72

والأخلاق الفاضلة التي تغرسها السماء عن طريق الأنبياء والوحي في النفوس.

ولا نقصد بالدين طبعاً ذلك الدين الذي لا يملك من القدرة إلا منع الناس من شرب الخمر بينما لا يستطيع أن يمنع الابن من قتل أبيه! ـ كما جاء في كلمات مونتسكيو ـ وإنما نعني الدين الذي لم يكن مونتسكيو وأمثاله من أئمة القوانين الوضعية قادرين على تصوره؛ إنه الدين الذي يأمر بكل ما هو خير وينهى عن كل ما هو شر، ويربي الانسان المضحي بماله ومقامه ودمه في سبيل انتصار العقيدة طالباً بذلك رضا الله لا غير.

أما إذا ضربنا صفحاً عن العقيدة والدين، فسوف لن نلقى أي ضمان في النظام الدستوري أو الجمهوري لاتباع الحق والعدل، وأي شرف يتصور فيمن لا يعتقد بنظام مسيّر للحياة مبشرٍ كلّ من ضحى بمصالحه الشخصية الدانية لصالح المجتمع والعقيدة بجنة عرضها السماوات والأرض، والخلود في السعادة الأبدية، كما لا يعتقد بحقيقة المثُل والقيم التي غرستها أوامر السماء في النفوس؟!

وما مضمون السعي لتحقيق المساواة ودوافعه مادامت الغريزة الذاتية تثور في الفرد فتدفعه للتعالي على الآخرين ومنافستهم في حطام الدنيا وملذاتها، ما لم تؤطر هذه الغريزة بإطار تربوي سماوي؟!

73

أما حب الوطن ـ بالمعنى الذي يفهمه الانسان الغربي ـ فسوف لن يؤدي إلا الى مد النظر الى الأوطان الأخرى وخيراتها والعمل على استعبادها واستعمارها، محققاً بذلك مصالح وطنه في قبال مصالح الأوطان الأخرى. هذا بالنسبة لخارج الوطن، أما بالنسبة للداخل فمن الطبيعي أن يقدم مصالحه الشخصية على مصالح الآخرين عندما تتعارض فيما بينها، متبعاً بذلك غريزة حب الذات.

فلا شرف إذن ولا تقوى، بمعنى يؤدي الى المنفعة العامة في نظام جمهوري أو ملكي دستوري.

والدين وحده ـ وبمعناه الصحيح ـ هو الذي يكفل إجراء الحق والعدالة في المجتمع وعدم انحراف الحاكم واستبداده مادام المجتمع متديناً حقاً بالدين الصحيح. ونحن عندما ننظر للحكم الاسلامي الذي يقوده انسان غير معصوم ولكنه يستمد ولايته من الدين، فإنما ذلك مع إفتراض اطار ديني عام للحكومة والمجتمع لنتوقع بعد ذلك الثمار الطيبة.

وعلى أي حال، فإن العنصر الكفيل بأن لا ينتهي الحكم الاسلامي الى الاستبداد يتوفر في روح الحكم الاسلامي نفسها، وهو الدين والتدين، ومن المعقول تماماً أن يهتم أولياء الله بتربية المجتمع الذي يقوده الدين، كما توفر ذلك في بعض عصور التطبيق الإسلامي الصحيح، كعصر النبي (صلى الله عليه وآله) الذي مارس التجربة في منطقة كانت

74

أبعد ما يتصور من الإنسانية والشرف والتقوى والأخلاق، فأوجد ذلك المجتمع الذي تؤطره التقوى والعدالة.

هذا في حين تفقد النظم الأخرى ما يكفل لها من ذاتها عدم التحول الى الاستبداد، كما لا يتوفر لها عادة في الواقع الموضوعي عامل يحول دون هذه النهاية المرة.

وهذه ديموقراطيات العالم اليوم نراها ونلمس آثارها وما جرته على العالم من دمار واستعمار وامتصاص لدماء الشعوب الضعيفة، ومازال العالم يعيش على فوهة بركان مطامعها ويهدده بين آونة وأخرى شبح الحروب العالمية وما يتبعها من الفناء والاضمحلال.

وكذلك عدنا نرى أن المساواة ـ لو صحت في نفسها ـ لا وجود لها في المجتمعات الديموقراطية ـ إطلاقاً، أما المجتمعات التي فرضت عليها المساواة قسراً فلا مسحة ديموقراطية لها إطلاقاً.

