ جاعلاً إيماءه إلى السجود أشدّ من إيمائه للركوع؛ وذلك إذا كان يؤدّيها وهو ماش أو راكب، وأمّا إذا أدّاها في حالة الاستقرار فلا تصحّ منه إلّا بأداء الركوع والسجود بالصورة الاعتياديّة مادام ذلك متيسّراً.

(3) يجب على مَن يؤدّي الفريضة أن يصلّيها من قيام مهما تيسّر له ذلك، وأمّا صلاة النافلة فيجوز للمكلّف أن يؤدّيها جالساً حتّى ولو كان القيام يسيراً عليه، ولكنّ أداءَها من قيام أفضل.

(4) يجب على المصلّي صلاة الفريضة أن يقرأ سورةً كاملةً بعد فاتحة الكتاب في

170

الركعة الاُولى والثانية على ما تقدّم، ولا يجب ذلك في صلاة النافلة، فيجوز للمتنفّل الاقتصار على الفاتحة، وإن قرأ سورةً بعدها فهو أفضل.

(5) يسمح للمتنفّل إذا أحبّ أن يقرأ بعد الفاتحة أيّ سورة شاء، حتّى ولو كانت من السور التي فيها آية السجدة، فلو قرأها سجد في أثناء الصلاة وواصل صلاته، ولا يسوغ له ذلك في صلاة الفريضة، كما لا حرج على المتنفّل أن يبدأ بسورة ثمّ يعدل منها إلى اُخرى، ولا تبطل بذلك صلاته.

(6) لا يجوز قطع الفريضة لغير مسوّغ، ويجوز قطع النافلة متى أراد.

(7) إذا شكّ المصلّي للنافلة في عدد الركعات فلا تبطل صلاته، ولا يحتاج إلى احتياط، بل له أن يبني عمليّاً على الأقلّ، ويكمل صلاته ولا شيء عليه ـ والأحوط استثناء صلاة الوتر من ذلك فيعيدها على ما تقدّم ـ وله أن يبني عمليّاً على الأكثر إذا كانت الصلاة لا تبطل بافتراض الأكثر، ويكمل صلاته ولا شيء عليه، خلافاً لصلاة الفريضة فإنّ الشكّ في عدد ركعاتها يبطل أحياناً، ويتطلّب احتياطاً وعلاجاً أحياناً.

(8) يجب سجود السهو أحياناً على من يسهو في الفريضة، ولا يجب ذلك في النافلة بحال من الأحوال.

(9) تبطل صلاة الفريضة إذا سها المصلّي وزاد ركناً، ولا تبطل صلاة النافلة بذلك.

(10) وعلى أساس ذلك إذا نَسي المصلّي للفريضة واجباً غير ركنيّ وتفطّن بعد أن أتى بركن فلا يجب عليه أن يتدارك ويعود إلى ما نسيه، وإذا نسي المصلّي للنافلة جزءاً منها وتفطّن بعد برهة كان عليه أن يتدارك ويعود إلى ما نسيه وما بعده، سواء تفطّن إلى ذلك بعد أن دخل في ركن أو قبل ذلك، فمثلاً: إذا نسي السجدة الثانية من

171

الركعة الاُولى ولم يتفطّن إلّا بعد أن رفع رأسه من ركوع الركعة الثانية ألغى ما أتى به، وعاد فسجد السجدة الثانية من الركعة الاُولى واستأنف الركعة الثانية.

(11) هناك أجزاء من صلاة الفريضة إذا نُسيَت ولم يَتفطّن إليها المكلّف إلّا بعد الدخول في ركن وجب عليه أن يقضيها بعد الفراغ من الصلاة، وهي: السجود والتشهّد. وأمّا في صلاة النافلة: فإن تفطّن وهو في أثناء الصلاة أو بعد الفراغ منها قبل أن تنمحي صورتها وتنقطع صلته بها نهائيّاً، ولم يكن قد صدر منه ما يوجب الوضوء أتى بما نَسِيَه وبما بعده، وإن تفطّن بعد ذلك تمّت صلاته، ولا يجب عليه القضاء.

