205

الرشيدة؛ لتقاوم كياناً أبعد ما يكون عن الماركسيّة والماركسيّين.

وقد أثبت ذلك: أنّ الإسلام له رسالته وأصالته في المبارزة، وأنّ الإسلام الذي يقاوم الماركسيّة هو نفسه الإسلام الذي يقاوم كلّ ألوان الظلم والطغيان، وأنّ على المبارزة الشريفة ـ وقد آمن الشعب الإيرانيّ بقيادته الإسلاميّة ـ أن تكون على مستوى هذه المرحلة، وأن تدرك بعمق ما يواجهها من عداء عظيم لتحقيق أهدافه الكبيرة في عمليّة التغيير؛ لأنّ بناء إيران إسلاميّاً ليس مجرّد تغيير في الشكل والأسماء، بل هو ـ إضافة إلى ذلك ـ تطهير للمحتوى من كلّ الجذور الفاسدة، وملء المضمون ملأً جديداً حيّاً تتدفّق فيه القيم القرآنيّة والإسلاميّة في مختلف مجالات الحياة.

ولاشكّ في أنّ البطولة الفريدة التي تحقّقت بها المبارزة في عمليّة مكافحة الواقع الفاسد وهدمه تؤكّد كفاءتها لإدراك هذه المسؤوليّات وعمقها الروحيّ والاجتماعيّ والتاريخيّ.

ونسأل المولى ـ سبحانه وتعالى ـ أن يرعى التضحيات العظيمة التي يقدّمها الشعب الإيرانىّ المجاهد بقيادة علمائه، ويجعل من الدماء الطاهرة التي أراقها السفّاكون على الساحة شموعاً تُضيء بالنور؛ لتخرج إيران من ظلمات الاستبداد والانحراف إلى تطبيق الإسلام الشامل في كلّ مجالات الحياة.

وليست القافلة الأخيرة من الضحايا في مدينة (مشهد) المقدّسة إلاّ حلقة جديدة من مجازر الطغاة.

تغمّد الله الشهداء بعظيم رحمته، وألحقهم بشهدائنا السابقين

206

والصدّيقين والصالحين، وحسن اُولئك رفيقاً، والعاقبة للمتّقين، وسيعلم الذين ظلموا أىّ منقلب ينقلبون(1).

محمّد باقر الصدر

الرسالة الثانية: وهي موجّهة بُعَيد الانتصار إلى طلاّبه الذين كانوا قد هاجروا إلى إيران، وإليك نصّ الرسالة:

بسم الله الرحمن الرحيم

أولادي وأعزائي، حفظكم الله بعينه التي لاتنام.

السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.

أكتب إليكم في هذه اللحظات العظيمة التي حقّق فيها الإسلام نصراً حاسماً وفريداً في تأريخنا الحديث على يد الشعب الإيرانيّ المسلم، وبقيادة الإمام الخمينيّ دام ظلّه، وتعاضد سائر القوى الخيّرة، والعلماء الأعلام، وإذا بالحلم يصبح حقيقة، وإذا بالأمل يتحقّق، وإذا بالأفكار تنطلق بركاناً على الظالمين؛ لتتجسّد، وتقيم دولة الحقّ والإسلام على الأرض، وإذا بالإسلام الذي حبسه الظالمون والمستعمرون في قُمقُم يكسر القمقم بسواعد إيرانيّة فتيّة لا ترهب الموت، ولم يثنِ عزيمتها إرهاب الطواغيت، ثُمَّ ينطلق من القمقم ليزلزل الأرض تحت أقدام كلّ الظالمين، ويبعث في نفوس المسلمين جميعاً ـ في مشارق الأرض ومغاربها ـ روحاً جديدة وأملاً جديداً.


(1) هذه الرسالة قرأها اُستاذنا الشهيد(قدس سره) في مكالمة هاتفيّة من النجف الأشرف إلى بيت السيّد الإمام ـ دام ظلّه ـ في باريس.

207

إنّ الواجب على كلّ واحد منكم، وعلى كلّ فرد قدّر له حظّه السعيد أن يعيش في كنف هذه التجربة الإسلاميّة الرائدة: أن يبذل كلّ طاقاته وكلّ ما لديه من إمكانات وخدمات، ويضع ذلك كلّه في خدمة التجربة، فلاتوقّف في البذل، والبناءُ يشاد لأجل الإسلام، ولاحدّ للبذل، والقضيّةُ ترتفع رايتها بقوّة الإسلام، وعمليّة البناء الجديد بحاجة إلى طاقات كلّ فرد مهما كانت ضئيلة.

ويجب أن يكون واضحاً أيضاً: أنّ مرجعيّة السيّد الخمينيّ ـ دام ظلّه ـ التي جسّدت آمال الإسلام في إيران اليوم لابدّ من الالتفاف حولها، والإخلاص لها، وحماية مصالحها، والذوبان في وجودها العظيم بقدر ذوبانها في هدفها العظيم، وليست المرجعيّة الصالحة شخصاً، وإنّما هي هدف وطريق، وكلّ مرجعيّة حقّقت ذلك الهدف والطريق فهي المرجعيّة الصالحة التي يجب العمل لها بكلّ إخلاص. والميدان المرجعىّ أو الساحة المرجعيّة في إيران يجب الابتعاد بها عن أىّ شيء من شأنه أن يضعف أو لايساهم في الحفاظ على المرجعيّة الرشيدة القائدة.

أخذ الله بيدكم، وأقرّ عيونكم بفرحة النصر، وحفظكم سنداً وذخراً. والسلام عليكم يا أحبّتي ورحمة الله وبركاته.

