357

ونحن قد فرغنا من أنّ اختصاص الغرض والملاك والشوق بدائرة العالمين أمر ممكن وجداناً، بل برهنّا على ذلك بالبيانين اللذين مضيا منّا لطريق الوصول إلى الغرض، أمّا وصول المولى إلى غرضه في اختصاص الحكم بدائرة العالمين عن طريق هذا البيان المرويّ عن الشيخ النائينيّ(قدس سره)، فأمر غير ممكن.

 

أخذ العلم مانعاً عن متعلّقه

المقام الثاني: في أخذ العلم بالحكم مانعاً عن متعلّقه، وجعل عدمه موضوعاً لذلك الحكم، وقد خلطوا بينه وبين أخذ العلم شرطاً في متعلّقه، فساقوهما بمساق واحد، وبرهنوا في كليهما ببرهان واحد، واختاروا الاستحالة. ومن هنا اتّجه الإشكال في أمرين:

الأوّل: ما أفاده الشيخ الأعظم(قدس سره) في مقام توجيه كلام الأخباريّين القائلين بعدم جواز اتّباع القطع الحاصل من طريق العقل، حيث ذكر الشيخ الأعظم(رحمه الله): أنّه من الممكن للأخباريّين أن يدّعوا كون القطع الحاصل من طريق العقل مانعاً عن الحكم، فبحصول هذا القطع ينتفي الحكم، ولا يلزم من ذلك الردع عن حجّيّة القطع الطريقىّ الذي هو محال.

والثاني: رواية أبان المعروفة في ديّة أصابع المرأة حيث ورد أنّه قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع المرأة كم فيها؟ قال: عشرة من الإبل. قلت: قطع اثنتين؟ قال: عشرون. قلت: قطع ثلاثاً؟ قال: ثلاثون. قلت: قطع أربعاً؟ قال: عشرون. قلت: سبحان الله! يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون؟! إنّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق، فنبرأ ممّن قاله، ونقول: الذي جاء به شيطان. فقال: مهلاً يا أبان، هذا حكم رسول الله(صلى الله عليه وآله): إنّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الديّة، فإذا بلغت الثلث، رجعت إلى النصف. يا أبان، إنّك أخذتني بالقياس، والسنّة إذا قيست، محق الدين»(1).

فظاهر هذه الرواية: أنّ أباناً كان قاطعاً بأنّ قطع الإصبع الرابع لا يوجب تخفيف الديّة؛


(1) الوسائل ج 19 باب 44 من أبواب ديّات الأعضاء ح 1 ص 268.

358

ولذا قال: إنّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق، فنبرأ ممّن قاله، ونقول: الذي جاء به شيطان، فالإمام(عليه السلام) ردعه عن هذا القطع بكونه حاصلاً من القياس، وأنّ السنّة إذا قيست، محق الدين، فهذا الحديث ـ أيضاً ـ نظير كلام الشيخ الأعظم(قدس سره) في جعل القطع مانعاً عن الحكم.

ووجّه المحقّق النائينىّ(رحمه الله) هذه الرواية وكلام الشيخ الأعظم(قدس سره) بمسلكه الذي مضى: من التقييد بواسطة متمّم الجعل.

والسيّد الاُستاذ سجّل الإشكال على الشيخ الأعظم، وأمّا الرواية فردّها بضعف السند، وبالنقاش في دلالتها: بأنّ من المحتمل أنّ أباناً لم يكن حصل له القطع بالحكم، وإنّما حصل له الظنّ(1).

أقول: التحقيق: أنّ هذه الرواية أجنبية عمّا نحن فيه: من مانعيّة القطع عن الحكم؛ فإنّ كون القطع مانعاً إنّما يتصوّر فيما إذا كان الحكم ثابتاً في الواقع، لكنّه كان مقيّداً بعدم القطع عن هذا الطريق. وأمّا في مورد الرواية، فالمفروض فيها عدم ثبوت الحكم الذي تخيّله أبان سواء قطع هو بثبوته، أوْ لا ؛ فإنّ المرأة ـ بحسب ما في هذه الرواية ـ تعاقل الرجل في الديّة إلى الثلث، وبعد ذلك ترجع ديّتها إلى النصف، وببالي ـ إن لم تخنّي الذاكرة ـ أنّي ذكرت هذا البيان للسيّد الاُستاذ، فعدل عن فرض كون الرواية واردة فيما نحن فيه.

وعلى أىّ حال، فهذه الرواية لا تنطبق على مسألة أخذ القطع مانعاً عن متعلّقه


(1) جاء في مصباح الاُصول النقاش في هذه الرواية:

أوّلاً: بضعف السند.

وثانياً: بأنّه لادلالة على كون أبان قاطعاً بذلك، فلعلّه كان مطمئنّاً به، وتعجّبه الذي كان يبرزه بقوله: (كنّا نقول من جاء به شيطان) لا يدلّ على أكثر من ذلك.

وثالثاً: بأنّ الإمام(عليه السلام) (على تقدير فرضه قاطعاً) قد أزال قطعه ببيان الواقع، لا أنّه ردعه عن العمل بقطعه مع فرض بقاء القطع على حاله.

أقول: إشكال ضعف السند غريب في المقام؛ فإنّ سنده واضح الصحّة، وهو كما جاء في الوسائل مايلي: محمّد بن يعقوب، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه وعن محمّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعاً، عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجّاج، عن أبان بن تغلب. ورواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن محمّد ابن أبي عمير. ورواه الصدوق بإسناده عن عبد الرحمن بن الحجّاج مثله.

359

أصلاً،(1) وإنّما تنطبق على الردع عن حجّيّة القطع الطريقىّ، أو سلب القطع من نفس أبان تكويناً، أو بيان أنّه لم يكن ينبغي له حصول القطع بذلك؛ لأنّ دين الله لا يصاب بالعقول، وأنّ القياس يمحق الدين.

وأمّا كلام الشيخ الأعظم(قدس سره) فتصحيحه يكون بتحقيق أصل المطلب، وبيان عدم استحالة أخذ القطع بالحكم مانعاً عن متعلّقه، وأنّ قياسه بأخذ القطع شرطاً لمتعلّقه قياس مع الفارق. وشرح الكلام في ذلك: أنّ أخذ القطع بالحكم مانعاً عن متعلّقه يتصوّر بوجهين:

الأوّل: أخذ القطع بالجعل مانعاً عن المجعول، وقد عرفت أنّ أخذ القطع بالجعل شرطاً للمجعول ممكن فضلاً عن أخذه مانعاً.

الثاني: أخذ القطع بالمجعول مانعاً عنه.

والتحقيق: أنّ هذا ـ أيضاً ـ ممّا لااستحالة فيه، ولا يأتي هنا شيء من الإشكالات التي مضى ذكرها في أخذ القطع بالحكم شرطاً لمتعلّقه، وهي أربعة:

الأوّل: الدور ببيان أنّ العلم بالحكم متوقّف على الحكم، فلو اُخذ في موضوعه، وتوقّف الحكم عليه، لزم الدور.

وأنت ترى أنّ هذا الإشكال لا يرد في المقام؛ إذ لو سلّم توقّف العلم بالحكم على نفس


(1) لايخفى أنّ من يحمل هذه الرواية على أخذ القطع القياسىّ مانعاً عن متعلّقه، ليس مقصوده كون القطع القياسىّ ـ دائماً ـ مطابقاً للواقع في حدّ ذاته، إلّا أنّه يمنعه ويفنيه؛ فإنّ هذا واضح البطلان، وإنّما مقصوده من مانعيّة القطع القياسىّ هو: أنّه لو كان الحكم الذي قطع به ثابتاً في نفسه، لزال بهذا القطع، وصدق هذه القضيّة الشرطيّة في مورد الرواية لا ينافي عدم صدق الشرط فيه كي يجعل انتفاء الحكم من أصله في مورد الرواية دليلاً على كون الرواية أجنبيّة عمّا نحن فيه.

ولعلّ مقصود اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): مجرّد بيان أنّ الرواية لا دلالة فيها على مانعيّة القطع القياسىّ عن الحكم ما دمنا نعلم أنّ المفروض في مورد الرواية انتفاء الحكم من أصله، ولعلّ حمل المحقّق النائينىّ(رحمه الله) للرواية على مانعيّة القطع من الحكم كان لأجل علاج ما قد يفهم منه من الردع عن القطع الطريقىّ الناشئ من القياس، فبما أنّ الردع عن القطع الطريقىّ مستحيل كان هذا قرينة عند المحقّق النائينىّ على إرادة مانعيّة القطع القياسىّ التي يمكن تحقيقها في رأي المحقّق النائينىّ بمتمّم الجعل.