وهناك فوارق غالبيّة بين الفريضة والنافلة، ولكنّها ليست ثابتةً دائماً، من قبيل: أنّ جُلّ النوافل لا يجوز الاقتداء فيها وإقامتها جماعةً، وجُلّ الفرائض يجوز فيها ذلك، ولكنّ بعض النوافل تسوغ فيها صلاة الجماعة، كصلاة الاستسقاء، وصلاة العيدين، وبعض الفرائض لم يثبت جواز الجماعة فيها كصلاة الطواف.

ومن قبيل: أنّه لا أذان للنوافل عموماً ويثبت الأذان للفرائض، ولكنّه يختصّ بالصلوات اليوميّة، فلا يثبت لصلاة الآيات ـ مثلاً ـ على الرغم من أنّها فريضة.

173

صلاة المسافر

(1) تقدّم أنّ عدد الركعات اليوميّة الواجبة سبع عشرة ركعةً ضمن خمس صلوات، وأنّ عدد الركعات اليوميّة المستحبّة أربع وثلاثون ركعةً ضمن ثماني عشرة صلاة.

وهذا العدد إنّما يجب على المكلّف الحاضر، وهو غير المسافر، والحاضر مَن كان متواجداً في بلدته ووطنه، فكلّ مَن كان في وطنه وبلدته(1) وجب عليه أن يؤدّي الصلوات بأعدادها المتقدّمة، فيصلّي الظهر والعصر والعشاء أربعاً، وتسمّى بالصلاة التامّة، ويسمّى التكليف بإيقاع تلك الصلوات أربع ركعات: التكليف بالتمام، فإذا سافر سفراً شرعيّاً تناقص العدد المذكور من الركعات، وانخفضت الصلوات اليوميّة الواجبة التي كانت تتألّف من أربع ركعات وأصبحت ركعتين بدلاً عن أربع، وسقط عدد من نوافل الصلوات اليوميّة.

وعلى هذا الأساس تكون صلاة الظهر من المسافر ركعتين كصلاة الصبح، وكذلك العصر والعشاء، وتسمّى صلاة القصر. ويختصّ هذا القصر بالفرائض الرباعيّة اليوميّة كما عرفت.



(1) لمعرفة معنى الوطن شرعاً وأقسامه وأنّه كيف يكون الإنسان حاضراً راجع كتاب الفتاوى الواضحة: 445 ـ 448 ـ بحسب الطبعة السادسة لدار البشير بقم ـ مع مراعاة الهوامش.

174

خصائص السفر الشرعي:

ونريد بالسفر الشرعي: السفر الذي يترتّب عليه قصر الصلاة، ولا يترتّب قصر الصلاة على السفر إلّا إذا توفّرت في السفر الخصائص التالية:

(2) 1 ـ أن لا تقلّ المسافة التي تطوى في السفر عن ثمانية فراسخ شرعيّة، وقد يقال: إنّها تساوي ثلاثة وأربعين كيلومتراً وخمس الكيلومتر الواحد، وهذا التحديد ليس مسلّماً، فهناك بعض التحديدات الاُخرى، إلّا أنّ أثر الفرق من الناحية العمليّة في واقع حياتنا المعاش نادر وشبه المعدوم.

ولا فرق بين أن تُطوى هذه المسافة كلّها في اتّجاه واحد أو في اتّجاهين، حتّى ولو وقع بعضها في حالة رجوع المسافر إلى بلده بشرط أن لا يقلّ الذهاب عن أربعة فراسخ أي نصف المسافة.

ويبدأ تقدير المسافة من آخر البلد عرفاً، كبيراً كان أم صغيراً.

(3) 2 ـ أن تكون هذه المسافة مقصودة للمسافر بكاملها قصداً مستمرّاً إلى أن تطوى المسافة كاملة. ونريد بالقصد معنى لا يختصّ بحالات الرغبة والاختيار، وإنّما هو الشعور المؤكّد بأنّه سيطوي المسافة بكاملها، سواء كان هذا الشعور قائماً على أساس إرادته للسفر بملء اختياره، أو إكراه شخص له على ذلك، أو اضطراره لهذا السفر واستسلامه للأمر الواقع.

(4) 3 ـ أن تطوى هذه المسافة بصورة يعتبرها العرف سفراً.

(5) 4 ـ أن لا يقع أحد قواطع السفر في أثناء المسافة المحدّدة وقبل إكمالها.