إن الدولة التي ينتظر منها العدل وإقامة الحق ومراعاة الوظائف الحقيقية للدولة، هي تلك التي تجعل نصب عينيها أداء حق العبودية لله جل وعلا وطلب مرضاته، لا الدولة التي تنتابها الأهواء والمصالح ولا يستهدف أفرادها ـ عند دراسة خلفيات أهدافهم ـ إلا الاعتلاف والتقمم، وإشباع الرغبات الضيقة.

هذه هي النقطة الأولى التي تمنع من تحول الحكم الاسلامي الى حكم مستبد.

75

النقطة الثانية: عدم الانسجام بين شكل الحكم الاسلامي والاستبداد.

وذلك أن الصيغة التي يمكن استفادتها لشكل الحكم الاسلامي، والتي تمنح من خلالها الولاية للهيئة الحاكمة ـ بعد فرض عدم وجود المنصوص عليه من قبل السماء كرسول الله (صلى الله عليه وآله) عند جميع المسلمين والأئمة المعصومين (عليهم السلام) عند الشيعة ـ هذه الصيغة هي أحد أمرين:

الأمر الأول: نظام الشورى:

ويدعي بعض علماء السنة قيام الحكم منذ وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) على هذا الأساس، في حين يرى الشيعة أن الحكم أوكل بنص من النبي وبأمر إلهي الى الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، فإذا أمكن تصور نظام للشورى ـ عندهم ـ فليس إلا في عصر غيبة المعصوم الكبرى.

وعلى أي حال، فنظام الشورى (لو قبلنا به في عصر الغيبة) يختلف عن الديموقراطية في أن أمر التشريع الرئيس ليس بيد الناس، بل بيد الله تعالى عن طريق الأحكام والشرائع الاسلامية، وقد ترك الاسلام منطقة فراغ معينة المعالم يقوم بملئها ولي الأمر في الإطار الاسلامي العام. فإذا أمكن تصور شورى فإنما هي في ملء هذه المنطقة فحسب وعلى ضوء تصورات الاسلام، أو في انتخاب من

76

يملؤها ومن ينفذ القوانين الاسلامية.

كما أن نظام الشورى يختلف عن النظام الدكتاتوري، بأنه لا استبداد لرئيس الدولة في شيء، لا في التشريعات الأساسية ولا فيما أسميناه بمنطقة الفراغ ولا في انتخاب المنفذين؛ لأن التشريعات الأساسية بيد الله والاسلام، وأما الأمور الأخرى فتتم بالشورى لا بالاستبداد.

إلا أننا سنوضح ـ في بحث الشورى بطلان هذا التصور للحكم الاسلامي، وأن نظام الشورى لا يمتلك أي مستند شرعي مطلقاً.

الأمر الثاني: نظام نيابة الفقيه عن الامام المعصوم (عليه السلام)، فيكون الولي الحقيقي هو الامام المعصوم، وهو الذي عين الفقيه نائباً عنه.

وهذا هو الشكل المنسجم مع المنهج الشيعي.

ويختلف نظام نيابة الفقيه وولايته عن الدكتاتورية في ثلاث نقاط:

النقطة الأولى: أن واضع القوانين الأساسية في دولة قائمة على أساس ولاية الفقيه هو الله تعالى لا الفقيه.

النقطة الثانية: ان الولاية ليست محصورة بفقيه معين، وإنما هي لكل فقيه جامع للشروط، ويكون الكل أولياء يراقبون الولي المخول للحكم أو هيئة الفقهاء العاملة فعلاً في مجال القيادة، ويحدون من

77

أخطاء القيادة الحاكمة. وربما نقضوا حكمها في الموارد التي يكون فيها نقض الحكم أقل مفسدة من الخطأ الذي وقع فيه حكمها، ويكون عصيان الحاكم أفضل من تفادي مضاعفات الإنشقاق بمجاراة أخطائه في نظرهم.

النقطة الثالثة: ان الولاية هنا لا تقوم على أساس القهر والغلبة، وإنما تتحقق بتحقق شروطها، وعمدتها: الفقاهة، والعدالة، والكفاءة.. وهي شروط تقود تصرفات ولي الأمر نحو الخط الصحيح، وتدع الأمة مراقبة له ولتوفر الشروط فيه، بعد أن كانت قد ربيت على الالتفات لهذه الشروط.

كما أن دائرة الولاية هنا محددة بحدود مصلحة الأمة، وهذا أيضاً يقود تصرفات الولي نحو الخط الصحيح، ويدع الأمة المتربية على الالتفات الى ذلك مراقبة له. وحينما تقتضي المصلحة وضع الشيء موضع التصويت والأخذ بأكثرية الآراء وجب على ولي الأمر ذلك.

