143

وعلى أيّ حال، فقد اتّضح: أنّ مقتضى الأصل اللفظيّ هو السقوط؛ لأنّ إطلاق المادّة معقول، ومقتضى إطلاقها تعلّق الوجوب بالجامع بين الحصّتين.

الأصل العمليّ:

المقام الثاني: في الأصل العمليّ، وتحقيقه هو نفس التحقيق في المسألة الاُولى، فلو لم يعلم بتعلّق الوجوب بخصوص الحصّة الاختياريّة، جرت البراءة عن الخصوصيّة، ولو علم بذلك وشكّ في تقيّد الوجوب بعدم وقوع غير الاختياريّة بنحو كفاية الفرد المتأخّر، جرت البراءة، أو بنحو الشرط المقارن، جرى الاستصحاب إن قلنا بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة، وإلّا جرت البراءة في الفروض الفقهيّة وفق التفصيل الذي مضى في المسألة الاُولى.

144

التوصّليّ بمعنى ما يسقط بالفعل المحرّم

المسألة الثالثة: في احتمال كفاية الحصّة المحرّمة. والكلام في ذلك أيضاً يقع في مقامين:

الأصل اللفظيّ:

المقام الأوّل: في الأصل اللفظيّ، فلو فرضت الحرمة متعلّقة بنفس العنوان الواجب، كما لو وجب الغسل بعنوانه المطلق، وحرم الغسل بعنوانه المقيّد بماء دجلة مثلاً، فلا إشكال في أنّ إطلاق المادّة لا يشمل هذه الحصّة حتّى بناءً على جواز اجتماع الأمر والنهي؛ إذ من يقول بالجواز يقول في عنوانين متباينين، لا في مثل المقام، وعندئذ فلو أتى بالحصّة المحرّمة وشكّ في بقاء الوجوب، تمسّك بإطلاق الهيئة.

وأمّا إذا كانت الحصّة المحرّمة لها عنوان آخر كعنوان الغصب، فقد دخل في بحث اجتماع الأمر والنهي. فإن قلنا بالامتناع، لم يشمل إطلاق المادّة الحصّة المحرّمة، فالنتيجة أيضاً هي التمسّك بإطلاق الهيئة، وإن قلنا بالجواز، فهل يمكن التمسّك بإطلاق المادّة، أو لا؟

بنى في ذلك المحقّق النائينيّ (رحمه الله)(1) والسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ(2) على ماهو ظاهر كلماته في هذه المسألة على أنّه: هل يشترط في الواجب أن يكون له



(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 144 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ص 102 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله).

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 100 و102 بحسب الطبعة الماضية، تحت الخطّ، وراجع أيضاً المحاضرات للفيّاض، ج 2، ص 150 ـ 151 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

145

حسن فاعليّ مضافاً إلى الحسن الفعليّ، أو لا؟ فعلى الأوّل لا يعقل وقوع الغسل بالمغصوب مصداقاً للوجوب؛ فإنّه وإن كان الحرام والواجب موجوداً بوجودين بناءً على جواز الاجتماع، لكنّهما موجودان بفاعليّة واحدة وبإيجاد واحد، فليس له حسن فاعليّ، وعلى الثاني لا بأس بإطلاق المادّة، إلّا أنّ المحقّق النائينيّ (رحمه الله)اشترط الحسن الفاعليّ، والسيّد الاُستاذ أنكره.

والصحيح: أنّه بناءً على جواز الاجتماع لا بأس بالتمسّك بإطلاق المادّة حتّى بناءً على اشتراط الحسن الفاعليّ؛ وذلك لأنّ القائل بجواز الاجتماع إن قال بذلك على أساس دعوى تعدّد الوجود، فما يكون متعدّداً وجوداً يكون متعدّداً إيجاداً، أو فاعليّةً لا محالة، فيثبت الحسن الفاعليّ(1)، وإن اعترف بوحدة الوجود، ولكن فرض أنّ هذا الوجود الواحد اجتمع فيه الحسن والقبح، والوجوب والحرمة، إذن فلتكن الفاعليّة الواحدة أيضاً مجمعاً للحسن والقبح في وقت واحد، فأيضاً يثبت الحسن الفاعليّ.

الأصل العمليّ:

المقام الثاني: في تأسيس الأصل العمليّ.

والشكّ هنا يرجع إلى الشكّ في الأقلّ والأكثر، سواء قيل بامتناع اجتماع الأمر والنهي أو جوازه. أمّا على الجواز فواضح؛ لأنّه يعلم بتعلّق الوجوب بالجامع بين الحصّتين، ولا يعلم بتقيّده بخصوص الحصّة المحلّلة، فتجري البراءة. وأمّا على الامتناع فقد يقال: إنّ الشكّ لا يكون في الأقلّ والأكثر، بل في المسقط؛ لأنّ تعلّق الوجوب بالجامع مستحيل، غاية الأمر: أنّه يشكّ في أنّ هذا الوجوب: هل هو مقيّد بعدم الإتيان بالحصّة المحرّمة، أو لا؟ فيكون شكّاً في المسقط بالمعنى الذي



(1) أشار السيّد الخوئيّ (رحمه الله) أيضاً إلى هذه النكتة بحسب ما ورد في المحاضرات، ج 2، ص 154 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

146

كان في المسألة الاُولى والثانية، ويجري فيه ما مضى في المسألة الاُولى والثانية في فرض الشكّ في المسقط.

ولكن التحقيق: أن يقال: إنّ امتناع الاجتماع وإطلاق المادّة إن كان ناظراً إلى مرحلة الثبوت واستحالة الاجتماع وشمول الإطلاق في عالم الجعل والتشريع للحصّة المحرّمة، كان الشكّ في المسقط، وسعة الوجوب وضيقه، فكلّ يرجع إلى ما اختاره في الشكّ في المسقط في المسألتين السابقتين. وأمّا إن كان ناظراً إلى مرحلة الإثبات، أي: قبل بإمكان تعلّق الوجوب بالجامع بين الحصّتين، إلّا أنّه لم يتمّ الإطلاق اللفظيّ عليه، فعندئذ ننتهي إلى الأصل العمليّ، ونقول: لعلّ المولى أوجب الجامع بلا قيد، فيكون الشكّ في الأقلّ والأكثر.

وتحقيق ثبوتيّة المحذور وإثباتيّته يأتي ـ إن شاء الله ـ في بحث الاجتماع، لكن ملخّص الكلام في ذلك: أنّه حينما يكون الأمر بنحو مطلق الوجود كــ «أكرم العالم»،فلا إشكال في استحالة الاجتماع؛ إذ الوجوب انحلاليّ، ولو حرم فرد ووجب، لزم اجتماع الضدّين؛ للتضادّ بين الوجوب والحرمة. وأمّا إذا كان بنحو صرف الوجود، فلا يوجد محذور من ناحية التضادّ؛ إذ الوجوب قائم بصرف الطبيعة، ولا يسري إلى الأفراد كما برهن عليه في بحث الاجتماع، فإذا ثبتت الحرمة على الفرد، لم يجتمع الوجوب والحرمة على موضوع واحد، ويبقى محذور إثباتيّ وهو أن يقال: إنّ الدليل الدالّ على إيجاب الجامع بنحو صرف الوجود يدلّ بالدلالة الالتزاميّة العرفيّة لا العقليّة على الترخيص في تطبيق الجامع على تمام أفراده، وهذا ينافي الحرمة، وهذه الدلالة الالتزاميّة العرفيّة المدّعاة إثباتاً لا تمنع عن الشكّ ثبوتاً في تعلّق الوجوب بالجامع أو الحصّة، فيكون الشكّ بين الأقلّ والأكثر، وتجري البراءة.

