683

 

 

 

مفاد الأخبار العلاجية في الخبرين المتعارضين

 

الجهة الثالثة: في ما هو مفاد الأخبار العلاجية في الخبرين المتعارضين، فإن كان مقتضى الأخبار العلاجية في المقام موافقاً لمقتضى القواعد فهو، وإلاّ قدّم ـ طبعاً ـ مقتضى الأخبار العلاجية على مقتضى القواعد. والكلام في ذلك يقع في ثلاثة أبحاث:

الأوّل: في الأخبار التي يستدلّ بها للتخيير.

الثاني: فيما يجعل دالا على الاحتياط، أو التوقّف، أو نحو ذلك ممّا يكون معارضاً لأخبار التخيير إن تمّت في نفسها سنداً ودلالة.

الثالث: فيما قد يجعل مقيّداً ومخصّصاً لأخبار التخيير كأخبار الترجيح. وبعد ذلك نتكلّم في تنبيهات المسألة.

 

أخبار التخيير

أمّا البحث الأوّل ، فهناك عدّة روايات يستدلّ بها لما ذهب إليه المشهور من التخيير.

فمنها: ما في الكافي: عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عثمان بن عيسى والحسن بن محبوب جميعاً، عن سماعة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) «سألته عن الرجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه، أحدهما يأمر بأخذه والآخرينهاه عنه، كيف يصنع؟ فقال: يرجئه حتّى يلقى من يخبره، فهو في سعة حتّى يلقاه»(1).

وسند الحديث تامّ لا إشكال فيه. أمّا دلالته فقد يستفاد التخيير من قوله: (فهو في سعة حتّى يلقاه) أي: في سعة من الأخذ بأيّهما شاء، فكأنّ قوله: (يرجئه) راجع إلى اكتشاف الحكم الواقعي، فيقول: إنّه يرجىء تشخيص ما هو الصحيح واقعاً حتّى يلقى من يخبره وهو الإمام مثلا. وأمّا وظيفته الفعلية فهي التخيير.


(1) الوسائل: كتاب القضاء، ب 9 من أبواب صفات القاضي، ح 5، ص 77، ج 18 بحسب الطبعة ذات عشرين مجلّداً وص 108 ج 27 بحسب طبعة آل البيت.

684

هذا هو تقريب الاستدلال بهذا الحديث.

وأورد على ذلك السيد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بأنّ هذه الرواية وإن دلّت على التخيير، لكنّ موردها هو فرض دوران الأمر بين المحذورين، حيث إنّ أحد الخبرين يأمر والآخر ينهى، والتخيير في مثل ذلك على القاعدة، فهذه الرواية لم تدلّ على شيء جديد يخالف القواعد(1).

ويرد عليه:

أوّلا: أنّ دوران الأمر بين المحذورين الذي تُجرى فيه أصالة التخيير عبارة عمّا لو علمنا بجنس الإلزام وتردّدنا بين الوجوب والتحريم. أمّا إذا شككنا في الوجوب والتحريم معاً فلا إشكال في اجراء البراءة عنهما معاً، فإنْ كان مقصوده ـ دامت بركاته ـ أنّ السائل افترض العلم من الخارج فهذا شيء لم يرد عنه ذكر في هذا الرواية، ولم يفرض سماعة العلم بالإلزام في المقام، بل الغالب في مثل هذه الموارد أنّه كما يحتمل كذب أحد الخبرين أو يعلم به كذلك يحتمل كذبهما معاً. وإن كان مقصوده أنّ جامع الإلزام يثبت بنفس مجموع هذين الخبرين فهذا ليس على طبق القاعدة، وإنّما هو شيء على خلاف القاعدة، تفترض استفادته من الأخبار العلاجية(2).

وثانياً: أنّه لو سلّمنا دوران الأمر بين المحذورين في المقام فليس متى ما دار الأمر بين المحذورين جرت أصالة التخيير، بل إنّما تجري أصالة التخيير إن لم يكن عندنا مرجع من قبيل عموم فوقاني أو استصحاب نرجع إليه، وإلاّ فلا معنىً لأصالة التخيير، فإطلاق هذه الرواية لفرض وجود مرجع من هذا القبيل يرجع إليه بعد تساقط الخبرين يدلّ مثلا على ما


(1) مصباح الاُصول: ج 3، ص 424.

(2) قد تقول: لا فرق في ثبوت التخيير العملي بين فرض العلم بجنس الإلزام وعدمه. وفي الحقيقة ليس للعلم بجنس الإلزام المردّد بين الوجوب والحرمة أثر، فمفاد التخيير في الفرضين أمر واحد.

ولكنّا نقول: إنّ هذا البيان منه (رحمه الله) مبنيّ على مجاراة الأصحاب من افتراض كون أصالة التخيير مضمونها غير مضمون البراءة، وأنّها لا تجري إلاّ لدى العلم بجنس الإلزام والدوران بين الوجوب والتحريم. أمّا لو التفتنا إلى أنّ أصالة التخيير ليس لها مفاد عدا مفاد البراءة غاية الأمر أنّ مفاد البراءة تارةً يكون منشأه عدم البيان، واُخرى يكون منشأه عدم القدرة الذي لافرق فيه بين العلم بجنس الالزام وعدمه، فلا يبقى مجال لتوهّم احتياج ابطال الاستدلال بهذه الرواية على ابراز كونها واردة في مورد دوران الامر بين المحذورين، فانّ الرواية بعد فرض حملها على ما يساوق مفاد البراءة من الواضح عدم دلالتها على المقصود، سواء كانت واردة في مورد دوران الأمر بين المحذورين، أم لا.

685

يقوله المشهور من التخيير عند تعارض الخبرين.

وثالثاً: أنّ التخيير الذي يقوله المشهور في المقام عبارة عن التخيير الاُصولي أو الفقهي، ولذا يبحثون بعد إثبات التخيير عن أنّ هذا التخيير هل هو اُصولي أو فقهي؟

ويقصد بالتخيير الاُصولي التخيير في تعيين الحجّة، فبأيّ الخبرين يأخذ يصبح هو الحجّة. ويقصد بالتخيير الفقهي التخيير في الحكم ابتداءً، فإن شاء أخذ بالوجوب وأسند الوجوب إلى المولى، وإن شاء أخذ بالحرمة وأسندها ألى المولى.

وأمّا التخيير في دوران الأمر بين المحذورين فليس عبارة عن أحد المعنيين، وأنّما هو تخيير عملي. لا تثبت فيه حجّيّة في أحد الطرفين، ولا يمكنه أن يسند إلى المولى الوجوب أو التحريم، وأنّما هو عملا مخيّر بين الفعل والترك.

وعليه نقول: إنّه ـ دامت بركاته ـ لو أراد بالتخيير التخيير الاُصولي أو الفقهي، فهو ليس على طبق القاعدة، ولو أراد به التخيير العملي، أي: إنّه يستفيد من هذه الرواية التخيير العملي، إذن فلا يثبت في الخبرين المتعارضين التخيير الذي يقوله الأصحاب(1) حتّى لو لم يكن مورده مورد دوران الأمر بين المحذورين.

والتحقيق: عدم تماميّة دلالة الرواية في المقام على مختار المشهور؛ لقوّة احتمال كونها في اُصول الدين؛ وذلك لما جاء فيها من التعبير بقوله: (أحد هما يأمر بأخذه) فإنّ الأخذ إنّما يناسب الاعتقاديات، لا الأعمال. وأمّا في الأعمال فينبغي أن يقال مثلا: أحدهما يأمر بفعله والآخر ينهاه عنه، وهذا إن لم يكن قرينة على صرف الرواية إلى الاعتقاديات فلا أقلّ من أنّه يوجب الإجمال، على أنّ دوران الأمر بين الوجوب والحرمة إنّما يكون غالباً في الاعتقاديات. وأمّا في الفروع فهو نادر جدّاً.

ويؤيّد ما ذكرنا قوله: (يرجئه حتّى يلقى من يخبره) أي: يترك هذا الشيء بكلا جانبيه، ولا يلتزم بأحد الاعتقادين حتّى يلقى من يخبره.

ويلتئم مع هذا المعنى قوله: (فهو في سعة حتّى يلقاه) أي: إنّه في سعة من الاعتقاد والالتزام بشيء في المقام، فلا يلتزم بأحدهما حتّى يلقاه. فتفسير السعة بالتخيير إنّما يناسب فرض عدم اختصاص الرواية باُصول الدين. وأمّا إذا استظهرنا اختصاصها باُصول الدين والاعتقاديات فمعنى السعة هو عدم لزوم الالتزام والاعتقاد بأحد الطرفين، وفرض التخيير


(1) يحتمل أن يكون مراد الأصحاب بالتخيير الفقهي التخيير العمليّ البحت.

686

في الاعتقاد غريب على أذهان المتشرعة.

ثمّ إنّه بغضّ النظر عن فرضية اختصاص الرواية بالاعتقاديات توجد في قوله: (فهو في سعة حتّى يلقاه) عدّة احتمالات، على بعضها يتمّ الاستدلال بالرواية على التخيير، وعلى بعضها لا يتمّ:

الاحتمال الاوّل: أن يكون تأكيداً لقوله: (يرجئه حتّى يلقى من يخبره) ويكون معنى قوله: (يرجئه...) أنّه يرجئ تشخيص الواقع إلى أن يرى الإمام مثلا صدفة فيسأله، ولا يجب عليه شدّالرحال مثلا إلى الإمام في مقام تشخيص الواقع، فيكون قوله: (فهو في سعة حتى يلقاه) تفريعاً على الجملة الاُولى تاكيداً لنفس ذلك المعنى، أي: إنّه في سعة من معرفة الواقع حتّى يلقاه، فليس عليه الفحص وشدّ الرحال.