كما أن نظام نيابة الفقيه وولايته يختلف عن الديموقراطية، بأنه لا يتضمن مبدئياً أي نظام للتصويت وتجميع الآراء، وذلك لا في مجال القوانين الأساسية الاسلامية، ولا في منطقة الفراغ السالفة الذكر، ولا في مجال تعيين الهيئة التنفيذية.

فالاسلام هو مشرع القوانين الأساسية، والفقيه هو الذي يملأ

78

منطقة الفراغ أو يعين من يملؤها، كما يعين الهيئة التنفيذية أيضاً أو يعين من يعينها. نعم قد تستدعي المصلحة ـ كما أشرنا ـ أن يعمل الفقيه أسلوب التصويت في منطقة الفراغ، أو في تعيين الهيئة التنفيذية، فيتبع في الحدود التي يعينها الفقيه لذلك.

79

الشورى

81

حاول بعض علماء السنة تصوير إقامة الدولة الاسلامية على أساس "مبدأ الشورى" كروح لنظام الحكم الاسلامي.

السؤال المحير

ولأول وهلة يثور سؤال هام أمام هذه النظرية، هو:

إذا كان الاسلام قد خطط لنظام الحكم على أساس من مبدأ الشورى بحيث تكون حجر الزاوية فيه ومصدر الولاية والسلطة الشرعية، فإن من الطبيعي ـ والحال هذه ـ أن يقوم ـ أي الاسلام ـ بتثقيف واسع للأمة واطلاع كامل لها على حدود هذا الأساس الهام وتفاصيله وبنوده، وذلك لأهمية الأمر وضرورته المتناهية، إلا أننا لا نجد لهذا الثقيف أثراً في الكتاب أو السنة، فكيف نفسر هذه الظاهرة على ضوء هذه النظرية؟

وقد بادر بعض الكتاب والعلماء السنة للإجابة عليه، وأفضل

82

جواب ذكروه هنا هو التأكيد على أن الاسلام قد تعمد اعطاء مبدأ الشورى بلا أي تحديد لها في قالب معين موكلاً أمرها الى الأمة، وذلك انطلاقاً من الصفة الواقعية العامة التي تمتاز بها الشريعة الاسلامية، وهي صفة المرونة التي أمكن من خلالها أن يكون نظاماً خالداً يستوعب مختلف الظروف الزمانية والمكانية والاجتماعية.

ومن الواضح أن أمر الشورى يختلف باختلاف الأحوال الاجتماعية، وتتدخل في صياغة نوعية الشورى عوامل سعة الاقليم، وعدد السكان، وأهمية موضوع الشورى، وما الى ذلك من عناصر متحركة متغيرة بتغير الظروف الزمكانية؛ فلا يمكن أن تفرض نوعية عملية الشورى في مجتمع بدء الرسالة ـ مثلاً ـ بما يتناسب وفطرته الساذجة وقتئذ. هذه النوعية لا يمكن أن تفرض على كل الحالات والشعوب في كل حين، لأن صلاحية النظم نسبية، فما يصلح لقوم قد لا يصلح لغيرهم.

قال قحطان عبد الرحمن الدوري في كتابه (الشورى بين النظرية والتطبيق):

"وما مرونة شكل الحكم إلا حسنة جليلة امتاز بها الاسلام على غيره من النظم تجعله صالحاً لكل زمان ومكان"(1).

هذا، ولكن الحقيقة هي:



(1) الشورى بين النظرية والتطبيق ص67.

83

ان هذه المرونة المدعاة لو كانت بحيث ان الاسلام رسم للأمة خطوط نظام الشورى العامة وأعطاها القواعد والمبادئ الرئيسية فيه تاركاً لها تطبيق هذه القواعد تطبيقاً متفاوتاً بتفاوت الظروف، يتأكد معه من أن نظام القاعدة موجود في شكله المناسب للظرف المعين، وان اختلف هذا الشكل عن الشكل المطبق في ظرف آخر.