نعم، من قال بالامتناع بتوهّم محذور ثبوتيّ، وهو التضادّ كالمحقّق الخراسانيّ (رحمه الله)، لا الإثباتيّ فقط يرجع الشكّ على مبناه إلى الشكّ في المسقط، ويكون الكلام فيه هو الكلام في الشكّ في المسقط في المسألتين السابقتين.

147

التعبّديّ والتوصّليّ بمعنى اعتبار قصد

القربة وعدمه

المسألة الرابعة: فيما هو مقتضى الأصل اللفظيّ والعمليّ في الواجب التعبّديّ والتوصّليّ، بمعنى: ما يعتبر في مقام الفراغ عن عهدته قصد القربة، وما لا يعتبر فيه ذلك.

وقبل الدخول في البحث عن ذلك ينبغي أن نعرف بالتفصيل حدود الفارق بين التعبّديّ والتوصّليّ بهذا المعنى، وبهذا الصدد تذكر وجوه عديدة لتصوير الفرق بينهما يجمعها ما ذكرناه من اعتبار قصد القربة في الخروج عن عهدته وعدمه، فهذا المعنى الإجماليّ محفوظ على كلّ حال، ولكن يتكلّم في تفصيل ذلك وتحديده:

الوجه الأوّل للفرق بين التعبّديّ والتوصّليّ

الوجه الأوّل: أنّ التعبّديّ ما كان الأمر فيه متعلّقاً بالفعل مع قصد القربة، والتوصّليّ ما لم يؤخذ قصد القربة في متعلّقه.

وفي تحقيق حال هذا الوجه وقع كلام، حيث ذهب مشهور المحقّقين المتأخّرين إلى استحالة أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر. والكلام في ذلك يقع في مقامين:

الأوّل: في قصد القربة بمعنى قصد نفس هذا الأمر.

والثاني: في سائر القصود القربيّة كقصد الملاك.

أخذ قصد القربة بمعنى قصد الامتثال:

أمّا المقام الأوّل: ففي تحقيق حال قصد امتثال نفس هذا الأمر، وأنّه هل يمكن أخذه في متعلّق الأمر، أو لا؟

148

المعروف بين المحقّقين عدم إمكانه، وقد برهن على ذلك بعدّة بيانات لا حاجة إلى استعراض تمامها؛ لأنّ جملة منها: إمّا تكرار، أو لا تستحقّ التعرّض، فنتعرّض إلى جملة من البيانات التي تتحصّل من كلماتهم في المقام:

الأوّل: ما يظهر من عبارة الكفاية(1)، حيث يقول: ما لا يكاد يتأتّى إلّا من قبل الأمر لا يمكن أن يؤخذ في متعلّق الأمر. وحاصل هذا البيان لزوم الدور والتهافت؛ لأنّ قصد امتثال الأمر ـ بحسب طبعه ـ متأخّر رتبة عن الأمر؛ إذ لا يعقل وجوده إلّا بعد فرض أمر، فلو كان مأخوذاً في متعلّقه، للزم كونه بلحاظ آخر أسبق رتبة من الأمر؛ لأنّ متعلّق الأمر أسبق رتبة من الأمر، وهذه الأسبقيّة ثابتة على كلّ حال وإن كان هناك اختلاف في تفسيرها وتكييفها؛ فإنّه إن قيل بأنّ الأمر مع متعلّقه موجودان بوجودين، كان تأخّره عنه تأخّراً وجوديّاً بلحاظ الرتبة من باب تأخّر العارض عن معروضه؛ لأنّ نسبة الأمر حينئذ إلى متعلّقه نسبة العرض إلى محلّه مثلاً، وإن قيل: إنّ الأمر مع متعلّقه، وكذلك الإرادة مع متعلّقها، والحبّ مع متعلّقه ونحو ذلك موجودان بوجود واحد في اُفق نفس الآمر، أو المريد والمحبّ، إذن فالأمر ليس متأخّراً عن متعلّقه بالوجود رتبةً، لكنّه متأخّر عنه بالطبع على حدّ تأخّر زيد عن الإنسان بالطبع، فمع أنّ زيداً والإنسان موجودان بوجود واحد تكون الإنسانيّة متقدّمة على زيد بالطبع؛ فإنّ الميزان في التقدّم بالطبع أنّه كلّما كان للمتأخّر وجود فللمتقدّم وجود، دون العكس، فكلّما كان لزيد وجود كان للإنسانيّة وجود، بينما يمكن فرض وجود الإنسانيّة في ضمن غير زيد. وفي المقام كلّما كان للأمر بالصلاة مثلاً وجود، فللصلاة وجود في اُفق نفس الآمر، دون العكس؛ إذ قد يتصوّر الصلاة ولا يأمر بها.



(1) ج 1، ص 109 بحسب طبعة المشكينيّ.

149

وعلى أيّ حال، فسواء قيل بالسبق الوجوديّ أو بالسبق الطبعيّ فالمتعلّق أسبق ـ على أيّ حال ـ من الأمر، فلزم كونه متأخّراً ومتقدّماً، وهذا محال.

وهذا الإشكال بهذا البيان واضح الاندفاع؛ إذ يكفي في دفعه قبل أن نتعرّق أكثر فأكثر في البحث أن يقال: إنّ المتأخّر غير المتقدّم؛ فإنّ قصد امتثال الأمر يتوقّف بوجوده الخارجيّ على الأمر، والأمر يتوقّف على الوجود الذهنيّ لقصد امتثال الأمر في اُفق ذهن الحاكم، فلا يمكن تتميم الاستحالة بمثل هذا البيان.

الثاني: أن يقال: إنّ قصد امتثال الأمر إذا اُخذ في متعلّق الأمر، لزم الدور؛ إذ كلّ أمر مشروط بالقدرة على متعلّقه، فهو متأخّر عن القدرة على متعلّقه تأخّر المشروط عن شرطه؛ لاستحالة التكليف بغير المقدور، فلو فرض: أنّه اُخذ في متعلّقه، كان الأمر بالصلاة مثلاً المقيّدة بقصد الامتثال مشروطاً بالقدرة على الصلاة بقصد الامتثال، والمكلّف لا يقدر على ذلك إلّا بعد الأمر، فهذه القدرة متوقّفة على الأمر؛ لأنّها تنشأ منه، فقد توقّف كلّ منهما على الآخر، فلزم الدور.

وهذا البيان قد يكون أحسن من السابق، ولكن مع ذلك لا يرجع إلى محصّل؛ وذلك لأنّنا نسلّم الآن قبل أن نتعرّق أكثر فأكثر أنّ القدرة على قصد امتثال الأمر متوقّفة على الأمر، لكن لا نسلّم أنّ الأمر يتوقّف على القدرة؛ فإنّ دليل اشتراط القدرة هو العقل الحاكم باستحالة التكليف بغير المقدور، والعقل لا يحكم بذلك إذا كان نفس التكليف والأمر موجداً للقدرة، فلو فرض: أنّ أمر المولى للمشلول يوجد تكويناً استيناسه بحيث يبرأ من الشلل، فلا بأس بأن يقول له: «قم»، ولا يكون الأمر أمراً إحراجيّاً للعبد، فالميزان في اشتراط التكليف بالقدرة إنّما هو عدم الإحراجيّة من قبل الأمر، ويكفي في عدم الإحراج نشوء القدرة من الأمر، وبهذا يرتفع الدور؛ لأنّ القدرة متأخّرة عن الأمر تأخّر المعلول عن علّته مثلاً، لكن الأمر ليس متأخّراً عن القدرة تأخّر المشروط عن شرطه، وإنّما هو متأخّر عن

150

إمكان حصول القدرة بالأمر وقت العمل، أي: عن قضيّة شرطيّة، وهي: أنّه لو أمر، لكان قادراً وقت العمل، وهذا مطلب واقعيّ ثابت قبل الأمر.