ولكن يرد عليه عندئذ: أنّ صرف الرواية عن الردع عن القطع الطريقىّ لا يحصر أمر الرواية بالحمل على مانعيّة القطع القياسىّ، ولا يوجب ظهورها في ذلك، بل يمكن حملها على إرادة إفناء قطع أبان تكويناً، أو مجرّد بيان أنّ هذا القطع لم يكن في محلّه.

360

الحكم، فمن الواضح: أنّ عدم العلم بالحكم لا يكون متوقّفاً عليه(1).

الثاني: لزوم التهافت بين طبيعة العلم وطبيعة المعلوم؛ إذ العلم إنّما يكشف عمّا فرض ثبوته بقطع النظر عنه، في حين أنّ الحكم المشروط بالعلم ليس ثابتاً بقطع النظر عن العلم.

ومن الواضح: أنّ هذا الوجه ـ أيضاً ـ لا يأتي في المقام؛ إذ الحكم مشروط هنا بعدم العلم لا بالعلم، فإذا علمنا بهذا الحكم المشروط، كان هذا الحكم ثابتاً بقطع النظر عن العلم، ولا تكون طبيعته متنافية مع طبيعة العلم.

الثالث: ثبوت المحرّك المولوىّ بقطع النظر عن ثبوت الحكم؛ لأنّ موضوعه هو العلم بالحكم، وهذا العلم كاف في التحريك سواء ثبت الحكم، أو لا، ولو ثبت الحكم لم يزد في التحريك شيئاً؛ إذ هو نفس الحكم الذي اُخذ انكشافه مفروغاً منه في مرحلة موضوعه لا حكم آخر.

وهذا الوجه ـ أيضاً ـ لا إشكال في عدم جريانه في المقام؛ لأنّ موضوع الحكم هنا عدم العلم، وليس العلم حتّى تتمّ المحركيّة المولويّة في مرحلة الموضوع.

الرابع: لزوم الدور في مرحلة الوصول؛ لأنّ العلم بالحكم متوقّف على العلم بموضوعه الذي هو العلم بالحكم على الفرض، فالعلم بالحكم يتوقّف على العلم بالعلم بالحكم، وهذا يوجب الدور، أو ما هو روح الدور من توقّف الشيء على نفسه؛ لأنّ العلم بالعلم: إمّا هو عين العلم الأوّل كما هو الصحيح، أو متوقّف عليه كما مضى بيانه.

وهذا ـ أيضاً ـ لا يأتي في المقام كما هو واضح؛ لأنّ موضوع الحكم هنا هو عدم العلم به عن طريق العقل مثلاً، وهو غير العلم، وغير متوقّف على العلم، فلا يلزم الدور، ولا توقّف الشيء على نفسه.


(1) وبهذا يبطل ـ أيضاً ـ إشكال تقدّم الشيء على نفسه في منظار الجعل المنقول عن المحقّقالنائينىّ(رحمه الله). ونحن لا نقبل فكرة كون النقيضين في رتبة واحدة، وكون انقسام الحكم إلى فرض العلم به وعدمه من الانقسامات اللاحقة لو استلزم كون العلم بالحكم متأخّراً عن الحكم لا يستلزم كون عدم العلم به ـ أيضاً ـ متأخّراً عنه؛ فإنّ تأخّر الانقسام لا يستلزم تأخّر كلا القسمين.

361

وهنا وجهان آخران لتوهّم الاستحالة يختصّان بفرض مانعيّة العلم عن الحكم، ولا يشملان فرض شرطيّته له.

الأوّل: أنّ الحكم إنّما يجعل لكي يكون محرّكاً بالوصول، وفيما نحن فيه قد خنق وصوله ومحرّكيّته في مهده؛ لأنّ موضوعه هو عدم العلم به، فبمجرّد وصوله ينتفي بانتفاء موضوعه.

وهذا الإشكال إنّما يتوهّم وروده فيما لو فرض مطلق العلم بالحكم مانعاً عنه دون علم خاصّ به، كالعلم الناشئ عن طريق العقل مثلاً، وإلّا لكان الحكم قابلاً للوصول بغير ذاك الطريق.

والواقع أنّه حتّى لو فرض مطلق العلم بالحكم مانعاً عنه، لا يرد هذا الإشكال؛ وذلك لإمكان وصول الحكم بحجّة شرعيّة غير علميّة(1). نعم، لو اُخذ مطلق وصوله ولو بحجّة شرعيّة مانعاً عنه،ثبت الإشكال.

الثاني: أنّه لو اُخذ عدم حصول العلم عن طريق العقل ـ مثلاً ـ موضوعاً للحكم، لزم عدم إمكان وصول هذا الحكم إلى من علم بالحكم عن هذا الطريق، فيكون جعل هذا الحكم بشأن هذا الشخص مستحيلاً، نظير استحالة جعل الحكم في حقّ المتجرّي بما هو متجرّ؛ لاستحالة وصوله إليه.

والجواب: أوّلاً: أنّ الحكم إنّما يشترط فيه قابليّة الوصول إلى من جعل في حقّه، ويكون موضوعاً له، ومن علم بالحكم عن طريق العقل ليس موضوعاً له بحسب الفرض، وإنّما جعل الحكم بشأن غيره، وهو قابل للوصول إلى من جعل له هذا الحكم، وهذا بخلاف الحكم المجعول على المتجرّي بعنوان التجرّي؛ فإنّ موضوعه هو نفس المتجرّي المفروض عدم إمكان وصول الحكم إليه.

وثانياً: أنّه إذا اُخذ العلم بشخص الحكم مانعاً عن ذلك الحكم، استحال تحقيق المانع


(1) طبعاً من دون أن تقوم تلك الحجّة مقام القطع الموضوعىّ في مانعيّته عن الحكم.

362

في الخارج، فلا يبقى مورد للإشكال بعدم إمكانيّة وصول الحكم إلى من جعل في حقّه؛ وذلك لأنّ شخص هذا الحكم متقوّم بعدم العلم به، وعدم العلم به لا يجتمع مع العلم به كما هو واضح(1).

لايقال: إذا كان حصول هذا المانع مستحيلاً في الخارج، فلا فائدة في أخذه مانعاً.

فإنّه يقال: إنّ استحالة حصوله في الخارج إنّما نتجت من أخذه مانعاً، وهذا بنفسه هو فائدة المانعيّة.

هذا تمام الكلام في معقوليّة أخذ القطع بالحكم مانعاً عنه. أمّا إنّ مقالة الأخباريّين يمكن توجيهها بالحمل على هذا الوجه، أو لا، فهذا ما سنبحثه في بعض الأبحاث الآتية إن شاء الله.

 


(1) أمّا لو لم يفرض أنّ المانع هو العلم بشخص هذا الحكم، بل فرض أنّ المانع هو العلم بالجامع بين الحكم المقيّد بعدم العلم وغير المقيّد به، فهذا خروج عمّا نحن فيه من أخذ العلم بالحكم مانعاً عن متعلّقه، وهذا الفرض ـ أيضاً ـ معقول، ولا يرد عليه لزوم عدم وصول شخص الحكم المقيّد بعدم العلم إلى من جعل في حقّه؛ وذلك لمكان الجواب الأوّل فحسب، وهو: أنّ اللازم في الحكم إنّما هو قابليّته للوصول إلى من جعل في حقّه، لاإلى غيره، وتلك القابليّة ثابتة هنا.

363

 

خاتمة في أقسام الظنّ

 

وفي ختام البحث عن أقسام القطع التي عرفتها نبحث عن مدى تصوّر تلك الأقسام في الظنّ:

إنّ التقسيمات الماضية للقطع كانت باعتبارات ثلاثة:

الأوّل: انقسامه إلى طريقىّ وموضوعىّ على وجه الصفتيّة وعلى وجه الكاشفيّة، وقد عرفت الوجوه الصحيحة لتصوير هذا التقسيم للقطع. أمّا الظنّ فلا إشكال في تصوّر طريقيّته، وكذلك فرض أخذه موضوعاً بما هو صفة. أمّا موضوعيّته بنحو الكاشفيّة، فتتصوّر ـ أيضاً ـ بناءً على تفسير تقسيم الموضوعىّ إلى الصفتىّ والطريقىّ، باعتبار عنوان (له) وعنوان (فيه)؛ فإنّ الظنّ ـ أيضاً ـ مشتمل على هذين العنوانين كالقطع. وأمّا بناءً على التفسير الآخر: وهو كون الموضوعىّ الصفتىّ ما لوحظ فيه بعض لوازمه، والموضوعىّ الطريقىّ ما لم يلحظ فيه ذلك، فهذا التقسيم متصوّر في الظنّ الذي يكون حجّة شرعاً، ولا يجري بالنسبة إلى الظنّ الذي لا يكون حجّة شرعاً إلّا بتأويل.