فان استظهرنا هذا الاحتمال قلنا: إنّ هذا الاحتمال أجنبيّ عن التخيير الاُصولي والفقهي كما هو واضح. والرواية بمد لولها اللفظي لا تدلّ أصلا على ما هي الوظيفة العملية عندئذ، وإنّما تدلّ بمدلولها اللفظي على عدم وجوب الفحص. أمّا أنّه عندئذ ماذا يصنع، فغير معلوم من المدلول اللفظي للكلام، لكن بمدلولها المقامي والسكوتي تدلّ على أنّ وظيفته بعد ورود الخبرين كوظيفته قبل ورودهما؛ إذ لو كان لورود الخبرين أثر في وظيفته لكان عليه أن يبيّنه. وهذا ـ كما ترى ـ معناه تساقط الخبرين والرجوع إلى ما يرجع إليه لولاهما. وأين هذا من التخيير الاُصولي والفقهي؟!

الاحتمال الثاني: أن تكون هذه الجملة بياناً لمطلب جديد غير ما في الجملة الأولى، وهو كونه قبل لقاء الإمام في سعة بلحاظ نفس ما هو في ضيق بلحاظه لو لقي الإمام، فهو حينما يلقى الإمام يكون السؤال منه طريقه الوحيد في تشخيص الواقع، لكن قبل لقائه الإمام ليس طريق تشخيص الواقع له منحصراً في سؤال الإمام ولو بشدّ الرحال عليه، بل هو في سعة من ذلك، فله طريق آخر لتشخيص الواقع وهو جعل مفاد أحد الخبرين مشخّصاً للواقع بنحو الحجّيّة التخييرية الاصولية أوالفقهية، فإنْ استظهرنا هذا الاحتمال تمّت دلالة الرواية على التخيير المختار للأصحاب لولا ما مضى منّا من استظهار كون الرواية واردة في خصوص الاعتقاديات، من قبيل الجبر والاختيار، والقضاء والقدر، والبداء، والمشيئة، ونحو ذلك. وأمّا بلحاظ ذلك فتبطل دلالة الرواية على المقصود كما عرفت.

الاحتمال الثالث: أن تكون هذه الجملة بياناً للتخيير العملي من قبيل التخيير العملي عند دوران الأمر بين المحذورين، ومعنى ذلك أنّ المكلف مخيّر بين العمل بمضمون هذه الرواية

687

أو مضمون تلك من دون حجّيّة لاحدى الروايتين، أو إمكان إسناد مضمون إحداهما إلى الشارع. وعليه تكون هذه الجملة أجنبية عن المقصود.

ومنها: ما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد، عن العباس، عن عليّ بن مهزيار قال: «قرأت في كتاب لعبدالله بن محمد إلى أبي الحسن (عليه السلام): اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبدالله(عليه السلام) في ركعتي الفجر في السفر، فروى بعضهم أنْ صلّها في المحمل، وروى بعضهم لا تصلّها إلاّ على الأرض، فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك، فوقّع(عليه السلام)، موسّع عليك بأيّة عملت»(1).

وسند الحديث ـ أيضاً ـ تامّ، فيقال: إنّ هذه الرواية تدلّ على التخيير بين الخبرين، ولا تحمل السعة فيها على مثل البراءة؛ لأنّه اُضيفت السعة فيها إلى الروايتين، حيث قال: (موسّع عليك بأيّة عملت).

إلاّ أنّه مع ذلك يمكن النقاش في دلالة الرواية من وجهين:

الوجه الأوّل: دعوى ظهور الرواية في بيان التخيير الواقعي بين مضموني الروايتين، لا التخيير الظاهري، وذلك بنكتتين:

النكتة الاُولى: أنّ السائل قد سأل عن الحكم الواقعي حيث يقول: (فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك) ومقتضى أصالة التطابق بين السؤال والجواب هو كون الجواب ـ أيضاً ـ عن الحكم الواقعي، بل لو لم يكن قد صرّح السائل بالسؤال عن الحكم الواقعي كان ـ أيضاً ـ ظاهر كلامه هو السؤال عن الحكم الواقعي؛ لأنّه لم يسأل عن حال الخبرين المتعارضين بشكل عامّ حتّى يتعيّن في السؤال عن الحكم الظاهري، وإنّما سأل عن فرض مخصوص، وهو اختلاف الروايتين في ركعتي الفجر، وهذا كما يمكن حمله على السؤال عن الحكم الظاهري يمكن حمله على السؤال عن الحكم الواقعي. والثاني هو الظاهر من الكلام؛ لأنّ ظاهر حال السائل في نفسه هو أنّه يسأل عن الحكم الواقعي؛ لأنّ الإنسان بطبيعة حاله يفتّش عن الواقع، وإنّما يفتّش عن الحكم الظاهري عند عجزه عن الواقع.

النكتة الثانية: أنّ ظاهر حال الإمام ـ حتّى لو فرض عدم ظهور لكلام السائل في السؤال عن خصوص الحكم الواقعي ـ هو الإجابة عن الواقع؛ لأنّ الإمام (عليه السلام)باعتبار اطلاعه على


(1)الوسائل: ج 3، كتاب الصلاة، ب 15 من أبواب القبلة، ح 8، ص 240 بحسب الطبعة ذات عشرين مجلّداً وج 4 ص 330 بحسب طبعة آل البيت.

688

الواقع يكون ظاهر حاله هو أنّه يجيب بما يرفع الشكّ، لا أنّه يبيّن حكم الشكّ إلاّ في مورد لا يمكنه رفع الشكّ، وذلك كما لو كان السؤال عن الخبرين المتعارضين بشكل عامّ(1).

الوجه الثاني: دعوى عدم المعارضة رأساً بين الخبرين في المقام. إذن فقوله: (موسّع عليك) لا بدّ من حمله على التخيير الواقعي، ولا معنىً للتخيير الظاهري، وذلك بناءً على مبنى المحقق النائيني(رحمه الله) من أنّ الأمر إنّما يدلّ على الطلب وأمّا الوجوب فهو شيء ينتزعه العقل من الطلب عند عدم ورود الترخيص. وعليه فما دلّ على طلب الصلاة على الأرض لا يوجد أي معارضة بينه وبين ما دلّ على الترخيص في الصلاة في المحمل، فإنّ الطلب يجتمع مع الترخيص. نعم، الوجوب لا يجتمع مع الترخيص، لكنّ الطلب لم يكن دليلا على الوجوب بنفسه، وإنّما العقل كان ينتزع الوجوب لولا الترخيص، ومع ورود الترخيص لا ينتزع الوجوب(2).

ومنها: ما رواه الشيخ في الغيبة بسنده عن محمد بن عبدالله بن جعفر الحميري في مكاتبة بتوسّط الحسين بن روح إلى صاحب الزمان (عليه السلام): «سألني بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التشهّد الأوّل إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبّر؟ فإنّ بعض أصحابنا قال: لا يجب عليه التكبيرة، ويجزيه أن يقول: بحول الله وقوّته أقوم وأقعد، فكتب في الجواب: أنّ فيه حديثين: أمّا أحدهما فإنّه إذا انتقل من حالة إلى اُخرى فعليه التكبير. وأمّا الآخر فإنّه روي إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر، ثمّ جلس، ثم قام، فليس عليه في القيام بعد القعود


(1) كلتا هاتين النكتتين لظهور الكلام في بيان الحكم الواقعي واضحة الصحّة لو كانت الرواية واردة عن أحد الأئمّة المتقدّمين(عليهم السلام)، ولكن بما أنّ الرواية واردة عن الإمام الهادي (عليه السلام)وهو من الأئمّة المتأخرين الذين لعلهم كانوا يخططون لعصر الغيبة، فقد يقول قائل: حتّى لو كان سؤال السائل عن الحكم الواقعي فالإمام (عليه السلام)تعمّد الجواب عن الحكم الظاهري بالتخيير بين الروايتين تعليماً لطريقة الاستنباط التي تشتدّ الحاجة إليها لدى عصر الغيبة، ولعلّه لهذا ترى أنّه رغم أنّ السؤال كان عن أنّ الإمام كيف يصنع حتّى يقتدي السائل به، ولكنّ الجواب لم يأتِ بلسان أنّي أصنع كذا، بل جاء بلسان إجازة العمل بأيّ واحدة من الروايتين.

(2) إلاّ أنّ هذا المبنى غير تامّ.

نعم، لا يخفى أنّ الروايتين وإن كانتا متعارضتين على غير مبنى الشيخ النائيني (رحمه الله)لكنّهما قابلتان للجمع العرفي؛ لأنّ رواية النهي عن الصلاة إلاّ على الأرض تدلّ على بطلان الصلاة في المحمل، ووجوب الصلاة على الأرض، ولكنّ رواية الأمر بالصلاة في المحمل تدلّ على جواز الصلاة في المحمل لا وجوبها؛ لأنّها أمر وارد مورد توهّم الحظر، ومن المعلوم أنّ دليل جواز الصلاة في المحمل يكون قرينة عرفية على حمل الأمر بالصلاة على الأرض على الاستحباب. وهذا الجمع العرفي يقتضي عملا أن يكون موسّعاً على المكلف يعمل بأيّ الروايتين شاء؛ لأنّ الأولى تبيّن ما يكفي في الإجزاء، والثانية تبيّن ما هو المستحبّ.

689

تكبير، وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى، وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً»(1) فيتمسّك بذيل هذا الحديث، وهو قوله: (بأيّهما أخذت) لإثبات التخيير.