التوقيع: أبوكم

البرقيّة: وهي مرسلة إلى الشعب العربيّ في إيران، حينما بدت بدايات المخالفة من قبل بعضهم للوضع الإسلاميّ القائم بقيادة السيّد

208

الإمام دام ظلّه، وإليك نصّ البرقيّة:

بسم الله الرحمن الرحيم

شعبنا العربىّ المسلم العزيز في إيران المجاهد، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: فإنّي اُخاطبكم باسم الإسلام، وأدعوكم ـ وسائر شعوب إيران العظيمة ـ لتجسيد روح الاُخوّة الإسلاميّة التي ضربت في التأريخ مثلاً أعلى في التعاضد والتلاحم في مجتمع المتقين الذي لافضل فيه لمسلم على مسلم إلاّ بالتقوى، مجتمع عمّار بن ياسر، وسلمان الفارسىّ، وصهيب الروميّ، وبلال الحبشىّ، مجتمع القلوب العامرة بالفكر والإيمان، المتجاوزة كلّ حدود الأرض المفتوحة باسم السماء ورسالة السماء، فلتتوحّد القلوب، ولتنصهر كلّ الطاقات في إطار القيادة الحكيمة للإمام الخمينيّ دام ظلّه، وفي طريق بناء المجتمع الإسلاميّ العظيم الذي يحمل مشعل القرآن الكريم إلى العالم كلّه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

محمّد باقر الصدر

النجف الأشرف ( 16 رجب )

4 ـ نداءاته الثلاثة إلى الشعب العراقيّ المضطهد بصوته الشريف في ضمن شريط مسجّل، والتي أصدرها في أواخر حياته المباركة، وقد اُذيعت بصوته الشريف من إذاعة إيران بعد استشهاده(رحمه الله)، وإليك نصّها:

209

النداء الأوّل:

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وعلى آله الطاهرين وصحبه الميامين.

أيّها الشعب العراقيّ المسلم.

إنّي اُخاطبك أيّها الشعب الحرّ الأبيّ الكريم، وأنا أشدّ إيماناً بك، وبروحك الكبيرة، بتأريخك المجيد، وأكثرهم اعتزازاً بما طفحت به قلوب أبنائك البررة من مشاعر الحبّ والولاء والبنوّة للمرجعيّة؛ إذ تدفّقوا إلى أبيهم يؤكّدون ولاءهم للإسلام، بنفوس ملؤها الغيرة والحميّة والتقوى، يطلبون منّي أن أظلّ إلى جانبهم اُواسيهم وأعيش آلامهم عن قرب؛ لأنّها آلامي.

وإنّي أودّ أن اُؤكّد لك ـ يا شعب آبائي وأجدادي ـ أ نّي معك وفي أعماقك، ولن أتخلّى عنك في محنتك، وسأبذل آخر قطرة من دمي في سبيل الله من أجلك، وأودّ أن اُؤكّد للمسؤولين أنّ هذا الكبت الذي فرض بقوّة الحديد والنار على الشعب العراقىّ، فحرمه من أبسط حقوقه وحرّيّاته في ممارسة شعائره الدينيّة لايمكن أن يستمرّ، ولايمكن أن يعالج دائماً بالقوّة والقمع.

إنّ القوّة لو كانت علاجاً حاسماً دائماً، لبقي الفراعنة والجبابرة!

أسقطوا الأذان من الإذاعة فصبرنا!

وأسقطوا صلاة الجمعة من الإذاعة فصبرنا!

210

وطوّقوا شعائر الإمام الحسين(عليه السلام)، ومنعوا القسم الأعظم منها فصبرنا!

وحاصروا المساجد وملأوها أمناً وعيوناً فصبرنا!

وقاموا بحملات الإكراه على الانتماء إلى حزبهم فصبرنا!

وقالوا: إنّها فترة انتقال يجب تجنيد الشعب فيها فصبرنا!

ولكن إلى متى؟! إلى متى تستمرّ فترة الانتقال؟! إذا كانت فترة عشرة سنين من الحكم لا تكفي لإيجاد الجوّ المناسب لكي يختار الشعب العراقىّ طريقه، فأىّ فترة تنتظرون لذلك؟! وإذا كانت فترة عشرة سنين من الحكم المطلق لم تتح لكم ـ أيّها المسؤولون ـ إقناع الناس بالانتماء إلى حزبكم إلاّ عن طريق الإكراه فماذا تأملون؟! وإذا كانت السلطة تريد أن تعرف الوجه الحقيقيّ للشعب العراقيّ، فلتجمّد أجهزتها القمعيّة اُسبوعاً واحداً فقط، ولتسمح للناس بأن يعبّروا خلال اُسبوع عمّا يريدون. إنّي اُطالب باسمكم جميعاً، اُطالب بإطلاق حريّة الشعائر الدينيّة، وشعائر الإمام أبي عبدالله الحسين(عليه السلام).

واُطالب باسمكم جميعاً: بإعادة الأذان، وصلاة الجمعة، والشعائر الإسلاميّة إلى الإذاعة.

واُطالب باسمكم جميعاً: بإيقاف حملات الإكراه على الانتساب إلى حزب البعث على كلّ المستويات.

واُطالب باسم كرامة الإنسان: بالإفراج عن المعتقلين بصورة تعسفيّة، وإيقاف الاعتقال الكيفىّ الذي يجري بصورة منفصلة عن القضاء.

211

وأخيراً، اُطالب باسمكم جميعاً، وباسم القيم التي تمثّلونها: بفسح المجال للشعب؛ ليمارس بصورة حقيقيّة حقّه في تسيير شؤون البلاد، وذلك عن طريق إجراء انتخاب حرّ ينبثق عنه مجلس يمثّل الاُمّة تمثيلاً صادقاً.

وإنّي أعلم أنّ هذه الطلبات سوف تكلّفني غالياً، وقد تكلّفني حياتي، ولكنّ هذه الطلبات ليست طلب فرد ليموت بموته، وإنّما هذه الطلبات هي مشاعر اُمّة وإرادة اُمّة، ولا يمكن أن تموت اُمّة تعيش في أعماقها روح محمّد وعلىّ، والصفوة من آل محمّد وأصحابه. وإذا لم تستجب السلطة لهذه الطلبات، فإنّي أدعو أبناء الشعب العراقىّ الأبىّ إلى المواصلة في حمل هذه الطلبات مهما كلّفه ذلك من ثمن؛ لأنّ هذا دفاع عن النفس، وعن الكرامة، وعن الإسلام رسالة الله الخالدة. والله ولىّ التوفيق.