وهذا الذي ذكرناه غير ما يقال: من أنّ الأمر يشترط فيه القدرة وقت العمل، فإنّ هذا لا يدفع إشكال الدور؛ لأنّه إن فرض الأمر مشروطاً بالقدرة في وقت العمل، قلنا: إنّ القدرة في وقت العمل أيضاً مشروطة بالأمر، وهذا دور، وإنّما الجواب هو أن نقول: إنّ الأمر ليس متوقّفاً ولا مشروطاً بالقدرة، لا حينه ولا وقت العمل، بل مشروط بإمكان القدرة بالمعنى الذي عرفت، وبرهان الاشتراط إنّما هو حكم العقل، والعقل لا يأبى عن تكليف العاجز إذا كان نفس التكليف موجباً لزوال العجز.

الثالث: أن يقال: إنّ الأمر إذا تعلّق بالفعل بقصد امتثال الأمر، أصبح المكلّف عاجزاً عن الفعل بقصد الامتثال، فيكون أمراً بغير المقدور؛ وذلك لأنّ ذات الفعل غير متعلّق للأمر، فكيف يستطيع أن يأتي به بقصد الأمر، وإنّما الأمر تعلّق بمجموع الفعل وقصد الامتثال بنحو التركيب أو التقييد.

وهناك جواب مشهور عن هذا الإشكال، وهو: أنّ ذات الفعل وإن لم يكن متعلّقاً للأمر الاستقلاليّ، لكنّه قد نال أمراً ضمنيّاً وحصّةً من الأمر بلحاظه جزءاً من المجموع المأمور به، حيث إنّ الأمر الاستقلاليّ الواحد ينحلّ إلى أوامر ضمنيّة بعدد الأجزاء والقيود، فيصحّ أن يؤتى به بقصد امتثال ذلك الأمر الضمنيّ، وفي سائر الموارد لا يمكن قصد امتثال أمر ضمنيّ مستقلاًّ في جزء من الأجزاء، لكن في خصوص المقام يمكن ذلك؛ لكون نفس هذا القصد محقّقاً للجزء أو القيد الآخر(1)، فيتمّ العمل.



(1) وبكلمة اُخرى: إنّ الأمر إذا تعلّق بشيء مركّب، وكان الإنسان له داع آخر إلى أحد جزئيه، فقد يدعوه ذلك الأمر إلى الجزء الآخر ولو فرض عدم داعويّته إلى الكلّ،

151

ويمكن أن يعترض على هذا الجواب بإشكالين:

الإشكال الأوّل: أنّ هذا الجواب مبنيّ على القول بأنّ الأمر الاستقلاليّ الواحد المتعلّق بالمقيّد أو المركّب ينحلّ إلى حصص وقطع ضمنيّة، من قبيل انحلال البياض على الورقة بتقطّع الورقة مثلاً، لكن هذا الانحلال غير صحيح؛ لأنّ المقيّد أو المركّب لا يكون متعلّقاً لأمر استقلاليّ واحد، إلّا إذا لبس ثوب الوحدة ولو في عالم الذهن والاعتبار، واُفق ثبوت الحكم وعروضه؛ إذ لو كان في ذلك الاُفق متعدّداً لم يعقل عروض حكم واحد عليه، وإذا لبس ثوب الوحدة في ذلك الاُفق بوجه من الوجوه، فلا معنى لانحلال ذلك الحكم الواحد.

وفيه: أنّ القائل بالانحلال لا يقول بتعدّد حصص الوجوب بلحاظ اُفق الاعتبار والصورة الذهنيّة، بل بلحاظ محكيّها. وتوضيحه: أنّ الصورة الذهنيّة التي فرضت واحدة إنّما صارت معروضة للحكم بلحاظ فنائها في الخارج، بداهة: أنّ المولى لا يوجب علينا صورته الذهنيّة بما هي، فالمولى إنّما يوجب تلك الصورة باعتباره يراها كأنّها العمل الخارجيّ، وبهذا النظر يُرى ـ لا محالة ـ أنّ لها قطعاً وأجزاء، فهي وإن فرض عروض ثوب الوحدة عليها في عالم الذهن والاعتبار، فاستطاعت أن تقبل حكماً واحداً، ولكن في نفس الوقت إنّما أوجبها المولى



فمثلاً لو كان مطلوب المولى هو أن يسافر العبد إلى الهند ويفعل فعلاً معيّناً في الهند، فقد لا يكون هذا محرّكاً للعبد إلى السفر إلى الهند والإتيان بالفعل المعيّن، لكن لو صار له بوجه من الوجوه داع للرواح إلى الهند، فقد يدعوه الأمر المتعلّق بالمجموع المركّب من الرواح للهند والفعل المعيّن إلى أن يفعل ذلك الفعل، وليس معنى داعويّة الأمر الضمنيّ ـ في الحقيقة ـ إلّا داعويّة الأمر الاستقلاليّ إلى جزء من أجزاء الواجب.

152

بلحاظ أنّها تُرى كأنّها العمل المركّب الخارجيّ، فهي بلحاظ المحكيّ والمكشوف متعدّدة، وحيث إنّها كانت معروضة للوجوب بلحاظ المكشوف فبهذا اللحاظ ينبسط الوجوب، ويتعدّد وينحلّ بانحلال معروضه تبعاً، ولهذا يسمّى بالانحلال لا بالتعدّد، حيث إنّه لا يتعدّد حقيقةً، وإنّما ينحلّ بلحاظ المعروض بالعرض.

الإشكال الثاني: أنّ هذا الأمر الضمنيّ الذي يقصد امتثاله، والذي فرض أنّه متعلّق بذات الصلاة مثلاً: هل هو متعلّق بالصلاة المطلقة، أو متعلّق بالصلاة المقيّدة، أو متعلّق بالصلاة المهملة؟

أمّا الأوّل فهو غير معقول؛ لأنّ الواجب الضمنيّ إذا كانت هي الصلاة المطلقة، كان معنى ذلك تحقّق الواجب الضمنيّ في ضمن غير المجموع؛ لأنّ المطلق ينطبق على الجزء الموجود لا في ضمن المجموع، وهذا خلف قانون الارتباط بين الواجبات الضمنيّة.

وأمّا الثاني فهو يعني: أنّ ذات الصلاة إذن لا أمر لها كي يُقصد، إلّا أن يحلّ الأمر مرّة اُخرى بدعوى: أنّ متعلّقه وهو الضمنيّ المقيّد ينحلّ ـ بحسب الحقيقة ـ إلى تقيّد وذات المقيّد، فأصبح مركّباً، فأيضاً له أمران: أمر ضمنيّ بالتقيّد وأمر ضمنيّ بذات المقيّد، فننقل الكلام إلى الأمر المتعلّق بذات المقيّد، لنرى: هل تعلّق بذات المقيّد المطلق، أو بذات المقيّد المقيّد بالتقيّد، وهكذا، فيلزم التسلسل.