وقواطع السفر هي: المرور بالوطن، والمكث في مكان معيّن ثلاثين يوماً حتّى ولو كان ذلك بدون قصد وقرار، والإقامة عشرة أيّام، ونريد بإقامة عشرة أيّام: العزم على المكث عشرة أيّام في مكان معيّن.

175

هذه شروط أربعة كلّما توافرت(1) وجب القصر في الصلاة.

ويستثنى من ذلك بعض أقسام السفر وستأتي الإشارة إليه.

متى ينتهي القصر؟

ينتهي القصر بأحد الأسباب التالية:

أ ـ الوصول إلى الوطن:

(6) إذا وصل المسافر إلى وطنه(2) وبلدته انتهى سفره. ولا يشترط دخول الوطن فعلاً بل يكفي الوصول إلى حدّ الترخّص(3).

ب ـ الإقامة عشرة أيّام:

(7) إذا طوى المسافر المسافة المحدّدة ثمّ قرّر أن يمكث في بلد أو قرية أو موضع معيّن عشرة أيّام سمّي مقيماً، وسمّي هذا القرار إقامة، والإقامة تُنهي حكم السفر ، فالمسافر المقيم يتمّ ولا يقصّر ، إلّا إذا بدأ سفراً جديداً .



(1) للوقوف على توضيحات هذه الشروط وتفصيلاتها وتطبيقاتها ومعرفة حكم طالب الضالّة والكلأ والهائم على وجهه لا يدري أن يتّجه راجع المصدر السابق: 449 ـ 463، مع مراعاة الهوامش. وسيأتي شيء من ذلك تحت عنوان: متى ينتهي القصر؟

(2) لمعرفة معنى الوطن شرعاً وأقسامه راجع كتاب الفتاوى الواضحة: 445 ـ 448 ـ بحسب الطبعة السادسة لدار البشير بقم ـ مع مراعاة الهوامش.

(3) سيأتي معنى حدّ الترخّص في الفقرة: (18).

176

(8) ونقصد بالقرار : أن يكون واثقاً من مكثه عشرة أيّام في ذلك البلد ، سواء نشأت هذه الثقة من محض إرادته واختياره للبقاء هذه المدّة ، أو لشعوره بالاضطرار إلى البقاء ، أو وجود ظروف لا تسمح له بمغادرة المكان، كالسجين مثلا ، فمهما توفّرت الثقة على مستوى اليقين أو مستوى الاطمئنان فقد حصل المطلوب .

وعلى هذا الأساس فإذا كان راغباً في المكث عشرة أيّام ولكنّه كان يشكّ في قدرته على البقاء ، أو يتوقّع بعض الطوارئ التي تصرفه عن الاستمرار في المكث فلا يعتبر مقيماً؛ إذ لا ثقة له بأنّه سيبقى .

(9) ونقصد بعشرة أيّام : عشرة نهارات ، وتدخل ضمنها تسع ليال ، وهي الليالي الواقعة بين النهار الأوّل والنهار الأخير ، وابتداء النهار طلوع الفجر . فمن عزم على الإقامة في بلد من طلوع الفجر من اليوم الأوّل من الشهر إلى الغروب من اليوم العاشر كان ذلك إقامة . وكذلك إذا بدأت المدّة بنصف النهار إلى نصف النهار من اليوم الحادي عشر ، كما إذا قصد الإقامة من ظهر اليوم الأوّل إلى ظهر اليوم الحادي عشر ، وعلى هذا المنوال يجري حساب المدّة إذا دخل في أثناء النهار قبل انتصافه أو بعد الانتصاف .

ولا يشترط قصد العشرة بالتعيين والخصوص ، بل يكفي أن يقصد البقاء فترةً زمنيّةً تساوي عشرة أيّام، ولو لم يعلم هذا القاصد نفسه بأنّها تساوي ذلك ، كما إذا قصد البقاء إلى آخر الشهر الشمسي وكان الباقي من الشهر عشرة أيّام أو يزيد .

وأمّا إذا دخل إلى بلد وعزم الإقامة عشر ليال من بداية الليلة الاُولى من الشهر ـ مثلا ـ إلى نهاية الليلة العاشرة لم يكفِ ذلك ؛ لأنّ هذه الفترة التي عزم على البقاء فيها لاتشتمل على عشرة نهارات .