وبحيث كان لكل ظرف خاص شكل معين خاص يتأكد الناس بلا أي تشكيك من أنه الشكل المطلوب. نعم، لو كانت المرونة بهذا النحو لأمكن أن يجعل هذا حسنة جليلة يمتاز بها الاسلام ـ على حد تعبيره ـ على غيره من النظم تجعله صالحاً لكل زمان ومكان. إلا أن الواقع يخالف هذا تماماً؛ فإن هناك أشكالاً عديدة ومصاديق مختلفة تتصور حتى في اطار زمان واحد وظروف متحدة في الخصائص وتبقى الاسئلة هنا حائرة بلا جواب؛ فمثلاً لو اختلف المستشارون على قولين وكانت الأكثرية في طرف معين في حين كان أكثر أهل السداد والصلاح والمشهورين اجتماعياً في الطرف الآخر، فلأي الطرفين يكون الترجيح؟ وهل نهتم بعنصر الكم أو بعنصر الكيف؟ ولو أن الجانبين تساوياً كماً وكيفاً، فما هو الموقف؟ وهل يؤثر الترجيح بصوت واحد أم لا؟ ومن هم الذين ينبغي أن يكونوا مشتركين في الشورى؟ هل كل من

84

يصلح للمشورة له الحق في هذا، أو يقتصر على البعض منهم؟ وما هو مقدار هذا البعض؟ وكيف نستفيد ذلك من نصوص الشورى؟

ربما يقول البعض في هذا الصدد ان المشاورين هم كل من كان موضوع الشورى يهمهم من المسلمين، وذلك بدليل قوله تعالى ﴿وأمرهم شورى بينهم، فبملاحظة وحدة مرجع الضميرين في "أمرهم" و "بينهم" يعلم أن المشتركين في عملية التشاور هم كل من كان الأمر المتشاور فيه أمرهم.

ولكن كيف نحسم الموقف في موضوع يرتبط بجماعة بدرجة من الارتباط، كما يرتبط بقطاع خاص من قطاعات هذه الجماعة نفسها بدرجة أشد وأوثق، بحيث يمكن ان ينسب العرف (الأمر) تارة الى هذا القطاع الخاص وأخرى الى الدائرة العامة الشاملة له ولغيره؟ وأي هاتين الجماعتين (العامة والخاصة) تشترك في عملية الشورى؟

وهناك الكثير من الأمثلة العملية التي يمكن أن تصدق عليها هذه الصورة؛ فمثلاً لو اتفقت الأمة ـ على سبيل الإجمال ـ على انتخاب فقهاء البلد لإدارة الحكم، ثم وقع الخلاف في مجال تنسيق الأعمال وتقسيمها على الفقهاء بين أكثرية الناس ـ بما فيهم الفقهاء ـ وأكثرية الفقهاء أنفسهم، فما هو موقفنا بعد الإيمان بمبدأ الترجيح بالأكثرية؟

85

ها نحن نجد أكثرية الناس من جهة تؤمن بلزوم إرجاع الأمور كلها الى الفقهاء وتوافق عليه، ومن جهة أخرى نلاحظ أن أكثرية الناس أيضاً تفضل أن يعين فلان رئيساً للدولة، أو أن يتم الحكم عن طريق "مجلس قيادة" بدلاً من القيادة الفردية. إلا أن أكثرية الفقهاء أنفسهم، ومن جهة ثالثة، كانت تخالف رأي أكثرية الأمة في ذلك.

فهل العبرة بأكثرية الناس لأن الأمر أمرهم، أو بأكثرية الفقهاء لأن الأمر يختص بمجال عملهم وأسلوب تقسيمه فيما بينهم في المجال الإداري الذي سلمه الناس إليهم؟

هذا أحد الأمثلة، وهناك مثال آخر:

فلو فرضنا جماعتين أريد أن ينتخب لكل منهما شخص متخصص في معرفة مصلحة الجماعة التي يمثلها، وذلك بروح أن يشترك الشخصان في عملية تنسيق بين المصالح العامة والخاصة بما يحقق مصلحة المجموع لا بروح أن يكون كل فرد منهما يدافع عن مصالح الجماعة التي يمثلها فقط، فلمن نمنح حق إنتخاب هذين الشخصين، هل لمجموع الجماعتين أو يختص إنتخاب كل شخص بالجماعة التي هو خبير بمصالحها ومهتم بها؟

ان الأمر كما يمكن أن ينسب ـ عرفاً ـ الى الجماعة الخاصة يمكن أن ينسب الى المجموع أيضاً، فهو أمر الكل.