وأمّا الثالث وهو فرض تعلّق الأمر الضمنيّ بالصلاة المهملة، فهو لا يرد عليه عدم معقوليّة الإهمال في عالم الثبوت على أساس أنّ المولى لا يعقل أن لا يعرف ماذا صنع، فهو: إمّا يريد المطلق، أو يريد المقيّد، فإنّ الجواب على ذلك هنا هو: أنّه ليس المراد هو الإهمال بلحاظ الواقع كلّيّةً، فإنّ المولى لم يهمل بحسب الواقع إذا ضمّ إلى هذا الوجوب الضمنيّ الوجوب الضمنيّ للجزء الآخر مثلاً. وبكلمة اُخرى: إنّ الوجوب النفسيّ الاستقلاليّ مقيّد لا محالة؛ إذ اُخذ فيه كلّ القيود والأجزاء،

153

فالمولى ليس مُهمِلاً، بل المراد هو الإهمال بلحاظ مرتبة من مراتب الواقع، إلّا أنّه يرد عليه: أنّ المهملة في قوّة الجزئيّة والمقيّدة، فيعود الإشكال، ولا يمكنه قصد الأمر بذات الصلاة؛ لأنّ قصد الأمر بذات الصلاة يتوقّف على انطباق الواجب عليها، والواجب المهمل لا ينطبق على ذات الصلاة، بل ينطبق على المقيّد فحسب.

إلّا أنّ هذا الإشكال لا يرد على مبانينا في بحث الإطلاق والتقييد؛ حيث إنّنا نبني هناك على أنّ المهمل في قوّة المطلق لا المقيّد، وسمّينا ذلك بالإطلاق الذاتيّ، والمهملة إنّما تكون جزئيّة في القضايا التصديقيّة، وأمّا المتصوّر المهمل فهو في قوّة المطلق، وقلنا: إنّ مقدّمات الحكمة دائماً تثبت هذا المهمل الجامع بين المطلق والمقيّد المسمّى باللابشرط المقسميّ، وهذا لا يلزم منه خرق قانون الضمنيّة والارتباط، فإنّ ذلك إنّما يكون لو التزمنا بالإطلاق اللحاظيّ، بأن يقول مثلاً: الواجب هو الركوع سواء سجدت أو لا، فبهذا يرفض دخل القيد، فهذا ينافي الضمنيّة والارتباط. وأمّا الإطلاق الذاتيّ الذي يكفي فيه الإهمال فلا ينافي الضمنيّة.

وقد تحصّل: أنّه يمكن الإتيان بذات الصلاة بلحاظ قصد امتثال الأمر الضمنيّ المتعلّق بذات الصلاة، فالجواب المشهور عن هذا البيان الثالث صحيح.

نعم، أصل هذا البيان لا محصّل له؛ إذ أيّ آية أو رواية وردت تقول: إنّ قصد امتثال الأمر لا يكون إلّا إذا تعلّق به الأمر، بل قصد امتثال الأمر يتمشّى في كلّ شيء لا يتمّ امتثال الأمر إلّا به، ولذا يمكن في المقدّمة قصد امتثال أمر ذي المقدّمة، ومن البديهيّ في المقام أنّ المكلّف لا يمكنه أن يمتثل الأمر المتعلّق بالصلاة بقصد الامتثال بدون أن يأتي بالصلاة، فكلّ هذا الضوضاء زوبعة في فنجان نشأ بتخيّل أنّه لابدّ من فرض تعلّق الأمر بالدقّة بما يؤتى به بقصد امتثال الأمر.

154

الرابع ـ وهو أجود ما اُفيد لإثبات الاستحالة ـ: ما ذكره المحقّق النائينيّ (رحمه الله) من لزوم الدور، لكن لا بلحاظ متعلّق الأمر كما في الوجه الأوّل، بل بلحاظ متعلّق المتعلّق المصطلح عليه عند المحقّق النائينيّ (رحمه الله)بالموضوع. وتوضيح ذلك ببيان مقدّمتين:

المقدّمة الاُولى: أنّ الأحكام الشرعيّة لها متعلّقات وهي الأفعال التي يكون الحكم الشرعيّ مقتضياً لإيجادها، أو الزجر عنها، كالصلاة في «صلِّ»، وشرب الخمر في «لا تشرب الخمر»، ومتعلّق المتعلّقات وهي الأشياء الخارجيّة التي يتعلّق بها المتعلّق الأوّليّ للحكم، كالخمر في «لا تشرب الخمر»، وكالوقت والقبلة في «صلِّ في الوقت، وإلى القبلة» وكالعقد في «يجب الوفاء بالعقد» وغير ذلك، وهذا ما يسمّى بالموضوع. والموضوع يؤخذ دائماً شرطاً للحكم وقيداً فيه، وحيث إنّ الحكم يؤخذ بنحو القضيّة الحقيقيّة، وشرط القضيّة الحقيقيّة يؤخذ مفروض الوجود، فالموضوع دائماً يرجع إلى الشرط المفروض الوجود، فمعنى «يحرم شرب الخمر»: إذا وجد خمر حرم شربه، ومعنى «صلِّ في الوقت، وإلى القبلة»: إذا وجد الوقت والقبلة، صلِّ فيه وإليها، ومعنى «أوفوا بالعقود»: إذا وجد العقد وجب الوفاء به، وهكذا. ونتيجة ذلك: أنّ فعليّة الحكم تابعة لفعليّة الموضوع؛ لأنّ المشروط عدم عند عدم شرطه، والمفروض: أنّ هذه الموضوعات اُخذت شرائط، وفرض وجودها عند الحكم، ففعليّة الحكم تتبع فعليّتها ووجودها خارجاً، فوجود الموضوع سابق رتبة على فعليّة الحكم، هذا بلحاظ عالم الفعليّة.

وأمّا بلحاظ عالم الجعل، فحيث إنّ الحاكم أناط حكمه بفرض هذه الشرائط والموضوعات، قلنا: إنّ هذا وإن لم يكن معناه وجود تلك الموضوعات خارجاً، لكن الحاكم يرى في اُفق هذا الفرض بالنظر الطريقيّ أنّه عين المفروض، فيرى الحكم متأخّراً عن وجود المفروض خارجاً. فهنا سبقان رتبيّان: سبق رتبيّ

155

خارجيّ في عالم الفعليّة، وهو سبق وجود الموضوع على فعليّة الحكم ووجوده خارجاً، وسبق رتبيّ بحسب النظر التصوّريّ للمولى، وهو سبق وجود الموضوع على أصل جعل الحكم في اُفق الجعل والفرض؛ حيث إنّ المولى يفرضه ويرتّب عليه الحكم، هذا حال الموضوع. وأمّا المتعلّق فليس سابقاً على الحكم، كيف وهو من تبعات نفس الحكم.

المقدّمة الثانية: هي تطبيق لما أفيد في المقدّمة الاُولى على ما نحن فيه. وتوضيح ذلك: أنّ قصد الأمر في الأوامر القربيّة ـ إذا تعلّق الأمر بالفعل بقصد الأمر ـ يكون متعلّقاً للأمر، ونسبته إلى الأمر كنسبة الركوع والسجود إليه، ونفس الأمر متعلّق للمتعلّق، ونسبته إلى الأمر كنسبة القبلة والوقت إليه؛ لأنّه تعلّق به قصد الأمر الذي تعلّق به الأمر، إذن فنطبّق الكبرى التي عرفتها في المقدّمة الاُولى على ذلك، ونقول: إنّ نفس الأمر يجب أن يأخذه المولى مفروغاً عنه ومفروض الوجود كما في الوقت والقبلة، فيرجع قوله: «صلِّ بقصد الأمر» إلى قوله: «إن وجد أمر فصلِّ بقصد الأمر» كما كان يرجع قوله: «صلِّ في الوقت وإلى القبلة» إلى قوله: «إن وجد الوقت والقبلة، فصلِّ في الوقت وإلى القبلة»، ويلزم من ذلك التهافت في عالم الفعليّة والجعل:

أمّا بلحاظ عالم الفعليّة فلأ نّا قلنا: إنّ فعليّة الحكم تابعة لفعليّة موضوعه، ففعليّة الأمر بالوفاء بالعقد تابعة لفعليّة موضوعه وهو العقد، فيلزم في المقام أن تكون أيضاً فعليّة الأمر تابعة لفعليّة موضوعه وهو الأمر، أي: أنّ فعليّة الشيء تابعة لفعليّة نفسه، وهذا غير معقول(1).