177

(10) ونقصد بالمكث في الأيّام العشرة : أن يكون مبيته ومأواه ومحطّ رحله ذلك البلد ، وأن لا يمارس خلال هذه المدّة سفراً شرعيّاً ، فكلّ من عزم على أن يمكث في بلد بهذا المعنى من المكث عشرة أيّام فقد أقام فيه . وهذا لايعني عدم خروجه من البلد إلى ضواحيه أو بلد آخر قريب منه ليس بينهما المسافة المحدّدة للسفر الشرعي ، كالكوفة بالنسبة إلى النجف ، فيمكن لمن يقصد الإقامة في النجف أن ينوي في نفس الوقت أن يذهب في كلّ يوم إلى الكوفة الساعة والساعتين أو أكثر ـ دون المبيت فيها ـ مادام مبيته ومأواه ومحطّ رحله النجف ، على نحو لو سأله سائل : أين نزلت في سفرك هذا ؟ لقال : نزلت في الفندق الفلاني في النجف .

(11) ونقصد بالبلدة أو القرية أو الموضع : المكان المعيّن من بلدة أو قرية أو بادية ، فلا يكفي أن يعزم على الإقامة في بلدين أو قريتين هنا خمسة أيّام وهناك خمسة أيّام ، بل لابدّ لكي ينقطع حكم السفر بالإقامة أن يعزم على الإقامة في مكان واحد طيلة عشرة أيّام بالمعنى الذي تقدّم . فكلّما قرّر المسافر إقامة عشرة أيّام فصاعداً وعزم على ذلك على النحو الذي أوضحناه انقطع بذلك حكم القصر عنه ، ووجب عليه أن يتمّ في صلاته .

(12) إذا أقام المسافر في بلد وصلّى تماماً طوال أيّامه العشرة ، وبعدها مكث أمداً في محلّ إقامته فهل يحتاج البقاء على التمام إلى قصد الإقامة مرّةً اُخرى؟

الجواب: يبقى على التمام إلى أن يسافر في أيّ وقت شاء ، ولا داعي إطلاقاً إلى نيّة الإقامة وقصدها من جديد .

(13) إذا نوى الإقامة عشراً وقرّر ذلك ، وقبل أن يصلّي العشاء أو الظهر أو العصر تامّةً عدل عن نيّة الإقامة فعليه أن يقصّر ولا يتمّ ، ويعود إليه حكم المسافر . وإذا عدل عن الإقامة بعد أن صلّى إحدى الرباعيّات الثلاث تامّةً كاملةً يبقى على التمام ، ولا يسوغ له أن يقصّر .

178

(14) إذا نوى المسافر الإقامة ، ثمّ ذهل عن سفره وإقامته وصلّى العشاء أو إحدى الظهرين تماماً، لا من أجل أنّه مقيم ، بل لمجرّد الغفلة والنسيان وكأنّه يتخيّل نفسه في بلده، فلا تكفي هذه الصلاة في البقاء على التمام مادامت لم تستند إلى قصد الإقامة ، بل وقعت ذهولا عنها ، ومثلها في عدم الاكتفاء صلاة تامّة يصلّيها المسافر المقيم بعد وقتها وفاءً وبدلا عن صلاة تامّة فاتته في وقتها لسبب أو لآخر ، حتّى ولو كانت قد فاتته في خلال إقامته .

ج ـ المكث ثلاثين يوماً:

(15) السبب الثالث لانتهاء حكم السفر المكث ثلاثين يوماً حتّى ولو كان ذلك بدون قصد وقرار ، وذلك أنّ المسافر إذا طوى المسافة المحدّدة وجرى عليه حكم القصر ، ووصل إلى بلد أو مكان ثمّ حار في أمره وتردّد في عزمه لا يدري هل سيخرج من هذا البلد الذي وصل إليه في سفره بعد عشرة أيّام حتّى ينوي الإقامة فيه ، أو أنّه سيخرج منه غداً أو بعد غد؟ إن حدث هذا لأيّ مسافر وجب عليه أن يبقى على القصر حتّى يمضي عليه هكذا متردّداً ثلاثون يوماً ، فإذا كمل ثلاثون يوماً وهو لا يزال في ذلك البلد وجب عليه أن يقيم صلاته كاملةً ولو كان عازماً على مغادرة البلد بعد ساعة .