إلاّ أنّه توجد حول هذا الحديث ثلاثة احتمالات:

الاحتمال الأوّل: أن يقال: إنّه غير وارد في الخبرين المتعارضين أصلا؛ لعدم المعارضة بين ما دلّ على طلب التكبيرة وما دلّ على الترخيص، وذلك بناءً على مبنى المحقق النائيني (رحمه الله)من أنّ الوجوب إنّما هو أمر ينتزعه العقل من الطلب إذا لم يرد الترخيص، وبناءً على هذا الاحتمال تكون الرواية أجنبية عمّا نحن فيه، وتحمل على التخيير الواقعي.

ويرد عليه: أنّ الرواية النافية للتكبير في القيام بعد القعود ليس مفادها مجرّد الترخيص في ترك التكبير، وإنّما مفادها أنّ ذاك الطلب الثابت في سائر موارد الانتقال من حالة إلى اُخرى غير ثابت في القيام بعد القعود، وقد ثبت فقهياً أنّ ذاك الطلب استحبابي، إذن فهذا الحديث ينفي مطلوبيّة التكبير في القيام بعد القعود حتّى بنحو الاستحباب، فتقع المعارضة بين الحديثين حتّى على مبنى المحقّق النائيني(رحمه الله)(2).

الاحتمال الثاني: أن يقال: إنّ الخبرين وإن كانا متعارضين إلاّ أنّهما ليسا متعارضين في مورد سؤال السائل، وهو التكبير في القيام بعد التشهّد الأوّل؛ لأنّ الخبر الثاني إنّما دلّ على نفي التكبير في القيام بعد الجلوس، وهذا لا ينافي كون القيام بعد التشهّد يستوجب التكبير، وهذا بناءً على أنّ قوله: (وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى) ليس تتمّة للخبر الثاني، وإنّما هو كلام لصاحب الزمان ـ عجّل الله تعالى فرجه ـ(3).

وبناءً على هذا الاحتمال ـ أيضاً ـ تكون الرواية أجنبية عن المقصود، ولابدّ من حملها على التخيير الواقعي.

هذا. ويكفينا الأجمال وعدم الظهور في كون تلك الفقرة تتمّة للخبر الثاني، فوجود هذا الاحتمال يكفي لاسقاط هذا الحديث عن الاستدلال به للتخيير.

الاحتمال الثالث: أن يقال: إنّ الخبرين متعارضان حتّى في مورد السؤال، وذلك بناءً على


(1) الوسائل: ج 4، ب 13 من أبواب السجود، ح 8، ص 967 بحسب الطبعة ذات عشرين مجلّداً وج 6 ص 368 بحسب طبعة آل البيت.

(2) على أنّ مبنى المحقق النائيني (رحمه الله) غير تامّ.

(3) الظاهر أنّه حتّى لو كان هذا كلاماً للإمام صاحب الزمان عجّل الله فرجه ـ فالمقصود به بيان أنّ خبر نفي التكبير بعد الجلوس من السجدة الثانية يشمل فرض التشهّد أيضاً.

690

كون تلك الفقرة تتمّة للخبر الثاني، لا كلاماً لصاحب الزمان ـ عجّل الله تعالى فرجه ـ، وعندئذ نقول: إنّه وإن كان الخبران متعارضين إلاّ أنّه يوجد بينهما جمع عرفي يكون من أحسن أنحاء الجموع العرفية، وهو الحكومة، حيث إنّ الخبر الثاني ناظر إلى حكم التكبير الثابت في موارد الانتقال من حال إلى حال، وناف له في حال الانتقال من الجلوس إلى القيام، فمقتضى الجمع العرفي تقديم الخبر الثاني على الأوّل(1).

فإن فرضنا أنّنا لا نحتمل في موارد الجمع العرفي مطلقاً أو في جمع عرفي من هذا القبيل أن يحكم الشارع بالتخيير، فلا بدّ من طرح هذه الرواية أو حملها على التخيير الواقعي، وإن احتملنا ذلك قلنا عندئذ في مقام الجواب على هذه الرواية: إنّ لها ظهوراً في إرادة الحكم الواقعي لنفس النكتتين الماضيتين في الرواية السابقة، من أنّ السائل قد سأل عن الحكم الواقعي، ومن أنّ ظهور حال الإمام هو رفع الشكّ مع الإمكان، لا بيان حكم الشكّ(2).

هذا كلّه لو افترضنا أنّ الإمام صاحب الزمان (عليه السلام) ينقل حديثين غير مقطوعي الصحّة، ويصبح بصدد العلاج.

وأمّا إذا قلنا، إنّ الظاهر من كلمة (حديثين) هو إخباره (عليه السلام) القطعي بتحدّث أجداده(عليهم السلام)بهذين الكلامين، وإنّ قوله: (فإنّه روي) أيضاً يقصد روايةً هو (عليه السلام)يمضي ورودها بنفس هذا النقل، فعندئذ تخرج هذه المكاتبة عمّا نحن بصدده راساً؛ لأنّنا نتكلّم في خبرين متعارضين غير مقطوعي الصدور(3). ولو فرض ثبوت التخيير في مقطوعي الصدور لا يمكن التعدّي عنهما الى غير مقطوعي الصدور.

ثمّ ان سند الحديث لا يخلو عن شوب اشكال، وذلك لأنّ النوبختي الذي ينقل هذا


(1) الظاهر أنّ الإمام (عليه السلام) فرض قطعية إرادة الإطلاق من الخبر الأوّل لحال الانتقال من الجلوس إلى القيام، فلم يكن مجال لهذا الجمع العرفي.

(2) ما أجبنا به عن النكتتين في الرواية الماضية يكون أوضح في هذه الرواية؛ لأنّها عن الإمام صاحب الزمان ـ عجّل الله فرجه ـ وخاصّة أنّ قوله ـ عجل الله فرجه ـ: (من باب التسليم) ظاهر في التسليم للرواية، لا التسليم للواقع، إلاّ إذا حمل الحديثان على مقطوعي الصدور، كما سيأتي الآن في المتن إبداء احتماله.

(3) قد يقول قائل: إنّه بما أنّ هذه الرواية مرويّة عن الإمام صاحب الزمان ـ عجل الله فرجه ـ في زمن غيبته، فمن الطبيعي ـ كما قلنا ـ أن يكون بصدد تعليم طريقة الاستنباط من الروايات المروية، وهذا يُسقط ظهور العبارة في إرادة قطعيّة الحديثين، بل يوجب الظهور في النظر إلى الروايات المتعارفة والتي هي غير قطعية الصدور، أو يوجب الإطلاق على أقلّ تقدير.

691

الحديث عن الحسين بن روح لم يثبت توثيقه، فإن كان الحميري(1) هو الذي يشهد بنفسه أن ما رآه من الكتاب كان جواباً للإمام (عليه السلام) صحّ السند. وأمّا لو كان افتراضه لكون هذا الجواب جواباً للإمام، ماخوذاً من نفس المكتوب وكلام النوبختي، أي كان هذا الافتراض في طول نقل الخبر عن النوبختي، فلا يبقى وثوق بسند الحديث، ويكفينا الإجمال.

ومنها: ما رواه الطبرسي في الاحتجاج مرسلا عن الحارث بن المغيرة، عن أبي عبدالله (عليه السلام)قال: «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسّع عليك حتّى ترى القائم فتردّه عليه»(2).

وقد أورد السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على الاستدلال بذلك بأنّ هذه الرواية لم يفرض فيها التعارض أبداً، واِنّما هي من روايات حجّيّة خبر الثقة(3).

ويرد عليه إن سلّمنا عدم ورودها في فرض التعارض، ولم نقبل ما سوف نشر اليه من فرض قرينة على إرادة صورة التعارض: أنّ دليل حجّيّة الخبر إذا كان بمثل لسان جعل المنجزية أو الطريقية أو إيجاب العمل فهو لا يشمل الخبرين المتعارضين، لعدم معقولية كون كليهما طريقاً وواجب العمل. وأمّا إذا كان بلسان جواز العمل كما في قوله في هذا الحديث: (موسّع عليك) فهو يشمل بإطلاقه المتعارضين؛ لأنّ جواز العمل بأحد المتعارضين لا ينافي جواز العمل بالأخر، وليس كالوجوب. ومن هنا نقول: إنّ حديث (للعوام أن يقلّدوه(4))


(1) بل أبو الحسن محمد بن أحمد بن داود، راجع الوسائل: ج 20، ص 31. والعبارة مايلي: وروى جميع مسائل محمد بن عبدالله بن جعفر الحميري عن صاحب الزمان (عليه السلام) عن جماعة، عن أبي الحسن محمد بن أحمد بن داود، قال: وجدت بخطّ أحمد بن إبراهيم النو بختي وإملاء أبي القاسم الحسين بن روح، وذكر المسائل كما رواها الطبرسي.

أقول: لا يبعد ظهور العبارة في شهادة محمد بن أحمد بن داود بكون ذلك كلّه بإملاء أبي القاسم حسين بن روح. وقد ظهر بكلّ تعليقاتنا أنّ هذا الحديث هو أفضل ما يمكن الاستدلال به على التخيير في الخبرين المتعارضين.

هذا. ولا ينبغي الدغدغة في السند من ناحية عدم معرفة الجماعة المتوسّطة بين الشيخ الطوسي ومحمد بن أحمد بن داود، فإنّه بغضّ النظر عن إمكان حلّ الإشكال بحساب الاحتمالات نقول: أنّ أحد هؤلاء الجماعة هو الشيخ المفيد على ما يظهر من عبارة الشيخ (رحمه الله) في الفهرست في ترجمة محمد بن أحمد بن داود، فراجع.

(2) الوسائل: ج 18، ب 9 من أبواب صفات القاضي، ح 41، ص 87 ـ 88 بحسب الطبعة ذات عشرين مجلّداً وج 27 ص 122 بحسب طبعة آل البيت.