(1) وهذا بعد الالتفات إلى أنّه يقصد بقصد الأمر: قصد الأمر الفعليّ، أي: الأمر

156

وأمّا بلحاظ عالم الجعل، فلأنّ المولى يرى في اُفق الجعل وبالنظر التصوّريّ أنّ حكمه كأنّه بعد موضوعه، فهنا أيضاً يرى كأنّ أمره بعد أمره، ويقول: إذا كان أمري موجوداً فأمري موجود، وهذا لا معنى له.

هذا ما أفاده المحقّق النائينيّ (رحمه الله) في المقام. وتمام النكتة فيه: أنّ الأمر أصبح متعلّق المتعلّق، ومتعلّق المتعلّق قيد، فيكون قيداً لنفسه(1).

وأجاب السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ عن ذلك بما يرجع حاصله إلى إنكار المقدّمة الاُولى، فلا برهان على أنّ متعلّق المتعلّق يجب أن يؤخذ دائماً مفروض الوجود في مقام جعل الحكم، وإنّما أخذه كذلك بحيث يرجع إلى قضيّة شرطيّة ملاكه أحد أمرين: إمّا ملاك إثباتيّ، أو ملاك ثبوتيّ.

أمّا الملاك الإثباتيّ فهو الاستظهار العرفيّ، فمثلاً العرف لا يفهم من (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أنّه يجب عليه أن يحدث عقداً لكي يفي به، ويستظهر أنّ المولى لا يريد



المتوجّه إلى الشخص، لا مجرّد وجود الأمر في مرحلة الجعل، فلا يقال: إنّ فعليّة الأمر توقّفت على وجود الأمر وجعله، ولا عيب في ذلك؛ فإنّه يقال: إنّ الأمر تعلّق بالصلاة بقصد الأمر الفعليّ، لا الصلاة بقصد الأمر الجعليّ ولو غير المتوجّه إلى الشخص، وغير الفعليّ في حقّه، إذن فقد اُخذ في موضوع الأمر الأمر الفعليّ، وهذا يعني: توقّف الأمر الفعليّ على الأمر الفعليّ.

(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 145 ـ 150 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وراجع أجود التقريرات، ج 1، ص 104 ـ 108 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله).

والشيخ النائينيّ (رحمه الله)يدّعي لزوم الدور بلحاظ عالم الجعل، وعالم الفعليّة، وعالم الامتثال، فراجع.

157

متعلّق المتعلّق، وأنّه ليس من مقدّمات الواجب، بل من مقدّمات الوجوب، فهذا الاستظهار العرفيّ قرينة على أنّ العقد اُخذ مفروض الوجود وقيداً للوجوب، ورجع الكلام إلى قضيّة شرطيّة، وهي: أنّه لو وجد عقد لوجب الوفاء به.

وأمّا الملاك الثبوتيّ فهو فيما لو كان متعلّق المتعلّق أمراً غير اختياريّ للمكلّف، فلو كان كذلك لم يكن بدٌّ من أخذه مفروض الوجود؛ إذ لو لم يفرض وجوده، ولم يقيّد الوجوب به، للزم إطلاق الوجوب لفرض عدمه مع أنّه لا يقدر عليه، فمثلاً قوله: «صلِّ في الزوال» لو لم يفرض الزوال قيداً للوجوب، كان معناه: صلِّ في الزوال سواء وجد زوال أم لا، بينما هو لا يقدر على ذلك إذا لم يوجد الزوال.

وأمّا إذا لم يوجد شيء من الملاكين، فلا موجب لفرض أخذ الموضوع مفروض الوجود كما هو الحال في النواهي، كقوله: «لا تشرب الخمر»، فإنّ العرف لا يستظهر من ذلك أنّ الحكم منوط بتحقّق الموضوع، ولذا يفهم من «لا تشرب الخمر» حرمة شرب الخمر ولو قبل وجوده، ولا محذور عقليّ في ذلك، وهو لزوم التكليف بغير المقدور الذي كان عبارة عن الملاك الثاني، وحينئذ نأتي في المقام ونقول: إنّ قوله: «صلِّ بقصد الأمر» لا يوجد فيه شيء من الملاكين؛ فإنّ قوله: «صلِّ بقصد الأمر» ليس ظاهراً في انتظار وجود الأمر، والأمر وإن كان غير اختياريّ لكنّه يوجد بنفس هذا الخطاب، فلا يلزم من عدم أخذه قيداً محذور؛ إذ بعدمه يكون أصل الخطاب معدوماً، فلا يلزم التكليف بغير المقدور، بينما في قوله: «صلِّ في الوقت وإلى القبلة» ليس الخطاب بنفسه موجداً للوقت والقبلة، إذن ففي المقام لا يلزم دور ولا تهافت، لا في مقام المجعول ولا في مقام الجعل(1).



(1) راجع أجود التقريرات، ج. المعلّق عليه من قبل السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، ص 106ـ 107، وراجع محاضرات الفيّاض، ج 1، ص 158 ـ 161.

158

هذا ما أفاده السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ في مقام الإيراد على كلام اُستاذه.

والتحقيق: هو استحالة أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر؛ لوجوه يمكن أن يجعل بعضها تتميماً وتوجيهاً لبعض الوجوه المتقدّمة، وبعضها دليلاً مستقلاًّ:

الوجه الأوّل: يمكن أن يجعل إصلاحاً وتنقيحاً لما أفاده المحقّق النائينيّ (رحمه الله)، حيث إنّه ذكر: أنّ الأمر إذا اُخذ قيداً في متعلّق الأمر، وجب أخذه مفروض الوجود، وأخذه مفروض الوجود يوجب التهافت والدور، وعرفت: أنّ السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ ناقش في ذلك بعدم لزوم أخذ الأمر مفروض الوجود؛ لأنّ ذلك: إمّا يكون بملاك استظهار عرفيّ وهو غير موجود في المقام، أو بملاك لزوم محذور عقليّ لو لم يؤخذ مفروض الوجود، وهو لزوم التكليف بغير المقدور، وهذا الملاك موجود في كلّ ما أخذ قيداً لمتعلّق الأمر وكان خارجاً عن قدرة المكلّف، إلّا في مورد واحد، وهو ما إذا كان نفس الأمر متكفّلاً لإيجاد ذلك الشيء، فهو ـ دامت بركاته ـ يعترف بتماميّة الملاك في الموضوعات غير الداخلة تحت القدرة حينما لا يكون نفس الأمر متكفّلاً لإيجادها، وإنّما يستثني خصوص ما يتكفّله نفس الأمر بإيجاده، فلو كان مثلاً أمر المولى بالصلاة في الوقت محرّكاً للفلك وموجداً للزوال، لم يلزم أخذ الزوال شرطاً للوجوب ومفروض الوجود، وحيث إنّه في المقام يكون الموضوع نفس الأمر، فإذا أمر المولى بالصلاة بقصد الأمر، كفى ذلك بنفسه في وجود الموضوع، فلا حاجة إلى أخذه شرطاً للوجوب.