86

ومثال ثالث:

أريد التشاور في قانون يمس النساء أكثر من غيرهن، فهل يختص التصويت بهن لأن الأمر أمرهن أو يرجع للكل لأن الأمر أمر الكل؟ ولأي الأكثريتين يرجع لو اختلفتا؟

وبعد كل هذا، فلو تخلّف بعض الأشخاص الذين كان الأمر أمرهم عن الاشتراك في الشورى، فهل تبطل الشورى أولاً؟ وبأي قدر من الانسحاب تبطل ـ لو قلنا بالبطلان ـ؟ وهل يجبرون على الاشتراك في عملية التشاور من قبل من اكتسب السلطة والولاية في مرحلة سابقة؟

على أنه يوجد في الناخبين أو المستشارين الكثيرون من المستضعفين ممن لا يؤثر دخولهم في عملية التشاور في الاقتراب الى ما هو الأصلح والأقرب الى الحق، وذلك لعدم قدرتهم على التفكير الصحيح المستوعب لموضوع الشورى، مثل كثير من العامة والنساء الجاهلات في بعض الأجواء الاجتماعية. وهذا القطاع من المستضعفين يملأ ـ أحياناً كثيرة ـ مساحة واسعة من الأمة، فهل يشترك هؤلاء في العملية لأن الأمر أمرهم أيضاً ولا يستثنى منها إلا الأطفال الصغار أو المجانين أو السفهاء شديدو السفه مثلاً، اما من عداهم فيشتركون بمقتضى إطلاق عبارة ﴿وأمرهم شورى بينهم ويدعون الى التشاور ولو على أساس تأليف القلوب وجلب رضا

87

الجيمع مثلاً، أو يرفض اشتراكهم باعتبار أن الهدف من الشورى ليس إلا معرفة أصلح السبل فيمنعنا ذلك عن فهم الاطلاق من الدليل؟ وعلى التقدير الثاني فما هي بالضبط الحدود الفاصلة بين من يحق له الاشتراك في الانتخاب ومن لا يحق له ذلك؟

إن هذه الأسئلة الشاخصة وعشرات غيرها تبقى بلا جواب، وتدع المجتمع ـ أي مجتمع ـ في غمرة من الحيرة في مجال اختيار الشكل الواحد من الأشكال الأخرى للشورى والتي يمكن أن يفترض أنها هي الصحيحة في نفس هذا الزمان وهذا الظرف.

ومن هنا يؤكد الاشكال على أن المرونة الاسلامية إنما تتصور وتصبح مزيّة جليلة للإسلام ـ على فرض قوله بنظام الشورى ـ فيما إذا حدد قواعد هذا النظام ومبادئه بشكل لا يؤدي الى هذه الحيرة العجيبة. اما ترك الأمور على عواهنها وعدم تثقيف الأمة بتلك القواعد والاكتفاء بإشارة من آية قرآنية الى الشورى، فلا يعبر إلا عن نقص فاحش يتبرأ الاسلام من نسبته إليه وإلى مبلغه وجاعله تعالى.

هذا هو السؤال المحير الذي يطرح أمام النظرية السنية القائلة بنظام الشورى، فلنتعرف على ما يمكن أن نجيب به عليه.

ويمكننا هنا ان نتصور الإجابات كما يلي:

88

الجواب الأول:

أن يدعى أن الامامة والدولة وكيفية الحكم أمر دنيوي لا يفترض في الشريعة الاسلامية التدخل فيه، كغيره من الشؤون الدنيوية. ولذا فلا يعتبر عدم تعرض الاسلام لهذا الجانب الدنيوي نقصاً، أما وقد تفضل الاسلام وتعرض له فإن من الطبيعي له أن يكتفي بالإطار العام دون أن يقيده بأي قيود تمنع من تطبيقه في كل زمان ومكان مع اختلاف الظروف الزمانية والمكانية، ولذا أعطت الشريعة المفهوم العام وتركت للأمة أمر تحديد الشكل والخصوصيات المناسبة لها، بعد أن كان للإسلام أن يترك لها حتى حق اختيار نظام الشورى ـ من أصله ـ أو رفضه بلا أن يشكل ذلك أي نقص منطقي فيه لأنه من شؤون الدنيا.

وهكذا يمكن أن نقول: ان ترك التحديد بنحو لا ينسجم مع مختلف الظروف هو حسنة جليلة للاسلام.

ولكن هذا الجواب الأول باطل تماماً للأمور التالية:

أولاً: إن مسألة الحكم والامامة من الضرورات التي لا يمكن غض النظر عنها بعد أن كان حفظ أصل الاسلام وقوانينه في المجتمع متوقفاً عليها؛ فإذا افترضنا الاسلام مهتماً بنفسه وتشريعه وجب أن نفترض وقوفه موقفاً إيجابياً من مسألة الحكم، ولو بإعطاء نظام

89

ذي قواعد مرنة تقبل الانطباق على مختلف الظروف وعدم إيكال هذا الجانب الى العقول الإنسانية التي ينتابها الضعف من مختلف الجوانب فيتيه الناس وينسحق بالتالي أصل الشريعة.