(3)مصباح الاُصول: ج 3، ص 424.

(4)الوسائل: ج 18، ب 10، من صفات القاضي، ح 20، ص 95 بحسب الطبعة ذات عشرين مجلّداً وج 27 ص 131 بحسب طبعة آل البيت.

692

لولا ما فيه من ضعف السند دليل على التخيير في التقليد بين المجتهدين المختلفين في الفتوى.

هذا، وهنا إيراد آخر على الاستدلال بهذه الرواية، وهو: أنّه لعلّ المقصود من قوله: (موسع عليك) هو الرجوع إلى البراءة بعد تساقطهما، لا التوسعة بلحاظ التخيير بين الخبرين.

ويرد عليه: أنّه بعد تساقطهما ليس المرجع دائماً هو البراءة ونحوها ممّا تفيد السعة، بل قد يكون المرجع استصحاب الفساد أو أصالة البطلان ونحو ذلك ممّا لا يمتّ إلى السعة بصلة، بل يوجب التضييق.

ثم إنّ: قوله: (وكلّهم ثقة) لا إشكال في دلالته على أنّ الوثاقة دخيلة في الحكم الذي حكم به، وهو (موسّع عليك). فإنْ فرضنا كون وثاقة الكلّ مأخوذة بنحو الانحلال، أي: إنّ وثاقة كلّ راو لها دخل في الحكم بالسعة بلحاظ رواية ذاك الراوي كان ذلك قرينة على أنّه ليس المقصود بالسعة البراءة، أي كان قرينة على خلاف الإشكال الثاني.

وإن فرضنا كونها مأخوذة بنحو المجموعية، أي: إنّ وثاقة الجميع هي الدخيلة في الحكم، فلو فرضت وثاقة بعض دون بعض لم يثبت الحكم بالسعة، كان ذلك قرينة على أنّ مفروض الكلام هو الأخبار المتعارضة، وأنّ المقصود هو التخيير، لا حجّيّة خبر الثقة، فإنّ وثاقة الكلّ إنّما تؤثّر في المتعارضين من باب أنّه لو كان أحدهما ثقة دون الآخر لم تكن عندنا حجّتان متعارضتان، وقد يكون التخيير في خصوص ما إذا كان كلاهما ثقة وكلتاهما حجّة في نفسهما أمّا لو فرض أنّ المقصود بيان حجّيّة خبر الثقة فلا معنى لدخل وثاقة الكلّ بنحو المجموعية، بل لا بد أن يكون بنحو الانحلال، فبناءً على المجموعية يصبح قوله: (وكلّهم ثقة) قرينة على خلاف الإشكال الأوّل.

وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه أنّ هذه الرواية تامّه دلالة، إلاّ أنّها ساقطة سنداً.

ومنها: ما رواه الطبرسي في الاحتجاج مرسلا عن الحسن بن الجهم، عن الرضا (عليه السلام)قال: «قلت للرضا (عليه السلام) تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة، قال: ما جاءك عنّا فقسه على كتاب الله ـ عزّوجلّ ـ وأحاديثنا، فإن كان يشبهها فهو منّا، وإن لم يشبهها فليس منّا، قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين، فلا نعلم أيّهما الحقّ، فقال: إذا لم تعلم فموسّع عليك

693

بأيّهما أخذت»(1).

وهذه الرواية لا تردعلى دلالتها شيء من المناقشات السابقة، إلاّ أنّها ـ أيضاً ـ ساقطة سنداً.

ومنها: مرفوعة زرارة التي رواها ابن أبي جمهور الأحسائي صاحب كتاب غوالي اللئالي عن العلاّمة الحلّي، رفعها إلى زرارة، وسوف يأتي نقل الرواية بعد ذلك ـ إن شاء الله ـ وفيها الترجيح بالشهرة، وبعد أن فرض الراوي أنّ كليهما مشهور جاء الترجيح بالأوثقية والأعدلية والأصدقية، وبعد التساوي يقول: خذ بما فيه الحائطة لدينك، وبعد افتراض كونهما معاً موافقين للاحتياط أو مخالفين له يقول: فتخيّر أحدهما، فتأخذ به وتدع الآخر(2).

وناقش السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ في دلالة هذه الرواية بأنّه افترض فيها أنّهما معاً مشهوران، والمقصود الشهرة الروائية لا الفتوائية، وبذلك تصبح الروايتان قطعيتي الصدور، فهما خارجتان عن محلّ الكلام، فإنّنا نتكلّم عن التخيير في المتعارضين غير قطعيي الصدور(3).

ويرد عليه: أنّه لا بدّ من تفسير الشهرة بمعنىً لا يوجب قطعية الصدور، وإلاّ لم يكن معنىً للترجيح ـ بعد فرض كون كليهما مشهورين ـ بالأوثقية والأعدلية والأصدقية.

وأمّا أنّه ما هي تلك الشهرة؟ فسوف يقع الحديث عن ذلك عندما ننقل نصّ الرواية في بحث المرجحات ـ إن شاء الله تعالىـ.

وعلى أيّ حال فالرواية ساقطة سنداً. وقد قالوا: لم توجد هذه الرواية في كتب العلاّمة التي بأيدينا(4)، وسواء وجدت في كتب العلاّمة أو لا كفاها كونها مرفوعة.

ثمّ الرواية أخصّ من المدّعى؛ إذ تعطي التخيير بعد فرض عدم كون الأخذ بأحدهما المعيّن هو مقتضى الاحتياط دون العكس، فتعارض روايات التخيير التي فرضت دلالتها على المدّعى، فهذه الرواية على خلاف المطلوب أدلّ.


(1)الوسائل: ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 40، ص 87 أو ج 27 ص 121 ـ 122 حسب اختلاف الطبعتين المشار إليهما.

(2) مستدرك الوسائل: ج 17، ب 9 من صفات القاضي، ح 2، ص 303 ورقم التسلسل العام للحديث. [413 21].

(3) مصباح الاُصول: الجزء 3، ص 423.

(4) راجع مصباح الاُصول: ج 3، ص 405.

694

هذا. وهناك بعض روايات اُخرى يتضح حالها ممّا تقدّم، ولا تستحقّ الذكر، من قبيل مرسلة الكليني(1) والفقه الرضوي(2).

 

الأخبار التي تدّعى معارضتها لأخبار التخيير

واما البحث الثاني: وهو في ما قد يعارض أخبار التخيير إن تمّت في نفسها، فهي عدّة طوائف من الأخبار، ونحن نتكلّم عنها من زاويتين:

إحداهما: أنّها هل تعارض أخبار التخيير لو تمّت في نفسها، أو لا؟

والاُخرى: أنّه لو لم تتمّ أخبار التخيير، وبقينا على مقتضى القاعدة.فهل هذه الروايات تخالف القاعدة، وتغيّر من الوظيفة تجاه الروايات المتعارضة، أو لا؟:

 

الطائفة الاُولى: ما تأمر بالرّد إليهم(عليهم السلام)، وهو ما في السرائر نقلا عن كتاب مسائل الرجال لمحمد بن عليّ بن عيسى، حدّثنا محمد بن أحمد بن محمد بن زياد و موسى بن محمد بن عليّ بن عيسى، قال: «كتبت إلى الشيخ موسى الكاظم أعزّه الله وأيّده أسأله عن الصلاة إلى أن قال: وسألته (عليه السلام) عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك قد اختلف علينا فيه، كيف العمل به على اختلافه، أو الرد إليك فيما اختلف فيه، فكتب ما علمتم أنّه قولنا فالزموه، وما لم تعلموه فرّدوه إلينا»(3).

وإنما اخترنا هذه الرواية من بين الروايات الدالّة على ردّ ما لم يعلم أنّه قولهم(عليهم السلام)إليهم


(1) الوسائل: ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 6، ص 77 بحسب الطبعة ذات عشرين مجلّداً وج 27 ص 108 بحسب طبعة آل البيت.

(2) مستدرك الوسائل: ج 17، ب 9 من صفات القاضي، ح 12، ص 307 ورقم التسلسل العام للحديث: [21423].

(3) هذا الحديث وارد بالسند المذكور في المتن في كتاب جامع أحاديث الشيعة: ج 1، ب 6 من المقدّمات ح 33، ص 266، ورقم التسلسل العام للحديث 459. ثم ذكر له في ذيل الحديث سنداً آخر كالتالي: (بصائر الدرجات 152 ـ حدّثنا محمد بن عيسى، قال: أقرأني داود بن فرقد الفارسي كتابه إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام)وجوابه بخطّه، فقال: نسألك عن العلم المنقول، وذكر نحوه).

وأمّا كتاب الوسائل، ج 18 فقد ورد هذا الحديث فيه في ب 9 من صفات القاضي، ح 36، ص 86بحسب الطبعة المشتملة على عشرين مجلّداً كالتالي: (محمّد بن إدريس في آخر السرائر نقلا من كتاب مسائل الرجال لعليّ بن محمّد أنّ محمّد بن عليّ بن عيسى كتب إليه يسأله عن العلم المنقول إلينا...) إلى آخر ما ورد في المتن مع حذف ضمير الهاء من قوله: (ما لم تعلموه). وكذلك في ج 27 ص 120 بحسب طبعة آل البيت.

695

لأنّ تلك الروايات واردة في الخبر بقول مطلق، فمفادها نفي حجّيّة خبر الواحد، فتعارض بادلّة حجّيّة خبر الثقة، أو تخصّص بها مثلا. وهذه الرواية لو قسناها إلى مقتضى القاعدة فليس فيها ما يخالف القاعدة، فإنّها تدلّ على الطرح والردّ، وقد عرفت أنّ مقتضى القاعدة ـ أيضاً ـ ذلك. ولو قسناها إلى روايات التخيير فهي تعارضها؛ لأنّها حكمت بالردّ دون التخيير.