وهنا بالإمكان أن ندخل تعديلاً على كلام المحقّق النائينيّ (رحمه الله) لكي لا يرد عليه إشكال السيّد الاُستاذ، وذلك بأن يقال: إنّ الخطاب وإن كان بنفسه متكفّلاً لوجود الأمر، لكن وجود الأمر وحده لا يكفي في إمكانيّة صدور الصلاة من العبد بقصد الأمر، بل يتوقّف إمكان ذلك على وصول هذا الأمر ولو بأدنى مراتب الوصول، وهو الوصول الاحتماليّ؛ إذ لو لم يصل الأمر ولو احتمالاً، فمعنى ذلك: أنّه يعتقد

159

عدم الأمر، وحينئذ لا يمكنه أن يصلّي بقصد الأمر، إلّا على نحو التشريع الذي هو حرام وقبيح، فإمكان فعل الصلاة بقصد الأمر بوجه معقول لا يرجع إلى التشريع المحرّم والقبيح موقوف على وصول الأمر ولو احتمالاً، ووصول الأمر شيء غير اختياريّ(1) كنفس الأمر، ولا يتكفّله نفس الخطاب، فينطبق عليه نفس القاعدة التي اعترف بها السيّد الاُستاذ، وهي لابديّة أخذه شرطاً للوجوب وقيداً مفروض الوجود؛ لكونه أمراً غير مقدور، وعدم تكفّل الخطاب بوجوده؛ لأنّ من الواضح: أنّ نفس الخطاب المجعول على نحو القضيّة الحقيقيّة لا يكفل وصول الأمر. نعم، لو كان الأمر مجعولاً بنحو القضيّة الخارجيّة الجزئيّة بأن يتوجّه المولى إلى شخص بعينه (وكان جيّد السمع)، فقال له: «صلِّ بقصد الأمر»، كان المولى متكفّلاً بإيجاد الأمر وإيصاله، فلا حاجة إلى أخذ قيد الوصول في الموضوع، أمّا حينما لا يكون الأمر كذلك كما في خطاباتنا الشرعيّة، فلابدّ من أخذ قيد الوصول في الموضوع، فيرجع قوله: «صلِّ بقصد الأمر» إلى قوله: «إذا وصل إليك الأمر، فصلِّ بقصد الأمر».

وعندئذ نضمّ إلى ذلك ما تنقّح في بحث القطع: من أنّه يستحيل أخذ وصول الحكم في موضوع شخص ذلك الحكم كما يستحيل أخذ نفس الحكم في موضوع شخصه، واستحالة أخذ وصول الحكم في موضوع شخص ذلك الحكم مسلّمة عند القائل بامتناع الأمر بالصلاة بقصد الأمر والقائل بجوازه، فيقال مثلاً: إنّه لو اُخذ وصول الحكم في موضوعه لزم التهافت؛ لأنّ الحكم بمقتضى كونه مقيّداً بوصول نفسه متأخّر رتبة عن وصول نفسه، وبما أنّ الوصول وصول له، وانكشاف له، وهو



(1) ولو في بعض الصور، كمن يعيش بعيداً عن الأجواء الدينيّة، ولا يمكنه الاقتراب والتسبّب إلى وصول الأمر إليه.

160

في طول المنكشف، كان متأخّراً عن الحكم(1).

وبهذا يتبرهن استحالة أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر، فليكن هذا توضيحاً أو تنقيحاً لكلام المحقّق النائينيّ (رحمه الله)، غاية الفرق: أنّ المحقّق النائينيّ كان يقول: إنّ تعلّق الأمر بالصلاة بقصد الأمر يتوقّف على أن يكون قصد الأمر مأخوذاً في موضوعه، ونحن نقول: إنّه يتوقّف على أن يكون وصول الأمر مأخوذاً في موضوعه.

الوجه الثاني: ما يمكن جعله تتميماً للوجه الأوّل من الوجوه المتقدّمة الذي كان يقول: إنّ قصد الأمر يكون في طول الأمر، فلو تعلّق به الأمر لكان متقدّماً عليه، وهذا تهافت. وقد مضى الإشكال عليه بأنّ قصد الأمر الذي يتوقّف على الأمر عبارة عن الوجود الخارجيّ لقصد الأمر، وما يكون معروضاً للأمر في اُفق ذهن الآمر إنّما هو عنوان قصد الأمر ووجوده الذهنيّ، فلا تهافت.

إلّا أنّنا نضيف هنا نكتة على ذاك الوجه ليتمّ الدليل من دون أن يرد عليه ذاك الإشكال، وذلك بأن نقول: إنّ الأمر وإن كان في اُفق ذهن الآمر معروضاً في الحقيقة على عنوان قصد الأمر، لا على واقعه ومعنونه الذي يكون في طول الأمر، إلّا أنّ الآمر إنّما أمر بذلك العنوان لأنّه يراه بنظره التصوّريّ في اُفق الأمر نفس المعنون وفانياً فيه، ولو لم يكن يراه نفس المعنون لما أحبّه، ولما أمر به، فبلحاظ هذا النظر الذي به يأمر يقع التهافت؛ إذ هو يرى بهذا النظر أنّه يجعل الأمر معروضاً على واقع قصد الأمر، وكأنّ له تقرّراً وثبوتاً قبل الأمر حتّى يعرض الأمر عليه، بينما هو متقوّم في هويّته بالأمر.



(1) لا يقال: إنّ أخذ وصول الجعل قيداً في المجعول ممكن، فإنّه يقال: إنّ تمكّنه من قصد الأمر من دون تورّط في التشريع يتوقّف على وصول انطباق الحكم على نفسه.

161

وبكلمة اُخرى: إنّ للآمر رؤيتين:

إحداهما: أنّه يرى أنّ الأمر يعرض على عنوان قصد الأمر، وهذه رؤية مطابقة للواقع.

والثانية: أنّه يرى أنّ عنوان قصد الأمر هو عين المعنون، أي: هو واقع قصد الأمر.

والنتيجة المتحصّلة من مجموع الرؤيتين: أنّه يرى أنّ الأمر يعرض على المعنون وعلى واقع قصد الأمر، وهذه الرؤية وإن كانت غير مطابقة للواقع؛ لأنّها حصيلة مجموع رؤيتين كانت ثانيتهما غير مطابقة للواقع، لكن الآمر ـ على أيّ حال ـ إنّما يأمر بهذه النظرة غير المطابقة للواقع، أي: يأمر بالنظرة التي يرى بها واقع قصد الأمر شيئاً مفروغاً عنه ومتقدّماً على الأمر؛ لكي يطرأ الأمر عليه، مع أنّه لا يعقل أن يراه كذلك؛ لأنّه متقوّم في هويّته بالأمر، فكيف يُرى مفروغاً عنه ومتقدّماً على الأمر، ويعرض عليه الأمر؟! هذا.

وقد ذكر المحقّق العراقيّ (رحمه الله) في مقام التعليق على هذا الوجه: أنّ هذا الإشكال هو الإشكال الوارد في موارد عديدة من قبيل حجّيّة الخبر مع الواسطة، حيث يقال مثلاً: إنّ دليل جعل الحجّيّة هو الذي جعل خبر الناقل للحكم من الإمام حجّة، وهذه الحجّيّة أثر شرعيّ يجعل بدوره موضوعاً لحجّيّة خبر الناقل عن هذا الناقل، ودليل جعل الحجّيّة يرى موضوع الحجّيّة وهو الأثر مفروغاً عنه، فلا يمكن أن يشمل الأثر الذي يتولّد منه. والجواب عن هذا الإشكال في كلّ الموارد واحد، وهو: أنّه يثبت بالدليل حكمان طوليّان، فدليل الحجّيّة يدلّ على الحكم بالحجّيّة الثابتة على خبر الناقل بلا واسطة، وفي طول هذا الحكم يدلّ على الحكم بالحجّيّة الثابتة على خبر الناقل عن ذلك الناقل، وموضوع الحكم الثاني ثبت بالحكم الأوّل لا بنفس حكمه، فلا إشكال. وكذا الكلام فيما نحن فيه، فالأمر يثبت أوّلاً على

162

ذات الصلاة، وفي طول ذلك يثبت على قصد الأمر بالصلاة، فهناك أمر بذات الصلاة لم يؤخذ في موضوعه أمر، ثُمّ هناك أمر آخر متعلّق بقصد امتثال الأمر اُخذ في موضوعه وجود الأمر الأوّل(1).