محمّد باقر الصدر

(20 رجب 1399 هـ )

 

النداء الثاني:

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وعلى آله الطاهرين وصحبه الميامين.

يا شعبي العراقىّ العزيز.

يا جماهير العراق المسلمة التي غضبت لدينها وكرامتها،

212

ولحريّتها وعزّتها، ولكلِّ ما آمنت به من قيم ومثل، أيّها الشعب العظيم.

إنّك تتعرّض اليوم لمحنة هائلة على يد السفّاكين والجزّارين الذين هالهم غضب الشعب وتململ الجماهير، بعد أن قيّدوها بسلاسل من الحديد ومن الرعب والإرهاب، وخيّل للسفّاكين أنّهم بذلك انتزعوا من الجماهير شعورها بالعزّة والكرامة، وجرّدوها من صلتها بعقيدتها وبدينها وبمحمّدها العظيم؛ لكي يحولّوا هذه الملايين الشجاعة المؤمنة من أبناء العراق الأبىّ إلى دُمىً وآلات يحرّكونها كيف يشاؤون، ويزقّونها ولاء (عفلق) وأمثاله من عملاء التبشير والاستعمار، بدلاً عن ولاء محمّد وعلىّ صلوات الله عليهما.

ولكنّ الجماهير دائماً هي أقوى من الطغاة مهما تفرعَنَ الطغاة، وقد تصبر ولكنّها لا تستسلم، وهكذا فوجئ الطغاة بأن الشعب لايزال ينبض بالحياة، ولاتزال لديه القدرة على أن يقول كلمته، وهذا هو الذي جعلهم يبادرون إلى القيام بهذه الحملات الهائلة على عشرات الآلاف من المؤمنين والشرفاء من أبناء هذا البلد الكريم، حملات السجن والاعتقال والتعذيب والإعدام، وفي طليعتهم العلماء المجاهدون الذين يبلغني أنّهم يستشهدون الواحد بعد الآخر تحت سياط التعذيب!

وإنّي في الوقت الذي أدرك فيه عمق هذه المحنة التي تمرّ بك يا شعبي ـ يا شعب آبائي وأجدادي ـ اُؤمن بأنّ استشهاد هؤلاء العلماء، واستشهاد خيرة شبابك الطاهرين وأبنائك الغيارى تحت

213

سياط العفالقة لن يزيدك إلاّ صموداً وتصميماً على المضىّ في هذا الطريق حتّى الشهادة أو النصر!

وأنا اُعلن لكم ـ يا أبنائي ـ أ نّي صمّمت على الشهادة، ولعلّ هذا آخر ما تسمعونه منّي، وأنّ أبواب الجنّة قد فتحت؛ لتستقبل قوافل الشهداء حتّى يكتب الله لكم النصر، وما ألذّ الشهادة التي قال عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنّها حسنة لاتضرّ معها سيئة». والشهيد بشهادته يغسل كلّ ذنوبه مهما بلغت.

فعلى كلّ مسلم في العراق وعلى كلّ عراقيّ في خارج العراق: أن يعمل كلّ ما بوسعه ـ ولو كلّفه ذلك حياته ـ من أجل إدامة الجهاد والنضال؛ لإزالة هذا الكابوس عن صدر العراق الحبيب، وتحريره من العصابة اللاإنسانيّة، وتوفير حكم صالح فذّ شريف يقوم على أساس الإسلام. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

محمّدباقر الصّدر

(10 شعبان )

 

النداء الثالث:

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمّد وعلى آله وصحبه الميامين.

يا شعبي العراقىّ العزيز.

أيّها الشعب العظيم.

214

إنّي اُخاطبك في هذه اللحظة العصيبة من محنتك وحياتك الجهاديّة بكلِّ فئاتك وطوائفك: بعربك، وأكرادك، بسنّتك، وشيعتك؛ لأنّ المحنة لاتخصّ مذهباً دون آخر، ولا قوميّة دون اُخرى، وكما أنّ المحنة هي محنة كلّ الشعب العراقىّ فيجب أن يكون الموقف الجهادىّ والردّ البطولىّ والتلاحم النضاليّ هو واقع كلّ الشعب العراقىّ.

وإنّي منذ عرفت وجودي ومسؤوليّتي في هذه الاُمّة بذلت هذا الوجود من أجل الشيعيّ والسنيّ على السواء، ومن أجل العربىّ والكردىّ على السواء، حيث دافعت عن الرسالة التي توحّدهم جميعاً، وعن العقيدة التي تضمّهم جميعاً، ولم أعِش بفكري وكياني إلاّ للإسلام، طريق الخلاص وهدف الجميع.

فأنا معك يا أخي وولدي السُنّيّ بقدر ما أنا معك يا أخي وولدي الشيعيّ، أنا معكما بقدر ما أنتما مع الإسلام، وبقدر ما تحملون من هذا المشعل العظيم؛ لإنقاذ العراق من كابوس التسلّط والذلّ والاضطهاد.

إنّ الطاغوت وأولياءه يحاولون أن يُوحوا إلى أبنائنا البررة من السنّة: أنّ المسألة مسألة شيعة وسنّة؛ ليفصلوا السنّة عن معركتهم الحقيقيّة ضدّ العدوّ المشترك.

واُريد أن أقولها لكم يا أبناء علىّ والحسين، وأبناء أبي بكر وعمر: إنّ المعركة ليست بين الشيعة والحكم السنّيّ.

إنّ الحكم السنّيّ الذي مثّله الخلفاء الراشدون، والذي كان يقوم

215

على أساس الإسلام والعدل، حمل علي السيف للدفاع عنه؛ إذ حارب جنديّاً في حروب الردّة تحت لواء الخليفة الأوّل (أبي بكر)، وكلّنا نحارب عن راية الإسلام، وتحت راية الإسلام مهما كان لونها المذهبىّ.