توضيح ذلك: أنّه إن اُريد بأخذ الظنّ الذي ليس حجّة موضوعاً لحكم بما هو كاشف أخذه موضوعاً بما له من الكشف الشرعىّ، فهذا خلف فرض عدم حجّيّته، وإن اُريد بذلك أخذه موضوعاً بما له من الكشف التكوينىّ الناقص، قلنا: هل المراد أخذ كشفه الناقص موضوعاً بما له من الحدّ العدمىّ، أي: بشرط لا عن المرتبة الأعلى من الكشف، وهي مرتبة القطع، أو المراد أخذ هذا المقدار من الكشف من دون دخل الحدّ العدمىّ في الحكم، فيكون الحكم مترتّباً على القطع أيضاً؛ لأنّ ذاك المقدار من الكشف موجود فيه وإن كان في ضمن كشف أقوى؟

فإن اُريد الأوّل، رجع هذا إلى الظنّ الصفتىّ؛ لأنّ الموضوع لم يكن متمحّضاً في ذات الكشف، وقد اُخذ فيه بعض الصفات المقارنة، وهو الحدّ العدمىّ.

وإن اُريد الثاني، لم يكن ذلك أخذاً للظنّ موضوعاً، بل كان أخذاً للجامع بين الظنّ والقطع موضوعاً، وهذا ما قصدناه بكلمة التأويل.

364

أمّا إذا كان الظنّ حجّة شرعاً، فأخذه موضوعاً بما هو كاشف من دون أن يرجع إلى أخذ الجامع بين القطع والظنّ بمكان من الإمكان؛ وذلك بأن يكون الموضوع الحجّيّة التعبّديّة، ومن المعلوم: أنّ القطع ليس حجّة تعبّداً (1).

الثاني: انقسام الموضوعيّ منه إلى كونه تمام الموضوع، أو جزء الموضوع. وهذا التقسيم كان متصوّراً في باب القطع. أمّا في الظنّ فلا إشكال في أخذه تمام الموضوع، كما لا إشكال في أخذه جزء الموضوع عند ما يكون الجزء الآخر شيئاً آخر غير متعلّقه. أمّا إذا فرض الجزء الآخر عبارة عن متعلّقه وجوداً أو عدماً، فهناك فرق بين الظنّ الذي يكون حجّة شرعاً، والظنّ الذي لا يكون حجّة:

ففي الظنّ الذي يكون حجّة نقول: إنّ من الممكن كون الموضوع مركّباً منه ومن متعلّقه وجوداً، فالجزء الأوّل من الموضوع ثابت بالوجدان، والجزء الثاني ثابت بالتعبّد، ولكن لا يمكن تركّب الموضوع منه ومن متعلّقه عدماً؛ لأنّ هذا الموضوع يستحيل وصوله إلى المكلّف؛ إذ لو كان الظنّ حجّة، فكيف يتصوّر ثبوت عدم متعلّقه عند المكلّف؟! ولو فرض قيام حجّة شرعيّة لدى المكلّف غير هذا الظنّ على عدم متعلّقه، وقع التعارض بينها وبين هذا الظنّ، وخرج هذا الظنّ عن كونه حجّة.

وفي الظنّ الذي لا يكون حجّة نقول: من الممكن كون الموضوع مركّباً منه ومن متعلّقه وجوداً أو عدماً؛ لإمكان وصول الموضوع بكلا جزئيه إلى المكلّف: أمّا الجزء الأوّل وهو الظنّ، فبالوجدان، وأمّا الجزء الثاني، فإن كان عبارة عن متعلّق الظنّ وجوداً، فيمكن أن يصل بأحد أمرين:

الأوّل: قيام حجّة شرعيّة على طبق ذلك الظنّ.

والثاني: ثبوت حكم شرعىّ على فرض مخالفة ذلك الظنّ للواقع، فيتشكّل ـ عندئذ ـ علم إجمالىّ بفعليّة ذلك الحكم، أو الحكم المترتّب على الظنّ.

وإن كان عبارة عن متعلّق الظنّ عدماً، فدائماً يتشكّل علم إجمالىّ بصحّة متعلّق الظنّ، أو فعليّة الحكم المترتّب على الظنّ، فإن قامت حجّة شرعيّة على خلاف ذلك الظنّ، ثبت


(1) وأمّا إذا فسّرنا الموضوعىّ الطريقىّ بما اُخذ موضوعاً بوصفه داخلاً في جامع الحجّة، والموضوعىّ الصفتىّ بما اُخذ موضوعاً بخصوص ذاته، فمن الواضح: أنّ هذا التقسيم إنّما يجري في الظنّ الحجّة، ولا يجري في غيره.

365

ظاهراً الحكم المترتّب على الظنّ، وإلّا كفى في وصوله نفس ذاك العلم الإجمالىّ.

الثالث: انقسام الموضوعىّ إلى كونه موضوعاً لخلاف متعلّقه، أو ضده، أو مثله، أو نفسه. وقد عرفت بالنسبة إلى القطع ما أمكن منها وما لم يمكن. وأمّا بالنسبة إلى الظن فتارة يقع الكلام في الظنّ الذي يكون حجّة، فلا إشكال في جعله موضوعاً لخلاف متعلّقه كالقطع. ويستحيل جعله موضوعاً لضدّ متعلّقه كالقطع؛ لوقوع التهافت بين حجّيّته والحكم المترتّب عليه. وأمّا جعله موضوعاً لمثل متعلّقه، فبمكان من الإمكان، كما قلنا بإمكانه في باب القطع، بل الإمكان هنا أوضح؛ لأنّ برهان المحقّق النائينىّ(رحمه الله) على الاستحالة لو تمّ هناك لا يأتي هنا، وهو: كون النسبة بين الحكمين عموماً مطلقاً في نظر القاطع؛ فإنّ النسبة هنا بينهما عموم من وجه حتّى في نظر الظانّ؛ فإنّ الظانّ يحتمل خطأ نفسه. وأمّا جعله موضوعاً لنفس متعلّقه شرطاً، فمحال كالقطع؛ لنفس ما كان مختاراً في باب القطع من الوجهين:

الأوّل: لزوم التهافت بين الطبيعتين؛ فإنّ طبيعة الظنّ هو الكشف الناقص عن شيء يرى ثبوته مستقلّاً عن الظنّ وبقطع النظر عنه.

والثاني: أنّ العلم بالحكم متوقّف على العلم بموضوعه الذي هو الظنّ بالحكم بحسب الفرض، والعلم بالظنّ بالحكم هو نفس الظنّ؛ لأنّ الظنّ من المعلومات الحضوريّة لدى النفس، ولا أقلّ من كونه متوقّفاً على الظنّ بالحكم كتوقّف العلم بالمحسوسات على الإحساس، فلزم كون العلم بالحكم معلولاً للظنّ بالحكم بلا واسطة، أو بواسطة العلم بالظنّ، وقد لزم من ذلك العلم باجتماع الضدّين، وهما الظنّ والعلم.

وأيضاً الظنّ بالحكم متوقّف على الظنّ بموضوعه الذي هو الظنّ بالحكم، فالظنّ بالحكم متوقّف على الظنّ بالظنّ، والظنّ بالظنّ محال: أمّا أوّلاً فللزوم الدور، أوالتسلسل، أوخلل بالدماغ الذي هو خارج عن محلّ الفرض، وأمّا ثانياً فلأنّ الظنّ من المعلومات الحضوريّة لدى النفس، فلا يمكن الشكّ فيه. ويأتي تصوير التسلسل في جانب العلم بالظنّ أيضاً.

وإن شئت فقل: إنّ جامع التصديق بالحكم متوقّف على جامع التصديق بالموضوع، والأوّل إمّا أن يفرض في ضمن القطع بالموضوع، أو في ضمن الظنّ به، فهناك صور أربع،

366

على مختلف الصور كما يظهر بالتأمّل، ولعلّ الإشكال هنا أشدّ من بعض الجهات من الإشكال في أخذ العلم شرطاً لمتعلّقه.