أقول: يرد عليه: أنّ الحكم بالحجّيّة في باب الأخبار وإن كان واحداً بلحاظ عالم الجعل، وكان المجعول بالذات أيضاً واحداً، فلا تعدّد ولا اثنينيّة بلحاظ عالم الجعل فضلاً عن الطوليّة؛ لكنّه ينحلّ إلى أحكام عديدة مستقلّة بلحاظ عالم فعليّة المجعول، فيعقل أن يحقّق أحدها موضوع الآخر، وأمّا فيما نحن فيه فإن فُرِض الأمران الطوليّان ضمنيّين، فأين نتصوّر الطوليّة؟ هل في عالم الجعل، أو في عالم الفعليّة؟

أمّا في عالم الجعل فلا تعدّد فضلاً عن الطوليّة؛ فإنّ الجعل واحد والمجعول بالذات أيضاً واحد.

وأمّا في عالم الفعليّة فالأمران ضمنيّان، والضمنيّة تنحفظ حتّى في عالم الفعليّة، وتكون فعليّة كلّ منهما فعليّة ضمنيّة لا استقلاليّة، كما كان جعله ضمنيّاً، ومعنى ذلك: أنّهما فعليّة واحدة استقلاليّة موجودة بوجود واحد، فكيف يعقل الترتّب والطوليّة بينهما؟!

وبكلمة اُخرى: إنّ الأمرين ضمنيّان في عالم الجعل وفي عالم الفعليّة، فلا يعقل أخذ أحدهما في موضوع الآخر؛ فإنّ هذا يساوق استقلاليّة أحدهما عن الآخر، وانفصاله عنه.



(1) راجع المقالات، ج 1، ص 339 ـ 340 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم، وراجع أيضاً نهاية الأفكار، ج 1، ص 190 ـ 191، وص 196 ـ 197 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

163

وإن فُرِض الأمران طوليّين استقلاليّين وإن جُعِلا بجعل واحد، فيكون حالهما حال الوجوبين الطوليّين الاستقلاليّين في «صدّق العادل» المجعولين بجعل واحد، ورد عليه: أنّ هذا وإن كان هناك مجال لتصويره ثبوتاً، فكما أنّه في باب «صدّق العادل» صحّ ذلك من باب: أنّ المولى وجد جامعاً بين الواجبين وهو عنوان تصديق العادل، وجامعاً بين الموضوعين وهو عنوان الأثر الشرعيّ، فقال: «صدّق العادل» فيما له أثر شرعيّ، وانحلّ ذلك في مرحلة الفعليّة إلى وجوبين طوليّين، كذلك يمكن أن يفترض في المقام جامع بين الواجبين، وهما: الفعل وقصد الامتثال، وجامع بين الموضوعين، وهما: ما يمكّنه من الفعل ونفس الأمر الأوّل الذي يمكّنه من قصد الأمر، فأوجب المولى ذلك الجامع بنحو مطلق الوجود، فكان ذلك من قبيل: «صدّق العادل»، وتصوير ذلك هو أن يقال: إنّ المولى يشير إلى مجموعة الأجزاء والشرائط بما فيها قصد الأمر، ويقول بنحو مطلق الوجود: «أوجبت عليك ما هو مقدور لك من هذه الاُمور»، وبهذا يجب أوّلاً بالوجوب الفعليّ باقي الأجزاء والشرائط غير قصد الأمر؛ لكونها مقدورة للمكلّف بمجرّد الصحّة البدنيّة مثلاً، وفي طول وجوب ذلك يصبح قصد الأمر مقدوراً له، فيجب عليه.

إلّا أنّ هذا مجرّد تصوير ثبوتيّ وليس له أيّ انطباق على واقع الفقه، ومقصود المحقّق العراقيّ (رحمه الله)ليس مجرّد إثبات إمكانيّة أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر ثبوتاً ولو بصياغة غير منطبقة على واقع الفقه؛ فإنّ المحقّق العراقيّ (رحمه الله) إنّما بحث هذا البحث لأجل التوصّل إلى نتيجة عمليّة متوخّاة منه، وهو إثبات التوصّليّة لدى الشكّ بأصالة الإطلاق، ببيان: أنّه إذا أمكن التقييد بقصد القربة، فعدم التقييد دليل التوصّليّة، وهذا ـ كما ترى ـ إنّما يكون بفرض صورة قابلة للانطباق على واقع فقهنا، وإلّا فلا ثمرة عمليّة لذلك، ومن الواضح: أنّ الصورة التي ذكرناها لا تنطبق على ألسنة الأدلّة والجعول الشرعيّة، وإنّما هي مجرّد فرض لا واقع له، وإنّما الواقع

164

هو إيجاب نفس تلك الأجزاء والشرائط بعناوينها الأوّليّة بشرط القدرة على المجموع، فهي ـ لا محالة ـ وجوبات ضمنيّة، فلا يتمّ عن هذا الطريق التمسّك بالإطلاق لإثبات التوصّليّة.

الوجه الثالث: نبرهن في هذا الوجه على عدم معقوليّة الأمر الضمنيّ بقصد الأمر الوارد بداعي المحرّكيّة والبعث، وقد قالوا: إنّ الأمر له دلالة على كونه بداعي المحرّكيّة، ولذا لا يشمل العاجز، فيثبت بهذا البرهان أنّ قوله: «صلِّ» لا يمكن تقييده بأمر ضمنيّ بقصد الأمر، وهذه هي غايتهم من هذا البحث على أساس أنّهم قالوا: إن أمكن تقييده بذلك، إذن فإطلاقه يدلّ على التوصّليّة، وإلّا فلا.

فنقول: إنّ الأمر بذات الصلاة لو كان وحده كافياً لتحريك العبد نحو متعلّقه، وموجباً لقدح الإرادة في نفس العبد بإتيان الصلاة، فهذا عبارة اُخرى عن قصد امتثال الأمر؛ فإنّ محرّكيّة الأمر للعبد ليست عبارة عن الدفع التكوينيّ نحو الفعل من قبيل تحريك القوّة الجاذبة للأجسام نحو المركز، وإنّما هي عبارة عن قدح الإرادة للفعل، وانقداح الإرادة للفعل من الأمر عبارة اُخرى عن قصد امتثال الأمر، ومعه لا يبقى لفرض ضمّ أمر ضمنيّ يقيّد به الأمر بالصلاة وهو الأمر بقصد الأمر أيّ محرّكيّة نحو قصد الامتثال؛ إذ ليس لقصد الامتثال معنىً إلّا الإرادة التي نشأت من الأمر، فلا يكون لهذا الأمر الضمنيّ تحريك، لا تأسيساً كما هو واضح، ولا تأكيداً؛ لأنّ التأكّد إنّما يكون في أمرين استقلاليّين، ويستحيل في أمرين ضمنيّين، ولو فرض: أنّ الأمر بمقدار تعلّقه بالصلاة لم يكن كافياً لتحريك العبد نحو إرادة الصلاة، فالأمر الضمنيّ الثاني أيضاً لا يفيد؛ لأنّه أخو الأوّل، وكلاهما مرجعه إلى أمر واحد، ودعوة واحدة، ومولويّة واحدة، فضمّ هذا الأمر لا يوجب تحريكاً؛ لأنّ الأمر الضمنيّ لا يعقل أن يؤكّد المحرّكيّة.