إنّ الحكم السنّيّ الذي كان يحمل راية الإسلام قد أفتى علماء الشيعة قبل نصف قرن بوجوب الجهاد من أجله، وخرج مئات الآلاف من الشيعة، وبذلوا دمهم رخيصاً من أجل الحفاظ على راية الإسلام، ومن أجل حماية الحكم السنّيّ الذي كان يقوم على أساس الإسلام.

إنّ الحكم الواقع اليوم ليس حكماً سنّيّاً، وإن كانت الفئة المتسلّطة تنتسب تأريخيّاً إلى التسنّن.

إنّ الحكم السنّيّ لايعني حكم شخص ولد من أبوين سنّيّين، بل يعني حكم أبي بكر وعمر الذي تحدّاه طواغيت الحكم في العراق اليوم في كلّ تصرّفاتهم، فهم ينتهكون حرمة الإسلام وحرمة علىّ وعمر معاً في كلّ يوم وفي كلِّ خطوة من خطواتهم الإجراميّة.

أ لاترون ـ يا أولادي وإخواني ـ أنّهم أسقطوا الشعائر الدينيّة التي دافع عنها علىّ وعمر معاً؟!

أ لاترون أنّهم ملأوا البلاد بالخمور، وحقول الخنازير، وكلّ وسائل المجون والفساد التي حاربها علىّ وعمر معاً؟! أ لاترون أنّهم يمارسون أشدّ ألوان الظلم والطغيان تجاه كلّ فئات الشعب؟! ويزدادون يوماً بعد يوم حقداً على الشعب، وتفنّناً في امتهان كرامته

216

والانفصال عنه، والاعتصام ضدّه في مقاصيرهم المحاطة بقوى الأمن والمخابرات، بينما كان علىّ وعمر يعيشان مع الناس وللناس وفي وسط الناس ومع آلامهم وآمالهم.

أ لاترون إلى احتكار هؤلاء للسلطة احتكاراً عشائريّاً، يسبغون عليه طابع الحزب زوراً وبهتاناً؟! وسدّ هؤلاء أبواب التقدّم أمام كلّ جماهير الشعب سوى اُولئك الذين رضوا لأنفسهم بالذلّ والخنوع، وباعوا كرامتهم، وتحوّلوا إلى عبيد أذلاّء.

إنّ هؤلاء المتسلّطين قد امتهنوا حتّى كرامة حزب البعث العربىّ الاشتراكىّ، حيث عملوا من أجل تحويله من حزب عقائدىّ إلى عصابة، تطلب الانضمام إليها والانتساب لها بالقوّة والإكراه، وإلاّ فأىّ حزب حقيقىّ يحترم نفسه في العالم يفرض الانتساب إليه بالقوّة؟!

إنّهم أحسّوا بالخوف حتّى من الحزب العربىّ الاشتراكيّ نفسه الذي يدّعون تمثيله! أحسّوا بالخوف منه إذا بقي حزباً حقيقيّاً له قواعده التي تبنيه، ولهذا أرادوا أن يهدموا قواعده؛ لتحويله إلى تجميع يقوم على أساس الإكراه والتعذيب؛ ليفقد أىّ مضمون حقيقىّ له.

يا إخواني وأبنائي من أبناء الموصل والبصرة... من أبناء بغداد وكربلاء والنجف... من أبناء سامرّاء والكاظميّة... من أبناء العمارة والكوت والسليمانيّة... من أبناء العراق في كلّ مكان، إنّي اُعاهدكم بأنىّ لكم جميعاً، ومن أجلكم جميعاً، وإنّكم جميعاً هدفي في الحاضر والمستقبل... فلتتوحّد كلمتكم، ولتتلاحم صفوفكم تحت

217

راية الإسلام، ومن أجل إنقاذ العراق من كابوس هذه الفئة المتسلّطة، وبناء عراق حرّ كريم، تغمره عدالة الإسلام، وتسوده كرامة الإنسان، ويشعر فيه المواطنون جميعاً ـ على اختلاف قوميّاتهم ومذاهبهم ـ بأنّهم إخوة، يساهمون جميعاً في قيادة بلدهم، وبناء وطنهم، وتحقيق مُثُلهم الإسلاميّة العليا، المستمدّة من رسالتنا الإسلاميّة وفجر تأريخنا العظيم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

النجف الأشرف

محمّد باقر الصدر

هذا كلُّه بعض ما يؤشّر ـ في أواخر حياة اُستاذنا الشهيد ـ إلى أنّه لو كانت تستمرّ حياته المباركة، لكانت تتكرّر تجربة إيران الإسلام على يديه في العراق.

لا أقول: إنّ سلطة العراق الكافرة والاستكبار العالميّ اطّلعا على كلّ هذه النقاط وغيرها، لكنّي أقول: إنّهما اطّلعا حتماً على القدر الكافي ممّا يشير إلى هذه النتيجة، إذن فاغتياله(رحمه الله) حذراً من تكرّر تجربة إيران الإسلام كان أمراً طبيعيّاً جدّاً للاستكبار العالميّ وللسلطة المحلّيّة.

ولنترك أخيراً الحديث للشيخ محمّدرضا النعمانىّ ـ حفظه الله ـ كي يكمّل لنا قِصّة الاستشهاد؛ ذلك لأنّ الشيخ النعمانيّ هو التلميذ الوحيد الذي عاش في بيت الاُستاذ الشهيد في أيّام احتجازه في البيت، التي اتّصلت باستشهاده رضوان الله عليه، فلنقتطع هنا للقارئين مقاطعَ من نصّ كلامه مع تغيير يسير.

218

بعض مواقفه الإيمانيّة:

قال حفظه الله:

«قبل أن أبدأ بالحديث عن المواقف المبدئيّة والأصليّة لمفجّر الثورة الإسلاميّة في العراق سيّدنا الشهيد الصدر (رحمه الله) أودّ أن أبدأ ببعض الجوانب التي مازالت تعيش في نفسي وفي وجداني حتّى هذه اللحظة:

إخوتي الأعزّاء، حين كان السيّد الشهيد (رضوان الله عليه) حيّاً كنت أسمع ـ وهو كان يسمع ـ اتّهاماً بأنّه إنسان عاطفىّ أكثر من اللازم، خاصّةً وإنّ ظواهر الاُمور كانت تدلّ على ذلك، ولكن لاأحد يعرف سرّ وأساس عاطفة السيّد الشهيد(رحمه الله)، إلاّ اُولئك الذين عاشوا معه، وواكبوه في السرّاء والضرّاء.