وأمّا جعله مانعاً عن متعلّقه، فغير ممكن بخلاف القطع، والفرق بينهما: أنّه في باب القطع ربّما يتعلّق غرض المولى بثبوت الحكم على غير القاطع بشخص الحكم المجعول، إمّا لعدم المقتضي بالنسبة إلى القاطع بشخص الحكم، أو لوجود المانع عن الجعل في حقّه، فيقيّد الحكم بعدم القطع بشخصه حتّى يفيد استحالة تحقّق القطع المانع. أمّا بالنسبة إلى الظنّ الذي جعله حجّة، فكان بإمكانه التوصّل إلى غرضه بعدم جعله حجّة، فجعله أوّلاً حجّة، ثُمّ أخذ الظنّ الذي يكون حجّة مانعاً ليس إلّا تبعيداً للمسافة.

وأمّا الظنّ الذي لا يكون حجّة، فلا إشكال في جعله موضوعاً لخلاف متعلّقه. وأمّا جعله موضوعاً لضدّ متعلّقه، فذهب المحقّق الخراسانىّ(قدس سره) إلى إمكانه بخلاف باب القطع؛ لانحفاظ مرتبة الحكم الظاهرىّ في المقام، وهي الشكّ، فيجمع بين الحكم المظنون والحكم المترتّب على الظنّ بلاإشكال.

وأورد عليه المحقّق النائينىّ والسيّد الاُستاذ: أنّ الجمع بين الحكمين لا يتمّ بمجرّد انحفاظ مرتبة الحكم الظاهرىّ، وإنّما يتمّ إذا كان أحدهما ظاهريّاً والآخر واقعيّاً، أمّا فيما هو المفروض من أخذ الظنّ موضوعاً لحكم واقعىّ، فلايمكن الجمع.

وهذا الإشكال منهم متين على مبناهم في باب الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ.

نعم، يبقى هنا استدراك، وهو: أنّه يمكن جعل الظنّ موضوعاً لضدّ متعلّقه بنحو الشرطيّة، بشرط أن يكون الظنّ جزء الموضوع، ويكون جزؤه الآخر عبارة عن عدم متعلّقه؛ إذ مع فرض كون الموضوع خصوص الظنّ المخالف للواقع لايأتي إشكال اجتماع الضدّين، لافي الواقع، ولا في ظنّ المكلّف. وهذا الحكم الذي هو ضدّ متعلّق الظنّ قابل للوصول إلى المكلّف بدليل شرعىّ يكون حجّة مع الظنّ بالخلاف، أو بنفس العلم الإجمالىّ الذي يتولّد من جعل ذلك الحكم على خصوص الظنّ المخالف، فمثلاً لو جعل الظنّ بوجوب الصلاة بقيد المخالفة موضوعاً لاستحبابها، يحصل للمكلّف علم إجمالىّ بوجوب الصلاة أو استحبابها، وبالتالي يعلم بأصل مطلوبيّتها.

367

وأمّا جعله موضوعاً لمثل متعلّقه، فبمكان من الإمكان، بل الإمكان هنا أظهر من الإمكان في باب القطع وفي باب الظنّ الذي يكون حجّة؛ إذ لا برهان المحقّق النائينىّ (رحمه الله)على الاستحالة يأتي في المقام: وهو كون النسبة بين الحكمين عند القاطع عموماً مطلقاً، ولا برهان السيّد الاُستاذ يأتي في المقام: وهو لزوم اللغويّة؛ لتماميّة المحرّك المولوىّ في المرتبة السابقة؛ وذلك لأنّ المفروض في المقام عدم حجّيّة الظنّ، فلم يتمّ المحرّك. نعم، يأتي هنا ما مضى من البرهان الثالث هناك. وأمّا البرهان الرابع فيأتي هنا من ناحية أن الحكم الأوّل لا يمكن تخصيصه بغير فرض الظنّ به على مبناهم: من استحالة أخذ الظنّ بالحكم مانعاً عن متعلّقه. وأمّا تخصيص الحكم الثاني بغير فرض المصادفة، فلا مانع منه هنا؛ إذ ربّما يصل بقيام حجّة شرعيّة على عدم المصادفة(1).

وأمّا جعله شرطاً لمتعلّقه، فلايمكن؛ لعين ما مضى من الوجهين.

وأمّا جعله مانعاً عن متعلّقه، فبمكان من الإمكان كالقطع، للفرق بينه وبين الظنّ الذي يكون حجّة؛ لأنّ الظنّ الذي يكون حجّة كان من الممكن نفيه خارجاً بعدم جعل الحجّيّة، فجعله حجّة، ثُمّ جعل الظنّ الحجّة مانعاً عن الحكم تطويل للمسافة. وأمّا ذات الظنّ فلا يمكن للمولى بما هو مولى نفيه خارجاً، إلّا بجعله مانعاً.

هذا تمام الكلام في أقسام الظنّ. وإنّما تعرضّنا لهذا البحث مع أنّه لم يقع مثل هذه التقسيمات في الشريعة تأسّياً بالشيخ الأعظم(قدس سره) حيث تعرّض لذلك في ذيل مبحث أقسام القطع.

 


(1) لايخفى أنّه إذا أمكن تخصيص أحد الحكمين، بطل البرهان الرابع، حيث يلتزم في مقابله بتخصيص أحد الحكمين دون الآخر، ولا يلزم من ذلك الترجيح بلامرجّح؛ لأنّ المفروض عدم إمكانيّة تخصيص الحكم الآخر، فتخصيص ما أمكن تخصيصه ليس ترجيحاً بلامرجّح، وهو كاف في رفع إشكال اجتماع المثلين، إذن فلو كنّا نحن والبرهان الرابع في المقام، لكانت النتيجة: أنّه لامانع من جعل الظنّ بالحكم موضوعاً لمثل الحكم، بشرط أن يكون الموضوع خصوص الظنّ المخالف للواقع؛ إذ في فرض المخالفة لايتمّ البرهان، أمّا في فرض المصادفة فلايمكن جعله موضوعاً لمثل الحكم؛ للزوم اجتماع المثلين الذي هو غير ممكن بحسب ما هو المفروض.

369

بحث القطع

5

 

 

 

المُوافقةُ الالتزاميّة

 

○ وجوب الالتزام.

○ مانعيّة وجوب الالتزام عن جريان الاُصول.

○ آراء الأعلام في المسألة.

 

371

 

 

 

 

هل يستدعي القطع الموافقة الالتزاميّة كما يستدعي الموافقة العمليّة أو لا؟

تعرّض الأصحاب ـ قدّس الله تعالى أسرارهم ـ في المقام لمسألة الموافقة الالتزاميّة (وهي عمل اختيارىّ قلبىّ بمعنى عقد القلب وخضوع الجنان للحكم)، وذلك كمقدّمة لمعرفة ما إذا كان وجوب الموافقة الالتزاميّة مانعاً عن جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالىّ حينما لا يوجد مانع من ناحية المخالفة العمليّة، كما في موارد دوران الأمر بين المحذورين، وموارد إثبات الاُصول للتكليف الإلزامىّ مع العلم الإجمالىّ بخلافه، كما في مستصحبي النجاسة مع القطع بطهارة أحدهما.

فيقع الكلام في جهتين:

 

وجوب الالتزام

 

الجهة الاُولى: في تحقيق حال وجوب الموافقة الالتزاميّة وعدمه.

إنّ تصوير وجوب الموافقة الالتزاميّة يكون بأحد وجوه:

الوجه الأوّل: افتراض أنّ الحكم الشرعىّ موضوع لحكم العقل بانصياع القلب له بالالتزام والخضوع النفسىّ، كما هو موضوع لحكم العقل بوجوب الامتثال، فهما حكمان عقليّان عرضيّان. الثاني منهما ـ وهو وجوب الامتثال ـ مشروط عند الأصحاب القائلين بقاعدة قبح العقاب بلا بيان بالوصول، والأوّل منهما ـ وهو وجوب الالتزام ـ يمكن افتراض اشتراطه بالوصول أيضاً، أو افتراض عدم اشتراطه بذلك. والثاني منهما خاصّ بالتكاليف الإلزاميّة المتوجّهة إلى المكلّف، في حين أنّ الأوّل منهما يشمل الأحكام الترخيصيّة والأحكام المتوجّهة إلى شخص آخر، فعلى الرجال ـ مثلاً ـ أن يلتزموا قلباً بالأحكام الخاصّة بالنساء، وكذا العكس.