نعم، هناك فائدة واحدة لضمّ الأمر الضمنيّ الثاني إلى الأوّل، وهي: أنّه لو لم

165

يضمّ إليه، واتّفق أنّه صلّى صدفة لا بداعي الأمر، سقط الأمر الأوّل عن المحرّكيّة؛ لأنّه انطبق على ما أتى به، فلا تكون عليه إعادة، وأمّا مع ضمّ هذا الأمر الضمنيّ إليه، فالأمر الأوّل يبقى غير ساقط، أي: لا يقبل الانطباق على ما أتى به؛ لأنّه ـ بحسب لبّه ـ متعلّق بالحصّة الخاصّة، فتبقى فاعليّته ومحرّكيّته على حالها وكأنّما الآن أمره المولى بالصلاة لا قبل فعله، لكن هذا ليس معناه: أنّ الأمر الضمنيّ الثاني له محرّكيّة، وإنّما أصبح حافظاً لمحرّكيّة الأمر الضمنيّ الأوّل، ومانعاً عن انطباقه على ما أتى به، فلم يسقط عن التأثير، فهو يحرّك مرّة اُخرى نحو الصلاة كما لو جاء الآن أمر جديد بالصلاة، وأمّا الأمر الضمنيّ الثاني فأيضاً لا محرّكيّة له في ما فرض من الأمر الجديد، لا تأسيساً لكون الأوّل كافياً في التحريك، ولا تأكيداً لعدم معقوليّة التأكيد في الأوامر الضمنيّة، فيبقى برهاننا على استحالة جعل الأمر بالصلاة بقصد امتثال الأمر بداعي محرّكيّته بجميع حصصه الضمنيّة ثابتاً على حاله.

الوجه الرابع: ما لعلّه حاقّ مقصود المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) ولو ارتكازاً من عبارته المجملة، حيث يقول: يلزم جعل الأمر داعياً إلى جعل الأمر داعياً، وكون الأمر محرّكاً إلى محرّكيّة نفسه(1).

وتوضيحه: أنّنا أيضاً نقول: يستحيل أن يكون الأمر بالصلاة بقصد امتثال الأمر محرّكاً بجميع حصصه الضمنيّة. بيان ذلك: أنّ تحريك الأمر نحو متعلّقه ـ كما قلنا في الوجه السابق ـ ليس عبارة عن الدفع التكوينيّ إليه، وإنّما هو عبارة عن قدح الإرادة في نفس العبد، وهذه الإرادة التي يخلقها هذا الأمر بالمجموع المركّب من الصلاة وقصد الأمر تتصوّر على ثلاثة أنحاء، وكلّها مستحيل:



(1) نهاية الدراية، ج 1، ص 195 بحسب طبعة مطبعة الطباطبائيّ بقم.

166

الأوّل: أن يفرض: أنّ هذا الأمر المتعلّق بالمجموع المركّب يحرّك العبد نحو متعلّقه الذي هو المجموع على حدّ سائر الأوامر بالمركّبات، فكما أنّ الأمر بمجموع الركوع والسجود مثلاً يحرّك العبد نحو مجموع الركوع والسجود في عرض واحد؛ لأنّ الأمر يقدح في نفس العبد الإرادة على حدّ إرادة المولى، إلّا أنّ إرادة المولى تشريعيّة وإرادة العبد تكوينيّة، فإذا كانت إرادة المولى متعلّقة بالمجموع، تعلّقت إرادة العبد بالمجموع، فكذلك فيما نحن فيه تتعلّق إرادة العبد بمجموع الصلاة وقصد الامتثال.

وهذا أمر غير معقول؛ لأنّ إرادة الصلاة التي نشأت من قبل الأمر هي بنفسها قصد الامتثال الذي هو الجزء الثاني للمأمور به، فلا يعقل انبساط تلك للإرادة على الجزء الثاني أيضاً؛ لأنّ هذا معناه انبساط الإرادة على نفسها وتعلّقها بنفسها، وهذا أمر غير معقول. ولعلّ هذا مقصود المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) من لزوم محرّكيّة الشيء نحو محرّكيّة نفسه، فحتّى لو غضضنا النظر عن الوجه الثالث بأن فرضنا: أنّ التاكّد في التحريك في الأوامر الضمنيّة معقول كما هو معقول في الأوامر الاستقلاليّة، قلنا هنا: إنّ معنى تحرّك العبد نحو الإرادة تعلّق إرادته بالإرادة، وهذا إمّا معناه: تعلّق الإرادة بنفسها، أو تعلّقها بإرادة اُخرى هي بنفسها ثابتة للنفس، وكلاهما محال.

الثاني: أن يكون أمر المولى المتعلّق بالمجموع المركّب من الصلاة وقصد الامتثال محرّكاً، ومحرّكيّته تتمثّل في إرادة واحدة متعلّقة بأحد الجزءين، وهو ذات الصلاة.

وهذا أيضاً أمر غير معقول؛ لأنّ هذا معناه: أنّ الأمر لم يحرّك نحو جزء متعلّقه، وهذا معناه: عدم تعلّق الأمر الناشئ بداعي المحرّكيّة بهذا الجزء؛ لأنّ تعلّقه به مساوق للتحريك نحوه، وما معنى كون الأمر بما له من تعلّقات عديدة محرّكاً نحو أحد المتعلّقات فقط؟!

167

الثالث: أن تكون محرّكيّة هذا الأمر عبارة عن أنّه يريد إرادة الصلاة، فيريد الصلاة فيصلّي، وهذا معناه: أنّ محرّكيّة هذا الأمر متمثّلة في محرّكيّتين طوليّتين، بأن يكون أوّلاً محرّكاً نحو إرادة الصلاة بأن يصبح العبد مريداً لإرادة الصلاة، ثُمّ في طول ذلك تنشأ محرّكيّة ثانية نحو ذات الصلاة تتمثّل في إرادة نفس الصلاة، وهذه الإرادة الثانية هي متعلّق الإرادة الاُولى بحيث يصدق في المقام فاء الترتيب، بأن نقول: أراد أن يقصد الامتثال بالصلاة، فقصد الامتثال بالصلاة، وطبعاً لا يعقل كون إرادة الصلاة في عرض إرادة إرادة الصلاة؛ إذ في عرض حصول المراد لا معنىً لإرادته، وإلّا لزم طلب الحاصل، وإنّما المراد في طول الإرادة، وهذا أيضاً باطل؛ إذ معنى ذلك: أنّ اقتضاء أحد الأمرين الضمنيّين للتحريك كان في طول اقتضاء الأمر الضمنيّ الآخر للتحريك، وهذا غير معقول؛ لأنّهما أمران عرضيّان ببرهان أنّهما ضمنيّان، فنسأل عن أنّه هل يوجد في مرتبة الأمر الضمنيّ بقصد الامتثال الأمر الضمنيّ بذات الصلاة، أو لا؟ فإن قيل: لا، كان معنى ذلك الطوليّة بين نفس الوجوبات الضمنيّة، وهذا غير معقول. وإن قيل: نعم، فما معنى أن لا يقتضي هذا الأمر الضمنيّ التحريك في عرض اقتضاء الآخر للتحريك؟!

أخذ قصد القربة بغير معنى قصد الامتثال:

وأمّا المقام الثاني: ففي تحقيق حال أخذ قصد القربة بغير معنى قصد امتثال الأمر في متعلّق الأمر.

وأخذ قصد القربة بغير هذا المعنى يفرض فيه عدّة أنحاء:

النحو الأوّل: أن يؤخذ في متعلّق الأمر قصد طبيعيّ الأمر. وفرقه عمّا مضى أنّه كان الكلام حتّى الآن في أخذ قصد شخص الأمر في متعلّقه، بينما هنا يفرض أخذ قصد طبيعيّ الأمر الذي هو قابل للانطباق على شخص ذلك الأمر في متعلّقه.