إنّني من خلال تماسّي المباشر بالسيّد الشهيد طيلة سنين طويلة أدركت أنّ الجانب العاطفىّ في حياة السيّد الشهيد جانب ظاهر وبارز، ولكن لنا أن نسأل: ما هو الأساس الذي يقوم عليه هذا الجانب من حياة السيّد الشهيد؟ هل هو مجرّد دافع غريزىّ فطرىّ، أو هو قائم على أساس دافع إلهيّ، وتكون العاطفة عاطفةً من أجل الله سبحانه وتعالى، ومن أجل هذا الدين العظيم الذي ضحّى من أجله؟

لدينا أرقام تثبت أنّ الصحيح هو الثاني. وهنا أودّ أن اُشير إلى بعض النماذج:

حينما صدر حكم الإعدام على الشهداء الخمسة: المرحوم الشيخ عارف البصرىّ وصحبه (رضوان الله عليهم) دخلت ذات يوم في

219

حدود الساعة الثالثة ظهراً إلى مكتبة السيّد الشهيد(قدس سره)، فوجدته في المكتبة يبكي بكاءً شديداً، فقلت له: سيّدي ومولاي، إن كنت أنت هكذا تصنع إذن فماذا يجب أن أصنع أنا؟! حينئذ كفكف(قدس سره) دموعه، وقال لي: يا ابني واللهِ لو أنّ البعثيّين خيّروني بين إعدام خمسة من أولادي وبين إعدام هؤلاء، لاخترت إعدام أولادي، وضحيّت بهم؛ لأنّ الإسلام اليوم يحتاجهم (يعني: الشيخ عارف وصحبه).

هذه العاطفة ليست عاطفة غريزيّة من سنخ العواطف المتعارفة، هذه عاطفة كعاطفة أمير المؤمنين(عليه السلام)، فهو يقتل المئات في ساحات الوغى ثُمَّ في نفس الوقت يجلس إلى جانب طفل يتيم يمسح رأسه ويبكي.

الموقف الثاني الذي مازال في نفسي: حينما وصل إلينا خبر إعدام السيّد الشهيد قاسم شبّر والسيّد قاسم المبرقع، وحينما سمع السيّد الشهيد خلال فترة الاحتجاز بإعدام هؤلاء الشهداء الأبرار مع العشرات من خيرة أبناء العراق قبض السيّد الشهيد(قدس سره) على شيبته الكريمة، ورفع رأسه إلى السماء، وقال: إلهي بحقّ أجدادي الطاهرين ألحقني بهم.

الشيء الذي أعجزُ عن نقله ـ أيّها الإخوة ـ حالة السيّد ووضعه حينما قبض لحيته الكريمة، والدموع تجري من عينيه، وهو ينادي ربّه بقلب صاف: إلهي، بحقّ أجدادي الطاهرين ألحقني بهم. وكانت الدعوة مستجابة، فلم تمضِ أشهر قليلة إلاّ وقد استشهد، رضوان الله عليه.

موقف آخر في يوم من الأيّام ـ في فترة الاحتجاز ـ وفي حدود

220

الساعة الثانية والنصف ظهراً كنت نائماً في مكتبته، إذ انتبهتُ من النوم على صوت السيّد(قدس سره)، وهو يقول: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلىّ العظيم، إنّا لله وإنّا إليه راجعون. فظننتُ أنّ حدثاً جديداً قد حدث، فقلت له: سيّدنا خيراً إن شاء الله؟ فقال:

كنت أنظر إلى هؤلاء الأمن ـ الذين كانوا يطوّقون منزل السيّد الشهيد ويحتجزونه ـ فرأيتهم عطاشى، والعرق يتصبّب من جباههم، فتألّمت عليهم، ووددت لو كان بوسعنا سقيهم. فقلت: سيّدي، هؤلاء المجرمون حجزونا، وروّعوا عائلتكم وأطفالكم، فقال: ابني صحيح هذا الذي تقول، ولكنّ هؤلاء ـ أيضاً ـ يجب أن نرقّ عليهم؛ لأنّ هؤلاء إنّما انحرفوا إمّا لأنّ ظروفهم لم تكن مساعدة، أو لأنّهم لم يحصلوا على تربية صالحة، ولم يعيشوا في بيئة سليمة، ولو خُلّوا وطبعهم، أو وجدوا البيئة المناسبة والصالحة، لكانوا من المؤمنين والمتديّنين.

بهذه الروح الكريمة ينظر السيّد الشهيد إلى أعدائه، فهو سليل جدّه الحسين(عليه السلام) الذي جاد بما لديه من ماء على الجيش الذي قتله فيما بعد. وهكذا فعل السيّد الشهيد(قدس سره)؛ إذ سقاهم بواسطة خادمه (الحاجّ عبّاس) ماءً بارداً شربوه، وهم يحتجزونه.

وكأنّ حالة الصفاء الموجودة لدى السيّد والمتركّزة في أعماقه أثّرت ـ في فترة الاحتجاز لا شعوريّاً ـ بهؤلاء الذين يحتجزونه من حيث لايعلمون؛ إذ إنّ بعضهم اُعدموا بسبب مواقف شجاعة وجريئة أقدموا عليها من أجل السيّد الشهيد.

221

لقد علمت بخبر إعدام بعضهم، وكنت أعرف أسماءهم؛ إذ كنت أسمع ما يجري بينهم من خلال النافذة، وبعض الوسائل الاُخرى، فتعرّفت بجلّهم، وعندئذ أخبرت السيّد(قدس سره) بأنّ فلاناً أعدموه، وفلاناً أعدموه، فذكّرني بالقِصّة السابقة، وقال: يجب أن تحمل في قلبك الرحمة لكلّ مسلم، فهذه هي رسالتنا.