هذا من حيث الدلالة.

وأمّا من حيث السند فضعيف، فإنّه لو ثبتت وثاقة السند بين صاحب السرائر وكتاب مسائل الرجال، فلا أقلّ من مجهولية حال نفس محمّد بن عليّ بن عيسى الذي هو صاحب كتاب مسائل الرجال.

 

الطائفة الثانية: ما تأمر بالأخذ بالأحدث، من قبيل ما رواه في الكافي عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي عمرو الكناني، قال: «قال أبو عبد الله (عليه السلام) يا أبا عمرو، أرأيت لو حدّثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا، ثمّ جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك، أو أفتيتك بخلاف ذلك، فبأيّهما كنت تأخذ؟ قلت: بأحدثهما وأدع الاخر، فقال: قد أصبت يا أبا عمرو، أبى الله إلاّ أن يعبد سراً. أما والله لئن فعلتم ذلك إنّه لخير لي ولكم. أبى الله عزّوجلّ لنا ولكم في دينه إلاّ التقية»(1).

ورواية عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عثمان بن عيسى، عن الحسين بن المختار، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «أرأيتك لو حدّثتك بحديث العام، ثمّ جئتني من قابل فحدّثتك بخلافه، بأيّهما كنت تأخذ؟ قال: قلت: آخذ بالأخير، فقال لي: رحمك الله(2)».

فلو تمّ الاستدلال بهذه الأحاديث على الترجيح بالأحدثيّة كان مفادها خلاف ما هو مقتضى القاعدة، وهو التساقط، كما أنّ مفادها خلاف روايات التخيير، ويقع الكلام في هاتين الروايتين في اُمور:

 


(1) الوسائل: ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 17، ص 79 ـ 80 أو ج 27 ص 112 بحسب طبعة آل البيت.

(2) نفس المصدر: ح 7، ص 77، أو ص 109 بحسب اختلاف الطبعتين الماضيتين.

696

الأوّل: السند، فالرواية الثانية مرسلة لا عبرة بها، والرواية الاُولى ضعيفة بأبي عمرو الكناني.

نعم، نقل في جامع الأحاديث(1) للسيد البروجردي(رحمه الله) بعد ذكره لهذه الرواية بهذا السند سنداً آخر له، حيث انّه ينقل عن الوسائل أنّه نقل عن البرقي في المحاسن(2) عن أبيه، عن محمّد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبدالله مثله. وهذا السند غير مشتمل على أبي عمرو الكناني، وطريق صاحب الوسائل الى المحاسن صحيح. إذن يتمّ سند الحديث.

ولكنّ التحقيق: أنّ هذا لا يفيد في تصحيح السند؛ لأنّ أبا عمرو الظاهر سقوطه خطأً من السند بقرينة أنّ الخطاب في متن الرواية يكون موجهاً إلى أبي عمرو على أنّنا لو غضضنا النظر عن ذلك لقلنا: إنّ هذا يدخل في تهافت واضطراب متن السند بناءً على استبعاد كونهما روايتين.

 

الثاني: أنّ أخبار الأخذ بالأحدث إن تمّت دلالتها فهل هي معارضة لأخبار التخيير، أو مخصّصة لها؟

هذا يختلف باختلاف المبنى في الحكمين الظاهريين المتنافيين، فإن قلنا بما يقوله المشهور من أنّ الحكمين الظاهريين انّما يتعارضان بعد الوصول، إذن فأخبار الأخذ بالأحدث لا تعارض أخبار التخيير إلاّ فيما إذا علمنا بما هو الأحدث، فيخصّص أخبار التخيير بها، ويبقى لها موارد عدم علمنا بالأحدث، كما هو الغالب في الخبرين الصادرين من امام واحد. والعلم الاجمالي بأحدثية أحد الخبرين اللذين أحدهما ترخيص والاخر الزام لا أثر له؛ لأنّه علم إجمالي مردّد بين الترخيص والإلزام.

لكنّ الحقّ: أنّ التنافي بين الحكمين الظاهريين ثابت بمجرد ثبوتهما واقعاً، سواء وصلا أو لا، على ما نقّحناه في محلّه.

اذن فأدلّة التخيير مع أدلّة الأخذ بالأحدث متعارضتان؛ لأنّ فرض التقارن بين الخبرين من حيث زمان الصدور نادر جدّاً.


(1) ج 1، ب 6 من المقدمات، ح 36، ص 267. ورقم التسلسل العام للحديث 462.

(2) هذا السند منقول في جامع الأحاديث عن المحاسن رأساً، لاعن الوسائل عن المحاسن.

697

الثالث: قد يقال بتقديم أخبار التخيير على أخبار الأخذ بالأحدث. وذلك بأحد تقريبين:

التقريب الأوّل: أنّ في أخبار التخيير ما هو أحدث من أخبار الأخذ بالأحدث؛ لوروده عن صاحب الزمان (عليه السلام) الذي هو آخر الأئمّة، فأخبار الأخذ بالأحدث بنفسها تدلّ على تقديم أخبار التخيير على نفسها.

ويرد عليه:

أوّلا: أنّ هذا الكلام لو تمّ فإنّما يتمّ فيما إذا علمنا إجمالا بصدور أحدهما، فيقال مثلا: لو كان الصادر هو أخبار التخيير إذن يؤخذ بها، ولو كان هو أخبار الأخذ بالأحدث فهي تأمرنا بالأخذ بأخبار التخيير، لكنّنا لا نعلم اجمالا بصدور أحدهما، ونحتمل كذبهما معاً، فنحن بحاجة إلى دليل يدلّ على الحجّيّة تعبّداً، فنقول:

ما هو الدليل الذي دلّ على حجّيّة أخبار التخيير؟ فان كان هو الأدلّة العامّة لحجّيّة الخبر فالمفروض أنّها لا تشمل المتعارضين، ولا أحدهما. وإن كان هو نفس أخبار الأخذ بالأحدث نقلنا الكلام إلى تلك الأخبار، وقلنا: ما هو الدليل على حجّيّة أخبار الأخذ بالأحدث؟ فإن كان هو نفس أدلّة الحجّيّة العامّة فهي لا تشمل المتعارضين، ولا أحدهما، وإن كان هو أخبار التخيير بأن يقال: إنّنا تخيَّرنا بموجبها فاخترنا أخبار الأخذ بالأحدث مثلا، فقد عُدنا مرّةً اُخرى إلى أخبار التخيير التي لم نثبت بعدُ حجّيّتها.

وثانياً: أنّه حتّى لو فرضنا العلم بصدور أحدهما لا يتمّ هذا التقريب؛ وذلك لأنّ هذا التقريب معناه أن يسقط أخبار الأخذ بالأحدث نفسها عن الحجّيّة في تمام الموارد عدا مورد واحد، وهو تقديم المعارض الأحدث منها على نفسها، وهذا كتخصيص الأكثر، ليس أمراً عرفياً.

التقريب الثاني: أنّ أخبار الأخذ بالأحدث مبتلاة بالتعارض الدلالي الداخلي؛ لأنّ إطلاقها لموردها يعارض إطلاقها لسائر الموارد، لا للتكاذب بين الاطلاقين، بل لعدم معقولية حجّيّة كلا الإطلاقين؛ إذ لو كانت حجّة في موردها لكان معناها تقديم أخبار التخيير وبالتالي عدم العمل بها في سائر الموارد، فاذا ابتلت بالتعارض الدلالي الداخلي سقطت بالاجمال، وبقيت أخبار التخيير بلا معارض.

ويرد عليه: أنّه بعد وقوع التعارض بين الاطلاقين الداخليين ودوران الأمر بينهما لا إشكال في أنّ العرف يقدم إطلاقها لتمام الموارد الاُخرى على إطلاقها لخصوص موردها،

698

فيرتفع الإجمال، ويقع التعارض بينها وبين أخبار التخيير.

 

الرابع: في دلالة هاتين الروايتين على الترجيح بالأحدثية فيما نحن فيه وعدمها.

الصحيح: هو أنّهما لو دلّتا على الترجيح بالأحدثية فانّما تدلاّن على ذلك في غير محلّ الكلام؛ وذلك لأنّ الترجيح بالأحدثية حكم تعبّدي على خلاف الارتكاز، يجب الاقتصار فيه على مورده بعد أن لم يكن إطلاق لفظي في الكلام، وكونه على خلاف الارتكاز واضح، فإنّ كلمات الأئمّة(عليهم السلام) جميعاً تنظر إلى وقت واحد، وتكشف عن حكم زمان واحد؛ إذ ليس بعضها نسخاً لبعض، فأيّ أثر يمكن أن يفترض لمجرّد كون أحد الخبرين أحدث من حيث الصدور؟! إذن فلا بدّ من الاقتصار على المورد، ومورد الحديثين خارج عمّا نحن فيه لوجهين:

الأوّل: أنّه مختصّ بمورد القطع بصدورهما، حيث كان التعبير بمثل (لو حدّثتك بحديث)، وطبعاً مع السماع من الإمام نفسه لا معنى لعدم القطع بالصدور، في حين أنّ محلّ البحث هو الخبران الواحدان التعبّديان من حيث السند، ومن المحتمل دخل القطع بالصدور في هذا الحكم، فإنّ الحكم ليس حكماً واقعياً حتّى يكون ظاهر ما يؤخذ في الكلام من قيد القطع ونحوه كونه طريقياً، وإنّما هو حكم ظاهري، والمركوز في الحكم الظاهري كونه محتاجاً إلى درجة من درجات الانكشاف كالشكّ وكالظنّ، ففي الحكم الظاهري حينما تؤخذ درجة من الانكشاف يكون الكلام ظاهراً في الموضوعية لا الطريقية، وهنا قد اُخذت درجة اكتشاف الصدور اكتشافاً قطعياً موضوعاً للحكم بترجيح الأحدث. وان تنزلنا عن ذلك وقلنا بأنّ القطع إنّما اُخذ هنا طريقياً لا موضوعياً، إذن فعلى الأقلّ يكون موضوع الحكم بالاخذ بالأحدث نفس صدور الخبرين من الامام واقعاً. وفي المقام لا سبيل لنا إلى إثبات صدورهما بالتعبّد حتّى نثبت بالتعبّد موضوع الحكم بعد افتراض عدم كونهما قطعيين؛ وذلك لأنّ ما يُثبت التعبّد بالصدور في كلا الخبرين إنّما هو دليل حجّيّة خبر الواحد بنحو العموم، وذاك الدليل لا يشمل المقام؛ لتعارض الخبرين.