وثانياً: إن الاسلام نظام كامل شامل للحياة، ولم يغفل تنظيم شؤون الحياة الانسانية الدنيوية بالمقدار الممكن ترقّبه من الشريعة والدين الواقعي. ويتوضح هذا بملاحظة النظم الاقتصادية والاجتماعية وتحديد أساليب السلوك الفردي والاجتماعي وتنظيم الأمور العائلية وغير ذلك. بل إن تدخل الاسلام في الشؤون الدنيوية من ضروريات الدين الاسلامي أو الفقه ـ على أقل تقدير ـ الأمر الذي لا ينكره إلا مكابر، ومع هذا كيف نتصور الاسلام يغفل جانب الحكم، وهو من أهم المسائل الحياتية للمجتمع الذي عمل على بنائه ووضع أسسه.

وثالثاً: ان الامامة أو تأسيس الدولة يتضمن ـ كما أوضحناه فيما سبق ـ إعمال نفوذ شخص وأشخاص في مجالات كثيرة، الأمر الذي لا ينسجم مع الأحكام الأولية للناس.

وعليه، فلو لم يكن تأسيس الدولة هذا قائماً على أساس من ولاية إسلامية تعطى ضمن نظام خاص لمن تتوفر فيهم الشروط المطلوبة، لأمكن تصور التورط في محرمات كثيرة. الأمر الذي يعيق تشكيل أي حكومة إسلامية صحيحة، وبالتالي يوقع المجتمع

90

المتدين في ورطة وحيرة شديدتين.

الجواب الثاني:

أن يقال ان عدم تحديد المبادئ العامة وشكل نظام الشورى قد يكون على أساس عدم وجود عناصر مشتركة بين مختلف الظروف والعصور والأمكنة، مما لم يمكن معه أن توضع قواعد مشتركة عامة لمعالجة مختلف المواقف بقواعد واحدة وإن اختلفت تطبيقاتها، ولذا وجد الاسلام ـ بمقتضى واقعيته ـ أن يترك هذا النظام بلا تحديد.

ولكننا نلاحظ بهذا الصدد:

أولاً: ان هذا الجواب لا يعني تبرئة الاسلام من النقص في تنظيم الحياة والتشريع الشامل لكل جوانبها، وإلقاء تبعة كل النقائص على سوء تطبيق المسلمين لهذه القوانين الاسلامية الكاملة الضامنة للسعادة، وإنما يعني أن الاسلام ناقص، ولكن هذا النقص مبرر بأن لابد منه بعد أن لم تكن هناك عناصر مشتركة بين مختلف الظروف يمكن وضع قواعد ثابتة لها.

ولو تطرق هذا الاحتمال ـ أي احتمال النقص الجبري في نظام الدولة في الاسلام ـ لتطرق الى العديد من جوانبه أيضاً، كالجانب الاقتصادي والجانب الاجتماعي، إذ يقال فيها كذلك:

91

لعل الاسلام عاجز عن تنظيم الحياة في شتى الجوانب بالنحو الصالح، ولذا أبقى أسس النظم ناقصة أحياناً ـ كما في نظام الشورى ـ أو ملأها أحياناً أخرى بنحو لا يصلح إلا لبعض الأزمنة والظروف، ولكنه اضطر لتعميمها على كل الظروف حتى التي لا تصلح لها، وهذا التعميم كان ضرورياً لعدم قدرته على تعيين بعض العلائم والدلالات التي يفهمها الناس فيعينوا بها الظرف الصالح للتطبيق ويفصلوه عن الظرف غير الصالح. ولما كان الأمر دائراً بين عدم إعطاء أي نظام في المورد أصلاً فيتيه الناس في كل الظروف، وإعطاء النظام بشكل مطلق فيسعد الناس في بعض الظروف ـ على الأقل ـ فقد اختار الشق الثاني لمصلحة الناس.

وعليه يدعى أن هذا لا يشكل نقصاً في الاسلام، وإنما ينشأ من عدم وجود حل مناسب ـ مرن مرونة حقيقية ـ في الواقع، لا أن يفترض وجود حل في الواقع لم يتوصل إليه الاسلام.

أفهل يمكن الأخذ بهذا الاحتمال على ما فيه من تبعات؟!