ومن المواقف التي مازالت تؤثّر في نفسي، ولن أنساها: هو أنّه بعد مضىّ مدّة من الحجز قامت السلطة العميلة بقطع الماء والكهرباء والتلفون، ومنعت دخول وخروج أىّ إنسان إلى بيت السيّد حتّى خادم السيّد، وكانت هناك كمّيّة من المواد الغذائيّة موجودة في دار السيّد، وهي كمّيّة قليلة نفدت خلال مدّة قصيرة، ولم يبقَ عندنا إلاّ صندوق من الخبز اليابس التالف، فبدأت عائلة السيّد ترتّب هذا الخبز اليابس كطعام شعبيّ (يعرفه العراقيّون بالمثرودة)، وبقينا مدّةً على هذا الحال، وفي يوم من الأيّام كنت بخدمة السيّد الشهيد ظهراً نتغدّى في ساحة البرّانيّ، لاحظ السيّد الشهيد في وجهي التأثّر والتألّم؛ إذ كان يعزّ علىّ أن أرى هذا الرجل العظيم على هذه الحال! فقال لي: والله إنّ ألذّ طعام ذقته في حياتي هو هذا، قلت: كيف؟! قال: لأنّه في سبيل الله ومن أجل الله.

موقف آخر من المواقف العظيمة: حينما بدأ الاحتجاز، وبعد شهر رمضان المبارك اتّصل هاتفيّاً مدير أمن النجف المجرم (أبو سعد)، وطلب الاجتماع بالسيّد، وكان قد عاد قبل أيّام من لندن وبعض العواصم الأوروبيّة، لمّا دخل إلى منزل السيّد دخل خاسئاً ذليلاً،

222

وهو يحمل مشروعاً لفكّ الحجز، فقال في جملة ما قال: سيّدنا، إنّ هؤلاء العراقيّين الذين في لندن وفي اُوروبّا قلبوا الدنيا علينا لأجلك، نحن ماذا صنعنا بك؟! إنّهم نشروا صورك في كلّ مكان، ورفعوا لافتات ضدّنا، وأصدروا مناشير ضدّنا، نحن ماذا فعلنا حتّى يواجهونا بهذا الشكل؟!

وكنت أنا في مكان ما أسمع ما يجري بينهما، وبعد أن انتهى اللقاء قال لي السيّد الشهيد: أسمعت؟ فقلت: نعم، فرفع رأسه إلى السماء ـ وهو يقبض لحيته الكريمة بيده والدموع تجري من عينيه ـ ونادى العراقيّين بقوله: «بأبي أنتم لقد نصرتم الإسلام، ونصرتم القرآن!»، وظلّ يردّد: «بأبي أنتم».

هذا الموقف من العراقيّين المقيمين في خارج العراق أثّر في نفس السيّد الشهيد تأثيراً كبيراً؛ لأنّه أثبت للسلطة: أنّ المرجعيّة قوّة ممتدّة إلى كلّ مكان، وأنّ الاُمّة واعية ومدركة، بخلاف ما كانت تظنّه السلطة.

وهكذا كان أمل السيّد من العراقيّين جميعاً. وكان أحد أهمّ الدوافع التي جعلت السيّد(قدس سره)يصرّ على اختيار الاستشهاد ـ رغم الإمكانات التي كانت متاحة لإنقاذه من مخالب السلطة ـ أنّه كان يعتقد أنّ العراقيّين سيثأرون لدمه، ولن يقبلوا بأقلّ من إسقاط الحكم التكريتيّ العميل وإقامة حكومة إسلاميّة، وقد كنت أسمع السيّد الشهيد(قدس سره)يكرّر قوله: «إن لم يُرَقْ دمي أستبعد أن يسقط هذا الحكم». وكان أمله في كلّ واحد منّا أن نكون بمستوى آمال السيّد

223

وبمستوى كلمته «بأبي أنتم».

هل لبّينا هذه الدعوة؟!

وهل حقّقنا للسيّد ما كان يرجوه من دمه؟! وهل نحن حقّاً بمستوى أن يخاطبنا المرجع المظلوم بقوله: «بأبي أنتم»؟!

موقف آخر: وصلت إلينا في يوم من أيّام الحجز رسالة من بعض النجفيّين غير المعروفين بالتديّن، كان فيها عشرة أو خمسة عشر ديناراً، والرسالة مكتوبة بلغة شعبيّة وبسيطة، فيها ألوان التهجّم على السلطة، وفيها الولاء والمحبّة للسيّد الشهيد، ثُمَّ تقول الرسالة ما معناه: «سيّدنا، نحن لانصلّي ولانصوم، لكنّا نراك مظلوماً، وهؤلاء البعثيّون ظلموك، وقد جمعنا هذا المال البسيط نرجو منك قبوله؛ لأنّك محجوز، وتحتاج إلى المال، ونحن ـ إن شاء الله ـ نأتي غداً في الساعة الثالثة بعد الظهر لنقتل هؤلاء المجرمين ـ الأمن ـ الذين يحتجزونك»!

بعض هؤلاء الأشخاص الموقّعين على الرسالة كنت أعرفهم معرفة إجماليّة، فلمّا سألني السيّد(قدس سره)عنهم أخبرته بوضعهم، فشككنا أن تكون هذه محاولة من السلطة للتعرّف إن كان هناك صلة للسيّد(قدس سره)بالخارج أو لا، ولكن كان المحكّ ما في الرسالة من وعد لقتل أفراد الأمن غداً بعد الظهر.

وقبل الموعد بربع ساعة تقريباً صعدت مع السيّد إلى الغرفة المطلّ شبّاكها على الزقاق الذي تتواجد فيه قوّات الأمن، وبقينا ننتظر.