الوجه الثاني: ـ أيضاً ـ هو افتراض أنّ للعقل حكمين تجاه الحكم الشرعىّ، وهما:

372

وجوب الامتثال بالأركان، ووجوب الالتزام بالجنان، إلّا أنّه يفترض وجوب الالتزام في طول وجوب الامتثال، أي: إنّ العقل يحكم بوجوب الالتزام بالتكليف الذي وجب امتثاله بما هو كذلك، فوجوب الامتثال مأخوذ في موضوع حكم العقل بوجوب الالتزام، إذن فلا مورد لوجوب الالتزام بالنسبة إلى الأحكام الترخيصيّة، أو الأحكام المتوجّهة إلى إنسان آخر، ولا بالنسبة إلى أىّ حكم غير منجّز، كما في موارد دوران الأمر بين المحذورين مثلاً.

الوجه الثالث: افتراض أنّ الموافقة الالتزاميّة هي شقّ من شقّي امتثال الحكم أوسع مورداً من شقّه الآخر الذي هو العمل بالأركان، فشقّ العمل بالأركان خاصّ بالأحكام الإلزاميّة المتوجّهة إلى شخص هذا الإنسان، في حين أنّ شقّ الموافقة بالجنان يشمل ما عدا ذلك أيضاً.

ووجوب الالتزام بناءً على هذا الوجه لا يمكن أن يشمل الحكم غير الواصل بناءً على مشرب القوم القائلين بأنّ حكم العقل بوجوب الامتثال متقوّم بالوصول، ومع عدمه تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

الوجه الرابع: أن يفترض أنّ وزان الموافقة الالتزاميّة في التعبّديّات والتوصّليّات هو وزان قصد القربة في التعبّديّات، فكما أنّ قصد القربة دخيل في الغرض في التعبّديّات، فلا يصحّ العمل من دونه، كذلك قد تكون الموافقة الالتزاميّة دخيلة في الغرض في التعبّديّات والتوصّليّات، فلا يصحّ العمل من دونها.

وهذا الوجه لو تمّ لاختصّ وجوب الالتزام بالحكم المنجّز، فهو من هذه الناحية أخصّ من الوجه الأوّل والثالث غير المختصّين بالحكم المنجّز، لكنّه في نفس الوقت أوسع من الوجه الثاني الذي كان ـ أيضاً ـ مختصّاً بالحكم المنجّز؛ وذلك لأنّ الوجه الثاني لم يكن يأتي في موارد دوران الأمر بين المحذورين؛ لأنّ وجوب الالتزام كان في طول التنجّز، ولا تنجّز في موارد دوران الأمر بين المحذورين، في حين أنّ هذا الوجه لو تمّ أصبح المكلّف متمكّناً من المخالفة القطعيّة باختيار أحد الطرفين مع ترك الالتزام، فقد خرج المورد عن الدوران بذاك المعنى(1).

الوجه الخامس: افتراض أنّ الالتزام القلبىّ واجب شرعىّ مستقلّ في قبال سائر


(1) أو يجب الالتزام بالجامع على احتمال يأتي في الجهة الثانية.

373

الواجبات الشرعيّة. وهذا متوقّف على ورود دليل شرعىّ على ذلك في الأحكام كما ورد في اُصول الدين، ويدور ـ حينئذ ـ سعة وضيقاً مدار مفاد ذاك الدليل المفترض.

ومقصود الأصحاب (رضوان الله عليهم) ممّا جعلوه مداراً إثباتاً ونفياً في المقام هو: الوجه الثالث من هذه الوجوه دون غيرها. أمّا الوجه الخامس فواضح(1)، وأمّا الأوّلان والرابع فيظهر من التأمّل في كلماتهم: أنّها غير مقصودة. ونحن نقتصر هنا على الاستشهاد بالقرائن الموجودة في كلام المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله):

فقوله في الكفاية في أوّل هذا المبحث: «هل تنجّز التكليف بالقطع كما يقتضي موافقته عملاً يقتضي موافقته التزاماً...» ينفي إرادة الوجه الأوّل؛ فإنّ وجوب الالتزام بناءً على الوجه الأوّل حكم عقلىّ في عرض التنجّز، وليس شقّاً من شقّي التنجّز، ولا مترتّباً على التنجّز، فقوله: «هل تنجّز التكليف يقتضي...» إنّما يتلاءم مع الوجه الثاني الذي يكون وجوب الالتزام فيه حكماً عقليّاً مترتّباً على التنجّز، أو الثالث الذي يكون وجوب الالتزام فيه شقّاً من شقّي التنجّز، أو الرابع الذي يكون الالتزام فيه دخيلاً في الغرض، فيتنجّز على العبد بتنجّز التكليف.

ثُمّ تصريحه(رحمه الله) في أثناء البحث بأنّ الموافقة الالتزاميّة بناءً على وجوبها تجب حتّى في غير موارد وجوب الموافقة القطعيّة أو حرمة المخالفة القطعيّة ينفي الثاني والرابع؛ فإنّ الثاني لا يكون إلّا في مورد يتنجّز العمل بالأركان، والرابع يجري في مورد الدوران بين المحذورين، لكنّه لايكون في موارد الترخيص.

وقد أشكل(رحمه الله) على وجوب الالتزام بالوجدان الحاكم بعدم ثبوت حقّ من هذا القبيل للمولى، في حين أنّ هذا الإشكال لا مورد له على الوجه الرابع الذي يفترض فيه دخل الالتزام في غرض المولى؛ فإنّ الوجدان غير مطّلع على ما له دخل في غرض المولى، أو ليس له دخل.

وأيضاً عبّر(رحمه الله) بناءً على وجوب الالتزام بأنّ للحكم امتثالين وطاعتين: إحداهما بحسب القلب والجنان، والاُخرى بحسب العمل بالأركان، وهذا ـ كما ترى ـ ظاهره تعدّد


(1) لعلّ وجه الوضوح دعوى أنّه لامجال لتوهّم ورود دليل شرعىّ على ذلك. وعلى أيّ حال، فالقدر المتيقّن عندي: أنّ الأصحاب لم يقصدوا الوجه الرابع؛ فإنّهم لم يتكلّموا في الوجوب الشرطىّ للالتزام، وإنّما تكلّموا فيما هو من سنخ الوجوب التكليفىّ.

374

الحقّ، فهو ينفي الرابع، وعرضيّة الحقّين، فهو ينفي الثاني.

وعلى أىّ حال، فهذا الوجه الثالث الذي عليه مدار البحث عند الأصحاب نفياً أو إثباتاً الحقّ فيه هو النفي؛ وذلك لوضوح: أنّ التكليف لا يدعو إلّا إلى ما تعلّق به، وهو لم يتعلّق إلّا بالعمل، وحكم العقل بتنجّز التكليف ليس إلّا ضماناً عقليّاً لتحقّق ما أراده التكليف من التحرّك، إذن فالالتزام غير مشمول لا لتحريك التكليف ودعوته؛ إذ لم يتعلّق به، ولا لحكم العقل بالتنجّز؛ إذ لم يكن داخلاً في تحريك التكليف كي ينجّزه العقل، فلو فرضنا حكم العقل بوجوبه، فليس إلّا حكماً جديداً غير داخل في صميم حكم العقل بتنجّز التكليف، وليس شقّاً من شقّي وجوب الامتثال.

ويرد على الوجه الأوّل والثاني والثالث التي تجمعها دعوى حكم العقل بحقّ الموافقة الالتزاميّة للمولى: ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) في المقام: من أنّ الوجدان حاكم بانتفاء حقّ من هذا القبيل، وأنّ العبد الذي امتثل بالأركان ولم يلتزم بالجنان لا يستحقّ إلّا الثواب.

وينبغي أن يكون المقصود بذلك: دعوى أنّ العقل العملىّ الحاكم في تشخيص علاقات العبد والمولى الحقيقىّ يدرك عدم حقّ من هذا القبيل، لا الاستشهاد على المقصود بالنسبة إلى العبد وخالقه بحالة العبيد والموالي الاعتياديّين؛ إذ يرد على ذلك: أنّ مولويّة الله تعالى ذاتيّة، ويستحيل أن تكون مجعولة، ومولويّة الموالي الاعتياديّين مجعولة، ويستحيل أن تكون ذاتيّة، ودائرة الحقّ المجعول سعة وضيقاً تتبع دائرة الجعل، ولا تكون سعة دائرة جعله وضيقها دليلاً على سعة دائرة الحقّ الذاتيّ وضيقها، كما هو واضح.