والواقع أننا عممنا الاحتمال ليشمل غير جانب نظام الحكم، ولم نهدف إلا الى تنبيه الوجدان الى أن هذا الاحتمال يخالف ضرورة واضحة من ضرورات الدين أو الفقه على الأقل.

وثانياً: ان هذا النقص المفترض له محتملات ثلاثة:

المحتمل الأول: أن نفترض وجود نظم عديدة وأشكال مختلفة

92

للشورى، وهي تصلح جميعها لكل الظروف والعصور، فلم يشأ الاسلام أن يعين أحدها دون غيره، لأن ذلك سيكون ترجيحاً بلا مرجح وإلزاماً بلا ملزم. ويختلف نظام الشورى عن سائر النظم الاجتماعية والاقتصادية وغيرها في الموارد التي يمكن الحكم فيها بالتخيير بفارق مهم، هو:

ان الاسلام عندما يواجه مشكلة اجتماعية أو اقتصادية لها أسلوبان صالحان للحل على مستوى واحد مع إمكانية التخيير، فإنه يخير الناس بينهما، فيرتفع النقص. أما بالنسبة لمجال الحكم والشورى والتصويت، فإنه لم يكن بالإمكان الحكم بالتخيير بين نظامين معينين مثلاً، رغم ان كلاً منهما يحل المشكلة! وذلك على أساس أن الناس قد يختلفون في اختيار أحدهما دون الآخر، فلا نصل بالتالي لحل أساس يقيم أود الدولة، ويسير بالمجتمع سيراً موحداً نحو أهدافه. ولهذا لم يشأ الاسلام ان يعين شكلين مثلاً للتخيير، فالتزم الاسلام جانب الاهمال، وإنما ترك تعيين الأشكال والقواعد للناس.

ولنقتصر في الجواب على هذا بتوضيح أنه بإمكان الاسلام أن يعين أحد الأنظمة ـ ولو على أساس الترجيح بلا مرجح ـ وهو أمر جائز في الأفعال الاختيارية، فالله تعالى يختار بلا مرجح أحد الأنظمة (التي يفرض أنها جميعاً تحل المشكلة)، وذلك تفادياً لبقاء الاسلام على نقصه وعدم اهتداء الناس الى أسلوب موحد صحيح،

93

ووقوع الأمة المسلمة في مشكلة الخلاف والنزاع حول نوعية النظام الأصلح(1).

المحتمل الثاني: أن نفترض وجود نظم عديدة للشورى بحيث كان كل منها صالحاً ـ واقعاً ـ لظرف خاص دون غيره من الظروف ولذا لم يكن بالإمكان إعطاء قواعد عامة ثابتة. ومن هنا جاء هذا التعبير العام بالشورى دون تحديد أي مبدأ أو قاعدة فيه.

وجوابه: أن الاسلام ان أمكنه أن يعطي بعض الميزات التي تعين الظرف الخاص لكل نظام، كان عليه ذلك، وإلا كان من الطبيعي ان نفترض مجيء رسول جديد على رأس كل ظرف وبين فترة وأخرى ليهدي الناس الى الدين المناسب لذلك الظرف، أو يعين الاسلام وصياً خاصاً يملأ هذا الفراغ الهائل.

المحتمل الثالث: ان نفترض أن كل أنظمة الشورى ناقصة وعاجزة عن إسعاد البشرية، ولكن لما كان مبدأ الشورى أفضل من الفوضى والهرج فقد أطلق الاسلام كلمة (الشورى) دون أن يعين فيها أي قاعدة.

وهنا نقول: ان الواقع هو أن كل أنظمة الشورى لا يمكنها أن تسعد البشرية حقاً، ولكن هذا لا يعني أن لا طريق للاسلام إلا بإعطاء نظام متميع ضائع الحدود، وإنما عليه أن يعدل عن أصل نظام



(1) على ان التخيير بين الأشكال الصالحة كان أفضل من الاهمال المطلق الموجب لتوسعة دائرة الحيرة. هذا إضافة الى أنه كان بالإمكان تخيير الأمة ككل بين الاشكال الصالحة دون تخيير الأفراد، فلو اختلفوا في الاختيار عوقبوا جميعاً.

94

الشورى الى نظام النص على القائد، ومنحه الولاية العامة، أو اعطاء الولاية العامة لمن هو ذو مواصفات خاصة. وبذلك يمكنه أن يتدخل تدخلاً مباشراً لإسعاد الانسانية دون أن يبتلي بالنقص المذكور. وهذا ما صنعه الاسلام بالضبط ـ كما نرى ـ.