224

في الوقت المحدّد رأينا ثلاثة أشخاص ملثّمين اقتحموا هذه المجموعة، وثلاثة آخرين اقتحموا المجموعة الاُخرى من الجانب الآخر، وبدؤوا معركة فريدة، سقط فيها عدد من أفراد الأمن جرحى، ولعلّ بعضهم قد مات فيما بعد، ثُمَّ لاذوا بالفرار، ولم يتمكّنوا من القبض عليهم.

السيّد الشهيد استأنس لمّا رأى ذلك، وقال: «الإسلام يحنّ حتّى إلى هؤلاء». وكان(قدس سره)يعتقد أنّ دمه الزكيّ لو اُريق فإنّه سوف يحرّك حتّى هذه الطبقة من الناس فضلاً عن الواعين والمؤمنين.

موقف آخر: كان بعض المؤمنين يرسلون إلى السيّد في فترة الاحتجاز بعض المبالغ، فكان(قدس سره)يرفض استلامها على رغم حاجته إليها، فقلت له في مرّة من المرّات: سيّدنا، لماذا ترفض المال ونحن في الحجز، وهذا الحجز قد يطول؟! فقال لي: «إنّ والدي السيّد حيدر(رحمه الله)(وكان والده من علماء مدينة الكاظميّة) في الليلة التي توفّي فيها ما ترك لنا ما نقتات به، فبقيت تلك الليلة مع والدتي وأخي المرحوم السيّد إسماعيل واُختي آمنة من دون طعام العشاء؛ إذ لم يكن عندنا ما نشتري به شيئاً نأكله، وأنا الآن ليس بيني وبين أن ألقى ربّي إلاّ أن يأتي هؤلاء الظَّلَمة ويقتلوني، وأنتقل إلى جوار أجدادي الطاهرين، فلمن أدّخر المال؟!

هذه هي عاطفة السيّد ـ أيّها الإخوة ـ التي أساسها الدافع الإلهىّ، والتقرّب إليه، والسعي إلى رضاه.

225

القيادة النائبة:

والسيّد الشهيد(رحمه الله) حينما بدأ التحرّك بقصد الإطاحة بحكم الطاغوت وإعلاء كلمة الله، اعتقد أنّه هو بنفسه لن يوفّق لتحقيق الهدف في حياته؛ لأنّه يعرف صدّاماً وطبيعته الإجراميّة، ويعرف النظام الحاكم وقساوته؛ ولذلك فقد وضع مخطّطاً لاستمرار وإنجاح الثورة ـ وإن كان لم يوفّق لتنفيذه ـ بعد استشهاده: وهو ما أسماه بــ (القيادة النائبة). وعلى أيّة حال، فتخطيطه لاستمرار الثورة وكذلك تخطيطه لاُسلوب الشهادة كان على هذا النحو:

قرّر السيّد الشهيد(قدس سره) تشكيل القيادة النائبة التي كان من المفروض أن تقود الثورة في حالة فراغ الساحة من نفسه الزكيّة، وكان تصوّر السيّد الشهيد الأوّليّ لفكرة القيادة النائبة كالتالي:

أوّلاً: يقوم السيّد الشهيد بانتخاب عدد محدود من أصحاب الكفاءة واللياقة ينيط بهم مسؤوليّة قيادة الثورة بعد استشهاده.

ثانياً: يضع السيّد الشهيد قائمة بأسماء مجموعة اُخرى من العلماء والقياديّين الرساليّين، ويكون للقيادة النائبة التي انتخبها السيّد الشهيد اختيارُ أىّ واحد منهم حسب ما تقتضيه المصلحة؛ ليكون عضواً في القيادة، كما أنّ للقيادة اختيارَ أىّ عنصر آخر لم يرد اسمه في هذه القائمة؛ لينضمّ إليها، وذلك على حسب متطلّبات وحاجة الثورة.

ثالثاً: يصدّر السيّد الشهيد عدّة بيانات بخطّه، وتسجّل ـ أيضاً ـ بصوته يطلب فيها من الشعب العراقيّ الالتفاف حول القيادة النائبة

226

وامتثال أوامرها وتوجيهاتها.

رابعاً: يطلب من الإمام القائد السيّد الخمينيّ ـ دام ظلّه ـ دعم القيادة، بعد أن يوصيه بهم.

خامساً: في المرحلة الأخيرة يقوم السيّد الشهيد بإلقاء خطاب في الصحن الشريف بين صلاتي المغرب والعشاء يعلن فيه عن تشكيل القيادة النائبة، ويعلن أسماء أعضائها، ويطلب من الجماهير مساندتها ودعمها. وقد أمرني السيّد الشهيد(قدس سره)بشراء مسدّس؛ ليستفيد منه في حالة منع الأمن له من الخروج إلى الصحن الشريف، وكان يقول: «وسوف أستمرّ في خطابي حتّى تضطرّ السلطة إلى قتلي في الصحن؛ لأجعل من هذا الحادث بداية عمل القيادة النائبة».

وكان يقول: «ليس كلّ الناس يحرّكهم الفكر، بل هناك من لايحرّكه إلاّ الدم»، يعني(قدس سره): أنّه ـ لاشكّ ولاريب ـ لو أنّ الآلاف من أبناء العراق يرون السيّد الشهيد ـ بهذا الوجه المشرق بالإيمان والنور ـ صريعاً في صحن جدّه(عليه السلام)، والدماء تنزف من بدنه الشريف، فسوف يتأثّرون بالمستوى المطلوب الذي يتوقّعه السيّد(رحمه الله).

وظلّ السيّد الشهيد يفكّر ويخطّط في الوسائل الكفيلة بانجاح مشروع القيادة النائبة، ولم أرَه طيلة فترة الحجز اهتمّ بأمر كاهتمامه بمشروع القيادة النائبة، فقد كان يعلّق عليه الآمال، ويرى فيه الحلّ للمشاكل التي قد تواجه الثورة في مسيرتها نحو تحقيق حكم الله في الأرض، وذلك بعد فراغ الساحة منه بعد استشهاده، رضوان الله عليه.

ولكن «ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه»، فلأسباب خارجة عن

227

إرادة شهيدنا العظيم لم يقدّر لمشروع القيادة النائبة أن يرى النور. ولاحول ولاقوّة إلاّ بالله العلىّ العظيم.