(16) إن تمّ ثلاثون نهاراً ولم يتمّ بعدُ ثلاثون يوماً وليلة فالأحوط وجوباً الجمع بين القصر والإتمام إلى أن يتمّ ثلاثون يوماً وليلة.

(17) إذا تردّد ثلاثين يوماً في قرىً متقاربة يقصِّر ، ولو كانت الواحدة تبعد عن الاُخرى بقدر أقلّ من المسافة المحدّدة ؛ لأنّ المكث طيلة هذه المدّة لم يكن في مكان واحد .

179

متى يبدأ القصر؟

(18) إنّ حكم القصر يبدأ على المسافر من حين خروجه من البلد الذي يريد أن يسافر منه، فإذا سافر الإنسان من وطنه أو من البلد الذي قصد الإقامة فيه عشرة أيّام، أو من البلد الذي مكث فيه متردّداً ثلاثين يوماً إذا سافر من أيّ واحد من هذه المواضع بدأ حكم القصر بالنسبة إليه عند الخروج من البلد والابتداء بطيّ المسافة، ولو طوى خطوة واحدة.

ولكن في الحالة الاُولى فقط (وهي حالة سفر الإنسان من وطنه) يتأخّر حكم التقصير قليلاً عن هذا الموعد، فلا يثبت إلّا حين يغيب شخص المسافر ويتوارى عن عيون أهل البيوت الكائنة في منتهى البلد وأطرافه. فإذا وقف شخص في نهاية البلد يودّع صديقه وابتعد المسافر الصديق مسافةً حجبت عنه رؤية ذلك الشخص ثبت عليه القصر، سواء غابت عن عينه عمارات البلد وبناياته أيضاً أوْ لا.

وإذا غاب المسافر عن عين صديقه لا لبعد المسافة بينهما، بل لأنّه هبط وادياً أو دخل في نفق ونحو ذلك لم يكفِ هذا في ثبوت القصر، وإنّما يثبت القصر إذا ابتعد أحدهما عن الآخر مسافةً لا تتيح لكلّ منهما رؤية الآخر في حالة انبساط الأرض وعدم وجود حائل، ويسمّى ذلك بحدّ الترخّص، أي الحدّ الذي يُرخّصُ فيه المسافر في القصر.

(19) وكلّما خرج الإنسان مسافراً قاصداً المسافة المحدّدة، وبعد وصوله إلى حدّ الترخّص صلّى قصراً، ثمّ حصل منه أحد قواطع السفر قبل إكمال المسافة وجب عليه أن يعيد صلاته تامّة، وإذا لم يحصل أحد قواطع السفر، ولكنّه قبل إكمال المسافة المحدّدة غيّر من مقصده أو قفل راجعاً لوحظ المقدار الذي طواه فعلاً والمقدار الذي

180

قرّر أن يطويه بموجب نيّته الجديدة، فإن كان بقدر المسافة المحدّدة صحّت صلاته قصراً، وإلّا أعادها(1).

من يُستثنى من المسافرين:

هناك نوعان من المسافرين يُستثنَون شرعاً من حكم القصر، فلا يسوغ لهم القصر، بل حالهم حال المكلّف الحاضر في وطنه، وهما:

1 ـ المسافر سفر معصية:

يطلق سفر المعصية:

(20) أوّلاً: على السفر الذي يستهدف منه المسافر فعل المعصية وارتكاب الحرام، كمن سافر للاتّجار بالخمر، أو لقتل النفس المحترمة، أو للسلب، أو إعانةً للظالم على ظلمه، أو لمنع شخص من القيام بالواجب الشرعي، ونحو ذلك.

(21) ثانياً: على السفر الذي يستهدف منه المسافر الفرار من أداء الواجب الشرعي، كمن يفرّ من أداء الدين مع القدرة عليه بالسفر والابتعاد عن الدائن الذي يطالب بالوفاء فعلاً.

(22) ثالثاً: على السفر الذي لا يُراد به التوصّل إلى معصية كما في الأوّل، ولا الفرار عن واجب كما في الثاني، ولكنّه هو حرام، بمعنى أنّ السفر والتغرّب عن البلد



(1) لمعرفة بعض الفروع في المقام وأحكامه وكذا الوقوف على أمثلة لحالات العدول عن السفر وأحكامها راجع كتاب الفتاوى الواضحة: 471 ـ 472 بحسب الطبعة السادسة لدار البشير بقم، الفقرة: (154) ـ (159).