وخلاصة الأمر: أن الاسلام لم يعجز عن وضع نظام يسعد البشرية بتطبيقه الكامل الشامل ولم يتهاون في ذلك. أما شقاء البشرية فهو ينشأ بالضرورة من تهاونها وتقصيرها في مجال تطبيقه، وربما أشارت الآيتان الكريمتان لهذا المعنى، إذ يقول تعالى:

﴿ولو أن اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون(1).

ويقول تعالى:

﴿ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل وما أُنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون(2).

الجواب الثالث:

أن يقال: ان نظام الشورى وإن كان يبدو ـ بادئ الرأي ـ نظاماً مبهماً مائعاً، ولكننا إذا تأملنا الأمر أكثر ارتفع الابهام والميوعة.



(1) سورة الأعراف الآية96.

(2) سورة المائدة الآية66.

95

وما يمكن أن يفترض رافعاً لكل إبهام في نظام الشورى، هو أحد أمور ثلاثة:

الأول: أن يقال بأن دليل الشورى نفسه دليل مطلق، وهذا الإطلاق وعدم التحديد في الدليل يمنح الأمة اختياراً تاماً بين مختلف الأشكال التي تتعلقها للشورى في زمان واحد وظروف واحدة.

وجواب هذا واضح، إذ ماذا نصنع فيما لو اختلفت الأمة في الاختيار؟ إن هذا السؤال نفسه يوجب أن لا يفهم العرف من الدليل مثل هذا الاطلاق المدعى بهذا المعنى.

الثاني: أن يدّعى إمكان تعيين شكل نظام الشورى بالشورى.

وهذا أيضاً يبتلى بنفس الإشكال السابق، إذ ماذا نصنع لو اختلفت الأمة في تعيين هذا الشكل ولم تنته المشكلة الى حل؟!

فلو فرضنا أن الأمة اتفقت على تسليم ادارة الأمور بيد الفقهاء واعتبرت ذلك هو الأفضل ـ بأي شكل يفرض تنسيق الأمور فيما بينهم ـ ثم اختلفت أكثرية الأمة عن أكثرية الفقهاء في كيفية التنسيق فيما بين الفقهاء، فرحنا نستفتي الأمة عن رأيها في المرجع النهائي لحالة ما إذا كان هناك أمر من الأمور ينسب تارة الى دائرة وسيعة وأخرى ـ وفي نفس الوقت ـ ينسب الى دائرة ضيقة ضمن تلك الدائرة الوسيعة، فلمن يرجع في التصويت؟ فأفتوا بعدم وجود مقياس عام يرجع له في كل الحوادث، وإنما يجب التصويت لهذا الأمر في كل

96

مسألة؛ فقد يكون الأصلح الرجوع للدائرة الوسيعة وقد يكون العكس. ورحنا نستفتي في هذه المسألة بالذات (أي تنسيق الأمور بين الفقهاء) وهل يكون بتصويت خاص بين الفقهاء أو بتصويت عام تشترك فيه الأمة، فاختلفت أكثرية الأمة عن أكثرية الفقهاء، فما هو موقفنا من هذه الفوضى البالغة؟!وإذا طرحنا مشكلة (وجود رجحان كمي في طرف وكيفي في آخر، ومن المقدم منهما؟) على الامة وافترضنا ان قسماً يمتلك رجحاناً عددياً منها اختار تقديم الرجحان الكيفي اختار تقديم الرجحان العددي، في حين أن القسم الآخر الذي يمتلك الرجحان الكيفي اختار تقديم الرجحان الكيفي، فماذا الحل والمخرج؟!

وإذا طرحنا مشكلة (المتقاعسين عن الاشتراك ومدى اضرارهم بالتصويت أولاً) على الأمة وتقاعس البعض عن الاشتراك في التصويت على هذه المشكلة، فماذا نصنع؟!

وإذا رحنا نستفتي الأمة عن (مسألة اشتراك المستضعفين من النساء والرجال أو استثنائهم وعن الحد الفاصل بين من يخرج عن دائرة التصويت ومن يدخل) فممن يكون الاستفتاء؟ هل من كل الأمة أو ممّا عدا المستضعفين؟ وما هي حدود الاستثناء، علماً بأن النتيجة قد تختلف بدخول البعض عنها في حال خروجه؟!

الثالث: أن يدّعى أن نظام الشورى وإن كان مبهماً ناقصاً عند تشريع الإسلام