الثاني: أنّه مختصّ بما إذا كان المكلّف معاصراً لعصر صدور الحديث الثاني؛ إذ يقول مثلا: (ثمّ جئتني من قابل فحدّثتك بخلافه)، فلا معنىً للتعدّي إلى ما هو محلّ ابتلائنا، فإنّنا لم نكن معاصرين لصدور الحديث الأحدث.

هذا. وقد ورد في حديث المعلّى بن خنيس قال: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام)إذا جاء حديث

699

عن أوّلكم وحديث عن آخركم فبأيّهما نأخذ؟ فقال: خذوا به حتّى يبلغكم عن الحي، فاذا بلغكم عن الحي فخذوا بقوله»(1).

وهذا الحديث قد لا ترد عليه المناقشة الاُولى، وهي الاختصاص بمعلومي الصدور، حيث عبرّ بتعبير (جاء حديث عن أوّلكم) فقد يقال: إنّ هذا معناه فرض حكاية حديث عنهم. وأمّا أنّ هذه الحكاية مطابقة للواقع أو لا فلم يفرض في الرواية فرض العلم بالمطابقة، ولكنّ المناقشه الثانية ترد عليه، فإنّه يقول: (فإذا بلغكم عن الحي) وهذا يستبطن افتراض معاصرة المكلّف للحديث الأحدث.

والسند ضعيف بالمعلّى بن خنيس، واسماعيل بن مرار.

هذا كلّه بناءً على التسليم بأنّ هاتين الروايتين بصدد ترجيح أحد المتعارضين على الآخر بالأحدثية، إلاّ أنّ الصحيح عدم كونهما بصدد بيان ذلك، وإنّما هما بصدد بيان شي آخر.

وتوضيح ذلك: أنّ الخبر الأحدث له ظهوران: أحد هما الظهور في بيان الحكم الواقعي الذي لا يختلف من شخص إلى آخر، والثاني الظهور في بيان الوظيفة الفعلية للسامع التي قد تكون واقعية، وقد تكون بلحاظ التقية، وقد يكذب الظهور الأوّل ويصدق الظهور الثاني، كما في قصّة عليّ بن يقطين مع الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)المعروفة. والمقصود من هذه الروايات هو العمل بالحديث الأحدث بلحاظ الظهور الثاني، وهو بهذا اللحاظ لا معارض له، وإنّما هو مبتلىً بالمعارض بلحاظ الظهور الأوّل.

ويشهد لكون النظر إلى الظهور الثاني لا إلى ترجيح أحد المتعارضين اُمور:

منها: أنّ الترجيح بالأحدثية على خلاف الموازين والارتكازات العرفية، فنفس استبعاد ذلك عرفاً يعطي للكلام ظهوراً في المعنى الذي نحن ذكرناه، وقد فرض في الرواية أنّ الامام (عليه السلام) يسأل الراوي أنّه إذا سمعت منّا الحديثين المتخالفين فماذا تصنع، فالسائل هو يقول: آخذ بالأحدث، والإمام (عليه السلام) يمضي كلامه، وهذا معناه أنّ الحكم لم يكن حكماً على خلاف الارتكاز، بل كان على طبق طبع الراوي، في حين أن الحكم بالترجيح بالأحدثية على خلاف الارتكاز كما بيّنا.


(1) الوسائل: ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 8، ص 78، وتكملة الحديث ما يلي:

(قال: ثم قال أبو عبدالله (عليه السلام) إنّا والله لا ندخلكم إلاّ فيما يسعكم)، وبحسب طبعة آل البيت ورد الحديث في ج 27 ص 109.

700

ومنها: ما في ذيل رواية أبي عمرو الكناني من قوله: (أبى الله إلاّ أن يعبد سراً، أما والله لئن فعلتم ذلك إنّه لخير لي ولكم، وأبى الله عزّوجلّ لنا ولكم في دينه إلاّ التقية) فهذا الكلام صريح في التفسير الذي نحن ذكرناه(1).

ومنها: أنّه قد فرض في الحديث إحراز السامع مراد الإمام من كلا الحديثين، وأنّه عرف التخالف بينهما، حيث يقول: (حدّثتك بخلافه) او يقول: (أخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك)، وهذا معناه قطعية الظهور، كما أنّ المفروض قطعية الصدور، وعند قطعية الصدور والظهور معاً لا إشكال في تقديم ما يخالف العامّة، لا ما هو الأحدث، فإنّه مع قطعية الصدور والظهور يحصل القطع العرفي بأنّ ما وافق العامّة كان تقية، وما خالف العامة كان هو الواقع.

والخلاصة: أنّ هذه الروايات مسوقة مساق روايات اُخرى واردة بصدد لزوم العمل على التقية، والإثم في ترك التقية ونحو ذلك، من قبيل ما عن أبي عبيدة، عن أبي جعفر (عليه السلام)قال: «قال لي: يا زياد ما تقول لو افتينا رجلا ممّن يتولاّنا بشيء من التقية؟ قال: قلت له: أنت أعلم جعلت فداك، قال: إن أخذ به فهو خير له وأعظم أجراً»، قال: وفي رواية اُخرى: «إن أخذ به أُجر، وإن تركه والله أثم»(2).

وما عن نصر الخثعمي قال: «سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: من عرف أنّا لا نقول إلاّ حقّاً فليكتفِ بما يعلم منّا، فإن سمع منّا خلاف ما يعلم فليعلم أنّ ذلك دفاع منّا عنه»(3).

 

الطائفة الثالثة: ما تأمر بالارجاء والوقوف: وهي مقبولة عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث... إلى آخر الحديث الذي يأتي ـ إن شاء الله ـ في أخبار الترجيح، حيث إنّه يذكر فيه عدّة مرجّحات، ولو كنّا نحن وما فيه من المرجّحات لقلنا: إنّها تقيّد أخبار التخيير، ولا تعارضها، إلاّ أنّه جاء في ذيل الحديث بعد فرض عدم شي من تلك المرجّحات: إذا كان ذلك فأرجه حتّى تلقى إمامك،


(1) وكذلك يشهد لذلك ما في ذيل رواية المعلّى بن خنيس من قوله (عليه السلام): إنّا والله لا ندخلكم إلاّ فيما يسعكم.

(2) الوسائل: ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 2، ص 76.

(3) نفس المصدر: ح 3.

701

فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات(1)، وهذا ينافي أخبار التخيير؛ لأنّ مفاده الإرجاء والتوقّف، وينافي مقتضى القاعدة؛ لأنّ مقتضى القاعدة هو رفع اليد عن الخبرين والرجوع إلى القواعد والأدلّة الاُخرى، لا التوقّف في العمل والإرجاء حتّى يلقى الإمام.

وعلى أيّ حال، فهذا الحديث من حيث الدلالة سوف يأتي البحث عنه ـ إن شاء الله ـ في أخبار الترجيح.

وأمّا من ناحية السند فعمر بن حنظلة لم يوثّق في كتب الرجال، ولكنّنا نثبت وثاقته بناءً على ما حقّق في محلّه من كفاية نقل أحد الثلاثة عن أحد لإثبات وثاقته، وهم ابن أبي عمير، والبزنطي، وصفوان بن يحيى، فإنّه وإن لم يروِ أحد منهم عن عمر بن حنظلة، ولكن قد روى يزيد بن خليفة أنّه قال للإمام(عليه السلام): إنّ عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت، فقال: (إذاً لا يكذب علينا)(2) فهذا توثيق من قبل الإمام الصادق (عليه السلام) لعمر بن حنظلة، والراوي لهذا الحديث وهو يزيد بن خليفة لم يوثق لكن قد روى عنه صفوان بن يحيى على ما جاء بسند معتبر في الكافي في باب كفارة الصوم وفديته(3).

 

أخبار الترجيح

 

وأمّا البحث الثالث: وهو في ما قد يجعل مقيِّداً لأخبار التخيير، وهي أخبار الترجيح فنحن نجعل محور الكلام في ذلك رواية الشيخ الراوندي في رسالة ألّفها في أحوال أحاديث أصحابنا وإثبات صحّتها عن محمّد وعليّ ابني عليّ بن عبد الصمد، عن أبيهما، عن أبي البركات عليّ بن الحسين، عن أبي جعفر بن بابويه، عن أبيه، عن سعد بن عبدالله، عن أيّوب


(1) نفس المصدر: ح 1.

(2) الوسائل: ج 3، ب 10 من المواقيت ح 1، ص 114، وبحسب طبعة آل البيت ج 4، ص 156.