181

نفسه حرام، كما إذا كان قد أقسم يميناً على أن لا يسافر في يوم ماطر، وكان ترك السفر راجحاً لو اشترطنا الرجحان في متعلّق اليمين، فيكون السفر في اليوم الماطر حراماً، وبهذا يعتبر نوعاً من سفر المعصية.

هذه هي الأنواع الثلاثة لسفر المعصية.

(23) والمسافر سفر المعصية لا يسوغ له القصر، بل يتمّ في صلاته.

(24) وفي النوع الأوّل من سفر المعصية والنوع الثاني منه إذا حصل للمسافر مقصوده غير المشروع وأراد أن يعود: فإن كان الرجوع بقدر المسافة المحدّدة قصّر في رجوعه، سواء تاب وأناب، أم بقي مصرّاً على جرمه. وإن لم يكن بقدرها فلا.

وأمّا في النوع الثالث: فإن كان الرجوع من السفر محرّماً أيضاً فلا يسوغ له القصر في الرجوع، كما إذا كان قد أقسم قسماً شرعيّاً على أن لا يسافر في يوم ماطر لا من بلده ولا من غيره، وأراد أن يرجع والمطر مستمرّ. وأمّا إذا كانت الحرمة مختصّةً بالذهاب فقط كما في هذا المثال إذا افترضنا إرادته للرجوع بعد انقطاع المطر فحكمه حكم النوع الأوّل والثاني.

(25) لا يبعد كون سفر الصيد اللهوي سفر معصية ففيه يتمّ المسافر ولا يقصّر في الذهاب، ويقصّر في الإياب إذا كان طريق الرجوع وحده يشتمل على المسافة المحدّدة.

(26) ومن سافر لغاية جائزة سائغة ولكنّه ركب في سيّارة مغتصبة، أو مرّ في أرض محرّمة عليه فحكمه أن يقصّر ؛ لأنّه وإن كان آثماً ولكنّ سفره ليس سفراً لمعصية ، وتغرّبه وابتعاده عن بلده لم يكن محرّماً ، ولا من أجل الحرام ، وإنّما استخدمت فيه واسطة محرّمة ، أو طريق محرّم .

182

أمّا إذا اغتصب الشخص سيّارةً وفرّ بها هرباً من صاحبها فرار السارق فحكمه التمام ؛ لأنّ الباعث على سفره هو إنجاح سرقته وتمكين نفسه من أموال الآخرين(1).

2 ـ من كان السفر عمله:

(27) من كان عمله وشغله السفر لا يسوغ له القصر، ونقصد بالعمل والشغل: الحرفة أو المهنة، أو العمل الذي يحدّد مركزاً لشخص على نحو لو سئل ما هو عمل هذا الشخص؟ لذكر ذلك في الجواب على هذا السؤال.

فمن يشتغل كسائق تعتبر السياقة والسفر حرفةً ومهنةً له . ومن يتبرّع بالعمل كسائق لدى شخص كذلك تعتبر السياقة عمله الذي يحدّد مركزه ومهنته، ولو لم يدرّ عليه ذلك اُجوراً بصورة مباشرة . ومن يملك سيّارةً فيسوقها باستمرار ويقطع بها المسافات كلّ يوم بقصد التنزّه وقضاء الوقت ، أو يسافر بها لزيارة المشاهد باستمرار لا يعتبر السفر عمله ومهنته؛ إذ لو سئل ما هو عمل هذا الشخص؟ لا يقال: إنّ عمله التنزّه أو زيارة المشاهد.

ومن كان عمله السفر ينطبق:

(28) أوّلا: على من كان نفس السفر عمله المباشر، كالسائق عمله سياقة السيّارة، والطيّار أو البحّار يقود الطائرة أو السفينة، والمضيّف الذي تستأجره الشركة لمرافقة المسافرين في الطائرة أو غيرها من وسائط النقل.



(1) وللوقوف على حكم ما لو تحوّل السفر في أثناء الطريق إلى سفر معصية وكذا حكم عكس ذلك، وأيضاً حكم بعض الفروع الاُخرى راجع كتاب الفتاوى الواضحة: 473 ـ 476 بحسب الطبعة السادسة لدار البشير بقم، الفقرة: (167) ـ (169) مع مراعاة الهامش.