ويرد على الوجه الرابع: أنّه لا يدلّنا برهان ولا وجدان على دخل الالتزام في غرض المولى، وحينئذ فإن أمكن أخذه في الخطاب، دفعنا احتماله بالإطلاق، وإلّا نفيناه بالبراءة وبالإطلاق المقامىّ.

بل نحن نقطع على وفق عرفنا المتشرّعىّ، وأنسنا بمذاق الشارع بعدم دخل ذلك في غرضه(1).

ويرد على الوجه الخامس: عدم ورود أىّ دليل شرعىّ يدلّ عليه.


(1) إذ لم ترد أىّ إشارة إلى ذلك من قريب أو بعيد في كتاب أو سنّة على رغم الابتلاء به.

375

مانعيّة وجوب الالتزام عن جريان الاُصول

 

الجهة الثانية: في أنّ وجوب الموافقة الالتزاميّة لو سلّم فهل يمنع ذلك عن جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالىّ حينما لا يكون مانع عملىّ عن ذلك، أو لا؟

وكان الجدير في منهجة البحث تأخير ذلك عن مبحث منجّزيّة العلم الإجمالىّ؛ لصعوبة بحث مانعيّة وجوب الموافقة الالتزاميّة عن جريان الاُصول قبل معرفة قواعد العلم الإجمالىّ، فهذا من تشويش الأبحاث.

إلّا أنّنا قد بحثنا على وفق ترتيب الكفاية، ولهذا نتعرّض لهذا البحث هنا.

وعلى أىّ حال، فقد وقع في كلماتهم تشويش في بيان وجه المانعيّة نشأ عنه التشويش في الجواب عن ذلك.

فقد جاء في الدراسات في بيان وجه المانعيّة: أنّ جريان الأصل في الأطراف يستلزم المخالفة الالتزاميّة تكويناً؛ لاستحالة الالتزام بشيء مع التعبّد بخلافه في تمام الأطراف، في حين أنّ هذا البيان ليس على ما ينبغي؛ إذ المفروض: أنّه لولا وجوب الموافقة الالتزاميّة، لجرت الاُصول في الأطراف بلا أىّ منافاة بينها وبين الحكم الواقعىّ، وقد افترضنا الفراغ من إمكانيّة الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ في مورد واحد، فما معنى تصوّر التنافي بين التزامين بشيئين غير متنافيين؟!(1)

فالذي ينبغي أن يفترض في مقام تصوير المانعيّة، ويجعل مصبّاً للبحث إثباتاً ونفياً إنّما هو القول بأنّ جريان الأصل في الأطراف يستلزم الترخيص في المخالفة الالتزاميّة. فلنفحص عن حال هذا التصوير للمانعيّة بناءً على كلّ واحد من الوجوه الخمسة الماضية لفرضيّة وجوب الموافقة الالتزاميّة:

أمّا على الوجه الأوّل: وهو كون وجوب الالتزام وجوباً عقليّاً منفصلاً عن مسألة التنجّز والامتثال إطلاقاً، فمن الواضح: أنّ دليل الأصل إنّما يؤدّي إلى نفي التنجيز وضرورة الامتثال، والمفروض أنّ هذا حكم عقلىّ آخر أجنبىّ عن ذاك.

نعم، لو كان هذا أثراً شرعيّاً للتكليف، لأمكن أن يقال: إنّ الأصل النافي للتكليف بناءً


(1) هذا لو لم نقل بإمكانيّة الالتزام بالمتنافيين ـ أيضاً ـ بناءً على أنّ الالتزام القلبىّ سهل المؤونة.

376

على تنزيليّته ينفي هذا الأثر، ونقصد بالتنزيليّة هنا: (كون الأصل ناظراً إلى تمام الآثار، لا ما وقع عليه الاصطلاح عند المشهور: من لحاظ نوع للكشف فيه)، ولكنّ المفروض أنّ هذا أثر عقلىّ بحت، والأصل التنزيلىّ إنّما يثبت أو ينفي الآثار الشرعيّة.

وأمّا على الوجه الثاني: وهو كون الالتزام حكماً عقليّاً اُخذ في موضوعه التنجّز ووجوب الامتثال، فمن الواضح ـ أيضاً ـ أنّ هذا لا يصلح مانعاً عن جريان الاُصول التي هي جارية لولاه؛ فإنّ المفروض انتفاء أىّ تنجيز أو وجوب امتثال في الرتبة السابقة على وجوب الالتزام، إذن لا موضوع لوجوب الالتزام.

وأمّا على الوجه الثالث: وهو كون وجوب الالتزام شقّاً من شقّي التنجّز مترتّباً على الوصول على حسب مبناهم، فيمكن تصوير المنافاة في المقام بين جريان الاُصول ووجوب الموافقة الالتزاميّة بأن يقال: إنّ وجوب الموافقة الالتزاميّة على هذا الوجه شقّ من شقّي التنجّز ووجوب الامتثال، والمفروض أنّ الاُصول تؤدّي إلى انتفاء التنجّز ونفي وجوب الامتثال، فهي تنفي وجوب الالتزام، فكما أنّ لزوم الترخيص في المخالفة القطعيّة العمليّة تمنع ـ مثلاً ـ عن جريان الاُصول، كذلك لزوم الترخيص في المخالفة الالتزاميّة تمنع عن ذلك.

وهذا البيان إنّما يكون له مجال في المقام ـ بغضّ النظر عمّا سيأتي إن شاء الله تعالى من الجواب ـ إذا كان مفاد الأصل نفي الواقع، كقوله: «رفع ما لا يعلمون». وبذلك يرفع جميع الآثار الامتثاليّة، أمّا إذا كان مفاده ناظراً إلى جانب العمل فحسب، فلا علاقة له بحقّ الالتزام حتّى يمنع عن جريانه(1).

 


(1) كأنّ ظاهر هذا الرجوع إلى لسان دليل الأصل. والأولى في المقام أن يقال: إنّنا تارة نفترض أنّ دليل الأصل لا يمكن أن ينفي التنجيز أو التعذير العقليّين، ويثبت ما يقابله لا مباشرة ولا عن طريق حكم تكليفىّ كالترخيص في المخالفة أو إيجاب الاجتناب مثلاً، فحتّى لو كان دليل الأصل وارداً بهذا اللسان، يجب تأويله وحمله على إيجاد العلم التعبّديّ على خلاف الحكم المنفىّ، بدعوى أنّ هذا يترتّب عليه نفي التنجيز أو التعذير وإثبات عكسه تلقائيّاً.

واُخرى نفترض أنّ دليل الأصل ينفي التنجيز العقلىّ مباشرة، أو عن طريق حكم تكليفىّ. وثالثة نفترض إمكانيّة كلا الأمرين.

فعلى الفرض الأوّل لا يعقل التفكيك بين شقّي التنجيز من وجوب الالتزام ووجوب العمل بأن يرفع بالأصل الثاني دون الأوّل، فتقع المنافاة ـ مثلاً ـ بين الأصل ووجوب الالتزام.

377

والصحيح: أنّ بيان المنافاة على هذا الوجه ـ أيضاً ـ غير تامّ، وذلك لأنّ الوصول الذي هو موضوع التنجيز لم يتمّ إلّا بقدر الجامع.

وتوضيح ذلك: أنّ هناك كلاماً في أنّ العلم في موارد العلم الإجمالىّ هل هو متعلّق بالواقع على قدره الحقيقىّ، أعني الفرد، أو بالجامع؟ فإن قلنا بالأوّل كما عليه المحقّق العراقىّ(رحمه الله) (وقد تُفرّعُ عليه علّيّة العلم الإجمالىّ لوجوب الموافقة القطعيّة)، صحّ القول في


وعلى الفرض الثاني يعقل التفكيك، وحينئذ إن لم يكن لدليل الأصل إطلاق يشمل نفي وجوب الالتزام، فلا منافاة بين الأصل ووجوب الالتزام، وإن كان له إطلاق ففي مثل مستصحبي النجاسة ودوران الأمر بين المحذورين، يسقط الإطلاق بالتعارض، وتجري الاُصول بلحاظ العمل، وفيما إذا كان الأصل في أحد الطرفين نافياً للإلزام، وفي الطرف الآخر إلزاميّاً، والعلم الإجمالىّ تعلّق بمخالفة أحد الأصلين للواقع، (كما لو علمنا إجمالاً إمّا بنجاسة الإناء المستصحب الطهارة، أو بطهارة الإناء المستصحب النجاسة)، فنفي الأصل لوجوب الامتثال العملىّ والقلبىّ في الطرف الأوّل يعارض نفي الأصل لوجوب الامتثال القلبىّ في الطرف الآخر.