(3) ح 6، ص 144، ج 4 بحسب طبعة الآخوندي والحديث ما يلي، ابو علي الاشعري، عن محمّد بن عبدالجبّار، عن صفوان بن يحيى، عن يزيد بن خليفة، قال: «شكوت إلى أبي عبدالله (عليه السلام)فقلت: إنّي اصدع إذا صمت هذه الثلاثة الأيّام ويشقّ عليّ، قال: فاصنع كما أصنع إذا سافرت، فإنّي إذا سافرت تصدّقت عن كلّ يوم بمدّ من قوت أهلي الذي أقوتهم به.

والحديث موجود في الوسائل: ج 7، ب 11 من الصوم المندوب، ح 2، ص 317، وبحسب طبعة آل البيت ج 10، ص 433.

702

بن نوح، عن محمّد بن أبي عمير، عن عبدالرحمن بن أبي عبدالله، قال: «قال الصادق (عليه السلام): إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعر ضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردّوه، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعر ضوهما على أخبار العامّة، فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه»(1).

والكلام في ذلك يقع في ثلاث جهات:

أوّلا: في السند.

وثانياً: في الدلالة.

وثالثاً: في نسبتها مع باقي روايات الترجيح، فلو كان فيها ما يقتضي تخصيص رواية الراوندي به خصّصناها به، ولو كان العكس خصّصناه بالرواية، ولو كان فيها ما يعارضها عالجنا التعارض.

 

اما الجهة الاُولى، وهي في سند الرواية:

فقد يستشكل في سندها بعدة إشكالات:

الأشكال الأوّل: دعوى: أنّ احتمال وجود كتاب لقطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي في أحوال أحاديث أصحابنا الذي أخذ منه صاحب الوسائل هذه الرواية احتمال موهون في نفسه بنحو لا يعوّل عليه؛ وذلك لأنّ اثنين من تلامذة الشيخ الراوندي ترجماه، واستعرضا ماله من مؤلفّات، وهما ابن شهر اشوب في معالم العلماء(2) ومنتجب الدين في فهرسته المعروف(3). وأحدهما(4) أطنب في الترجمة، ولم يذكرا هذا الكتاب، فهذا يبعّد ثبوت هذا الكتاب له.

ويُسنِد هذا التبعيد ويعزّزه ما أبداه جملة من العلماء كالشيخ أسد الله التستري (رحمه الله)من احتمال أن تكون هذه الكتب الإضافية المنسوبة إلى الشيخ الراوندي هي في واقعها للسيّد


(1) الوسائل: ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 29، ص 84 ـ 85، وبحسب طبعة آل البيت ج 27، ص 118.

(2) راجع معجم الرجال: ج 8، ص 93 ترجمة سعيد بن هبة الله، رقم التسلسل 5070.

(3) راجع نفس المصدر.

(4) وهو منتجب الدين.

703

الراوندي المعاصر للشيخ الراوندي المعروف، ونسب إليه اشتباهاً(1).

إلاّ أن هذا الإشكال غير تامّ، بمعنى أنّه لو فرض أنّ صاحب الوسائل كان له طريق صحيح ينتهي إلى تلميذ من تلامذة الراوندي، وهذا التلميذ ينقل هذا الكتاب عن الراوندي، فعندئذ مجرّد سكوت ابن شهراشوب ومنتجب الدين عن ذكر هذا الكتاب في ترجمة الراوندي لايكفي؛ إذ لعلّ هذا الكتاب وصل إلى تلميذ ثالث ولم يصل إلى التلميذين الأوّلين، خصوصاً إذا فرض كون التلميذ الثالث تلميذاً له بعد تخرّج التلميذين الأوّلين وتركهما للتلمذة، وفرض أنّ الشيخ الراوندي كتب الكتاب بعد انفصال التلميذين عنه، مضافاً إلى أنّه لم يعلم منهما أنّهما في مقام حصر مؤلّفاته، بل لعلّه علم العدم، لأنّ كلا منهما ذكر ما لم يذكره الآخر، فابن شهر آشوب ذكر كتاباً للراوندي في أحوال أولاد العسكريين، ولم يذكر ذلك منتجب الدين ومنتجب الدين ذكر عدّة كتب منها شرح نهج البلاغة، ولم يذكر ذلك ابن شهر آشوب.

وممّا يعزّز إبطال هذا التوهين هو أنّ صاحب البحار ذكر رسالة للراوندي سمّاها رسالة الفقهاء، وقال: إنّها وصلت إليه عن طريق الثقاة(2) وأظنّ أنّها عين الرسالة التي سمّاها صاحب الوسائل بأحوال أحاديث أصحابنا؛ لأنّ أصحابنا هم الفقهاء، فكأنّ هذه الرسالة لم يكن لها اسم، فكلّ واحد سمّاها باسم.

ولو فرض كون هذه الرسالة رسالة مختصرة لا اسم لها، فأيّ استبعاد في أن يجهلها التلميذان، أو يغفلاها، أو يتركا ذكرها؟!


(1) أقول: وجدت في كتاب البحار للمجلسي (رحمه الله) ج 1، ص 12 التشكيك في كون كتاب قصّص الأنبياء للشيخ سعيد بن هبة الله الراوندي، واحتمال كونه للسيّد فضل الله الراوندي، ونصّ كتاب البحار مايلي: «وكتاب قصص الأنبياء له (يعني: للشيخ سعيد بن هبة الله) أيضاً، على ما يظهر من أسانيد الكتاب، واشتهر أيضاً، ولا يبعد أن يكون تأليف فضل الله بن عليّ بن عبيد الله الحسني الراوندي، كما يظهر من بعض أسانيد السيد بن طاووس، وقد صرّح بكونه منه رسالة النجوم، وكتاب فلاح السائل...»

وجاء في كتاب رياض العلماء، ج 2، بعد نقله لما مضى من عبارة البحار ما نصّه في ص 429: «وأقول: لكن قد صرّح ابن طاووس نفسه ـ أيضاً ـ في كتاب مهج الدعوات بأن كتاب قصص الانبياء تأليف سعيد بن هبة الله الراوندي، والقول بأن لكلّ منهما كتاباً في هذا المعنى ممكن، لكن بعيد فتأمّل».

وأيضاً نسب في البحار: ج 2، ص 12 كتاب اللباب وكتاب شرح نهج البلاغة، وكتاب أسباب النزول إلى السيد الراوندي لا الشيخ الراوندي، وأبدى صاحب الرياض تأمّله في ذلك في ج 2، ص 429.

(2) راجع البحار: ج 2، ص 235، ح 17 من ب 29 من كتاب العلم.

704

وأيضاً ممّا يؤيّد ردّ هذا الإشكال أنّ كتاب قصص الأنبياء الذي هو أحد الكتب الإضافية التي ألحقها صاحب الوسائل، والتي شكّك في نسبتها إلى الراوندي، وادّعيت نسبتها إلى غيره قد صرّح ابن طاووس في مهج الدعوات بأنّه لسعيد بن هبة الله الراوندي.

الإشكال الثاني: أنّ طريق صاحب الوسائل إلى هذا الكتاب للراوندي غير معلوم، فإنّ صاحب الوسائل ذكر في خاتمة الوسائل طريقه إلى قصص الأنبياء وكتاب الخرائج والجرائح للراوندي، ولكن لم يذكر طريقه إلى هذه الرسالة.

وهذا الإشكال ـ أيضاً ـ يمكن الجواب عنه بضمّ كلامين لصاحب الوسائل أحدهما إلى الآخر:

الأوّل: سنده إلى قصص الأنبياء والخرائج والجرائح للراوندي، حيث قال: نروي كتاب الخرائج والجرائح وكتاب قصص الأنبياء لسعيد بن هبة الله الراوندي بالإسناد السابق عن العلاّمة الحسن بن المطهّر، عن والده، عن الشيخ مهذّب الدين الحسين بن ردّة، عن القاضي أحمد بن عليّ بن عبد الجبار الطبرسي، عن سعيد بن هبة الله الراوندي(1). وهذا سند تام معتبر.

والثاني: ما ذكره بالنظر إلى جميع طرقه التي نقلها في آخر الوسائل من قوله: ونروي باقي الكتب بالطرق السابقة(2) فإنّ العرف يفهم بمناسبات التحويل والمحوّل عليه أنّ طريق باقي الكتب المنسوبة إلى المؤلّف الذي ذكر له طريقاً إلى مؤلفاته إنّما هو نفس ذاك الطريق المصرّح به هناك، وممّا يعزّز ذلك هو طريق العلاّمة إلى سعيد بن هبة الله الراوندي في إجازته المعروفة التي أحصت عداداً كبيراً من علماء الشيعة، ففي تلك الإجازة المعروفة لآل زهرة ذكر طرقه إلى كتب الشيعة وإلى كتب السنّة أيضاً، وقال بأنّه يروي جميع كتب سعيد بن هبة الله الراوندي بالطريق الفلاني وهو عين الطريق الذي ذكره صاحب الوسائل بواسطة العلاّمة إلى قصص الأنبياء والخرائج والجرائح، والمفروض أنّ صاحب الوسائل أخبر بأنّ هذا هو أحد كتب سعيد بن هبة الله الراوندي، فهذا يعزّز كون طريق صاحب الوسائل إلى هذا الكتاب نفس الطريق.

الإشكال الثالث: أنّ هذه الرواية بناءً على هذا الطريق قد وصلت إلى الشيخ الحرّ عن


(1) الوسائل: ج 20، ص 57، وبحسب طبعة آل البيت ج 30 ص 184.

(2) نفس المصدر: ص 61، أو ص 179 بحسب اختلاف الطبعتين المشار إليهما.