 

المفاوضات التي اُجريت معه:

أمّا المفاوضات التي اُجريت مع السيّد خلال فترة الاحتجاز، فقد حدثت لقاءات عديدة مع السيّد خلال تلك الفترة، كان أوّلها: اللقاء الذي حدث بين السيّد وبين المجرم (أبي سعد) مدير أمن النجف، قال له المجرم متناسياً كلّ ما صدر منهم من اعتداءات على السيّد: نحن ماذا صنعنا كي تتعامل معنا هكذا؟! فقال له السيّد: ما الذي صار؟ فقال المجرم: إنّ حادثة (رجب) كانت ثورة ناجحة لو لاحزم القيادة السياسيّة (يعني: لولا العنف والإرهاب والاضطهاد التي مُورست بحقّ أبناء العراق البررة الذين جاؤوا يبايعون السيّد الشهيد على الولاء والثورة، فلولا الإجراءات القمعيّة التي اتُّخذت بحقّ هؤلاء، لكانت ثورة ناجحة). قال له السيّد: «أنتم ضغطتم على حرّيّة الناس، ومنعتموهم عن التعبير عن آرائهم وولائهم للمرجعيّة، فجاؤوا إلى هنا؛ ليعبّروا عن بعض ما في نفوسهم فما هو ذنبي؟!».

ثُمَّ طلب المجرم من السيّد أن يفتح باب البيت، ويعود إلى وضعه الطبيعيّ، ويستقبل كلّ من يأتي لزيارته، فرفض السيّد ذلك(1).

ثُمَّ استمرّ مسلسل المفاوضات إلى الفترة التي سبقت استشهاد


(1) كأنّما كان هذا مصيدة؛ لمعرفة من تبقّى من المخلصين.

228

السيّد(قدس سره)باُسبوع.

إنّني ـ والله ـ طيلة فترة الاحتجاز كنت أرى السيّد الشهيد(قدس سره)يتفانى من أجل الإسلام، ومن أجل المسلمين، ومن أجل العراقيّين المؤمنين المجاهدين، ولم أره يفكّر بنفسه ومصيره، وما سوف يعاني قبل الإعدام من تعذيب وحشىّ في غرف وأقبية الأمن العامّ.

تفاني السيّد الشهيد تفان عظيمٌ، وإخلاصه إخلاص عظيم، والشيء الذي أودّ أن أقوله: هو أنّه مهما فعلنا ومهما قمنا وأدّينا من أعمال جهاديّة ضدّ السلطة الظالمة كوفاء للسيّد الشهيد، لايفي ذلك بجزء يسير من حقّه علينا؛ لأنّ السيّد الشهيد تعذّب واستشهد من أجلنا، وإلاّ فإنّه كان بإمكانه أن يجنّب نفسه كلّ المشاقّ والصعاب والآلام التي تحمّلها، ويعيش كأىّ مرجع آخر، ويجنّب نفسه الاستشهاد وهو في هذا العمر.

 

قِصّة استشهاده(رحمه الله):

أمّا استشهاده(قدس سره)فكان مروّعاً ومؤثّراً، فقد جاء مدير أمن النجف ظهراً ومن دون علم سابق، وقال للسيّد(قدس سره): إنّ المسؤولين يودّون اللّقاء بك في بغداد. فقال السيّد: «إن كانت زيارة فلا أذهب، وإن كان اعتقالاً فاعتقلني». فقال مدير الأمن: «سيّدنا اعتقال». فأخذ السيّد الشهيد وهو في كامل الاطمئنان بالاستشهاد ولقاء الله تعالى وأجداده الطاهرين؛ إذ كان (رضوان الله عليه) قد رأى رؤياً بعد انتهاء المفاوضات مع الشيخ الخاقانيّ: كأنّ أخاه المرحوم السيّد

229

إسماعيل الصدر، وخاله آية الله المرحوم الشيخ مرتضى آل ياسين، كلّ واحد منهما جالس على كرسىّ، وقد جعلوا كرسيّاً في الوسط للسيّد(قدس سره) وملايين الناس من البشر ينتظرونه، فقال لي(قدس سره)بعد أن قصّ علىّ هذه الرؤيا: أنا اُبشّر نفسي بالشهادة! وفعلاً في نفس الاُسبوع استشهد، رضوان الله عليه.

بعد يوم من اعتقال السيّد(قدس سره)جاء أحد ضبّاط الأمن إلى بيت السيّد، وقال: «إنّ السيّد يريد اُختة العلويّة بنت الهدى». وهذه المرأة المظلومة ـ التي مازالت مواقفها وبطولاتها وصمودها وحياتها الحافلة بالجهاد مجهولةً ـ ذهبت وكأنّها أسد في شجاعتها وثباتها وتماسكها غير مبالية بشيء!

بعد اعتقال بنت الهدى بيوم جاؤوا إلى المرحوم الحجّة السيّد محمّد صادق الصدر، وأروه جثمان السيّد الشهيد، وتمّ الدفن بحضوره، وقد شاهد آثار التعذيب في رأسه الشريف، ولم يسمحوا له برؤية بدنه الشريف. واللهُ يعلم بما قد فعلوا ببدنه الطاهر.

هذا الدم الطاهر الزكىّ هو في الواقع أمانة في أعناقنا، فالسيّد الشهيد حينما كان يقول لنا: يا أبنائي، كان يقولها من قلب صادق، وشعور حقيقيّ، يرانا أبناءً له، فإذا لم نثأر لهذا الدم الطاهر، ونتنازل عن كلّ شيء من أجله، فمن ذا الذي يثأر له؟! وينتقم من ظالميه؟! ويقرّ عين محمّد(صلى الله عليه وآله) وعلىّ والزهراء والحسن والحسين(عليهم السلام)؟! إنّ السيّد الشهيد من هذه الذرّيّة الطاهرة، ومن هذه الشجرة المباركة، فليس من المعقول أن نسكت على دمه الذي هو كدم الحسين(عليه السلام)،