وعلى الفرض الثالث نرجع إلى لسان دليل الأصل، فإن كان لسانه الفرض الأوّل، اُلحق به، وإن كان لسانه لسان الفرض الثاني، اُلحق به، أمّا مع الإجمال فإن فرض معنى الإجمال تردّد مفهوم الكلام بين الفرضين، التحق في النتيجة بأخسّ الفرضين، وإن فرض معنى الإجمال الدلالة على مفهوم جامع بين الفرضين، التحق في النتيجة بأخصّب الفرضين.

وهنا فرض رابع: وهو الذي نؤمن به: من أنّ روح الأصل ثبوتاً أجنبىّ عن كلّ تلك الفروض السابقة حتّى لو كان لسانه لسان أحد تلك الفروض، وإنّما واقع الأصل وحقيقته: هو إبراز اهتمام المولى أو عدم اهتمامه بالحكم الواقعىّ في ظرف الشكّ. ومن هنا يصبح كلّ أصل حاكياً عن اهتمام المولى بما يتطلّبه الحكم الواقعىّ من الالتزام به قلباً لو كان مطابقاً مع الواقع، ففي مستصحبي النجاسة يقتضي الاستصحاب التزامنا قلباً بالنجاسة الواقعيّة لكلّ من الإناءين، صحيح أنّ الاستصحاب حكم ظاهرىّ، لكنّ معنى ظاهريّته: أنّه وجب علينا ظاهراً الالتزام بالنجاسة الواقعيّة، فبناءً على عدم إمكانيّة الالتزام بالمتناقضات والمتضادّات يصبح الوجه الصحيح لبيان المنافاة بين وجوب الالتزام والاُصول هو التقريب الذي مضى عن السيّد الخوئىّ: من أنّه مع إجراء الاُصول نعجز تكويناً عن الالتزام بالحكم الواقعىّ المعلوم إجمالاً.

أمّا إذا قلنا بإمكانيّة الالتزام بالمتناقضات والمتضادّات، فحال الأصل النافي للمعلوم بالإجمال في هذا الفرض هو حال الأصل في الفرض الأوّل، أي: إنّه لا يعقل ـ أيضاً ـ التفكيك بين شقّي التنجّز، فتتمّ المنافاة بين الاُصول ووجوب الالتزام.

هذا كلّه حال الأصل النافي للمعلوم بالإجمال، كاستصحاب عدم الطهارة مع العلم بطهارة أحدهما. أمّا الأصل المثبت لما يضادّ المعلوم بالإجمال، كاستصحاب النجاسة مع العلم بطهارة أحدهما، ففي الفرض الأوّل والثاني والثالث لا تنافي بين وجوب الالتزام وجريان الاُصول بناء على عدم حجّيّة مثبتات الاُصول، وفي الفرض الرابع لا فرق بين الأصل المثبت لما يضادّ المعلوم بالإجمال والأصل النافي للمعلوم بالإجمال؛ فإنّه على أىّ حال يدلّ على اهتمام المولى بالحكم الذي أثبته لو كان هو الواقع في مقابل الحكم الآخر، أي: يهتمّ بالحكم الآخر لو كان هو الواقع، ولا فرق في ذلك بين افتراضها نقيضين أو ضدّين.

378

المقام بالمنافاة بين جريان الاُصول ووجوب الالتزام؛ إذ الاُصول تنفي وجوب الالتزام بكلّ واحد من الأفراد، وبالتالي تنفي وجوب الالتزام بذاك الفرد المعلوم بالإجمال.

ولكن المختار لنا في باب العلم الإجماليّ هو تعلّق العلم بالجامع، فالوصول إنّما تمّ بهذا المقدار، والاُصول العمليّة حينما تؤدّي إلى الترخيص في ترك الحكم الإلزامىّ قد يقال بتساقطها؛ لأجل أنّ جريان بعضها دون بعض ترجيح بلا مرجّح، وجريانها في الجميع ترخيص في ترك الجامع؛ لأنّ ترك تمام الأفراد يساوق ترك الجامع. وهذا البيان كما ترى لا يأتي في طرف الالتزام، فلو لم تلزم من الاُصول مخالفة عمليّة، فلا بأس بإجرائها في تمام الأطراف؛ فإنّ غاية ما يستلزم جريانها هو الترخيص في ترك الموافقة الالتزاميّة لكلّ طرف من الأطراف، والوصول لم يتمّ إلّا بقدر الجامع، وترك الالتزام بالأطراف لا يساوق ترك الالتزام بالجامع.

وبتعبير آخر: إنّ الواجب هو الالتزام بالجامع فحسب، وجريان الأصل في تمام الأطراف لا يوجب الترخيص في ترك الالتزام بالجامع، إلّا بأحد وجوه ثلاثة:

الأوّل: توهّم قياس جانب الالتزام بجانب العمل، فكما أنّ ترك الفردين ترك للجامع كذلك ترك الالتزامين ترك للالتزام بالجامع، في حين أنّك ترى أنّ ترك الالتزامين إذا قسناه بترك العملين فصحيح أنّ تركهما يقتضي ترك الجامع بينهما، كما أنّ ترك العملين يقتضي ترك الجامع بينهما، لكنّ هذا لا يعني ترك الالتزام بالجامع، فكم فرق بين ترك الجامع بين الالتزامين وترك الالتزام بالجامع، والالتزام بالجامع يقف على الجامع كما يقف العلم بالجامع عليه.

الثاني: أن يقال: إنّ موضوع وجوب الالتزام هو الحكم الشرعىّ مع الوصول، والأصل قد نفى الجزء الأوّل من الموضوع، وهو الحكم الشرعىّ، فهذا يساوق نفي وجوب الالتزام.

والجواب: أنّ جزء الموضوع هو الجامع بين الحكمين لا واقع الفرد؛ لأنّ المقدار المنجّز هو الجامع، والجامع ليس منفيّاً بالأصل.

الثالث: أن يقال: إنّ نفي الفردين بالأصل يساوق نفي الجامع؛ فإنّ عدم الجامع ليس تكويناً أمراً وراء عدم أفراده، كما أنّ وجوده ليس أمراً وراء وجود أفراده، فإثبات الفرد إثبات للجامع، ونفيه نفي له.

379

والجواب: أنّ كون نفي الأفراد تكويناً مساوقاً لنفي الجامع تكويناً لا يستلزم كون نفيها تشريعاً مساوقاً لنفيه تشريعاً، وعدم الجامع مفهوم مغاير لمفهوم عدم الأفراد، فإثبات الأوّل بالأصل الذي يثبت الثاني تمسّك بالأصل المثبت(1).

وأمّا على الوجه الرابع: وهو افتراض كون وزان الالتزام وزان قصد القربة في دخله في غرض المولى.

فالمقصود بذلك: إن كان هو افتراض كون الالتزام بالفرد الثابت في الواقع دخيلاً في الغرض، كان أثر ذلك خروج موارد دوران الأمر بين المحذورين عن الدوران، وإمكانيّة المخالفة القطعيّة العمليّة، ولاتجري الاُصول، وإن كان هو افتراض كون الالتزام بالقدر المعلوم (وهوالجامع) دخيلاً في الغرض، فأحد جزئي الواجب وهو الالتزام بالجامع يمكن


(1) كلّ هذا البيان إنّما يتمّ على رأي المشهور من كون الوصول هو المنجّز للحكم.