705

طريق العلاّمة ووالد العلاّمة وأمثالهم من علمائنا، بينما نحن لا نرى أنّ هذه الرواية قد انعكست في كتبهم بشكل من الإشكال، فلا نراها في تهذيب الاُصول للعلاّمة، ولا في كتب المحقّق اُستاذ والد العلاّمة، فكيف يفرض أنّ هذه الرواية يتلقّاها صاحب الوسائل من تسلسل علمائي يقع فيه أو يقع على مقربة قريبة جدّاً منه العلاّمة والمحقّق وأمثالهما، ثمّ لا يرى أثر في كتبهم منها، فهذا ـ أيضاً ـ يضعّف شأن هذا الكتاب، ويوجب الاطمئنان بأنّ هذا الكتاب لم يكن في أيدي العلاّمة والمحقّق وقتئذ، إذن فلا يمكن التعويل عليه.

إلاّ أنّ هذا الإشكال ـ أيضاً ـ قابل للرّد؛ وذلك لأنّ هذه الرواية وإن كنّا لا نجدها في كتب العلاّمة، ولا في كتب المحقّق، إلاّ أنّ عدم وجدانها لا يدلّ على أنّهم لم يجدوها أصلا، وإلاّ فالعلاّمة والمحقّق لم يذكرا أكثر روايات الباب، لا هذه الرواية فقط، وقد اقتصر شيخنا المحقّق في معارجه على أن قال (إذا كان احد الخبرين المتعارضين مخالفاً للكتاب دون الآخر قدّم ما كان غير مخالف على ما كان مخالفاً؛ لأنّ المخالف لو لم يكن له معارض لا يكون حجّة، فكيف مع وجود المعارض. وأمّا إذا كان أحدهما مخالفاً للعامّة دون الآخر فقد قال شيخنا أبو جعفر ـ يعني الشيخ الطوسي(رحمه الله): إنّه يقدّم ما خالف العامّة على ما وافق العامّة عملا منه بأخبار الآحاد في المقام، وإثباتاً منه للمسألة العلمية بأخبار الآحاد) هذا هو المقدار الذي اقتصر عليه الشيخ المحقق (رحمه الله)، إذن فسكوتهم عن هذه الرواية مع هذا الوضع العمومي لا يدلّ على أنّهم لم يعثروا على هذه الرواية، فهذا الإشكال الثالث غير وارد أيضاً.

الإشكال الرابع: ينصبّ على من هو فوق سعيد بن هبة الله الراوندي من الوسائط المتخلّلة بينه وبين الإمام (عليه السلام) حيث إنّ الرواية جاءت هكذا: سعيد بن هبة الله الراوندي في رسالته التي ألّفها في أحوال أحاديث أصحابنا وإثبات صحّتها عن محمّد وعليّ ابني عليّ بن عبدالصمد، عن أبيهما، عن أبي البركات عليّ بن الحسين، عن أبي جعفر بن بابويه ـ يعني الصدوق (رحمه الله) ـ، عن أبيه، عن سعد بن عبدالله، عن أيّوب بن نوح، عن محمّد بن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن أبي عبدالله قال: قال الصادق (عليه السلام)... الخ. والسند كلّه واضح، إلاّ أنّه يثار في المقام إشكال من ناحية أنّ الراوندي ينقل ـ على ما في هذا السند ـ عن محمّد وعليّ ابني علي بن عبدالصمد، فقد يقال: إنّ محمداً وعليّاً هنا ليسا ابني عليّ بن عبدالصمد، وإنما هما ابنا عبدالصمد، وذلك باعتبار أنّ محمّداً وعليّاً ابني عبد الصمد شخصان معروفان يعتبران من مشايخ ابن شهر آشوب، ومن اساتذته الذين يروي عنهم، وقد وقعا في طريق صاحب الوسائل أيضاً، بينما لم يقع محمّد وعليّ ابنا عليّ بن عبد الصمد في طريق صاحب الوسائل

706

بشكل من الأشكال أصلا، ولم يقعا في طرق الإجازات المتعارفة، ومن البعيد أن يكون الشيخ الراوندي يروي عن أولاد عليّ بن عبد الصمد في حين أنّ ابن شهر آشوب الذي هو في الطبقة المتأخّرة عن الراوندي في الجملة ويروي عن الراوندي يروي عن نفس عليّ بن عبد الصمد، فبهذه المناسبات يقوى احتمال أنّ هناك خطأً، وأن يكون السند محمّداً وعليّاً ابني عبد الصمد وهما وإن كان لا اشكال في وثاقتهما وعلمهما وفقههما، إلاّ أنّ الإشكال في أبيهما؛ لأنّ عبد الصمد غير معلوم في المقام، فيسقط سند الرواية عن الحجّيّة.

وهذا الإشكال ـ أيضاً ـ غير وارد؛ لأنّ من الواضح أنّ سعيد بن هبة الله الراوندي إنّما يروي عن محمّد وعليّ ابني عليّ بن عبد الصمد، لا محمّد وعليّ ولدي عبد الصمد، وقد تكرّر ذلك في كتاب قصص الأنبياء على ما يبدو من كتاب رياض العلماء، حيث إنّ مؤلّف كتاب رياض العلماء يأخذ مقتطفات من كتاب قصص الأنبياء ويتكرّر هذا السند كثيراً في تلك المقتطفات، وهو محمّد وعليّ ابنا عليّ بن عبد الصمد، وقد ذكر في ترجمة سعيد بن هبة الله الراوندي في كلام جملة من العلماء حينما ذكرت مشايخه عنوان محمّد وعليّ ابني عليّ بن عبد الصمد، لا محمد وعلي ابنا عبد الصمد(1).

وهنا كأنّه يوجد تشويش من ناحية تشابه الأسماء، وهنا أذكر عبارة أمل الآمل، ثمّ أُبيّن بعد ذلك ما هو الصحيح في رفع التشويش:

إنّ الشيخ الحرّ (رحمه الله) ترجم في أمل الآمل عدّة أشخاص فقال: محمّد بن عليّ بن عبد الصمد النيسابوري فاضل جليل من مشايخ ابن شهر آشوب(2).

وقال: محمّد بن عبد الصمد النيسابوري عالم فاضل جليل القدر من مشايخ ابن شهر آشوب(3).

وقال: عليّ بن عليّ بن عبد الصمد التميمي النيسابوري فقيه ثقة قرأ على والده وعلى ابن الشيخ الطوسي(4).

وقال: الشيخ علي بن عبدالصمد التميمي السبزواري فقيه ديّن ثقة قرأ على الشيخ أبي


(1) راجع كتاب رياض العلماء: ج 2، ص 426 ـ 437.

(2) أمل الآمل: ج 2، ص 287.

(3) نفس المصدر: ص 278.

(4) نفس المصدر: ص 194.

707

جعفر ( يعني الصدوق) قاله منتجب الدين(1).

وقال: الشيخ أبو الحسن عليّ بن عبد الصمد النيسابوري التميمي فاضل عالم يروي عنه ابن شهر آشوب، ولا يبعد اتحاده مع التميمي السبزواري السابق، بل الظاهر ذلك(2).

هذه كلمات أمل الآمل.

والظاهر في المقام: أنّ سلسلة نسب هذه الأسماء المتشابهة هي بهذا النحو:

يوجد عندنا محمّد وعليّ ابنا عبد الصمد، وهما شيخان معروفان لابن شهر آشوب، وأبوهما عبد الصمد. وعبد الصمد له أب وأعمام، فعمّه هو محمّد بن عليّ بن عبد الصمد، وأبو عبد الصمد: إما هو عليّ بن عليّ بن عبد الصمد، أو إنّ هذا عمّ آخر له. وعلى أيّ حال، فجدّ عبد الصمد هو عليّ بن عبد الصمد.

اذن فهنا شخص اسمه عليّ بن عبد الصمد، هو جدّ الاُسرة، وهو فقيه جليل، شخّصنا أنّه في طبقة الشيخ الطوسي، والسيّد المرتضى، وهو يروي عن الصدوق بواسطة واحدة فيما أطلعنا عليه(3)، لكنْ نقل أنّه يروي عن الصدوق بلا واسطة أيضاً(4). وهذا عليّ بن عبد الصمد له ثلاثة أولاد كلّهم علماء: محمّد بن عليّ بن عبد الصمد، وعليّ بن عليّ بن عبد الصمد، والحسين بن عليّ بن عبد الصمد(5) هؤلاء من الطبقة الأولى من أولاده، ومحمّد وعليّ ابنا عليّ بن عبد الصمد هما شيخان للراوندي وحفيد عليّ بن عبد الصمد الذي قلنا: إنّ اسمه عبد الصمد، لا ندري هل هو ابن عليّ من أولاده، أو ابن الحسين من أولاده، أو ابن رابع لم يذكر، لكنّنا ندري أنّه ليس ابن محمّد(6) من أولاده؛ لأنّه يعبّر عنه ابنه بأنّه عمّ أبيه(7)، وهذا الحفيد الذي اسمه عبد الصمد له ولدان: أحدهما محمّد، والآخر عليّ، وهما


(1) نفس المصدر: ص 192.

(2) نفس المصدر: ص 192.

(3) قال في رياض العلماء: ج 4، ص 111: يروي عن الصدوق بتوسّط السيّد أبي البركات عليّ بن الحسين الحسيني العلوي الخوزي.

(4) لعلّ هذا إشارة إلى ما مضى من أمل الآمل من قوله: قرأ على الشيخ أبي جعفر.

(5) ورد الحسين هذا في أمل الآمل: ج 2، ص 99، وورد ذكر الأولاد الثلاثة معاً في رياض العلماء: ج 4، ص 112.

(6) في حين أنّ عليّ بن عبد الصمد الذي هو جدّ الاُسرة كان أبوه يسمّى بمحمّد، راجع رياض العلماء: ج 4، ص 111.

(7) ورد هذا التعبير عن لسان عليّ بن عبد الصمد في رياض العلماء: ج 4، ص 112.