والواقع: أنّه على هذا الرأي كان على المشهور الالتزام بجواز مخالفة العلم الإجمالىّ الاحتماليّة عملاً برغم تساقط الاُصول الشرعيّة؛ وذلك لأنّ ما وقع تحت التنجيز إنّما هو الجامع، أمّا خصوصيّة الأفراد فهي باقية تحت قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ولا معنىً لإسراء محذور التعارض الإثباتىّ في الاُصول الشرعيّة إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وعلى أىّ حال، فبناءً على الرأي المختار: من أنّ الحكم يكفي في تنجيزه احتماله، وأنّ الأصل الشرعىّ يمنع عن التنجيز عن طريق إبراز عدم اهتمام المولى بالحكم في ظرف الشكّ، وأنّ تساقط الاُصول في أطراف العلم الإجمالىّ إنّما هو بنكتة عرفيّة تمنع عن قبول إطلاق الدليل لإثبات عدم اهتمام المولى بالحكم مع العلم الإجمالىّ إلى حدّ الترخيص في المخالفة القطعيّة، وأنّ جريان الأصل في بعض الأطراف دون بعض ترجيح بلا مرجّح... أقول: بناءً على ذلك كلّه صحّ أن يقال فيما نحن فيه: إنّ وجوب الموافقة الالتزاميّة ـ أيضاً ـ يمنع عن جريان الاُصول كوجوب الموافقة العمليّة؛ وذلك لأنّ إجراء الاُصول في تمام الأطراف يساوق الترخيص في المخالفة القطعيّة؛ لأنّ الواجب الذي يتطلّبه الحكم هو الالتزام بواقع الحكم لا بالجامع بين الحكمين، وإجراء الأصل في بعض الأطراف ترجيح بلا مرجّح، هذا إضافة إلى ما عرفته في التعليق السابق: من أنّ الإشكال بناءً على هذا الوجه (لو قلنا باستحالة الالتزام بالمتنافيات) ليس هو اقتضاء الاُصول للترخيص في ترك الالتزام، بل هو منعه تكويناً عن الالتزام. وهذا الإشكال لا يفرّق فيه بين فرض وجوب الالتزام بالواقع ووجوب الالتزام بالجامع؛ فإنّ الالتزام بنجاسة كلا الإناءين واقعاً والالتزام بجامع طهارة أحدهما واقعاً لا يجتمعان.

وقد ظهر بمجموع ما ذكرناه في هذا التعليق والتعليق السابق: أنّه بناءً على هذا الوجه الثالث من وجوه تصوير وجوب الالتزام يستفحل إشكال مانعيّة وجوب الالتزام عن جريان الاُصول، ولا يمكن حلّه لا عن طريق افتراض أنّ الأصل ليس عدا ترخيص في جانب العمل لا الالتزام، ولا عن طريق أنّ الوصول تمّ بقدر الجامع. نعم، يبقى أمل واحد لحلّ الإشكال وهو ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ من بحث دفع وجوب الالتزام في المقام بمزاحمته لحرمة التشريع. وعلى أىّ حال، فلا يهمّنا الأمر بعد أن كان أصل الوجه الثالث غير صحيح بإشكال يخصّه كما مضى.

380

للعبد امتثاله على كلا الشقّين، أي: سواء اختار الفعل أو الترك، ومع امتثاله لذلك الجزء يكون أمره بالنسبة إلى الجزء الآخر دائراً بين المحذورين، فتجري البراءة عن الطرفين بناءً على جريانها في موارد الدوران بين المحذورين، ولا يمنعه وجوب الالتزام عن إجراء الأصل بالنسبة إلى الجزء الثاني(1).

وأمّا على الوجه الخامس: وهو كون وجوب الالتزام حكماً شرعيّاً مستقلّاً موضوعه الحكم الشرعىّ الأوّل، فأصل البراءة عن وجوبي الالتزام طبعاً غير جار؛ للتعارض والتساقط. أمّا الأصل الجاري في جانب العمل، فلا يشكّل وجوب الالتزام مانعاً عن إجرائه لو لم يكن فيه محذور عملىّ: بأن يؤدّي إلى جواز المخالفة العمليّة القطعيّة، سواء فرضنا الأصل تنزيليّاً بمعنى كونه ناظراً إلى كلّ آثار الواقع، أو فرضناه ناظراً إلى نفي ذات الحكم من دون أن ينفي آثاره الشرعيّة: أمّا على الثاني فواضح؛ لأنّ الأصلين لا ينفيان الأثر الشرعىّ المترتّب على الحكم، وهو وجوب الالتزام بحسب الفرض، فلا منافاة بينه وبين الأصلين، وأمّا على الأوّل، فلأنّ غاية ما يلزم سقوط إطلاق الأصلين بالنسبة إلى نفي هذا الأثر (وهو وجوب الالتزام)؛ لعلمنا الإجمالىّ بوجوب أحد الالتزامين، ولكن لا وجه لسقوط الأصلين من رأس(2).

هذا تمام الكلام في وجوب الموافقة الالتزاميّة، ومدى تأثيره في جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالىّ بغضّ النظر عن ابتلاء هذا الوجوب بمزاحم له: وهو حرمة التشريع (والمقصود من التشريع إسناد ما لم يعلم أنّه من الشارع إليه).

والآن نريد أن نتكلّم في النسبة بين وجوب الالتزام وحرمة التشريع، فنقول: لو اخترنا من الوجوه السابقة ما يتطلّب وجوب الالتزام بالجامع، إذن لا يوجد أىّ تصادم بينه وبين حرمة التشريع، أمّا لو اخترنا منها ما يتطلّب وجوب الالتزام بالفرد المعلوم بالإجمال بحدّه


(1) ولكن يمنعه عن إجراء البراءة من أصل الواجب الارتباطىّ المركّب من الفعل والالتزام، أو الترك والالتزام؛ لإمكانيّة المخالفة القطعيّة.

(2) لو افترضنا الأصل في أحد الطرفين إلزاميّاً، وفي الطرف الآخر نافياً للإلزام مع العلم الإجمالىّ بمخالفة أحد الأصلين للواقع، كما لو علمنا إجمالاً إمّا بطهارة الإناء المستصحب النجاسة، أو بنجاسة الإناء المستصحب الطهارة، فنفي الأصل لوجوب الالتزام في الطرف الأوّل يعارض نفي الأصل لوجوب العمل والالتزام في الطرف الثاني. نعم، الأصل في الطرف الأوّل بلحاظ العمل جار بلا معارض.

381

الفردىّ، فحينئذ: تارة يفترض أنّ وجوب الالتزام وحرمة التشريع حكمان عقليّان. واُخرى يفترض أنّهما حكمان شرعيّان.

وثالثة يفترض أنّ وجوب الالتزام عقلىّ، وحرمة التشريع شرعيّة.

ورابعة يفترض العكس.

ففي الفرض الأوّل: لابدّ من مراجعة العقل الذي هو الحاكم في تنظيم العلاقات بين العبد والمولى؛ كي يرى ماذا يحكم في مثل ما نحن فيه، من وجوب، أو تحريم، أو لا يحكم بشيء منهما؟

وفي الفرض الثاني: لابدّ من مراجعة الدليلين الشرعيّين المفترضين؛ كي يرى هل هناك مرجّح لدليل حرمة التشريع، وبالتالي يلغو وجوب الالتزام فيما نحن فيه نهائيّاً، أو هناك مرجّح لدليل وجوب الالتزام، وبالتالي تلغو حرمة التشريع في الفرد المعلوم بالإجمال، ولكن تبقى الحرمة في الفرد الآخر، ويصبح المورد من موارد العلم الإجمالىّ بواجب وحرام مع الاشتباه فيما بينهما، أو أنّه لا مرجّح لأحدهما على الآخر، فيتساقطان في الفرد المعلوم بالإجمال، وتبقى حرمة التشريع في الفرد الآخر، ويصبح المورد من موارد العلم الإجمالىّ بالحرام؟

وفي الفرض الثالث: لو كان حكم العقل بوجوب الالتزام تعليقيّاً، أي: كان معلّقاً على عدم ترخيص الشارع في الخلاف، فقد انتفى الوجوب بالترخيص المستفاد من دليل حرمة التشريع، ولو كان تنجيزيّاً، وقع التعارض بين دليل حرمة التشريع ودليل أصل ثبوت الحكم الذي يجب الالتزام به، ووجب الرجوع إلى قوانين باب التعارض في ذلك.

وفي الفرض الرابع: لو كانت حرمة التشريع عقلاً معلّقة على عدم ترخيص الشارع، فوجوب الالتزام ترخيص ناف للحرمة في الفرد المعلوم بالإجمال، فتقف حرمة التشريع على الفرد الآخر، ويصبح المورد من موارد العلم الإجمالىّ بواجب وحرام مع الاشتباه فيما بينهما(1).

وقد تلخّص من جميع ما ذكرناه إلى هنا: أنّه يشترط في سقوط الاُصول في أطراف


(1) أمّا لو كانت حرمة التشريع العقليّة تنجيزيّة، فوجوب الالتزام يسقط في المقام؛ لأنّ الدليل النقلىّ لا يقاوم عند التعارض حكم العقل. ولا أدري لماذا لم يوجد في المتن ذكر هذا الشقّ، ولعلّه سقط منّي عند تقرير البحث.